الفصل الأول

جزيرة العَذَارَى

كم لنا من عجيبةِ
طيَّ هذِي البسيطةِ
أُممٌ قد تغيَّرتْ
وبلادٌ تولَّتِ
وبحارٌ تحوَّلتْ
مِن مكانٍ لبقعةِ
ثم نابتْ جزيرة
عندها عن جزيرةِ
أيها الأرضُ خبِّري
عن شباب الخليقةِ
حدِّثينا حديثَهم
وصِفِي القَوْمِ وانعَتِي
دولٌ قد تصرَّمتْ
دولةً إِثْرَ دولةِ
وقُرون تلاحَقتْ
وعصورٌ تَقَضَّتِ
ذهب الدهرُ كلُّهُ
بين يوم وليلةِ
مَجْزُوء الخَفِيف

كانت إلى جنوب الهند الشرقية، وعلى مسيرةِ أيام من تلك الشواطئ القديمة الأزليَّة، جزائر شتَّى صِغار منتشرة ها هنا وهناك، كما عامتِ اللآلئ أو طَفَتْ على الماء الشِّبَاك، تنهضُ بالجلال والجمال خلال زُرق الماء، نهوضَ نجوم الجوزاء في القبَّة الزرقاء.

وكانتْ كلُّها أبكارًا، لم تُئوِ من قبلُ نزيلًا ولا ديَّارًا، إلا واحدة كان يُقال لها جزيرة العَذَارَى، وكانت يتيمةَ ذلك العِقْد المَأْنُوس، المنتثر بالمنظَر الضاحي على لبَّات الأُقيانوس، وهي التي نُلْقي عليها المَرَاسِيَ الآن، في ابتداءِ قصَّتنا التي وقعتْ حوادثُها من نحو خمسين قَرنًا من الزَّمان.

وكان يسكن هذه الجزيرةَ مائةُ فتاةٍ وفتاة، كلُّهنَّ مَلَكٌ كريم، ومثال عالٍ غالٌّ لنَعِيم الجمال، وجمال النَّعِيم.

وكن كلُّهن أبكارًا، بين الرابعةَ عشرةَ والخامسةَ عشرة أعمارًا، إذا رأيتَهنَّ حسبتَهنَّ أقمارًا، طالعةً ليلًا ونهارًا، تملأ المكانَ والزمان أنوارًا، وكنَّ يأوِينَ جمعاءَ إلى قصر هنالك مَشِيد على الماء، يَضُمُّهنَّ مثلما ضمَّتْ نجومَها الجَوزاء، وذاك القصر مبنيٌّ بالبِلَّوْر والمرمر، مفرَّش بصنوف الجوهر، مترَّب بِالنَّدِّ والعنبَر، وكان يَحمِل مفاتيحَه ويحرس أشياءَه رجل شيخ كاهن، لا عملَ له إلا تطبيبُ البنات، إنْ مَرِضَتْ واحدة منهنَّ، والصلاة بهنَّ في الميقات، وتعليمهنَّ ما تجب معرفتُه من أصول العبادات.

وكان الزاد يُحمَل إلى البنات في كلِّ ثلاثة أشهر مرة، فتأتي سفينةٌ كبيرة مملوءة من الذخيرة، فتُودِع ذلك كلَّه في الجزيرة، بدون أن ينزلَ أحدٌ من رجالها إلى البَرِّ، ثم تنثني آخذةً عريضَ البحر.

أمَّا حِراسة الجزيرة شرقِها وغربِها وشمالِها وجنوبِها، فكان يقومُ بها مائة نمر ونمر، من أنْدَر ما أخرجتْ هاتيك الأَصقاع، من هذا النوعِ من السِّباع، كلُّها من حَجْم واحد، وشكْل واحد، كأنما دفعها رَحِم واحد، صُفْر الأحداق بازْرِقاق، صُفْر الجلود بيَسِير بَيَاض، فيما دون الأطواق، مخطَّطة الظهور بمِخطاط قدرة الخلَّاق، خِفَاف رِشَاق، مُطلَقة الوثاق، لها هنالك على سائر الحيوان الحكمُ ذو الإطلاق.

