فيما كان من أمْرِ الأسطول
تركْنَا الأسطول وقد ألْقَى المراسي ينتظر النهار على الجزيرة الأولى من أرخبيل الجزر الأبكار، والآن نذكر ما كان من أمره فنقول: كان قد مضى من الليل نحو ثلثه فأخذ النوم يطمئن بمقاعده من الأجفان، ولم يبقَ من ناس الأسطول مَنْ لَمْ يَنَم إلا جماعة الأدِلَّاء. وكانوا في السَّحَر على ظهْر السفينة؛ سفينة الذخائر، وكانت في مَعْزِل، فاتَّفَقَ أنَّ أحدَهم ارْتَجَل نظرةً في الأفق، فلاح له ضوءُ نارٍ يَخفِق من بُعْد على فضاء الجزيرة، فاستلْفَتَ أنظارَ أصحابه إلى ذلك، فلم يَهُزَّهم الأمرُ بادئ بدءٍ، بل استمروا في مجلسهم يتسامرون إلا أن كبيرَهم ما لَبِثَ أن استحوَذَ عليه القلقُ، فخاطَبَهم قائلًا: ماذا علينا يا قوم إنْ نحن مَشَيْنا إلى هذا الضوء لنكشف ما وراءه؟ فإن كان خيرًا كانتْ رياضةً لا بأْس بها، وإنْ كان شرًّا نبَّهنا إخوانَنا رجال الأسطول لموضعه فنَكون قد أدَّيْنا واجبًا من ألزم واجبات الجُنْد بعضِهم نحو بعضٍ. قالوا: حَسَنًا، ثم بَدَرُوا إلى البَرِّ من لوح مَدُّوه للنزول عليه، وكانوا أربعة، فمشَوْا قاصدين وِجْهةَ الضوء، حتى إذا صاروا على قريب مسافة منه، سَمِعُوا غناءً ورأَوْا على المكان ناسًا في لهْوٍ وطَرَب وشُرْب راح، فأكثروا التعجُّب لذلك، واستأْخروا يتهامسون. فقال أحدُهم: لا أرى هؤُلاءِ إلا صيادين أضلَّهم البحر. فقال آخر: نَعَم، مِن متوحِّشة الصيادين الشماليين، فهذا الزيُّ زيُّهم وأنا أعرفه. قال الثالث: ولكنهم سُكَارَى لا يُؤذُون. فقال الرابع: إذن فلنتقدَّمْ إليهم لننظر، فتقدَّمَ البحَّارة الأربعة حتى شارفوا حلقة القوم فحيَّوْهم، فردُّوا التحية هادئين مطمئنين لا نافرين ولا وَجِلِين.
فسألهم أحد البحَّارة: مَن القوم؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟ قالوا: صيادون أضلَّنا الليل، فاتخذنا هذا الساحل مبيتًا، وسنقلعَ والصبح قاصدين الشمال. قال: إذن فوَاصِلوا أُنْسَكم، وتمتَّعوا مما أنتم فيه من اللذَّات. قالوا: وهل لك وإخوانك في مشاطرتنا صفوَ ما نحن فيه؟ فالتفتَ البحَّار إلى أصحابه، فآنَسَ من لحظاتهم الموافقةَ، فلبَّى الدعوةَ عن نفسِه وعنهم، ففسح لهم الصيادون من مجلسهم فجلسوا، وجُعلتْ بين أيديهم قُدُور ملأى من النبيذ المصري، وكان في بلادهم يَسوَى وزنَه ذهبًا، فلا يَقتَنِيه إلا المُلُوك والأمراء، ولا يُسرِف في شُرْبِه إلا الخليعون من كبار الأغنياء، فلا تَسَلْ عن فَرَح البحَّارة بما أُوتوا، ومهَّد عذرَهم إذا هم باعوا الوظيفةَ والأسطول ومَن فِيه بلَذِيذِ ما في القدور.
وطفق الصيادون يُجزِلون للإدِلَّاء من بِنْتِ العِنَب، وما يقتضيه مجلسُها من اللَّهْو والطَّرَب، حتى ارتفع الحجاب من نفسه وزالتِ الكُلْفة، وذهب الوَقَار وغلبتِ الخمرُ البحَّارة على شعورهم، فباحوا للصيادين بسِرِّ المأْمورية بعد أنْ حدَّثوهم حديثَ عذراءِ الهند من أوَّلِه إلى آخِرِه، وعرَّفوهم بوظيفتهم في الأسطول، وأنهم أدِلَّاؤُه الذين بهم في البحر اهتِداؤه، وأنَّ بأَيْدِيهم وحدَهم مفاتيح الأرخبيل، وعندهم دون سواهم أسرار مداخله التي فيها من الصخر الغائص في البحر الغائب، تحت صفحات الماءِ ما يجعل جزيرة العذارى أبعد منالًا من الشمس في كبد السماء.
فلما أخذ الصيادون السِّرَّ جميعَه انفصل اثنان منهم فابتعدا قليلًا يتماران. فقال أحدهما للآخر: ما بال الرئيس أبطأ في العَوْد؟ فإن له يومًا وليلة متغيِّب يكشف المواقع وينظر له طريقة نحو الجزيرة. قال: وما عسى أن يكشف أو ينظر، وقد سمعتَ ما قال الأدِلَّاء؟ وهو لو حضر الآن لتركنا الأسطول في نومةٍ تكون طويلة، ثم سِرْنا مهتدين بهؤلاء البحارة، فلا يَمضِي يومان إلا ونكون في الجزيرة. قال: نَعَم، حضورُهُ الليلةَ ضروري لنجاح المشروع؛ لأن قدوم هذا الأسطول لم يكن منتظرًا، ويُخشَى أن يسبقنا إلى الجزيرة، فيفسد علينا أمرَنا وتذهب كل هاتيك المشاقِّ أدراجَ الرياح.
