البَبغَاء الأسوَد
كان الفصل شتاءً، وكانت أقطار الهند تقطُر ماءً، أرضًا وسماءً، وأكنافًا وأرجاء، وقد تملَّك الضبابُ الآفاقَ فأدْجَتْ إدْجَاء، وتلاه الليل فأضْفَى عليها من ظَلامِه رداء.
وكانت على بعض النواحي الشَّمالية من أطراف الهندِ الشرقية غابةٌ عَذْراء، مُمَدَّة شَمَّاء، يَضِيق عن دائرتها الفضاء، وهي مُظلِمة الأرجاء أبديَّة الأدجاء، لا تَغْشاها الشمس بصبْح، ولا يَزُورُها النجم في مساء.
وكان عند مدخَل هذه الغابة رجلان، ليس ثَمَّ غَيرهما إنسان، أحدُهما عظيمُ كتلة الجسَد، في صورة الأسَد، ذي الأظفار واللِّبَد، مكشوفُ الرأس والصَّدر، غائبهما في الشَّعر، وعليه سِرْبال من كَتَّان بالٍ، ممسك بحِبال، وفي خاصرتِه اليُمنَى خزانة سِلاح، مستكملةٌ أدواتِ الكفاح، وفي اليسرى خِزانة أخرى فيها عِدد وآلات، وموادُّ للاستعمال وأدَوات، وهو كأنه ساريةٌ من اعتدال قامتِه الوافية، وكان شيخًا يُناهزُ الستِّين، وإن يكُنْ يراه الرائي فلا يَزِيدُه على الأربعين، والآخَر فتًى شابٌّ في الثَّلاثين، له أجْمَل صُوَر الإنسان، وعليه كذلك ثوبٌ من كَتَّان، وهو قَدْ تَقَلَّد سلاحَه، وحَمَل جِرَابًا مملوءًا طعامًا وشرابًا، وكانا يتمشَّيَان على المكان، والشيخ يقول للفَتَى: ها نحن قد بلَغْنا الغابةَ يا «هاموس»؛ غابة البَبغَاء الأسود، الذي يُحَجُّ إليه ويُعبَد فصَفْحًا للسفر عن إساءاته؛ إذ كان هذا اليوم من حسَناته. قال: يا مولاي، إن كان كنز لا يَفنَى فالسَّفَر، أو كتابٌ لا يُفرَغ من قراءته في هذه الأرض، وإني لأعجبُ للإنسان كيف يُخلَق كلُّ هذا المُلْك لأجْلِه، ويعيش فيه بعَقْله ثم يموت، وهو لم يَجسَّ أديمَه برِجْله، ولم يَعرِفْ وَعْرَه مِن سَهْلِه. قال: هذا يا بُنَيَّ أكبرُ عيوب الأنام، أو هو نَقْصُ القادرين على التَّمام، فإنَّ أكثرَهم يُفنُون أيَّامَهم بالحَضَر، ثم يتَّهِمون الأعمارَ بالقِصَر. وهيهات هيهات ما سُدًى قُدِّرَتْ أيامُ الحياة، وإنما نتوهَّمُها قليلةً من سوء استعمال الأوقات، وإنهم يا بنيَّ ثلاثة، لا تجتمع المفاخرُ لأمَّة؛ حتى يجتمعوا لها: الكِرَام، والعُلَماء، ورجال الأسفار. قال: وأنتَ هي جملةً يا مولاي، فأنتَ إذن أُمَّة في المفاخر وحدَك، فأجاب الشيخ متبسِّمًا: ولكني الشقيُّ «طوس». قال: إنه من كَيْد الكهَنة يا مولاي، إن كيدَهم عظيم. قال: خلِّنا الآن مِن هذا يا «هاموس»، وانظر هل تطلَّعَ النجمُ بعد، فارتجل الفتى نظرةً في الأفلاك، ثم قال: نَعَمْ، ظَهَر يا مولاي وبان. قال: إذن فهلمَّ على اسمه وببركة مَطْلَعِه السعيد. ثم تقدَّم نحو المَدخل