الفصل الأول

عذراء الهند في قصر الأمير

أَلا هل لي بِلُقْياهُ يَدَانِ
حبيبٌ شأنُهُ عَجَبٌ وشَانِي
إذا دَنَتِ الدِّيارُ به فناءٍ
وإنْ نَأَتِ الديارُ به فدَانِي
يَوَدُّ الليلُ لو نَدْنُو كلانا
ويدَّخِر النهارُ لنا التَّهَانِي
وتأبَى شِقْوَتِي فالذنبُ عندي
لها لا للزَّمانِ ولا المكانِ
الوافر

كان اللَّيْلُ في أُخْرَيَاته، وكان سكون الجوِّ عندَ غاياته، والوجود لم يَنْتَبِهْ بعدُ مِن عميق سُبَاتِه، وكانت منفيس لم تَزَلْ في أسْرِ اللَّيْل وتحت رِقِّ أحكامِه، ساهرة المحارس والمخافر، مغلقة المداخل والأبواب، لا يخرج منها خارج ولا يدخلها داخل إلا بإذن، وهي كأنها الهالة المستقلَّة المُنِيرة الأهِلَّة، أضواء ولا ضوضاء، وسَنًا للناظر وسَنَاء، وسكون في الأرض وسكينة في السماء، وكانتِ الطُّرُق إليها شتَّى وقد أخذتْ مع ذلك تَزْدَحِم بناقلي الأقدام، الآتِينَ من أقاصي القُرَى تحت مدارع الظلام، وفي كلاءة الحيِّ الذي لا ينام، ينهالون على المدينة من فوق الجسور وتحتها وعابري الأنهار، ومن بين المزارع والديار وحوالي المحارس والأسوار، متنافسين في الرِّزْق متسابقين إلى الكَسْب مسارعين إلى المغنم، كما ينبغي للأمم في أيام حياتها وأزمِنَة مجْدِها وتمدُّنها.

فكانت هاته الجماعات والزُّمَر تموج وتزحف سيرًا نحو منفيس، وبين أيديها ما لا يعلم عددَه إلا الله من محصولات القُرَى ومتاجر البلاد، وعلى الأخص الدواب حيث كان لأسواقها الشأن الأعظم في المدينة، وكانت هي زخرف أغنيائها والزينة، وهم قد ملئوا الدُّرُوب وملكوا جميع الطرق، إلا واحدة كان يُقال لها طريق الخفاء، وكان الأهالي يجتنبونها لأجْل ذلك، ويذكرونها فيتفزَّعون لذكرى المهالك، وقد أكثروا في أمرِها الكلام، وذهبوا المذاهب مع الأوهام.

وكان يجتاز طريق الخفاء في تلك الساعة شِرْذِمة من الفُرسان لهم زيٌّ غيرُ مألوف، وكانوا ملتثمين متدارين في السلاح، متمكنين من صهوات الجياد وأعِنَّتها المستوصية الشداد، وقد جعلوا فيما بينهم هودجًا محجَّبًا محمولًا لا يعلم إلا الله بما فيه، وهو يسير حيث يسيرون، وهم به دائرون، حتى إذا صاروا في آخِر الطريق من جهة المدينة، انفصل عنهم أربعة فظهروا للوجود، وخرجوا إلى العالم المشهود، تاركين رفاقَهم والهودج ومَن أقلَّ في الطريق الخفاء، ينتظرون.

ثم ساروا يقصدون منفيس وكأنما عرف الأهالي مَن هُم، فغضُّوا الطَّرْفَ عنهم لا يَدْنُون منهم ولا ينظرون، وكانوا كلما مرُّوا على مَحْرَس مَيَّزَهم خُفَراء النقطة بزِيِّهم فلا يتعرَّضون لهم ولا يسألون، إلى أنْ بَلَغُوا بابَ الشمس (أكبر أبواب المدينة يومئذٍ) وهنالك أخرج أحدهم جرسًا فضرب به ثلاثًا فلم يَكَدْ صَدَى الضربات ينقطع حتى انفتح لهم الباب فدخلوا، وكان الحُرَّاس قد عَرَفُوهم بجرسهم فلبثوا في مراكزهم لا يتعرَّضون لهم ولا يسألون.

واستمرَّ الفرسان الأربعة كذلك سائرين، لا يَخشَوْن من تعويق ولا يَقِف لهم واقف في طريق، حتى لاحتْ لهم دارُ الأمير وجهتهم التي كانوا يقصدون.