وكان في عُنق كل واحد منها طَوْق من الذهب، منقوشٌ عليه بالمينا اسمُ الفتاة التي هو لها خاصَّةً دون سائر البنات.

وكان بين هاتِهِ النمورة واحد، وكان أبيضَ نقيَّ البياض، ياقوتيَّ الحدقتين، عقيقيَّ حواشِي الفكَّيْن، دقيقَ الرأس مستديرَه، غليظَ العُنُق قصيرَه، رشيق القامة النضيرة، له سيقان الغزال، وأخفافُ الجمال، وإلى مجموع خلقته ينتهي الجَلال والجَمَال، وكانتْ في عنقه قِلادة من الياقوت الأحمر بقُفْل من ذهبٍ منقوش عليه بالجواهر هذه العِبارة، وهي: «ذو الفكِّ العقيقيِّ، خادم عَذراءِ الهند.»

وعذراء الهند هذه، هي إحدى الفتَيات، ولكنَّها في الحقيقة مولاتُهنَّ، والسبب في وجودهنَّ في الجزيرة على تلك الحال، وهي بنت المَلِك «دهنش» مَلِك مُلُوك الهند الشرقية، جعلَها أبوها هنالك في مائة عذراء من أترابها كريماتِ الملوك والأمراء، وبنات الوزراء والكُبَراء. وضَرَبَ لإقامة الجميع بالجزيرة أجَلًا سبعَ سنواتٍ كوامِلَ، مضى منها ستٌّ وبقيتِ السابعة التي نحن بصدَد حوادِثها الآن، وكان فِعْل الملك هذا صادرًا عن نصيحة أحد كِبار المنجِّمين له وإشارته عليه؛ ولذلك حديثٌ عجيبٌ نَسوقُه للقارئ مجملًا في هذا الفصل، ليعلم أسباب الغَرَام المبنيَّة عليه الرواية؛ كيف نشأتْ وأسرار حوادثه، كيف بدأتْ فنقول: كان ﻟ «دهنش» مُلْك الهندَيْن يَسُوسه وينهض به جميعًا، وكانت أعلامُ سيادته منشورةً على ملوك القطرين أجمَعين، إلى أن ارتاحَ «رمسيس الثاني سيزوستريس» مَلِك مصر، فيما كانت ترتاحُ إليه هِمَّتُه العَلِيَّة من كِبار المشروعات الفتحيَّة إلى الاستيلاء على هاتيكَ الأقاليم، واتِّخاذِها أسواقًا لتجارات وطنِه الفخيم، ومستعمرة جسيمة يُعز بها آيةَ مُلْكه الجسيم، فغَشِيَها بالجَحَافل بَرًّا والأساطيل بحرًا، حتى تملَّكَها قَسْرًا، وأخذَ «دهنش» في جملةِ الأسرى.

غير أن فرعون لم يلبث أن شاوَرَ في الأمر عقلَه، ونظر في العواقب نظرَ حكمتِه، فرأى أن مُلْكًا كمُلْك الهندَيْن محتاجٌ إلى مَلِك يتفرَّغ لتدبيره، أو يكون سريره على الأقلِّ قريبًا من سَريره، وأن بقاءَ الهندين في قبضة مصر واستمرار تبعيَّتهما لملوكِها العالين أمران لا يُمكن أن يكونا إلا إلى حِين؛ فانتهج تلقاءَ هذه التأمُّلات سياسةً حَسَنة، بأنْ جَعَل الهندَ الغربية التي هي أقربُ إلى البلاد المصرية، وأيسر مَنالًا على سُفنها حربيةً كانتْ أو تجارية، ممالك شتى صغيرة من نظامٍ واحد، بملوك مستقلِّين بعضهم بإزاء بعض، ومستظلِّين تحت لِوائه، يُقدِّمون له الجِزْيَة، ويُمهِّدون السبيلَ لمَتَاجِر النيل، ثم أنعم على «دهنش» بالهِند الشرقية جَمعاء، يستقلُّ بمُلْكها ويحكم بلادَها كيفَ شاء.