فتبِعه الفتى يحملُ شريطًا من المعدن مُشعَل الذُّبَال، حَثِيث الاشتعال يُضيءُ لهم خلال الثَّرَى، ويكشِف من الغابة الجوانبَ والذُّرَى، وكان يُدِيره للشيخ حيثُ دار، ويَسير به بين يديه أينما سَار، وقد أمسَك هذا ورقة صفراء من البِلَى مُخَرَّقة وهو مُنْهَمِك يَقْرَأ فيها، فلما فرَغ منها طواها بصيانة، وألقاها في الخزانة، ثم أخذ في سيرِه اليمين، والتفتَ إلى الفتى يقول: سندخُل من حيث دخلَ يوقو الصِّيني يا «هاموس». قال: وهل لذلك أَثَرٌ حيٌّ على المكان، أم أنت يا مولاي تعتَمد على الورقة لا غير؟ قال: تأدَّبْ يا «هاموس»؛ إن يوقو كان عالمًا، وإن الزمن الذي يفشُو فيه الكذب بين العُلَماء لم يَأْتِ بعدُ. وإن كنتَ في ريب مما أقول؛ فانظر إلى هذا الجِذع وهذا الساقِ كيف يتفاوتان لدَى السنين، فهذا له آلاف من السنين، وهذا لا يتجاوز عمرُه المئين، فهنا لا شكَّ نزَل يوقو بالبلط وهشَّم وقطَّع وحطَّم؛ ليفتح له طريقًا بين الأشجار. قال: وكم كانتْ أيامه في غابة الببغاء الأسود يا مولاي؟ قال: تسعون شهرًا وشهرًا. قال: إنها لمدة طويلةٌ يا مولاي، ونحن لنا شأن غيرُ هذا الشأن، يضطرنا إلى أن نختصر من الزمان. قال: ليطمئنَّ قلبك يا بني فوَرأسِ «آشيم» لا يكوننَّ الشهرُ عندي إلا يومًا، فنلبث ثلاثة أشهر في هذه الغابة التي لو كانتْ واحدة لسَهُلَ الأمرُ وهَانَ، ولكنها غابات ثَمَان، فيها من كل مُوبِقة زوجان، وبعد ذلك لنا إلى مياهِ الشمال طريقٌ مختصَر بين الرمال نقطَعُه في سبعة أيام بليالٍ، حتى نبلغ البحر؛ حيث المركب والصيَّادون على الشاطئ ينتظرون، ثم نُقلِع قاصدين جزيرة العَذَارَى؛ مطلبِنا الصَّعْبِ الذي سوف يهُون.
ثم إنه ابتدر الدخول من ذلك الموضع، فتبِعه الفتى يحمل الشَّريط، واندفعا يصلان السُّرَى حثيثًا بين شجرٍ ألفافًا، وأعشاب تختلف أشكالُها وألوانها اختلافًا، إلى أنْ مَضَتْ تلك الليلة، وانقضتْ بدون أن يَعْتَرِي تعويق، أو يعترض شيءٌ في الطريق.
فلما أقبل النَّهار ولم تكن ظهرتْ له في الغابة آثار، غير تحوُّل النباتِ من السواد الشديد إلى الاخْضِرار، التفتَ الشيخ إلى «هاموس»، فقال: أطفئ يا بُنَيَّ الشريط، وخذ هذا السائل فادهن به أطرافَك. واعلم أنَّنا قادمان بعد لحظة على موطِنِ الثعبان الأخضر، وستصادفه في الطريق جماعاتٍ على أبعاد، منتصبًا على أطراف ذَنَبِه في صورة أُمَّهات المَوْز. فإيَّاك أنْ تَحْتَكَّ به في مسيرك، فتُقيمَ علينا قيامةً لا طاقة لنا بها. قال: وهل لأجْلِه صُنع هذا العطر؟ قال: نَعَمْ، وإن نكْهَتَه تُحدِث به من الطَّرَب ما يَشغَله عن أمرِنا.
