حزب الأحرار
كان أول مَن ألقى أساس هذا البناء المعارض لبناء الكهانة، السور المناهض لأسوار الديانة، في أوائل حكم «رمسيس الثاني سيزوستريس» فرعون ملك مصر، وكان المَلِك نفسُه هو رُوح ذلك العصر الجديد الذي قام به، ونظَّم عقْد هاتيك المبادئ الحديثة، وهل عقْد بغير نِظَام، وإنْ كان لم يَصدُر منه بَدْءٌ بعمل أو اشتراك أو ارتياح لإتمام، وإنما أصاب به عُقَلاء الأمة يومئذٍ مَلِكًا فتًى ذكيًّا جريئًا، مُرَبًّى كما يُرَبَّى أبناءُ الأفراد بين حياة الشعب العامة وبين الحوادث والأحوال، فاستقبلوا دولته حقَّ استقبالِها وعلَّقوا بأيامه الآمال.
وكان ضَغْط الكهنة على خاصة الأمَّة وعامتها، وبالأخص رجال الحكومة، على اختلاف درجاتهم، وتنوُّع وظائفهم، شديدًا متواصلًا، زائدًا عن حَدِّه، فكان العُقَلاء الأحرار يُنكِرون عليهم كل هذا التوسُّع في النفوذ، وتناول حقوق الملك المقدسة والاختصاص بالأمر والنهي في البلاد. أما المَلِك فقد لحَظَ الأمرَ مِن أول يوم بعَيْن مبصرة، وارتاح لنَشْأة هذا العدوِّ المستَتِر المُهدِّد للكَهَنة شُرَكائِه، في المُلْك بغير حقِّ شركة، ولمنازعيه الحكم بغير حق نزاع، إلا أنَّ وَلَعَهُ الزائد بالحروب وشَغَفَه الجَمَّ بالفُتُوحات كانا يَمْنَعَانِه من تَألِيب عناصر الحكومة بعضها على بعض، وفتح حِقْبة للمَشَاكل الداخليَّة ربما تَطُول فتَحُول دون ما هو مشغوف به مشغول، فكان يَتَغَابَى عن أعداء الكهنة، ويواصل هؤلاء المعاملة الحسنة.
ولهذا بَقِيَتِ النهضة أدبية محضة، لا تجوز النفوس ولا تتعدَّى الخواطر والأفهام، إلى أنْ أخذ «رادريس» و«بنتؤر»، كلاهما حقَّه في التَّرقِّي في خِدْمة المملكة، فعُهدتْ إلى الأول قيادة الجيوش الاستعمارية العامة، وعُيَّن الثاني أستاذًا عامًّا للأدب والفلسفة في العاصمة، ومؤدِّبًا للأميرين الشقيقين «آشيم» وبسمتوس ابْنَيِ المَلِك من الملكة زوجته الشرعية، وكان ذانِك الرجلان مِن أكبر خُصُوم الكَهَنة في السِّرِّ والجَهْر، وكانا واحِدَيْ عَصْرِهما في عالَمَيِ السيف والقلم، نافذي السلطان الأدبي على أبناء طائفتيهما، فهذا تنجذب إليه الجيوش كما تنجذب إلى النصر، وهذا فعول بيانه بالألباب ما تفعل الخمر، فلمَّا تقلَّدا منصبَيْهِما الجديدين تقلَّداهما على الفور سلاحًا ماضيًا لمناهضة الكَهَنة والسَّعْي في رفع نِير ذلك الاستبداد عن العباد والبلاد.
ثم كان مِن سعدهما أن العدو مُنِي بفَقْد دعامة من أرفع الدعائم ورُكْن من أركان بنائه الجِسَام، ألا وهو «طوس» الكاهن الأعظم لطيبة؛ أيْ رئيس الدِّيانة في القُطْر كلِّه، ولم يكن مات، ولكن فَرَّ من خِدْمة الديانة، لأسباب سنُورِدها بعدُ، وعلى وجْهٍ كدَّر صفوَ القوم تكديرًا، وانسحب على أثر «طوس» كثيرون من أذكياء الكهنة انضموا إليه، فتكوَّن من جميعهم حزبٌ مناوئٌ للديانة شديد على رجالها رهيب.