وكان الفجر قد لاحتْ تَبَاشِيرُه تهزُّ الوجود، كما هزَّ مِن والدَيْه المولود، وهي الساعة التي يكاد صالحو الملوك والأمراء أن يسبقوا بها إلى العمل النُّسَّاك والعُلَماء. فخرج الأمير إلى حديقته الخاصة يلتمس لنفسه كعادتها نزهة الصبح، ويتمتع من رؤية الطبيعة وروائها، في خير ساعات انجلائها، وأطْيَبِ أوقات بهجتها وازْدِهائها.

أما الحديقة فكانت مثالًا لصنعة الصانع أجلَّ مثال، طرازًا بديعًا فردًا في البهاء والرَّوْنَق والجَمَال. ظِلٌّ، وماءٌ، وطبيعةٌ سَمْحَاء، وسكينةٌ في السماء، كما تحب الطير ويَهوَى العاشقون والشعراء.

وكان مع الأمير فيها ساعتئذٍ الأستاذ «بنتؤُر» شاعر البيت حكيم المملكة ومؤدِّب وليِّ العهد في الصغر، ومُشيره الأمين في الكِبَر، والبطل «رادريس» الملقَّب بعِفْرِيت الحبشة حارسه الأول، وأمين سلاحه الذي عليه المُعوَّل، ثم العالِم الكبير تيحو طبيبه الخاص. وهؤلاء الثلاثة من أصحاب «رمسيس» الثاني وكانوا في معيته، فلما استعمل ابنه الأمير على منفيس والأقاليم الوسطى، سيَّرَهم في ركابه حاشية جديرًا بها وليُّ عهدِ المملكة الرمسيسية فكان الأمير يتمشَّى متريِّضًا، وليس البدر بين نجومه بأَجَلَّ منه بين رجاله، وقد جعل يَدَه في يد «بنتؤُر» وهو يقول له: كتبتَ إليَّ سيبًا تنبئني أن ضغط الكهنة على الملك غير، وأن الحملة على تزويج أخي ﺑ «آرا»، وأن كبير الحرس قد استمال إليه المؤْثرين من رجال الحاشية حتى أصبحوا يجدُّون مع الكهنة في إتمام أمله الذي يحاول أن يرفع بنته إلى مقام تحسدها عليه كريمات الملوك والخَوَاقين، وأن المَلِك أوشك أن يتأثَّر بمساعي القوم، وأن أختي «آثرت»، وهي كما تعلم لسان الكهنة في القصر، متكلفة لهم ولصاحبتها «آرا» باجتذاب والدتنا العزيزة. فكيف العمل الآن يا «بنتؤُر»؟ وما الحيلة في الخلاص إذا الملك والوالدة انقادا بقوة ذلك التيار فأصبحا علينا مع جماعة المتحالفين؟ قال: نعم يا مولاي، ضغطُ الجنادل والقبور، ولا ضغط الوالدَيْن في أمثال هذه الأمور. وإن الذي أعلم أنا من الأمر لأعظم. قال: وما ذلك؟ قال: إن أبويك الفخيمين لم يوشكا فقط أن يُذْعنا لاقتراح الكهنة، بل هما من بضعة أيام نصال تلك السهام، وساعد الأقوام، والمساعد على تحقيق ذاك المرام، فإن كنتَ في ريب مما أقول فهذا كتاب من أبيك الملك إليَّ فاقرأْه ففيه الكفاية، ثم دفع إليه كتابًا من قلم «رمسيس» يقول فيه ما معناه:

عزيزي الأستاذ، لقد آن ﻟ «آشيم» أن يَعدِل عن غرامه الهَوَسي بعذراء الهند، لا سيما بعد ما ثبت لدَيْه من أخبار رُسُلي ورُسُله العديدين من اختفاء الفتاة واستحالة بقائها على قيد الحياة. هذا والأمير اليوم يُناهِز الثلاثين، وأنا شيخ ضعيف وقد مرَّ لي في المُلْك خمسون عامًا، فلا أحب أن أفارقه قبل أن أرى وليَّ عهدٍ أبًا، وهذا أملٌ حلال، طاهر الخِلَال، لا أحسبك إلا موافقي عليه، فإنِ امتَثَل «آشيم» إرادتي زوَّجتُه بربيبتي وبنت كبير حرسي السيدة «آرا» التي لم يَقَعِ اختياري، ولن يَقَعَ إلا عليها، وإلا عَدَدتُ الإباءَ منه عقوقًا بيِّنًا، وربما أفْضَى ذلك إلى انتقال العهد عنه إلى أخته البارة «آثرت»، والآن فانظر في مصلحة أميرك واختَرْ لتلميذك ما يحلو. والسلام.