وفي الحقيقة لم يكن غير يَسيرِ زمانٍ، حتى قَدِمَ الرجلان على أمثال جماعات الموز، وكانت في أتمِّ سكون، فلمَّا تخلَّلاها وسَرَى في جوِّها طِيبُ ما كانا يحمِلان، راحتْ تَمُوج بالمَنْظَر العَجَب، كأنما أخذَها مِن تلك الروائح طَرَب، فاستمرَّا في سَيْرِهما آمنَيْن قريرَيْن ببدائع ما يَجْتليان، والشيخ يقول لتلميذه: تمتَّعْ يا «هاموس» من رؤية هذه المناظر، التي لم يَشْهَد الأوائلُ لها نظائر، ولا أظن أنْ سَيَرَى الأواخِر، ومُدَّ مَعِي لقَدَمِك الخَطْوَ، واحتمل للسَّفر، واحمِل مشاقَّه، واعلم أن المروءة مِنْه، والصبر منه، والشجاعة منه، وهي الثلاثةُ القائمة بمكارم الأخلاق.
فتشجَّعَ الفتى بهذا الكلام، وازداد إقدامًا على إقدام، إلا أنَّه استأذنَ أستاذه في تناوُلِ بعض الطعام فأذِن له، وطلب هو أيضًا شيئًا من الزَّاد فأكَل، ثم عاودا السَّيْر يُوغِلان فيه إلى أن أخذَ النهار في الإدبار، وكانا قد بدآ يَبْتَعِدان عن أماكنِ الثُّعبان، فأشعل الفتى الشريطَ واندفعا يُتْبِعان السَّيْرَ سُرًى موصولًا، فلم يكنْ نصف الليل، إلا وهما بعيدان كل البُعْد عنها وبأمان تامٍّ منها، ثم إذا هما بأرضٍ خضراء نقيَّة العشب، كأنما أُمْطِرتْ أمطارًا أو غُسلَتْ مِرارًا، فلمَّا غَشِيَاها أعجبَ الشيخَ مَرْآها، فنظر إلى الفَتى قائلًا: توسَّدْ يا بنيَّ هذا المِهَادَ الوَطِيء وخذ لبَدَنِك حصَّتَه من النَّوم، وأنا ساهرٌ عليك أحمِيك وأشتَغِل بمُطالعاتي. قال: سمعًا وطاعة، ثم اضطجع فأخذه النومُ فنَامَ. وجلس الشيخ عند رأسه ساهرًا ينظر في بعضِ أوراقه على ضوء الشريط، حتى طلع النهار، فانتبه الفتى من رُقاده ناشطًا خفيفًا، وقام الشيخ فمَشَيَا يومَهما كلَّه بين أكلٍ وشرب وحديث، يسيران في أرض كبُسُطِ الخَزِّ تأخذ القَدَمُ منها ولا تأخُذ من القَدَم.
فلما كان المساء، عادتِ الأشجار فتنكَّرت دلالةً على زوال النهار، فأراد الفتى أن يُشعِل الشريط ليَسريَا بهُدَاه وفي سَنَاه، فمنعه الشيخ ونَهَاه قائلًا: لقد أوشكْنا أن نَلِجَ الغابةَ الثانية، غابة الثعبان الوضَّاء. قال: وهل في الثعابينِ كما في الدود ذو النُّور المشهود؟ قال: ولمَ لا وليستْ هذه إلا أصغرَ عجائب الوجود؟ قال: وما ذلك الثعبان ذو اللمعان؟ قال: شيءٌ يا بنيَّ في حجم الثعبان الأخضر أو هو أكبَر، وأما لونه فأصفَر، ويقول يوقو الصيني: إنه بالنهار جَهنَّمِي ثَوَّار، وثَّاب صفَّار، جواره شرُّ جوار، وإلى لقائه تنتهي الأخطار، حتى إذا بدا له الليلُ عانق الأشجار، يتدفَّق خلالها بالأنوار، ثم نام نومة العاشق المُمَتَّع بالأسحار، فلو قامتِ القيامة عند رأسه ما انتبه حتى مطلع النهار.