وكان الملك قد فَرَغَ من فتْح الأرض، ولكن بعد أن أصبح كهلًا غير قادر المشيب، وكان لم يَزَل في موقف النظارة تلقاء هذه الحرب الخَفِيَّة، وهو يشكو مع الشعب مِن عُتُوِّ الكهنة وعبثهم بحقوقه، موروثها والمكسوب، ولكنْ كان يغدو على مداجاتهم مغلولَ اليَدِ، قليلَ الحِيلة، ليس له عن الأمر معاث إلى أنْ شبَّ «آشيم»، وكان أذكى أولاده وأنبلهم وأشجعهم قلبًا، فاغْتَنَم المَلِك هذه الفرصة ليُنذِر الكهنة، فقَرَعَ لهم بفتاه العصا لأول مرة؛ حيث استعمله على منفيس والأقاليم الوسطى، وجعل في خدمته «رادريس» و«بنتؤر» بالرغم من معارضة الكهنة وقيامهم في وجهه لمنع هذا التعيين.
ومن ذلك العَهْد بدا حزب الأحرار للوجود يمتد من منفيس إلى طيبة فأقصى أطراف المملكة، وظهر الأمير فوق الكهنة كرمًا وجودًا وتواضُعًا ورحمة وإدناءً للأمة، ومخالطة لها واشتغالًا بها، إلى غير ذلك من الصفات التي كانتْ أضدادُها في أبيه، فتهافتتِ القلوب على كلمته، وتسابقتِ الخواطر إلى تلبية دعوته، كل هذا والحزب خلف الحجاب، والعمل مستتر والنار كامنة في أغوار الرماد.
والآن إذ وقف القارئ على هذا البيان المجمل، عن سيرة الحزب، فلينتقل معنا إلى مركز قرية البشنين؛ حيث فيما وراء الجانب العامر الآهِل منه، منزل متوسط بطبقة واحدة مبنيٌّ بالآجُرِّ (الطوب الأحمر) مُبَيَّض بالجِير، ظَهْرُه إلى المساكن، ووجهته خالصة إلى الخلاء، وله مدخل مُعتِم حقير، وهذا المدخل عبارة عن خَمَّارة فيها بعض أرائك للجلوس، وبها منصَّة عليها كثير من أدنان الخمر، وسلل الفاكهة.
وكان المنزل والخمَّارة لشابٍّ من أهالي القرية، وكان عَزبًا منفردًا، ليس معه إلا خادمان يصحبانه من قديم زمان، وكان لا يقبل في خمارته إلا طُلَّاب الراحة من المسافرين أو الآيبين من الصيد والقَنْص التَّعِبِين، وقد جعل الأسعارَ فَادِحَةً حتى تجافَتْ عن مَحِلِّه الأقدام، وصار كلُّ مَن دخله مرَّة خرج مكويًّا بغلائه فلا يُثَنِّي.
فكان أهل القرية، وعلى الأخص أُلَّاف الخمر منهم، يرمقون الشابَّ بعين المَقْت ويسلقونه بألْسِنَةٍ حِدَاد، فيزعمون أن والدَه ترك له ثروة واسعة كان قد أسَّسها من تجارته العظيمة في ورق البردي، فلم يُحافِظ الفتى عليها، بل بدَّدَها في أقصر زمان، ولم يَستَبْقِ من العَقَار إلا ذلك المنزل، فاتَّخذ فيه حانةً وراح يعيش ببيع الخمر، ثم كان السِّكِّيرون من بينهم يزيدون فيقولون: وليتَه ناجح في عمله فإنه يرفع الأسعار، ويُعطي بمقدار، ويَصرِف الزُّوَّار، فلا الليل يَبِيع ولا النهار.