كتبه
«رمسيس» الثاني

فما فرغ الأمير من قراءته إلا وقد ملكتِ الحَيْرةُ جهاته ووقف له اليأس في السُّبُل والمذاهب؛ فأطْرَقَ برهةً لا يملك كلامًا، و«بنتؤُر» يُلاطِفه ويُسلِّيه ويُعلِّله ويُمنِّيه، ويدعوه ليترك الأمر حتى ينظرا فيه، حتى إذا هبَّ من إطراقه، قال: إن الموقف لحَرِجٌ يا «بنتؤُر». قال: نعم، شرُّ موقفٍ يا مولاي، ولكن (الخفيف):

غَالِبِ الأمرَ بالتوَكُّلِ غَالِبْ
واطلُبِ العَوْنَ في جميع المطالب
رُبَّ أمرٍ به تَضِيقُ المَسَاعِي
لك منه إلى الفضاءِ مَذَاهِب

قال: ألا تذكر أن أخي وَضَعَ يدَه وهو في الخامسة عشرة في يد عذراء الهند، على أن لا يقترن بسواها ما داما كلاهما على قيد الحياة. قال: أذكر ذلك يا مولاي. قال: إذن فقَبِيح بابن «رمسيس» أن ينكث العهد. قال: قبيح، ثم قبيح. قال: وتذكر أيضًا أننا كلانا وضعنا يدنا في يد هذا الشعب البائس المحتقَر المملوك لفرقة الكهنة، أننا ننقذه من يَدِهم، ونردُّ عليه حقوقَه المسلوبة. قال: أعرف ذلك حق المعرفة يا مولاي، وأعلم أن اقتران وليِّ العهد ﺑ «آرا»، لو حصل، يَثْنِيه لا محالة عن العمل، ويحلُّ جميلَ نظام هذا الأمل. قال: إذن فعارٌ على ابن «رمسيس» أن يَنْقُضَ الميثاق. قال: نعم، عارٌ عليه إذا فعل عظيم. قال: ولكنه الأب يقترح والملك يريد، وعارٌ على ابن «رمسيس» أن يعقَّ أباه، ثم عارٌ عليه أن يَعصِيَ مَلِكَه. قال: نعم، عارانِ لا يَنْمَحِيان. قال: فكيف العمل إذن؟ وما وُجوه الحِيَل؟ وأخي فوق هذا وذاك عاشق، والعِشْق أكبر مُلْكًا وأعزُّ سلطانًا من أبينا على فخامة عرشه، فلا بد ﻟ «آشيم» أن يُذعِن لأحكامه، كما أذعن لها الأولون وسيُذعن الآخرون. قال: كل هذا يا مولاي معقول، وأخوك وأنت كلاكما جدير بما تقول، ولكن الرأي عندي أن نُبادِر فنغتنم فرصة تَغيُّب الأمير فنُجيب الملك بأنه ما زال ولدَه البار، الخاضع المطيع في الإعلان والإسرار، وأنه أبوه أولى به، فليدبِّر له ما يَشَاءُ ويختار، حتى إذا خرج الملك من حالة الغضب وعادت عواطف الأُبوَّة فاطمأنَّتْ بمكانها من فؤاده الرحيم، وما أسرع ما تعود هذه العواطف! شرعنا حينئذٍ نتلاطف له في الاستمهال ونذهب معه في كل مذهب من المِطَال، حتى نستقرَّ والحوادثَ على حال. قال: قد رأيتُ في الأمر رأيَ حكمتِكَ يا مؤدِّبَنا العزيز، فاكتب إذن إلى الملك بهذا المعنى وعَجِّل.

ثم إن الأمير التفت فوقع نظره على الحاجب، وكان قد حضر ليَعرِض أمرًا فسأله: هل حاجة؟ قال: حاجةُ الجميع سلامةُ الأمير، بالباب يا مولاي أربعةٌ من الفرسان، يزعمون أنهم رُسُل الشقيِّ «طوس» إلى مولانا، في أمر ذي بالٍ، فاستبشَرَ الأميرُ لذكر هذا الاسم، وتهلَّل وقال: يا مرحبًا ﺑ «طوس»، وأهلًا وسهلًا برسله، فليدخلوا، ثم أقبل على «رادريس» يقول: ليس كذاك يا حارسي الهُمَام. قال: بلى يا مولاي، ونِعْمَ الصاحب على البُعْد «طوس». أمَّا شخصُه فلم نَرَه، وأما أفعاله فلم نَبْلُ منها إلا الخير خصوصًا مولاي «آشيم»، فإنه مَدِين له بالحياة مرتين، منذ قدومنا لمنفيس. قال: وأنا لأجْل أخي أحبُّه ولا أحب أن يتعرَّض له ولا لرجاله أحدٌ ما دُمتُ مكان أخي في هذا البلد. قال: وهَبْكَ عاديتَه يا مولاي، فلن تَجْنِيَ إلا كما جَنَى الوُلاة من قبلِ أخيك، ثم تكون قد أرجعتَ البلاءَ للسُّكَّان، وأعدتَ الحال أسوأ مما كان.