وما استتمَّ الشيخ حتى قَدِمَ الصاحبان على منازل ذلك الثعبان، فإذا نُوره التام المحيط، خير من ألفِ شريط، وهو على الأشجار، يرتجل الأنوار، مختلف الصور والأشكال، آخِذٌ من كل فَلَك في السماء بمثال، وقد انجَلَتِ الغابة في رُواء فتَّان، لم يَرَ مثلَه حالِم ولا يقظان، فاندفع الرجلان يسريان في كلاءَة الليل، وبذمَّة من ساكن الغاب وأمان، والشيخ يقول للفتى: انظر يا بنيَّ إلى هذا المكان، كيف يتغيَّر من شأن إلى شان، فبينما هو النهار مَسْبَعة بغير قرار أو كمساكن الجان، إذا هو كما تجتليه الآن، أفق منير الأهلَّة مزدان، يجتازه الطفلُ على قَدَم السكينة والاطمئنان. قال: وهل سُرى ليلة يا مولاي يكفي للابتعاد عن موطن هذا الثعبان؟ قال: لا بل هما ليلة ونهار لمَن سَرَى وسَارَ. قال: فما عندنا له من عُدَد التوقِّي، فتبسَّم الشيخ ضاحكًا ثم قال: سِرْ يا بنيَّ ولا تَخَفْ، فمَن كان مليك الوجود لن تغلِبَه هذه الدود، وقد أعدَدْتُ لذلك مسحوقًا يشمُّه الثعبان، فلا يستطيع إلينا دنوًّا ولا يملك سببًا.
حتى إذا مضى الليل هبَّ ساكن الغاب من نومته فسُمِعتْ لذلك ضَجَّة، راحتْ بها الأرض مرتجَّة، وماج الجوُّ واضطرب الغاب، وسالتْ بالمزاحف الأعشاب، فالتفتَ الفتى إلى شيخه كالمذعور فوجَده ينثر من ذلك المسحوق في الطريق، والثعابين تنفر عنه نفارًا، وتُوَلِّي من تلك الرائحة فرارًا، إلا أنها كانت تجتمع من بعيد عن اليمين وعن الشمال، وتُسايِرهما هائجة حَنِقة، وهي تموج كالجبال، فجَدَّ بالفتى القلق، وزاد به الفَرَق، ورأى الشيخُ عليه ذلك فزجَرَه قائلًا: ما هذا الجزع يا «هاموس»؟ أتُشفِق من هذه الدِّيدان، وأنت لو فتَّشْتَ عن أفئدتها لوجدتَ أن بها منك فوق ما بكَ منها، فمهلًا رويدًا بعضَ هذا الخوف، واعلم أن بالعقل قام هذا الوُجود، فمهابتُه منذ البداية سارية في الأشياء، ممتزجة بالغرائز عند سباع الأرض والسماء، يَحمِلها الحيُّ الذي يُرزَق، وتتشرَّبُها النُّطَف التي لم تُخلَق، فلما سمع الفتى هذا الكلام تقوَّى جَنَانُه وثبتتِ الأقدام على الأقدام، ومُسخَتِ الثعابين بعينيه حبالًا وكانت جبالًا، فرَاحَ متنشِّطًا في السَّيْر لا يُلقِي لجَمْعِها بالًا.