وكانتِ الخمَّارة في الليلة التي نحن بصدد حوادثها مفتوحة مشتغلة، وكان في جوفها مصباح ضعيف الضوء عنده أريكة، وعلى هذه الأريكة رجلان يتحادثان، وبين أيديهما شيءٌ من الخمر والفاكهة، فكان أحدهما يقول للآخَر: إن الأمير في شغل الليلة يُدبِّر لعذراء الهند مَبِيتَها في قصر النزهة، قال: نعم، وأيَّ شغل! قال: فهل تظنه يُشرِّف الجمعية بحضوره كالعادة؟ قال: ومتى عَهِدْنا في الأمير قِلَّةَ الوفاء حتى بدأنا نظن به الظنون؟ قال: حاشاه وتعالَتْ مُرُوءتُه، وإنما أنا أنظر إلى كثرة أشغاله وخطارة ما يباشر من الأمر، فالتفتَ الأول حينئذٍ إلى ربِّ الحَانِ، وكان عند منصَّته مشتغلًا بترتيب الدِّنان، فسأله: أيها الرئيس، كم عندك الآن من الإخوان؟ قال: تمُّوا خمسين، ولم يَبقَ مَن لم يحضر ممَّن عليهم الحضور سوى الأمير وصاحبيه. قال: فهل اعتذر الأمير برسول أو رسالة. قال: لا، ولعلَّه وصاحبيه في الطريق. قال: فكم بَقِي من الوقت لنبتدئ؟ قال: ضرْبة الجرس الثالثة، ثم ارتجل نظرة إلى الأفلاك. فقال: بل أرى الوقت قد جاء، ولم يبقَ إلا أنِ استعدَّ، وانحدر من فَوْره إلى المَخْدَع في الحان، فعَالَج بابه فانفتح فدخله، وخرج منه على أثر ذلك الخادمان. فدَعَوُا الرجلين للحاق بالرئيس، ففعلا كما فعل، ثم عمدا إلى باب الخان ليُغلِقاهُ.
وعند ذلك أقبل الأمير وصاحباه، فتنحَّى لهما الخادمان، حتى إذا دخلوا أُغلِق الباب، وابتدر الجميع دخول المخدع، وكان خلف بابه مباشرة سُلَّم من حِبال فنزلوا منه إلى دهليز ضيق مظلم طويل، فمَشَوْا فيه حتى إذا اجتازُوه خرجوا إلى مكان مشيد الأركان وافي العِظَم والاتساع، لا يَضِيق بألفَيْن من النفوس يجتمعون فيه، وكان مُنارًا بمَصابيح قوية الأشعة إنْ لم يكن ضوءُها من الكهرباء، فهو لا ريب ما يلي ذلك مباشرة من الأضواء.
وكان على الجدار الذي يَستقبِله الوافد على هذه القاعة صورتان؛ إحداهما: أسدٌ شابٌّ بيِّن الفَتَاء، بادي مخايل الحميَّة والقوة، وهو مُطلَق يَهِيم، ولكنَّ على عينيه رباطًا يَحجِب نورَهما، وهو لا يَملِك للرِّباط فكًّا، وتحت هذه الصورة مكتوب: «الوطن محجوب مَدَى المستقبل بالكهنة.» والثانية: صورة ذلك الأسد وقد دَنَا منه طفل صغير، فنزع الرِّباط عن عينيه، فأَبْصَر فرَبَض عند قَدَمَيِ الطفل رافعًا رأسه يتأملُه بهيئة الشاكر المُمْتَنِّ، وتحت هذه الصورة مكتوب: «شُكْر الوَطَن لحِزْب الأحرار.» وكانت على الجدار الأيمن أيضًا صورتان؛ إحداهما: فرعون وقد جَثَا — على فَخَامة جاهِهِ — أمام كاهن، وخَلْف فرعون فتاة وهو يَنزِع عنها بيَدِه ما عليها من الحُلِيِّ، والحُلَل، ثم يجعله على الكاهن الذي قد ناء بما حمل، وتحتَ هذه الصورة مكتوب: «فرعون يَبذُل أشياء الأمة للكهنة.» والثانية: صورة تلك الفتاة وقد وَقَفَ أمامَها طفل صغير وهو يَسمُو إليها بيدَيْه الناعمتين مملوءتين من أنواع الحلي، وصنوف الجواهر، وتحت هذه الصورة مكتوب: «حزب الأحرار يَرُدُّ إلى الأمة أشياءها.»