وعند ذلك أقبل الحاجب وفي أثره الفرسان الأربعة، وقد تجرَّدوا عن سلاحهم بالباب، وجعلوا يدهم اليمنى على الكتف الأيسر، وأرسلوا اليسرى خافضي الرأس منحنين، إشارة إلى الخشوع والإجلال، وعلامة على تمام الطاعة وكمال الامتثال. فلما رآهم الأمير أقبل عليهم وتلطَّف، وبالَغ لهم في الخطاب، ثم شَرَعَ يسألُهم عن «طوس» ويستخبرهم عن أحواله حتى إذا اطمأنَّ بهم الموقف واستأنسوا، طلب إليهم أن يعرضوا حاجتهم، فأخرجَ أحدُهم كتابًا مختومًا ودفعه إليه، فتناوله ففضَّه، ثم دفع به إلى «بنتؤُر» ليَقرَأ فقرأ:

من الشقيِّ «طوس» صاحب الشياطين، وحليف المَرَدَة الجَهَنَّميين، إلى سيِّدِه ومولاه سليل الشمس وجار الآلهة في مهده، ابن «رمسيس» الثاني ووليِّ عهدِه، ووارث التاجَيْن والعرشِ من بعده، الأمير «آشيم»، حاكم منفيس والأقاليم الوسطى.

مولاي، فتاةُ الهودج التي يتقدَّم بها رجالي بين يدي جنابِك العالي، هي عذراء الهند.

(فعند سماع هذا الاسم أجفل الأمير واضطرب وعلا وجهَه الاصفرارُ، فدَنَا «بنتؤُر» عندئذٍ منه وقال همسًا: تجلَّد يا مولاي، وقُمْ لأخيك في هذه الحادثة مقام شخصه، وصُنْ له عشيقتَه فيما تَصُون من معالي هذا المركز الذي خصَّك بثقته يوم رحيله، فلم يأتمن سواك عليه، ثم عاد فقرأ):

بنت الملك «دهنش» مَلِك ملوك الهندين أوقَعَها الشقاءُ في قبضة عبدِك، فاستكثرتُها لنفسي، ولم أجِدْها تصلُحُ لسواك، أو تَلِيق إلا لِعُلاك، فآثرتُك بها على نفسي وأولادي، مع علمي علمًا حقيقيًّا أنها أجمل كريمات الملوك، بل أفْتَن نساء الأرض، في الطُّول والعَرْض، وأن أربعين مَلِكًا من ملوك آسيا ماتوا بوَجْدِهم في سبيلِها، كما يموت عُشَّاق الدنيا بهمِّ اليأس من تحصيلها. ولكنَّ لعذراء الهند هذه يا مولاي سِرًّا يختص بحياتها، ويتعلَّق بأيامها، وإني أستودِعُك إيَّاه، وأسأل آلِهَتَك أن يجعلوك منه أبدًا على ذُكْر، وما ذاك إلا أن الفتاة محرَّم عليها أن تركب البحر في عمرها مرتين لا متتاليتين ولا متعاقبتين، وقد فعلتُ فصارتْ عُرْضَةً للغَرَق، بحكم نجمها النحيس، وإلَّا يَسهَرْ مولاي عليها يَكُنْ وحدَه المسئول عن حياتها النفيسة أمام فؤَادِه الطيِّب الرحيم.

كتبه «طوس»

وقد كان الأمير وأصحابه يُصيخون لمدهش ما يتلو عليهم «بنتؤُر»، وهم يَشهَدون أحوالًا أعجب، ويُبصِرون أدْهَى مما يسمعون وأغرب. وذلك أن الفرسان الأربعة كانت أشخاصهم تَرِقُّ وتنطوي، وتضمحل وتتلاشى، متوارية ثم تتوارى متلاشية. وهذا كله بدون أن تتحرك الأقدام أو تخرج عن مراكزها الأجسام إلى أن زالت تمامًا، وعندئذٍ سُمع من جوف الحديقة صوتٌ يقول: لِتَخْلُ الطريق إلى قصر النزهة بالضواحي، وليَخْلُ القصر أيضًا إلا من الأمير؛ حيث يُقيم وحدَه في انتظار عذراءِ الهند، فإنها ستُحمَل إليه في منتصف الليل تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