وبينما الرجلان في الكلام أبصرا شَبَحًا يتقدَّم تحت سماءِ الليل، ثم سمعا حركة فلك تَمخر، فقالا: هذا لا شك الرئيس. فلنُبَادِرْ إليه بالبشرى، ثم توجَّها اتجاه الفلك من الساحل. وكان أصحابها قد لحظوهما من بُعْد. فما هي إلا هنيهة حتى جمعَ البرُّ الجميعَ، وكان أول مَن نزل إليه الرئيس، فأقبل على الرجلين حَنِقًا هائجًا. يقول: ما خَطْبُ هذه السفن يا بلباص؟ وهل خَطَر ببالك أن تكشف حالها؟ أم أنت لا تدري من الأمر سوى الغناء وشرب الخمر ولا تأتي من العمل غير النوم الطويل والكسل؟ فأجابه: عفوًا يا مولاي، فإننا ما خَفَفْنا إليك إلا لنكلِّمك في هذا، ولنبشِّرَك بقُرْب الحصول على المأمول. قال: وما ذاك؟ فأخذ يقص عليه الخبر، وما كان من أمر الأدِلَّاءِ ومجيئهم من تلقاءِ أنفسهم، وشربهم معهم وإذاعتهم بعد ذلك سِرَّ المأمورية القادم من أجلها الأسطول.
فحين سمع الرئيس هذا الكلام تحوَّل عُبُوسُه بِشْرًا وبشاشة. وقال: الآن نجَحْنا فيما نحاول. فلقد كنتُ أختبر المواقع وأنظر في كيفية اجتياز الأرخبيل، فوجدتُ أنْ لا غِنَى لنا عن الدليل، وإلا لزمنا أن نطوف حول هذه الجزائر كلها، وأن نأخذ في مسيرنا عريض البحر، فلا ندنو من الأرض تجنُّبًا للأخطار، والتقاء كامنة الصخور والأحجار، وهذا سَفَر طويل شاقٌّ، يستغرق نصف عام على الأقل، أما الآن وقد وقع هؤُلاءِ الأدِلَّاء في قبضتنا، فقد فسد الأمر على رجال الأسطول، وخابتْ مساعيهم، فاذهبا توًّا فأوعزا إلى إخوانكم بالقبض على البحارة قبل أن يُمِيتَهم السُّكْر، وشدِّ وثاقِهم وَحَمْلِهم إلى هذه السفينة، وليركب فيها جماعة منكم معي. أما الباقون فتذهب بهم أنت يا بلباص إلى السفينة التي كان فيها الأدِلَّاء؛ لأن فيها عادة تكون المؤَن والذخائر. وإن نحن أخذناها أيضًا تركنا الأسطول بغير قوتٍ، فلا يَجِد حينئذٍ بدًّا من الإسراع في الرجوع، فخذوها فاسحبوها سحبًا بطيئًا خفيفًا بدون أن تسمع لها حركة تنبِّه ناس الأسطول لما نحن فيه من العمل، ثم نبتعد بالسفينتين حتى نجيء بعض الصخور العالية مما كشف اليوم فنتوارَى منتظرين النهار، ولا نبرح مكاننا حتى نرى الأسطول، وقد سار منقلبًا على أعقابه بالخيبة والخسار.
قال: سمعًا وطاعة يا مولاي، وأخذ بِيَدِ صاحبِه فذهبا فأبلغا أوامر الرئيس إلى سائر الجماعة، فقُبضَ للحِينِ على الأدِلَّاء وشُدَّ وَثَاقُهم وسِيقوا إلى سفينة الرئيس، ثم جيءَ بسفينة المؤن والذخائر مسحوبة، فركب الجميع وسارتِ السفينتان حتى بلغتا صخرة صالحة للكمون، فكمنتا ترقبان الصبح أن يطلع لتكشفا ما سيكون من أمر الأسطول.
فلما أقبل الصباح استيقظ رجال السفن الهندية، فلم يَجِدُوا لسفينة الأدِلَّاء ولا لهؤُلاءِ أثرًا على الماء، فهَالَهُم الأمرُ وتنكَّر لهم الموقف، وتمثَّل لهم اليأس بكل سبيل، ولم يَرَ الأميرُ ثرثر بُدًّا من العَوْد لعَرْض الأمر على مسامع المَلِك، فأصدر إشارته للسفن بالإقلاع، فأقلعتْ راجعة من حيث جاءَت بالذلِّ والصَّغار.
فلما رآها الصيادون وقد انقلبتْ آيبة خرجوا من مكمنهم، وكان الْأَدِلَّاء قد اندمجوا في سلكهم وآثروا البقاءَ معهم بتلك الصفة على الهلاك، فمَخَرَتِ السفينتان تؤُمَّان جزيرة العَذَارَى من أقصر الطرق إليها بفضْل صحبة الأربعة البحَّارة الْأَدِلَّاءِ.