وكان «رمسيس» قد استصحَبَ معه في تلك الحَملة الكبرى ابنَه ووليَّ عهدِه الأميرَ «آشيم»، وكان في بداية صِباه، وكانت مع «دهنش» فتاتُه عذراء الهند، وكانت طفلة كذلك، فلما ردَّ فرعونُ عليه مُلْكَه، وأعاد إليه بلاده، دخل عليه في آلِه ورجالِه يؤدُّون شُكْر إحسانه الذي لا يؤدَّى. فكان أولَ مَنِ ابتَدَرَ لَثْمَ نِعَالِه، عذراءُ الهند على صِغَر سِنِّها، وقصور إدراكها؛ فأعجبه ذلك منها واستَلْطَف روحَها ومنظرَها، فطلب إلى والدها أن تَبْقَى مع «آشيم» تؤنِسُه ويؤنسها مُدَّة إقامتِه القصيرة بالهند.

فكان من عواقب هذا الاجتماع، أن الطفلَيْن انْجَذَب أحدُهما إلى الآخَرِ انجذابًا شديدًا، وصَادَف الهَوَى فؤادَيْن ناشِئَيْن خاليَيْن، فدبَّ، فدرج، فتمكَّن. فلما افترقا لم يفترق؛ بل وجد حافظًا من مزاج الفتى والفتاة، فراح ينمو في فؤادَيْهما مع الحياة، وهكذا الحب بعضُه من المَهْد إلى اللَّحْد، ومنه ما يلبثُ يومًا أو بعض يوم (الخفيف):

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ
فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
ففراقٌ يكون منه دواءٌ
أو فراقٌ يكون فيه الداءُ

نَعَمْ، كان من الفراق لذَيْنِك العاشقين داءٌ، ومِن ملحقاته ألفُ داء؛ خصوصًا عذراء الهند، فلقد كان يزيدها ألفَ هم على همومها، أنَّ والدها لما ذهبتِ السيِّئات عنه، وعاد فاطمأنَّ بالمُلْك والأحباب والوطن، بدأ يَقتَنِي ﻟ «رمسيس» المَوْجِدةَ والعَداوةَ، ويذخر له الضغائنَ والأحقاد، فكان كلَّما تجدَّد تَذكار ذلك العار، عار الهزيمة والانكسار، تجدَّد في نفسِه الأملُ بأخْذِ الثأر، ثم يُدرِك أنه يَرُوم المستحيل، فيَرْكَن للحِقْد مطيةِ غيرِ الراكبين، وسلاحِ العُزَّل المغلوبين (المتقارب):

رأَيتُ الجُنونَ جديرًا به
حريًّا أخو المُهْجة الحَاقِدة
سلاح ثقيل بلا مضربٍ
وحمل ثقيل بلا فائدة

وكانت الفتاة تلحظ ذلك من أبيها، وكلَّما ألْفَتْه مملوءًا من البَغْضاء نحو والدِ الحبيب، راحتْ مملوءةَ القلب من اليأس، تُخفِي في نفسها، وتكتم في صَدرها، وتضغَط على سرائرها في هوى الأميرِ أن تُنهَك، ولكنَّ النفس البشرية وإنْ كان دونَها في كثير من قواها الأدبيَّة، تلك القوة الهائلة السارية بالوجود، المتدفِّقة بالبُرُوق والرُّعود، فإنها تصطدم باليأس، فتنخذل، كما تصطدم بالمرَض فتموت (الكامل):

