الفصل الرابع
الأمير في الطريق
تركْنا الأمير ومؤدِّبه وعبدَه آخِذين يَمين السور الغربي، يَسيرون في حماية السور
وتحت مدارع الظلماءِ، آتِين باب طيبة، ومنه إلى قصر النزهة بالضواحي، والآن نرجع إليهم،
فنقول: كان الأمير يقول لصاحبه وهما في المسير يتحدثان: أرى يا «بنتؤُر» أنَّ في الوقت
ما يكفي لنذهب فنؤدِّيَ الواجب نحو دعوتنا المقدسة، ثم ننثني فنستقبل الأميرة. قال: لعل
مولاي يُشير إلى الجمعيَّة، فإنها تنعقد في هذا المساء؟ قال: نعم، إلى ذلك أُشير. قال:
وهَبْ أنَّ الوقت لم يمكنك من حضورها هذه الليلة، فإن الأحرار يعذرونك يا مولاي،
وحاشاهم أن ينالوك بفكرة سوء، أو يظنوا بك إلا الخير فيما يظنون. قال: ولكنِّي وأخي لم
نُعَوِّدْهم التقصير من قبلُ. ولا أُحبُّ أن نعتاده معهم، فالنفس مع العادة بنت مرة.
قال: ذلك أحبُّ إليَّ يا مولاي، بل أنت إنْ فَعَلْتَ زِدتَ مكانةً في نفوس القوم إلى
مكانتك، وأصبحتْ منزلتُك في القلوب منازل. قال: ولكن الوقت إنْ سامح بالذهاب إلى
الجمعيَّة، فهو لا يحتمل لنا أن نرجع إلى المدينة فنُغيِّر خيلنا ولباسنا. فما العمل
إذن؟ وماذا تَرَى؟ قال: لا يُفكِّر مولاي ولا يضجر؛ فإن «رادريس» لا يَفوته في أمر
الحزب صغيرة ولا كبيرة، وهو لا شك عالِم أن الجمعيَّة تلتئم في هذا المساء، فلا يقصر
عن
المبادرة إلينا بما نحتاج من خيل ولباس. قال: هذا إنْ وَجَد سَعَة في الوقت، وما أظنه
واجدًا. قال: بل سيجد يا مولاي؛ إذ حيث الأمر كما قدمتُ لك، يتناول مصلحة الحزب ويهم
الأحرار. و«رادريس» هو ذلك الغيور، ألم يكن القائل للمَلِك إذ هو في مقابلاته الرسمية
إذ تُحيط به حاشيتُه ووزراؤُه:
أيها الملك
إن عفريت الحبشة ومدوِّخ أفريقيا لا يقبل أن يتقدَّم عليه صِغار أولاد الكهنة
في شرف الدخول عليك للتبريك، حتى نشأ عن ذلك تَرْكُه الأمور واعتزالُه الخِدْمة
حولَيْن كاملين (مُخلَّع البسيط):
رأيتُ ملكًا بلا استقامة
لا صدق فيه ولا سلامة
فعفتُ باب الأمور حتى
خرجتُ بالعزِّ والكرامة
والحُرُّ في حيثُما تولَّى
يَقوم للخَلْق بالخدامة
قال: نعم، هو ذاك الشَّهْم بعينه، وإني ليُعجبني له قوله في خطبته المشهورة التي
ألقاها على جيوشنا المظفَّرة بالحَبَشة: «أيُّها الجُنْد، أنتم منذ كنتم آباءَ التاريخ
وأصحابه، وإليكم ينتهي كتابه، فإياكم أنْ تُعطوا العدوَّ منه سطرًا واحدًا، فما خُلق
الذُّلُّ إلا لأمَّة ذات مجْد غابر لا تَستَحْيِي من تاريخها.»
ثم ما زال الأمير وصاحبه يُمجِّدان الحارس الأول في غَيْبَتِه، ويتذكَّران الكثير
الطيب من سِيرته، وقد خَدَعَهما الحديث كعادته، فلم يَدْرِيا إلا بباب طيبة يلوح لهما
كأنه الطَّوْد الشامخ أو البرج المَشِيد الباذِخ، وهنالك انتَحَيَا طريقًا مختصرًا إلى
قرية البشنين، فاندفعا يسيران، وكانت على ذلك المكان، شجرة ملتفَّة الأغصان، متكاثفة
الأفنان، كأنما أُرضعت الزمان، فلما صارا على خطوات منها ألْفَيَاها تَموج، وآنَسا
عندها حركةً فارْتَابَا لأول وهلةٍ، وارْتاعا لما عسى يكون وراءَ الظلام، ولكنَّ العبد
كان قد بلغها قبلهما فوقف، ثم التفت وراءه يُنادي: ليُقبِل مولاي في أمان، فإنهم رجالُه
ينتظرون قُدومَه، فأقبل الأمير، وإذا «رادريس» يتقدَّم للقائه، فقبَّل يدَه ثم دعاه
و«بنتؤُر» ليترجَّلا، ففعلا، وانثنى الأصحاب الثلاثة إلى الشجرة فلبثوا فيها برهة من
الزمان، ثم برزوا في زيٍّ غير السابق المعتاد، وعلى جِياد غير تلك الجِياد، وعندئذٍ
مَشَى العَبْد وسائر الرجال بالثياب والخيل، راجعين إلى المدينة، وسار الأمير وصاحباه
لما هم إليه قاصدون.