واستمر الرجلان كذلك يسيران إلى أنْ ولَّى النهار وبان، وهجر أكوانًا إلى أكوان، وعندئذٍ انقلبتِ الثعابين على الأعقاب، آيِبة إلى مساكنها من الغاب، فكفَّ الشيخ عن إلقاء المسحوق ووقف متبسمًا يقول لفتاه: الآن لا خوف علينا، ولا نحن نضجر يا «هاموس»، فأشعِلْ شريطَك وسِرْ بنا في ظلام الغابة الثالثة؛ غابة الفيل الكسلان. قال: وما ذلك الكسلان أيضًا يا مولاي؟ قال: إنها يا بنيَّ أفيال عِرَاض طِوَال في أجرام الجبال، ولكن الكسل منها بمكان، فتراها تقضي الأشهر والأيام في مراكزها، ثابتة لا تتحرك؛ بل قد تتخذ الطير في آذانها وظهورها أوكارًا، فلا تُحرِّك خرطومَها لتَذُودَها، أو لتمنع الحشرات أنْ تُدمِي جلودَها. قال: إذن فتلك غابة سهلة المجاز، مأمونة المذاهب على السالكين. قال: نعم، كذلك هي، إلا أنها طويلة مظلمة ثقيلة. قال: ذلك لنا فيه يا مولاي ألف حيلة. أما في جبال الثعابين فالحيلة قليلة، فتبسم الشيخ ضاحكًا ثم قال: صَدَقْتَ يا «هاموس»، إن الأمان ألْزَم حوائج الإنسان، وأطْيَب المكان حيث كان، فإنْ بان لا أهل ولا أوطان، ولا حياة ولا وجدان، وهو في الحَضَر مِنَّة، وفي السفر منَّة وإحسان.
وما هي إلا برهة زمان حتى بدتْ لهما أشباح الفِيَلة من بُعد، تموج بها قباب الظلماء، فهزَّتْ رؤية ذلك من الشيخ فقال: ألا تبصره يا «هاموس»؟ قال: بلى يا مولاي، وإنه لعلى جِرْم كما تقول عظيم. قال: إذن فعجِّل بنا فوَرَأْس «آشيم» لا بِتْنا ليلتنا هذه إلا على ظهر هذا الكسلان. قال: وما لنا وله يا مولاي، وهذا وجه الأرض يُغنِينا عن مُتُون السباع. قال: إنه يا بنيَّ جبان، والجبان مُضيَّع الجانب، ومطيَّة كل راكب، فلا تنظر إليه عن صفة السباع، وعُدَّ هذه الكتلة الهائلة من سَقَطِ المتاع، فلما قابلا بعضَها وكان في معزل تأمَّلاه في ضوء الشريط فإذا شيءٌ كالجبل، في الضخامة والثقل، تزدحم الحشرات عليه وتحوم صغار الوحش حواليه، مما لم يَرَيَا له أثرًا في الغابة الأولى ولا الثانية. فنظر إليه الشيخ نظرة المستزري الحاقر، وهو يقول: يا ضَيْعَةَ الغابة التي أنت حاميها، يا جبل الشحم! ثم إنه أخرج ذلك المسحوق، فنثر منه في الأرض، فطارتْ كتائب الحشرات عن جِلْد الفيل، وانفضَّتْ جُمُوع الوحش من حوله فرارًا من كَرِيهات الروائح، وعَمَدَ الشيخ بعد ذلك للخرطوم فتعلَّق، ثم ما زال يتسلَّق، حتى بلغ ذِرْوةَ الرأس، فانحدر منها إلى العريض الطويل، من ظهر الفيل، وهناك نادَى صاحبَه، فلبَّى يَصعَد على عَجَل ويفعل مثلما فعل، حتى إذا اطمأن بهما المُرتَقَى، جلسا فشعرا بذلك الجبل يَمِيد، فسأل «هاموس» شيخه: ألا تُحِسُّ بحركة يا مولاي؟ قال: بلى يا بنيَّ، ولكنها حركة الجسم بعد الموت، فإني لا أحسب هذا الكسلان إلا أغضبه سوء صنيعنا به فخطا خطوة.
