تلاقٍ ولا تلاقٍ
كانت مياه الهند من يوم رجع الأمير الغائب بأسطوله الخاسر الخائب مَحْشَرًا للسفن من كل طراز ولكل صاحب، فمِن حربية بثَّتْها المملكة للمراقبة، وأهلية جُمعتْ كذلك لهذه المناسبة، وبين قديمة بلا عدد، وجُدُد مُنْشَأة لهذا الصَّدَد، وكانت كلُّها منتشرة منتبهة حَذِرة، وعلى الأخص الأسطول المنقاد للأمير ثرثر، فلقد ظلَّ جَوَّالًا في ذلك المجال الفسيح، وهو كالريشة الساقطة في مهبِّ الريح، لا يَعرِف له مَرْسًى ولا يستريح، وبالجملة كانت قيامةً أقامَها المَلِك في البِحَار، كاد العبب لها أن يقوم، وأن يسكن التيار.
واستمرت السفن كذلك أيامًا طويلة، لا تُهمِل في البحث وسيلة، ولا تُغفِل في التفتيش حيلة، بدون أن تأتي بخبر، أو تقف للأميرة على أثر، ولم تكن رأتْ في كل تلك المدة شيئًا يُذكَر، سوى حوتَيْن عظيمين كانا يتطاردان، فكانت تتنَحَّى لهما بكل مكان، فيمرَّان في ذِمَّة وأمان، حتى خرجا من المياه الهندية، ودخلا في المياه العربية، المشرفة يومئذٍ بالتبعيَّة للدولة المصرية. وهناك افترقا فانقلب أحدهما آيبًا إلى بلاد الهند، ولكن بعدما مُسِخ فلكًا يَحمِل الكاهن والأدِلَّاء، ويُقِلُّ المائة عَذْرَاء، واستمر الآخر سائرًا، وكان أيضًا قد عاد فتصوَّر سفينة صَيْد فيها «طوس» و«هاموس» والرِّكَاب المحروس.
فبينما هذا الفلك ذات يوم سائر يؤُمُّ مصر بالقوم، مرَّ به أسطول فاخر لا أول له ولا آخِر، وهو يجري زاخرًا في زاخر، وكان قادمًا من مصر، وحاملًا لرايتها الخفَّاقة بالنَّصْر. فلما استعرضه «طوس» قال لفتاه: ويْلٌ للهنود من هذه الأبراج! التي ليستْ سفُنُهم بجَنْبِها إلا أقفاص الدجاج، فأنا لا أظنُّهم إلا ثائرين، وهذا الأسطول خارج إليهم ليُعِيدهم إلى الطاعة صاغرين. قال: ومَن يا تُرَى الماسك لدفَّتِه، القابض على أزمَّته؟ قال: إن أُمَراء البحر في مصر بغير حصر، وكلهم أبطال مكلَّلون بالنصر. قال: وهل يبعد يا مولاي أن يكون الأمير هو قائد الحال، الخارج إلى الهنود بهذه الجبال؟
قال: إن الأمير مطمئن بالولاية في منفيس، وأخوته كثيرون حول عرش أبيهم المَلِك، فلو أحبَّ هذا أن يَجعَل على السفن أحدَ بَنِيه، لما عدم مَن يُوَلِّيه.
ثم إن السفينة استمرَّتْ سائرة حتى شارفتْ سماء النيل، فألقتِ المراسيَ وانقَضَى ذلك السَّفرُ الطَّوِيل.