شَيئان فَوق قوى النُّفوس كِلَاهُما
رَدْعٌ لَهَا وَوَقًى مِنَ الطُّغْيانِ
اليأْسُ وَهو لَهُنَّ مَوْتٌ أَوَّلٌ
والدَّاءُ وهْو لَها الحُسامُ الثَّاني

وفي الحقيقة، فإن عذراء الهند لم تَلْبَث أن غلبتْها بوادرُ اليأس على كل ذلك الثبات، فذهب الصبر عنها وبان، والجَلَد المدخور ولَّى وخان، فمَرِضَتْ فطالتْ أيام المرض وخفيَتْ أسبابُه، واشتكلتْ أعراضُه، وشاعَ الخبر، وأراب الأمرُ وتكلَّم الناس.

وكانت الأميرةُ واحدةَ «دهنش»، التي لم يكن يُعطَى عنها صبرًا، ولا يَقبَل فيها ولا مُلْكَ النيل مَهْرًا؛ فكيف إذا علم أنه ابن عدوِّه الظافر، وخصمُه القوي القاهر، الذي لا يدري إنْ هو خَطَبَها لفتاه، أُعطِيَها عَفْوًا أم أخَذَها قَسْرًا؟

فكانت كل هاته التأمُّلات تملأ قلبَ الفتاة مهابةً من الأمر، وتجسِّم بعَيْنَيْها العواقب، فتستصعبُ الإقرار، وتُشفِق من تَبِعاته، ولا تُقْدِم عليه تاركةً والدَها الأسيفَ يَشقَى ويُعذَّب، ويذهب من مداواتِها في غير مَذهب، فكلما عَرَضَها على أطبَّاء الهندَيْن حار الأطباء، وخانَتْهم العقاقير، فيلوي على السحرة فيستفتيهم، فيُحيلون على أصحاب الجِنِّ، وهؤلاء يُبَرِّئون الجِنَّ ويتَّهِمون الأفلاك، فيُجاءُ بالمنجِّمين، فلا يَزيدون المَلِكَ بالأمر علمًا.

ثم ما زالتِ الأيام تتعاقب، والليالي تختلف سُودًا على ذاك الوالد المحزون، والمرض ما زال، والبنتُ بحالتها غاديةٌ على خَطَرَيْن، من موت وجنون، إلى أنْ أخطَرَ بعضُ الناس على باب الملك شنو أكبر أطباءِ الصين، وإمام منجِّميها الراسخين، وكان مغضوبًا عليه من مَلِكه مُودَعًا في السجن من سنين، فتذكَّر «دهنش» أنَّ شنو هذا كَثُر ما صَدَقَه الروايةَ في جَسيمات المسائل، وقام له في المُهِمَّات، بالخِدمات الجلائل؛ فأنفذَ إلى صاحبه مَلِك الصين رسالةً يقول فيها:

من «دهنش» سلطان القطرين وملك ملوك الهندين … إلى ابن السماء وسلالة الخَواقِين العُظماء، ذي المُلْك الواسِع والعَرْش المَكِين، المَلِك تيتو ملك ملوك الصِّين: أما بعد؛ فإن الملوك بالملوك، وإن العلماءَ نجومُ الإشراق، التي لا تختص بها آفاقٌ دون آفاق، وقد علمتُ أن شنو إمام منجِّمي الصين، مغضوبٌ عليه منك مُودَع في السجن من سنين، فجئتُك شافعًا له، وطالبًا أن تُسَيِّره إليَّ، فإني مُسْتَفْتِيه في عِلَّة عَذْراء الهِنْد التي تشتدُّ بها، وتتهدَّد أيامَها. والسلام.

