الشقي «طوس» في جزيرة العذارى
كان من عادة الكاهن منذ قدوم الأميرة في أترابها إلى الجزيرة أن يخرج بالبنات مرَّات في اليوم إلى الصلاة على مكان هنالك مألوف، خالص الجهات مكشوف، وكان البنات إذا فرغن من هذه الصخرة تركن الكاهن عاكفًا على عبادته، مشغولًا بأدعيته، ثم ينثنين لاهيات ناعمات رابعات في ذلك الفضاء، لاعبات حتى مغيب الشمس، وعندئذٍ يدعوهنَّ للمَبِيت صوت مزمار يترنَّم به الكاهن، روحاني التَّحْنان، هندي الألحان، موزون المقادير، مقدور الأوزان. فترى الفتيات يَنْهَلْنَ من كل مكان، والنمور في أقدامهنَّ هائمة على الوجوه، تثير الغبار منجذبة كذلك مأخوذة بنغمات المزمار.
بودا يا سماء هذه الأقطار، ويا سورها الْمُغني عن الأسوار، ندعوك بوادي الأنوار، الذي كرَّمْتَه بالنمورة السبعة الكبار، الظاهرة الأنياب والأظفار المحجوبة عن الأبصار، السارية بالليل، الكامنة بالنهار، كما نتوسل إليك بغابة الأسرار، الخالدة الأشجار، المشرَّفة بثعبان الديار، الأصفر الصفَّار، الوثَّاب الثَّوَّار، أن تَقِي الأميرة ما وقيت، وأن تَسهَر عليها وعلى بناتك العذارَى الأبكار.
سَمِعْنَ صيحة عظيمة آخذة كادتْ لها كُتْلة الجزيرة أن تتمزَّق فتَهوِي أجزاؤها في أسفل أعماق البحر، فالتفتتِ البنات متفزِّعات، وإذا هي النمور تزأر جملة، وقد انحدرتْ كذلك جملة، تترامى جانبًا واحدًا من الساحل، فكأنما تجري هنالك أمور مما لا يستطيع الحارس الأمين المسكوت عنه، فأخذ البناتِ القلق، ونالهنَّ من ذلك فَرَق، لا سيما إذ كانت تلك أُولى نفرةٍ للنمور في المدة الطويلة، التي أقامتْها بالجزيرة، حتى لقد كانتْ عَرَفَتْ سفينة الزاد توهُّمًا فاعتادتْها فلم تكن تنبحها لا قادمة ولا آيبة.
فلم يكن من حيلة البنات ساعتئذٍ إلا أن تهافتْنَ على الكاهن يجاذبْنَه ثيابَه من الفزع، ولو استطعْنَ لدخلْنَ فيها، فإذا هو كإحداهن طيرانَ فؤَاد وارتخاءَ مفاصل، لا يَملِك لهنَّ ولا لنفسه عصمة من الخوف، فنحن تاركوه والبنات على هاته الحال، لننظر فيما كان يجري مما أطار طائر النمورة، فنقول: كانتِ السفينتان قد وصلتا الجزيرة بعد يومَيْ مسير، وبعد عناء كبير وجهد كثير، تُقِلَّان جماعة الصيادين، وأصحابهم الأربعة الملَّاحين. فلما رستا وكان زئير النمور قد دوَّى في آذان القوم، وغبار هجومها قد سدَّ الفضاء في وجوههم، لم يتمالَك الهنود من صيادين وبحَّارة أن وقعوا في مثل ما تركنا البنات عليه، من خوف مانع للفكاك، ورعب مُفقِد للحِرَاك، وبالجملة وقعوا من الفزع في أضيَقِ مِن الشِّرَاك.