أما الجدار الأيسر فكانت عليه صورة فتاة تحمل على رأسها تاجًا، وقد جعلتْ في يَدِها اليسرى بضعة تيجان، وأمامها فتاة أيضًا وهي تتوِّجها بيدِها اليمنى، ووراء هذه الفتاة الثانية مَلَأٌ مِن الفتيات مزدحمات يَنتَظِرْنَ، وتحتَ هذه الصورة مكتوب: «منفيس تتوِّج مدائن النيل بتاج الحرية مبتدئة بطيبة.» وكان في صَدْر القاعة عرش، وكان الرئيس يستوي عليه فيَملِك بإشارته وأقواله إصغاء الحاضرين، أما سائر القوم فكانت لهم أرائك بعضها عند بعض، وكانت درجات للجالسين، فلما اطمأنَّ بالأحرار المجلس قام الرئيس — صاحب الخان — وفي يَدِه ورقة فقال: هذه أيها الإخوان رسالة وردتْ على كاتم الأسرار، من الكاهن «شاين» أحد أبناء الجمعيَّة وجاسوسها ومراسلها في المعبد يقول فيها، ثم قرأَ: وَقَفَ الكهنةُ على أمري معهم، فألقَوْني في سجن الخائنين، المارِقين من الدِّين إلى أن يُصدِر مجلسُهم الأعلى بطيبة حكمَه، الذي لا يكون إلا الإعدام على أفظع وجوهه، وإني مستعدٌّ للقاءِ الموت، مُدَّخِر آخِرَ أنفاسي في جوِّ هذه الدنيا لأجُودَ به قائلًا: لتَحْيَ جمعية الأحرار.
فلما اطَّلعتِ الجمعيَّة على هذه الرسالة الوداعية قامت لها وقعدت، وأبرقت وأرعدت، ولم تمكث أن اقترعت، فأصابتِ القرعة الأميرَ وحُرَّيْن آخرَيْن من كبار الضباط في منفيس، فنهض المندوبون الثلاثة على الفَوْر يَصِيحون: نحن لها، ولنأْتيكم ﺑ «شاين» قبل أنْ يَنْفَضَّ مجلسُكم هذا، وللحِين لَوَوْا على خزانة السلاح فتسلَّحوا ثم خرجوا وهم لا يَدرُون أين يتوجهون، ولا كيف يَصِلون إلى صاحبهم المسجون؟
ومما زَادَهم حَيْرة، وأضعف أمَلَهَم بالنجاح أن الليل كان مُقْمِرًا مكشوف السماء يتهدَّد بالفَضِيحة كل دَبَّاب مُرِيب. هذا فضلًا عن منعة المعبد، واستحالة الوصول إليه، وزَحْمة الحُرَّاس والخُفَراءِ عليه؛ فكانت هذه الفكرة تتملَّك كلًّا من الرجال الثلاثة، وتسعى بقدمه فيُوغِل في السير إلى أن بلغوا باب طيبة، وهنالك وقفوا برهة يستريحون ويُدبِّرون لهم أمرًا. فقال أحد الضابطين: الآن أدركتُ خطارة المأْمورية، وخطر المَسعَى. فقال الآخر: بل هي الخطوة المُوبِقة والمنيَّة المُحدِقة. فقال الأمير: ولكنَّا حُمِّلْنا هذا الأمرَ العظيم فلنصطبر له ولنَقُمْ فيه بما يُوجب الشرف، وتَقتَضِي الشهامة، غير نَاسِين أن بين ظلمات المعبد في هذه الساعة صاحبًا لنا من أعز الأصحاب، يُعانِي عظيمَ الأسْر ويُسام ألِيمَ العذاب، مُهدَّدًا بين لحظة وأخرى بأقصى العقاب. فعند سماع هذه العبارة امتلأ الضابطان حماسة من الرأس إلى القَدَم، وتنصَّلا مما كانا أَبْدَيَا. فقالا: إنما قلنا ما قلنا من أجلك يا مولاي، وخوفًا عليك، فأما وقد صمَّمتَ على المخاطرة فيها، فنحن ساعداك، بل نحن وذوونا والعالَمون بأسْرهم فِدَاك.