التوقيع
«دهنش» ملك ملوك الهندين

فحين وردتْ هذه الرسالة على مَلِك الصين، عفَا عن طبيبه ومنجِّمه شنو، ثم حمَّله الجوابَ على ذلك الكتاب، ورحَّله معزَّزًا مكرَّمًا إلى عاصمة المملكةِ الهندية؛ حيث بولغ له في الحفاوة، وقوبل بمَجَالي الاحتفال اللائق بمَقام العلماء، وأُنْزل في قصر الملك ضيفًا كريمًا عليه، فعَكَف أيامًا يَخبُر أحوالَ الداء، ويَسبُر أغوارَ تلك العِلَّة العَسراء، بدون أن يُدرِك غايتَها علمُه، أو يصل إلى كُنهها فهمُه، وهو كلما خَلا إلى الأميرة احتالَ، وأكثر السؤال، عسى أن تُقِر أو لعلها تَبُوح بالسِّر، والفتاة لا تزداد إلا تماديًا في الجُحُود، وتصميمًا على الكِتمان.

فلم يَجِدْ شنو بدًّا من الركون للتنويم الذي كان أبرعَ أهل آسيا في معرفتِه، وأَخذ سرائر الأميرة غَصْبًا، فلم يَزَلْ بها يُنوِّمها المَرَّة بعد المَرَّة، وهو يَجِدُها أشدَّ عنادًا في حالِ النوم منها في حال اليَقَظَة، حتى كلَّتْ رُوحُها وخَارَتْ أعصابُها، وأذعن للقوة عَصِيُّ العِنان، فتحركتِ الشفتان، وانطلقَ اللسان، وصادفَ دخول «دهنش» في تلك اللحظة المكان، ففاجَأَ ابنتَه؛ إذ هي مُنَوَّمة؛ إذ تقول بأفصحِ بيان (المنسرح):

آشيم يا مَن بحبِّه نَعْلُو
ومَن أديم السُّهَى له نعلُ
عزَّتْ مع الشوق نحوَك السُّبُل
وبات صعبًا لقاؤك السَّهلُ
يا لَيت شِعري والبُعد مجلبةٌ
للتَّرْك والعيش كله شغلُ
أذَاكِرٌ أَنْت أَم نسيتَ لَنا
إذ نحن طِفلان والهوى طفلُ
إذ تعجب الهندُ والدِّيار بنا
ويَعجَب الناظرون والأهلُ
وإذ يَدِبُّ الغرامُ مجتِهدًا
ونحن لا فِكْرةٌ ولا عقلُ
ما نحن قُلنا فالحبُّ قائلُه
وما فعلنا فللهوى الفعلُ
وإنْ نَقلْنَا لبقعةٍ قَدَمًا
فللهوى لا البُقعة النقلُ
فإنْ تكنْ يا أميرُ ناسيَنا
فنحن ما نَنسى وما نَسلو
تلك سماءُ الهند شاهدةٌ
وأرضها والجبالُ والسهلُ
وأنجم الهند ما طَلَعْنَ لنا
وما رَعَتْنا عيونُها النُّجْلُ
إني على العَهد ما حَيِيتُ فإن
خلوتَ تبقى العهودُ لا تخلو

