الوفد الهندي في قصر الملك
برح الوفد الهندي دار الضيافة الرمسيسية، قاصدًا قصر الملك يسعى على الأقدام، وكان مؤَلَّفًا من نحو عشرين مندوبًا، ليس منهم إلا أمير أو وزير، وهم يَسُوقون بين أيديهم هدايا الملك «دهنش» إلى «رمسيس»، من نُمُورة وجلود وطيور نادرة الوجود، وذَهَبٌ كثير بين سبائك ونقود، وأحجار كريمة، فوق كل قيمة، وغير ذلك من ثمين أشياء الهند القديمة.
من «دهنش» ملك ملوك الهندين، إلى ملك ملوك القارتين، ورب العرش والتاجَيْن، المهيب الجيوش والأساطيل، مولانا «رمسيس الثاني سيزوستريس» صاحب النيل: أما بعد؛ فقد سلف من جليل إحسان الملك إلينا، وسبق من جزيل مِنَّته علينا، ما يُجَرِّئُنا على الالتجاء في حِمَى قوائم عرش عظمته وشوكته، مستجيرين به من الدهر الغادر؛ حيث فجعنا في جارية الملك كريمتنا عذراء الهند، فَسَاق لها يدًا عادية اختطفتْها من خِدْر عزِّها وصيانها، فإن تفضَّل جلالة الملك ومدَّ لنا يد المساعدة العليَّة في سبيل إيجادِها، كانت جاريةً مملوكةً يَهَبُها لجلالته والدُها المخلص الداعي.
فلما فرغ الترجمان من التلاوة كانت من الملك ابتسامة، ثم أومأ إلى الوفد أن يبرحوا الحضرة، فرجع بهم الحُجَّاب من حيث جاءوا، والتفت «رمسيس» عندئذٍ إلى أصحابه. فقال: أتدرون ما يُريد الخبيث «دهنش» بتمليكي عذراء الهند؟ قالوا: العلم لمولانا الملك. قال: يُريد أن يُفرِّق بيني وبين ابني بهذه الدسيسة التي كم لهُ قبلها دسائس في علائقه معنا، وإنها لَمِن أعجب ما خلق دهاء الهنود للآن، ولكن دسائسهم قد كُشفتْ من طول ما أُلِفَتْ، وعُرفتْ من كثرة ما وصفت حتى أمسى دهاؤهم المشهور، ولا انتفاع بسيفه المشهور. وهكذا الأمم إذا صغُرتْ عندها الأخلاق، صغُرتِ العقول، وصغُر ما تفعل وما تقول.
والآن فليذهب واحد من هؤلاء الحُجَّاب فيدعو الهنود إلى حضور ليلة قِران «آشيم». قال الملأ بدهشة: وهل تعيَّنتِ الليلة بعدُ يا مولاي؟ قال: نعم، وهي الليلة التالية ليوم فصْل المجلس الأعلى في مشكل جواز الخطبة أو عدمه، وأنت يا كاتم الأسرار اذهب فاكتب إلى ناس هذا المجلس، بالاجتماع يوم الخميس المقبل؛ أي بعدَ ثلاثة أيام للنظر في مسألة الخطبة وإنهائها في ذلك اليوم نفسه. قال: سمعًا وطاعة يا مولاي، ولكن ما أوامر جلالتكم بشأن استعفاء العضو الموقَّر «رمايس»؟ قال: ليُقبَل وليُعيَّن مكانَه صاحبُنا «بنتؤر»؛ فقام عندئذٍ كبير الحرس فقال: ولكن جلالتكم عقدتُم العَزْمَ على إرسال الأستاذ «بنتؤُر» إلى بلاد اليونان مندوبًا ساميًا من قِبَل المملكة المحروسة في مؤتمر الفلسفة والآداب. قال: قد أُنسِيتُ ذكر هذه النِّيَّة يا «ندور»، ولكني أمرتُ فليَمْضِ الآن أمري، ومتى قَدِم «بنتؤُر» في ركاب الأمير، عهدنا إليه باختيار مَن يَعهَد به الكفاءة لهذه المَهَمَّة الجليلة، من بين تلامذته الكثيرين. فأخْرَسَ هذا الجوابُ كبيرَ الحرس، وكان «هوتر» حاضرًا فوصل حبل الحديث قائلًا: بَقِيَ الآن كرسيٌّ خالٍ في مجلس الحكومة الأعلى يا مولاي. قال: وأيُّ كرسيٍّ؟ قال: كرسيُّ القائد «رادريس». قال: وهل صدر الحكم في قضيته بعدُ؟ قال: لا، بل يصدر غدًا يا مولاي. قال: وإنَّ غدًا لنَاظِرِه قريبٌ، فما علينا إذا أرجأْنا النُّطْقَ بهذا العزْل المُهِين، حتى تَنطِق به القوانين؟ فخرس «هوتر» لهذا الجواب كما خرس صاحبه كبير الحرس من قبل.
ثم إن الملك أشارَ للملأ أنْ ينفضُّوا من حوله فتفرَّقوا وهم قسمان قسم نَكِدٌ ذليل، تتمثل له الخيبة بكل سبيل، وهم أعوان الكهنة، وآخَر فَرِحٌ بما لدَيْه فخور، يستقبل الآمال ويستبشر لمساعفة الأمور، وهؤلاء هم الأحرار الذين لم يَعُدْ ينقصهم إلا كرسيان لتكون الأغلبية في مجلس الحكومة لحزبهم الظافر المنصور؛ بل هم قد رَأَوْا وسمعوا في ذلك اليوم المشهور ما صيَّر هناءَهم عند غاياته، وجعل سرورَهم فوق كل سرور، رأوا مَلِكًا لا يستصعب الصعب، ولا يَحذَر المحذور، وكان بالأمس قُطْبًا لرَحَى أغراض الكهنة عليه تدور، وسمعوا ولكنْ وَحْيًا، ومِن وراء ألْف حِجَاب أن هذا الملك الشيخ الجسور، ما أتى الذي أتاه إلا وهو قد صمَّم على النزول عن عرش النيل واعتزال الأمور، فكان حساب الأحرار بل يَقِينهم، أن «رمسيس» سيغتنم فرصة قِرَان ولي العهد، ليتنازل له عن المُلْك فيُصبِحون والأمر أمرهم ولهم وحدهم سياسة الجمهور.