كانت اللصوصيَّة عند المصريين الأقدمين حِرْفة من حِرَف الشعب، وكان اللصوص طائفة ولها رئيس، وكان كل مَن سَرق شيئًا يحمِله إلى هذا الرئيس فيأتيه صاحب الشيء فيَطلُبه منه فيَرُده إليه بعد أن يحجز الربع، ولعل القوم كانوا يذهبون في تحليل هذا السلوك الغريب مع السُّرَّاق؛ أولًا: إلى أن اللصوصيَّة مستحيل إفراغُها من الدنيا، مهما كان من شدة المراقبة وصرامة القوانين. ثانيًا: أن المسروق منه لا تنفعه معاقبة السارق إذا هو لم يَستَرِدَّ أشياءه؛ بل الذي ينفعه ويُهمُّه ردُّ الشيءِ المسروق على إهماله وعدم السهر على مالِه.
وكان للُّصوص زيٌّ خاص بهم، ولكنْ لا يَعرِفه إلا الخبيرون بأحوالهم والأكثرون رؤية لهم واعتيادًا للقائهم، وهم الحُكَّام.
فبينما الأمير وصاحباه كما تركناهم يتفاوضون في ذلك الشأن كان بالقرب منهم على المكان، رجل مُلتفٌّ بإزار من الكَتَّان الأبيض، وعلى رأْسه قَلَنْسُوة بيضاء كذلك، وهو مُنكَمِش في وَضْعه، ولكن قريب، بحيث يَرَى ويسمع. فاتَّفق أن الأمير التَفَتَ فوقَعَتْ عينُه عليه، فطَرَدَه فانسلَّ من المكان كما ينسلُّ الثعبان مِن حضرة الإنسان، وعاد الأمير فقال لصاحبَيْه لا تُلْقِيا له بالًا؛ فإنه لِصٌّ، وقد عرفتُه بثيابه البِيض التي يلبسها مَهَرَة اللصوص في ليالي القمر تخلُّصًا من الظل النمَّام، ولَيْتَنا نقتدِي بالقَوْم في ليلتنا هذه فنخفِّف من ثيابنا بحيث لا يبقى علينا منها إلا الأبيض، فاستحسن الضابطان هذا الاقتراح، وتجرَّد الرجال الثلاثة إلا عن أَبيض اللباس، ثم استأنفوا السير آخذين جانب السور الغربي، وقد عقدوا العزم على أن يأتوا المعبد من باب الظلام، تسلُّقًا كأن هذا الباب متروك بلا حراس، مُبَاح لكل مَن شاء أن يتسلَّق من الناس، إلا أنهم ما نصفوا الطريق الطويل الذي بين البابين طيبة والظلام، حتى لمَحوا لصًّا يتسنَّم السور من نقطة سهلة المصعد، وهو يَرَاهم ولا يُواري عنهم عيانه، كأنما لا يعنيه أن يعلموا شأنه فحدثتْهم أنفسُهم بالصعود على آثاره واقتفاء خطاه لعله من معتادي هذا المعبد، وقد اتخذ السور مسلكًا إليه، فابتدروا الصعود من حيث رأَوا اللص يصعد.
وكانت نقطة سهلة المرقى في الحقيقة، ولكن ليس في ظاهرها شيءٌ يدل على أنها مصعد معتاد أو سُلَّم عامة للأفراد، وما هو إلا يسير زمان حتى بلغوا أعلى السور، وهناك رأَوا اللص وقد اندفع ينساب زحفًا على الأربع في مستوً من سطح السور ففعلوا مثله، ومثَّلوا من فورهم فعله، واستمروا كذلك سائرين حتى لاح لهم باب الظلام، باذخ الذرى بين العماد والدعام، فتذكروا أنه محفوظ الذروة بالأقوام، محفوف من كل مكان بحُرَّاس لا تنام؛ فأجفلوا وكادت تخونهم الأقدام، لولا أنهم رأَوا اللص، وقد عمد في طريقه لحجر كبير، فأزاله عن موضعه، ثم نزل من ذلك الموضع مختفيًا، فأسرعوا نازلين على آثاره، وإذا هم بسرداب ضيق أسود حالِك، تُشفِق الحشرات منه أن تتخذه مسالك، فما زالوا يزحفون حتى عبروه، وكانت في آخره نافذة ضيقة فوثب اللص منها ووثب الأمير وصاحباه على أثره، فإذا هم على قمة عمود ضخم عظيم الارتفاع.