ولما كان النهار، نزل الرجلان من حيث صعدا، فانطلقا يَجِدَّان في المسير والفِيَلة تبدو لهما من كل جانب، كتائب دونها كتائب، إلى أنْ وَافَى الظلام، فقابلاه بمثل ما فعلا في الليلة الماضية، واستمرَّا على هذا الحال ثلاثة أيام بليالٍ، حتى خرجا من غابة الأفيال، ودخلا الغابة الرابعة؛ غابة النِّمال، فالتَفَتَ الشيخ عندئذٍ إلى «هاموس»، وقال: الآن نحن يا بنيَّ في غابة النَّمْل، فلا تنظر إليه عن صِغَر، فما كلُّ صغير يُحتَقَر، وانظر إليه كيف يأخذ القوت، ويحمي البيوت، ويثبت أمام العدوِّ، حتى يتم له الظفر أو يموت. قال: وهل هو يا مولاي من النوع المعتاد المألوف في سائر البلاد؟ قال: لا بل هو الأبيض ذو المنشار الذي لو سُلِّطت كتائبُه على جبل لأصبح هباءً منثورًا، وهو في حجم الخُنْفَساء، ويذكر يوقو الصيني أن فيلًا عظيمًا مما خلَّفنا وراءنا طَوَّح به أجلُه إلى هذه الغابة، وكان يوقو على شجرة ينظر. قال: فلم أشعر إلا بالملايين من هذا النمل قد خرجت إلى لقاء العدو، ثم لم أَدْرِ إلا بالفيل قد قُضِم قَضْمًا لحمًا وعظمًا، وانصرف النمل من حيث أتى، فنزلت لأنظر فلم أجد للحيوان أثرًا على المكان. قال الفتى: وما عندنا يا مولاي من السلاح لهذا الأبيض ذي المنشار؟ قال: النار ذات الدخان، وإن يوقو الصيني لم يَلْقَ في غابة من الغابات، عُشْرَ معشار ما لَقِيَ في هذه الغابة من الصعوبات، فلقد عَمِلَ تجارِبَ شتَّى أخفق في جميعها.
ولو لم تساعفه الصدفة بإخطار ذكر النار على باله، لأقام بهذه الأرض عمرًا متنقلًا من شجرة إلى شجرة، أو منحبسًا في صندوقه الحديدي من خشية الأبيض ذي المنشار. قال: إذن ففِيمَ التأخير الآن؟ وهذا الحَطَب بين أيدينا حاضر ووافٍ بالحاجة. قال: إننا لم نَدْنُ بعدُ من معسكرات النمل، ولا نبلغها إلا قُبَيْل المساء، أما الحطب ففوق حاجة الطلب، وسنجده أين التمسناه.
وفي الحقيقة لم تكن أواخر النهار حتى أبصر الشيخ عشرات من النمل تعدو فَارَّةً أمامَه، فصاح بالفتى قائلًا: أوقد يا «هاموس»، أوقد؛ فهذا المخبر قد سبقنا لينذر، فشرع الفتى في الإيقاد، وما هو إلا أن أشعل الحطب أو كاد، حتى أحدَقَ بهما ذلك البلاء الأبيض من كل جانب كتائب تنهال، غير مكترث بالنار ذات الاشتعال، ولا مبالٍ بضوءِ لهيبِها المتعالِ. فأدْرَك الشيخ من فوره أن النمل لا يرهب النار، ولكن يَكْرَه الدخان، فأخرج المسحوق بسرعة، وألقى بشيءٍ منه في النار، فذهب دخانًا كثيفًا يتدجَّى، فلما شمَّتِ النمل منه ولَّتِ الأدْبَار، واختفتْ في مثل لمح البصر عن الأنظار.
فخلا الطريق للشيخ وتبعه الفتى يحمل في كلتا يديه النار، واستمرا كذلك يسريان إلى أن بدا لهما النهار، فأتْبعا السُّرَى سَيْرًا غير ذي قرار، حتى تقضَّى ذلك اليوم أيضًا، وكان آخر العهد بالأبيض ذي المنشار، فألقيا عندئذٍ العصا وعمدا لمكان فجلسا يستريحان من عناء ما كان، وهنالك خاطَبَ الشيخُ الفتى، فقال: اعلم يا «هاموس» أنني ناوأتُ الحكومات والممالك، وقطعتُ على الجَحَافل الطرقَ والمسالك، ودبَّرتُ للملوك كما دبَّروا ليَ المَهَالك، ودخلتُ على الأُسُود غابَها، ولَقِيتُ سباع الأرض وكلابَها، وحملتُ الأمراض لم أحسب حسابَها، وجُبْتُ وحيدًا كل قَفْر، ورفعتُ شراع كل بحر، فلا أذكر أنني عرفتُ لشيءٍ مهابة، قبل عِرْفاني هذه الغابة، وذلك لا لأن النمل سلطان الحيوانات، أو أقوى كل هاتيك المخلوقات، ولكن لكونه أمَّة التعاون، والاتحاد، والثبات، وكل واحدة من هاته الثلاث كافية لتهز الأرض، وتُقِيم قيامة السموات.