فكان الملك يسمع هذا الإقرار الصريح، وهو حَنِقٌ هائج، لذِكْر اسم «آشيم» ابن الخصم الأشد، والعدو الألَدِّ، الذي ما مِن صداقته بُدٌّ، وكلما همَّ أن يقطَعَ على النائمة كلامَها، أو يُكدِّر عليها أحلامَها، منعَه الطبيبُ مخافةَ أن يُعجِّل ذلك للفتاة حِمَامَها، إلى أنْ باحتْ بسَرائرها من أولها إلى آخرها، ولم يَبْقَ سوى تنبيهِها وردِّ الإرادة إليها، فالتفتَ شنو إلى الملك قائلًا: إنْ كنتَ يا مولاي تريد حياةَ الأميرة، ولا تُريد قتْلَها في هذا الشباب الغضِّ، والعُمْر النَّضِير، فاكتُمْ عنها خبرَ ما رأيتَ وما سمعتَ؛ لأنها إنْ علمتْ أنَّ أحدًا وقَفَ على سيرتها، أو اطَّلع في الغَرام على سريرتها، راحتْ بِشَرِّ حالة، ثم هلكتْ لا مَحالة. قال: ولكنني يا شنو لا أُطيق أنْ تعيش ابنتي على عِشق ابن عدوِّي، ولا أن تموت عليه، فصِفْ لي بحقِّك حِيلة، فحِيلَتِي اليوم قليلة. قال: إن الغرام المتمكِّن يا مولاي لا ينفعُ فيه إلا العُزْلة وجِوارُ البحر. قال: إذَنْ فاخْتَرْ لي مكانًا أجعلُها فيه، ينفع صحَّتَها ويعصمها من يَدِ «آشيم» إلى حين. فأطرق المنجِّم برهة، ثم قال: قد وجدتُ يا مولاي المكان الذي تكون فيه كالشمس في سَماء الوجود، ولا تستطيع إلى معشوقها النُّزُول، ولا يستطيع معشوقها إليها الصعود. قال: أين؟ وكيف؟ قال: يوجد يا مولاي على مسيرةِ أيامٍ من الساحل الجنوبي الشرقي لهذه المملكة، أَرْخَبِيل منعزل خشِن اللَّمس من جميع الجهاتِ لكثرة الحَجَر في مياهه، عزيزة منالِ المداخل على السُّفن، ولو أنها من حديد، فلتُنقل الأميرة إلى إحدى جُزُرِه، ولتُقِمْ هناك سبعةَ أعوام كاملة، وليُرافِقْها في كل هذه المُدَّة طبيبٌ ماهر ممَّن تَعهَد فيهم العِلم، وتعرِف لهم الإخلاص؛ لأني أرى الداء متمكِّنًا من هذا الجِسم الناعم، محتاجًا إلى عناية فائقة، وسَهَرٍ من طبيب حكيم. فأطرق الملكُ برهة ثم قال: وأنا يا شنو لا أجِد مَن أتَّكل عليه في هذه المَهَمَّة سِواك. قال: أعْفِني يا مولاي بفَضْلك، وانظُرْ في أمْرِي بعَيْن عَدْلك. إنني خرجتُ من السجن إلى بلادِك، لم ألْوِ على أهلي وأولادي، ولم أتمتَّع من شَمِيم نَسيم بلادي. قال: كل هذا مضمونٌ لك في المستقبل، مأمونٌ ميسور، مع الزمن يَهُون، وأما الآن فلن يكونَ إلا ما شئتُ أن يكون. قال الطبيب واحتدَّ بالغَضَب: إنَّ مولاي وسيدي تيتو أولى بِي منك أيها المَلِك، وإنه سوف يُعوزه مُنَجِّمُه وطبيبه، فيسأل عن أمري فبماذا أنت مُجيبُه؟ قال: ولكنه سامَحَ بك يا شنو؛ إذ وهبَ لي عقوبةَ ذنبِك، وإنْ كنتَ في ريب ممَّا أقول؛ فهذه رسالته اقرَأْها تخرجْ من رَيْبك. فلما اطَّلع الطبيبُ على الرسالة أطرق امتثالًا، وانحنى خشوعًا وإجلالًا. ثم قال: الآن أنا لك وإليك، ووَقْفٌ يا مولاي عليك. قال: إذن فإني ناظر في أمر السَّفَر وتهيئتِكم له، تاركٌ لك أنت تدبيرَ الخروج من مياه المملكة، وقيادة الأسطول الذي يَسير بكم، واختيار الجزيرة الصالحة للمُقام.

ثم إن الملك أخَذ في العمَل بكلِّ خفاء وتستُّر، ومداراة وتنكُّر، بحيث لم يَمْضِ أُسبوع حتى صار الأسطول على قَدَم الاستعدادِ التامِّ، لا ينتظرُ إلا الإشارة بالقيام، حتى إذا صدرتْ إليه خِفْية، خرج فأدَّى المأموريةَ ثم رجع بسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