فأشرف الأمير من ذروته ينظر، فرأَى اللص وقد بلغ أسفل العمود، مستعينًا في النزول بحُفَر كانت في الحجر، فأرشد صاحبيه إلى ذلك ثم نزل، وهما يتبعانه حتى إذا استقرت الأرض بأقدامهم وقفوا ينظرون، وإذا إلى اليمين باب هائل من حديد، وقد عمد اللص لعتَبَتِه فقَلَعَها، ثم وَلَج فتبعوه وَالِجِين فحازَهم دهليز شديد الضيق، يكاد أن لا يُجاز، وكانت أرضه من نحاس رقيق مائج، مهزوز فاجتازوه ثابتي الأقدام، متشجِّعين بذلك اللص المقدام، وهنالك اعترضهم باب آخر عالٍ، من سلاسل الحديد العِراض الطِّوال، وعليه حارسان بطلان، ضخمان قويان متسلِّحان، وخلف هذا الباب صوت أنين ينبعث من كل مكان. فاستأخر الأمير عندئذٍ ينظر ماذا يأتي اللص مع الحارسَيْن، وكيف يَمرُق من أيديهما.
أما اللص فلم يَزِدْ على أنْ نَظَرَ إلى الرجلين نظرة واحدة، متوزعة تأثَّر كلٌّ منهما بقوة سحرها، فانقلب مدار الوجه نحو الحائط وظهره إلى ظهر أخيه، وعالج اللص بعد ذلك عتبة الباب حتى قلعها، ثم دخل فتبعه الأحرار الثلاثة، وإذا هم بقاعة عظيمة تدور بها حجر كثيرة على كل واحدة منها باب صغير من حديد.
وهنالك انكمش الأمير وصاحباه بانتظار ما يأتي اللص، ولكنه كان قد توارى واستتر، ففتَّشوا عن مكانه فلم يَظهَروا له على عيان ولم يَقِفوا على أثر، فتقدَّموا حينئذٍ يطوفون بالحُجَر ويجعلون آذانَهم على كل بابٍ، لعلهم يعرفون صاحبهم بأنينه، وقد كان، واهتدَوْا للحجرة التي هو فيها، فناداه الأمير: «شاين» «شاين»، اجمَعْ إليك قواك وساعِدْنا على كَسْر هذا الباب، فإننا نحن الأحرار، قد جئنا ننقذك، إلا أن الكاهن لم يستطِعِ الإجابة مِن ألَمِ العذاب وفقدان القوى، وأدرك أصحابُه ذلك فعالَجوا الباب فاستعصَى عليهم، فوقفوا حائرين لا يستطيعون عملًا، وقد أخذ منهم اليأْس وتمثَّلتْ لهم الخيبة شائهة الوجوه، وعندئذٍ شعر الأمير كأن جِسْمًا صلبًا سقط بالقرب منهُ فتناوله، فإذا هو مِبْرَد كبير حديد الأسنان ففرح بذلك وبَشَّر صاحبيه ثم تواكل الثلاثة بالباب، فلم يزالوا به حتى كسروه فدخلوا فوجدوا صاحبهم «شاين» مُلقًى على بَطْنِه مشدود اليدين والرجلين على هيئة صليب إلى الأرض بأوتاد من حديد مسمرة فيها، وعليه من السلاسل ما يُثقِل الجبال حمله، فكيف بالإنسان الضعيف؟ فحملوا بالمبرد على كل تلك الحدائد حتى كسروها وأنهضوا صاحبهم، فنهض واهن الجسم واهي القوى.