وإذا رأى الرئيس ما حلَّ برجاله، إلا أصحابَه المصريين الذين ثبتوا حافظين لوَعْيِهم أمامَ هذا البلاءِ المُحْدِق، عمد لجرابه فأخرج منه ستَّ بيضات من الحجر من طبخ يده، شديدة التوقُّد، قوية اللَّمَعان، تحسبها نارًا وليستْ من النار في شيء، فمسك اثنتين منها في يديه، وجعل ينقلهما من يد إلى أخرى بسرعة غريبة، بحيث كانتا تتعددان في رأْي العين. ثم قال لصاحبيه «هاموس» وبلباص: خذا هذه البيضات الأربع فاصنعا بها كما أصنع، وانزلا بنا إلى البر غير حاسبين لكلاب الهند هذه حسابًا. فبَدَرَ الثلاثة إلى البَرِّ يلعبون بالبيضات في وجوه الوحوش وهي تستأخِر بين أيديهم، وتتقهقر أمامهم. وكان الرئيس كلما قابل واحدًا منها نظر إليه نظرة منوِّم مقتدِر، فتركه مكانه مأخوذًا مسحورًا، وهكذا حتى أتَى على النمور جميعًا فكنتَ إذا رأيتَها حسبتَها لوحًا متقنًا بديعًا.
ثم صاح بالهنود انزلوا أيها الأصحاب فانظروا ما أصاب هذه الكلاب، فنزل الهنود في الحال مكثري التعجب مما يَرَوْن، خصوصًا بحَّارة الأسطول؛ إذ كانوا يستغربون الحادثة، ويكلمون فيها الصيادين فيقول هؤلاء لهم: ليس ما تَرَوْن إلا من لعب الرئيس، وإلا فإن له في حال الجد جراب سحر لا ينفد، وكنز علم لا يفنى. كيف لا وهو الشقي «طوس» الذي لا يعرف الغنى مَن لا يخدمه، ولا يدري السعد مَن لا يَلْزَمه، والجواد الغني الذي فوق أَنعُم الملوك أنعُمُه، وحسبكم أنه استخدمنا نحن صعاليك الصيادين في هذه المهمة التي لا تستغرق أكثر من سنة وفقدنا سلفًا جزاء إتمام هذه الخدمة خمسمائة ألف حلقة ذهبية من العملة المصريَّة، هذا عدا الزاد والثياب والنبيذ الغالي الذي نشربه بغير حساب، وإنه لمال لا يتسنَّى لمَلِك من ملوك العصر دفعه، ولو أنه «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر.
ثم إن الرئيس تقدَّم بين رجاله متوغلًا في الجزيرة يفتش عن مسكن الأميرة بها، إلا أن الظلام كان يُعاكس بصرَه ويقف له بجداره الأسود دون المعالم والأشباح، فلم يكن منه إلا أن أخرج من الجراب أربعة عيدان صغيرة فأشعل أطرافها، ثم رمَى بها في جوانب الفضاء الأربعة، ووقف بعد ذلك ينظر فبَدَا له من الجانب الأيسر شيءٌ عالٍ كالبنيان، فحوَّل إليه مَشْيَه مُوغلًا في السَّيْر، وهو من وقت إلى آخر يقذف بواحد من العيدان المعهودة، فيضيء له دُجَى الليل حتى انكشف له القصر تمامًا، ولكنه لم يكد يبلغه حتى عاد فاحتجب تحت قبة من شبه الضباب الكثيف، فالتفت الرئيس عندئذٍ إلى رجاله متبسِّمًا يقول: لا يَهُلْكم الأمر يا قوم؛ فإن عندي ما أمزِّق به هذه القبة الخيالية التي لا أحسبها إلا من عمل بعض كهنة الصين الدخيلين في العِلْم.