ثم إنهما رقدا على ذلك المكان، فلم ينتبها إلا وقد ظهر الصبح وبان، فتناولا بعض الزاد ثم خفَّا يسيران، والشيخ يقول للفتى: اليوم نَفِدُ يا «هاموس» على الغاب الأسعد، غاب البَبْغاء الأسود، فاستعدَّ لذلك، فكل العجائب هنالك. قال: وهل بلغناه بعد يا مولاي؟ قال: بل ندخله والضحى. قال: وما عليه من الحيوان؟ قال: بل قل: من الإنسان؟ فالتفت الفتى كالمستغرب الدَّهِش، فعاد الشيخ فقال: نعم يا بني، من الإنسان، فإن غابة الببغاء الأسود تأويها من عهد مجهول للعلم، عائلة بشريَّة متوحِّشة أورثها أبواها الأولان عبادة البَبْغاء، ويذكر يوقو الصيني أنها كانت من ستمائة سنة؛ أي على عهد نحو ألف، ولكنها كانت مبتلاة في زمن وجوده في الغابة، بنوع من الأوبئة خاص بالقِرَدة، وكان يفتك فيها مُسْرِفًا وهذا أغرب ما سمعتُ للآن، حتى لقد حِرْتُ فما أدري هل الإنسان من القِرْد أم القرد من الإنسان؟ قال: لعلها يا مولاي خَطْرة من وَسَاوِس ذلك العالِم؟ قال: إن العلماء لا ينطقون عن الهوى، ولا ينبغي لهم، ولا لك أن تتهجَّم على مقاماتهم يا «هاموس».
وما هي إلا ساعتان من الزمان، حتى غَشِيَ الرجلان المكان، فإذا هما بقُبَّة واحدة عظيمة من الشجر المتشعِّب الأغصان، المتكاثف الأفنان، عائبة الجوانب في الأفلاك، لاحقة الذُّرى بالسِّماك، فلما صارا تحتها واطمأنَّ بهما فضاؤها، سأل الفتى شيخه قائلًا: أين يا مولاي ذلك الإنسان؟ إني لا أجد رِيحَه على المكان. قال: لعلَّه يا بنيَّ لم يَحفَظْ من خلائقه الأولى سوى الجُبْن، فلما تنشَّق نسيمًا غريبًا أخذ لنفسه الحَذَر، فتوارَى خلْفَ هذا الشجر. قال: والآن كيف السبيل إلى الببغاء الأسود، ونحن بين خَلْق من الطَّيْر لا يُحصى، ومساكن في هذه الذرى الشُّمِّ لا تُرام؟ قال: لقد سألتَ يا بنيَّ عن الأمر العظيم، فاعلم أن أول مَن وصل إلى هذه القبة واقتنص الببغاء، هو أبو السُّيَّاح العالِم الشهير تيحو المصري المنفيسي المتوفَّى من نحو عشرين قرنًا، وقد فصَّل رحلته الفاخرة، وبيَّن علمَه العظيم في كراسة من ورق البردي، فوقع النصف الأول منها في قبضة يوقو الصيني، وكان كذلك عالمًا مولعًا بالأسفار، فسافر خلف دليل من ذلك السِّفْر الجليل، حتى بلغ هذه الغابة التي كان من شقاء يوقو أن الكلام ينتهي إليها فيما بيده من الكراسة، فاضطر إلى الرجوع خائبًا بعد أن كاد يأتي بالمستحيل، لاستنزال الببغاء من أَيْكِه المنيع فلم ينجح فيما حاول.