وكان في زاوية من الحجرة عقاب كاسر في سلسة وبين يديه لحم مشوي وماء، فأخذ الأمير ذلك كله وقدَّمه لصاحبه «شاين» قائلًا: أنت يا عزيزي أوْلَى به من هذا المؤذِي الضَّارِّ. فلما طَعِمَ «شاين» وشرب بدأ يستردُّ قواه قليلًا حتى ملك الكلام، فقال: هذا يا مولاي، وأشار للعُقاب هو قاتلي المنتظر، يدَّخِره القوم ليوم يَصدُر الحُكْم، فيشقُّ يومئذٍ بطني فيأكل هذا الكاسر من أحشائي، فأجابه الأمير مُلاطِفًا، ولكنْ ها أنت ماضٍ وتاركُه، بلا غِذاء ولا مَاء، وربما نُسِي فهَلَك ظمأً وجوعًا، فينقلب الأمر؛ إذ تَصِير أنت القاتلَ له، قال: «شاين»، ولكن إننا لا ندري كيف دخلنا باطن المعبد، ولكنَّ لهذا حديثًا عجيبًا يضيق الوقت عن إيراده، فالآن دبِّر لنا أمرَ الخروج فذلك شأنك. قال: أمْرٌ ممكن فاتَّبِعوني وحاذِروا أن تَصدُر من أحدكم حركة تنبِّه الشياطين النائمة، ثم مشى أمامهم فاتَّبعوه، حتى جاء بهم إحدى الحُجَر التي في القاعة، وكان بابُها من خَشَب، وكان مفتوحًا. فقال لأصحابه همسًا: داخل هذه الحجرة ثلاثٌ أُخَر، في الثالثة منها الكاهن الموكَّل بتعذيب المسجونين، وهو لا شك نائم الساعة، فليدخل أحدكم فيقتله، ثم يأتي بأربعة أطقم كاملة مما يَجِده في صندوقه.
وكان للأمير عبد أسود يُدعَى «شقشاق» وكان عزيزًا عليه فقَتَلَه الكَهَنة يومًا وهو سائر بالبريد إلى بعض الجهات، ثم تركوا جثته بعدما أخَذوا ما كان عليه من الأوراق، فحلف الأمير يومئذٍ لا أقتل به أقلَّ من عشرة من القوم، وإذ تذكَّره في تلك اللحظة قال في نفسه: هذا أول العشرة يا «شقشاق»، ثم استلَّ خنجرًا ودخل، وما هي إلا هنيهة حتى عاد والأطقم الأربعة على كتفَيْه والخنجر في يده يقطر من دم الكاهن، فأخذ «شاين» أحدَهما فلبِسَه، وأشار إلى أصحابه أن يَتَرَدَّوا الثلاثة الباقية، ففعلوا ثم مشى بهم حتى جاءَ باب السلاسل الذي كان اللص قلع عتبته، فلما وجدها بهاته الحال، دنا من الحارسين كأنه يريد أن يسألهما عن السبب، فإذا هما مسحوران لا يريان ولا يسمعان، فالتفت إلى أصحابه مندهشًا فابتدره الأمير قائلًا: هذا شيءٌ حصل من أجلنا ولنصل إليك. قال: الآن اطمأن قلبي فانزلوا ورائي. ثم اندفع في بئر كانت هنالك عن يمين العتبة وأصحابه خلفه، يزحفون زحفه، حتى انتهوا إلى سرداب مستوٍ طويل معلَّق في سقفه بين مسافة وأخرى قنديل.
فهنالك قال «شاين» لأصحابه: عند القنديل الثالث وإلى اليمين، حجرة خاصة لثلاثة من الكهنة، عليهم ملاحظة الحُرَّاس بالليل، ولكنهم من السِّكِّيرين فلا يُؤَدُّون وظيفتَهم إلا نادرًا وسنَجِدهم إما في السُّكْر وإما نائمين من السُّكْر، ولكنَّ الحَزْم يقضي بقَتْلهم على كل حال. فوافقه الأمير على ذلك، وهو يقول في نفسه: صاروا أربعة يا «شقشاق»، وبخنجر واحد في ليلة واحدة، ثم أسرع فدخل على الكهنة الحجرة فوجدهم كوصف «شاين» لهم هالكين من السُّكْر أو كهالكين، وقد أخذ اثنين منهما والثالث مستمر، ما ينتهي فرغت الزجاجات ولم يفرغ من الشرب، فبدأ الأمير به فقَتَلَه، ولوى بعد ذلك على صاحبَيْه فألحقَهما به، ثم خرج والخنجر في يده حديدة حمراء من كثرة الدماء، فلَقِيَه «شاين» فسأله: هل قُضِي الأمر؟ قال: لا تسألني وسَلْ هذا الخنجر، قال الآن: فانتظروني لحظة فإنَّ لي عملًا في الحجرة آتيه، ودخل مسرعًا، وفي الحقيقة ما هي إلا لحظة حتى عاد وفي يده مخلاة صغيرة، فناولها أحد الضابطين قائلًا: خذ هذه فأخْفِها في ثيابك، وليستحضِرْ كلٌّ منَّا حرْفَ الرَّاء على لسانه؛ إذ هو إشارة الليلة نُلْقِيها على الحُرَّاس إذا جئنا الأبواب فنجتازها بسلام آمنين.