وفي الحال تناول من الجراب ربطةَ عِصِيٍّ كانت فيه، فدهنها بدهان من عنده وترَّبها بتراب أصفر من تركيبه أيضًا، ثم أدناها من النار فاتَّقدتْ أطرافُها فقذف بها تلك القبة الوهمية فتبدَّدتْ للحين. واستمرَّ القومُ سائرين حتى وصلوا إلى القصر، وهنالك استقبل الرئيس الباب وقال بصوت عالٍ تَمِيد له الجبال: «يا مَن حاول أن يُعمِينا بسحره، عن قصره، فغلبناه على أمره. إنْ كنتَ كاهنًا فانزل إلينا آمِنًا إني أنَا «طوس»، وَلِيُّ السُّعُود والنُّحُوس، المنتقم للنفوس، من طائفة القُسُوس، ولكني أُكرمك لأجل مَن معك، فأطِعْني عسى الطاعة أن تنفعك.» فلم يَكَدْ «طوس» يستتمُّ حتى فُتح الباب، وأقبل الكاهن يمشي على عجل من الوَجَل انسياقًا بجاذبية ذلك الاسم، كما تنساق الحملان بجاذبية بعض الثعابين الكبيرة، حتى صار بين يديه فانحنى، ثم خاطبه قائلًا: الأمان يا أبا «هاموس» الأمان، فسأله الشيخ مستغربًا: من أين لك أيها الكاهن عرفان كنيتيَّ حتَّى دَعَوْتَنِي بهما، فاندفع الكاهن يقول (الرمل):
قال الشيخ وانذهل انذهالًا: وأنا أيضًا تحدثني خواطري أنك شنو الصيني. قال: وهي صادقة فيما تُحدِّث. فمدَّ الشيخ حينئذٍ يدَه إلى محاوِرِه فصافَحَه. ثم قال: كيف تَصِفُ الفُلْك بالمشئوم أيها الأستاذ، وهو الذي يَجمَع بين الشَّتِيتَيْن ويُدانِي بين العاشقين، ويحمل بنتَ ربِّ آسيا إلى ابن ربِّ أفريقيا برغم هذين المَلِكَيْن. قال: مهلًا رويدًا يا «طوس»، ولا تَجْنِ على عذراء الهند، كما جَنَيْتُ أنا عليها. فلقد رَكِبَني التسرُّع والطَّيْش حتى هدمتُ ركْنًا من هَرَمِ حياتها، وأنت بهذه النقلة تَهدِم الركن الثاني. ثم يعيش الهرم برُكْن واحد معرَّضًا للخطر وشيك الزوال، وإن كنتَ في ريب مما أقول: فهذا نجْم الفتاة، وهذه غلالتها الأولى، غلالة الولادة. فاجْمَع بينهما، وانظر، فأخذ الشيخ الغلالة وجعل يُقلِّبها ويتأمَّلها والنجم معًا، وقد أخذ بِشْرُ وجهِه يَغِيض، وصفْوُ حالِه يتكدَّر، فأطْرَق برهة، وجبينه يَفِيض من العرق، ثم التفتَ إلى شنو فقال: صدقتَ أيها الأستاذ، ولكني سأغلب هذا النجم على أمْرِه وأردُّ كيدَه في نَحْرِه (الخفيف):
ثم إنه دخل في مثل الجنون من التحمُّس، فاستقبل القصر، واندفع يشيد بصوت كادت له الجزيرة تَمِيد. فدان للأميرة أن تبرح الجزيرة إلى فضاء النيل، البلسم الجميل؛ حيث ابن مولى الأرض، في طولها والعرض، من الوجود عبده، والهند طُرًّا هنده، ومَن على الأيدي يده، ومَن غَدُ الدنيا غَدُه، السيد ابن السيد «آشيم» «رمسيس» الغد.
وما فرغ الشيخ من إنشاده حتى نزلتِ الأميرة هائمة على وجهها والبنات يَنْهَلْنَ على أثَرِها، ولسان حالها ينشد (الكامل):
ثم وقعتْ على صَدْر الشيخ فحَمَلَها، ومشى والملأُ يَسيرون خلْفَه، حتى جاء إلى حيث ترك السفينتين راسيتين. وكانت النمور ما برحت في أسْرِ النوم، فجدَّد لها التنويم، إلا النَّمِر الأبيض الذي ميَّزه بطَوْقه فنبَّهه، ثم ساقه مشدود الوثاق إلى سفينة الصيادين، وركب هو ورجاله والأميرة فيها، ثم أشار إلى سائر القوم أن ينزلوا في سفينة الذخائر، فنزلوا وكان الفجر قد بدا ملتمع الضياء يُضيءُ لراكبها الدَّأْماء، فبُوشر عندئذٍ بنَشْر القُلُوع، فخَفَقَتْ فيها الرياح تملأها وتحرَّكتْ بعد ذلك السفينتان فاندفعتا تشقَّان العباب.