أما النصف الأخير من الكراسة، فقد عثرتُ أنا عليه في مكتبة معبد طيبة الأكبر أيام قيامي بتوكيل هذا المعبد، فأخذتُه لنفسي وشرعتُ من ذلك العهد في البحث عن النصف الأول، ولكن بحث اليائس العارف أنه يروم المستحيل، إلى أن كان ما هو معلوم مشهور، من شرائي لتركة يوقو الصيني التي نَقَدْتُ فيها مَلِك الصين الجاهل ثلاثين ألف حلقة من الذهب، دفعتُها من مالي الخاص. فكان من تمام سعدي أنني وجدتُ بين أشيائها النصف الأول من الكراسة، ومعه كراسة أخرى كاملة من قلم يوقو يشرح فيها رحلته ويذكر خيبته، ويودع الحياة ويزعم أنه لما وصل الصين آيبًا من سفره ذاك، شعر على الأثر بانحطاط القوى، ودبيب الفناء، ويختم بالدعاء لمَن يَقصِد بعده غابة الببغاء الأسود أن ينقلب أسعد منه حالًا، وأحسن منه مآلًا.
فلما صار ذلك كله في يدي، ودُونَ بعضِه يا بنيَّ مُلْك الدنيا، رُحْتُ أحلم ليلي والنهار، بالرحلة إلى هذه الأقطار، واقتفاء آثار أولئك الرجال الكِبَار، إلا أن الفُرَص لم تكن تَسْنَح، ولا الصُّدَف كانت تسمح، إلى أن كان ما كان من اعتزالي الكهانة، وانفصالي عن خدمة الدِّيانة، ودفعتْ بي الحماسة في ولاء الأمير «آشيم»، وليِّ عَهْد بلادنا المحبوبة إلى أنْ آتي هذه الديار لأسرِقَ عشيقَتَه الأميرة عذراء الهند، ثم أحملها إليه هدية من عبده «طوس»، مصحوبة بالثناء عليه. فرأيتُ أن نغتنم فرصة استظلالنا بسموات الهند، لنقتنص ذلك الأسود الذي يُلقِّبه تيحو الصيني بالمغني عن سؤال الأفلاك.
وما فرغ الشيخ من عبارته حتى أخذ أولئك البشر المتوحِّشون ينهالون عليهما من كل ناحية ومكان، وهم في صورة القردة، ولهم خِفَّة المَرَدة. فلما رآهم الفتى تَفَزَّع لرؤيتهم، واهتزَّ إشفاقًا من كثرتهم، فالتفت إليه الشيخ قائلًا: تشجع يا «هاموس»، وألصق ظهرك بظهري، ثم دُرْ معي كيفما أدور، فإنني مُنِيمُهم جميعًا في لحظة، فأسند الفتى ظَهْرَه إلى ظهر الشيخ وجعل هذا يدور، ويُكثِر الصُّرَاخ كالليث الزَّءُور، وكلما وقعتْ عيناه على جماعة من ذلك الإنسان المتوحش راحت نائمة، وهي قائمة، كأنما سُمِّرتْ في الهوى، أو كأن بها سحرًا، فلم تكن لحظة حتى صار أكثرهم في أَسْرِ الشيخ وفتاه، وفرَّ الباقون مختَفِين في جوانب الغاب وزواياه.
أهلًا بعاشق الدماء، المغني عن استشارة السماء، الطويل البقاء، المنبئ بالرياح والأنواء، المشير أبدًا نحو المشرق بجبهته السوداء، الزاجر عن نزول الدَّأْماء، إذا كان في ركوبها بلاء، الحافظ الكَلِم المُعِيدها لمَن شاء، متى شاء، المبشِّر بالضَّحِك، المُنذِر بالبُكاء، الناتِفُ ريشَه إذا أحسَّ من أجَلِ حَامِلِه الانقضاء.