واستمر الأربعة يمشون و«شاين» يُحصِي القناديل حتى إذا عدَّ السابع منها وكان الأخير، نبَّه أصحابَه فاستعدُّوا فدقَّ بابًا صغيرًا كان خاتمةَ ذلك السرداب مردِّدًا إشارة الليلة فانفتح لهم الباب فاجتازوه فحَازَهم الفِنَاء الثاني، وهكذا حتى جاءوا الباب الأخير للمعبد أو المدخل، وكان لا يُفتح ولا يُقفل، ولكنْ كان يقوم بحراسته ليلًا، مائة رجل من جنود الديانة.
وهنالك لم يَشعُر الأحرار الأربعة إلا هؤلاء الحراس يموج بعضهم في بعض، متهافتين على السلاح يأخذونه وهم يصيحون: الفارِّين الفارِّين … اقبضوا عليهم … اقتلوهم … فتفزَّع الأحرار لأول وهلة، ثم استحضروا ثيابهم واستجمعوا للمقاومة فكانوا كلما حملت هاتيك الجنود دفعوها بمثل ثبات الأسود، حتى إذا ضاق الشَّرَك واستحكم المعترك، وتناهَى الموقف ودَنَتِ الساعة، وآن للكثرة أن تَظهَر على الشجاعة، وقع الفشل على بغتة في صفوف العدو، وتلاه سيف خفي يخطف الهام ويطير الأعناق، فما هي إلا هُنَيْهة حتى هَلَك فريق، وهرب فريق، ولم يبقَ على أبواب المعبد إلا الأمير وأصحابه، فالتفتَ «شاين» حينئذٍ إلى الأمير، قائلًا: أتدري يا مولاي مِن أين جاءنا البلاء؟ قال: لا. قال: مِن هذه الغرفة، وأشار لها، وكانتْ على الباب؛ فإن فيها كاهنًا ساحرًا، وهو الذي نبَّه القومَ لخروجنا. قال: وهل يكره أن يلحق بأصحابه؟ ثم ابتدرَ بابَ الغرفة فكسره ودخل، فقَتَلَ الكاهن وخرج بعد ذلك، فمشي في رفقائه، حتى إذا صاروا بعيدًا عن المعبد وبمأمن من غوائل جواره، رَأَوْا ذلك اللص بعَيْنه، وقد انتصب أمامهم كأنما يُعرِّفهم مَن هو، ثم اختَفَى من حيث ظهر، وتركهم مبهوتين مبغوتين يتساءلون: هل انشقَّتِ له الأرض فنزل؟ أم مَلَك جناحًا فطار للسماء؟
ثم إنهم استمروا سائرين إلى أن وصلوا الخمارة ففُتِح لهم فدخلوا وكان المجلس منعقدًا لا يزال، فلما رآهم الأحرار، وقد آبُوا ﺑ «شاين» حيًّا سالمًا قابلوهم بضجَّة تعجُّب واستحسان، ثم لاقوهم بصيحة وامتنان، ونظرتِ الجمعيَّة بعد ذلك في أمر من الخطارة بمكان، وهو السعي في إبعاد قائد الفرق الاستعماريَّة عن منفيس واستبداله بغيره من القُوَّاد المُحالِفين، فأخذ الأمير نجاز ذلك على هِمَّته وتدبيره، وخُتمت الجلسة بتسجيل هذا الوعد، ثم تفرَّق الأحرار، وليس بما دار في تلك الدار قط دارٍ.