الفصل الثاني

المأدبة

ولما تم طبع رقاع الدعوة وزعها الجحش على أصحابها الأفاضل، وفي مساء اليوم الثاني قبل أن جاءت الساعة الثامنة، غص الإسطبل بأفاضل البغال والحمير والجياد وهم لابسون أفخر العدد، وأثمن البردعات، من أقمشة سوداء وأرجوانية، وفي أعناقهم رشمات يتلألأ فيها عدد من الذخائر والتعاويذ، فتطقطق عند الحركة، ومنهم من جاء يعكز على عصا مذهبة، حاملًا في خرجه لوح شريعته المقدسة، ثم جلسوا جميعهم حول مائدة جميلة مزينة على طرز بشري فيه كل أنواع الفخفخة، ويزيد رونقها أنواع الزهور المنثورة حولها، وحول الصحون المملوءة من الطعام على اختلاف ألوانه، واللحوم والأسماك على تعدد أجناسها، والخضر على تنوع أصنافها، وكلها مخلوطة ببعضها خلطًا حماريًّا، وعلى وجهها غطاء أبيض مصنوع من البرشان. أما أصناف الخمر والمشروبات فحدث عنها ولا حرج، فبراميل الجعة كانت في ذلك المساء بعدد الضيوف، وكل واحد جلس وبرميله إلى جانبه، وأمامه إناء كبير من الفخار.

– كلوا واشربوا وتهللوا فغدًا تموتون.

وبعد أن جلس الكل حول معالفهم، وزالت الضوضاء، وساد النظام نهض صاحب الدعوة ورفع رأسه ويديه نحو السماء، وخاطب الأسد القدير خاشعًا متوسلًا فقال: نشكرك يا رب على غزير نعمك وآلائك، ونتضرع إليك بصوت خاشع كي تشمل بنظرك الإلهي جميع المؤمنين من أبنائك لا تحول عنا إلهامك الهادي إلى الرشاد، ولا تتخل عن المطيعين لنا ولك من العباد، انصرنا يا رب على القوات الشيطانية التي ظهرت في هذه الأيام الأخيرة، واسحق أعداءنا وأعداءك أهل التمدن الحديث، وذوي النفوس الحقيرة، كن لنا يا رب معينا، واصرف عنا غضبك، وارمقنا بحلمك، وشدد عزمنا، وثبتنا في مسالك الصلاح وطرق الهداية، آمين.

وبعد أن فرغ الحصان من صلواته هذه رفع حافره الأيمن، وقسم به الهواء إلى أربعة أقسام راسمًا بذلك رسم صليب كبير، ثم جلس على برميله بإزاء المعلف، ودعا ضيوفه إلى الأكل والشرب والانشراح.

– كلوا واشربوا وتهللوا فغدًا تموتون.

أحد البغال : فلتحيا الفلسفة الأبكورية! صلى الأسد على أبيكاريوس وسلم!
الحصان : لا تستحوا أيها الإخوة المحترمون، الإسطبل إسطبلكم، ولا تظنوا أنكم في بيت عدوكم، فكلنا نذكر أن الأسد له المجد دخل ما بين أعدائه، أما الفرق بينه وبينكم هو أن الأسد صلب وأنتم ستحيون حياة جديدة، أما الآن فلنأكل ولنشرب، فلنشرب على ذكر الحبيب، ولكن إياكم أن تسكروا. أهلًا وسهلًا بكم إن حاسياتي العميقة لا يعبر عنها بلغتنا الحيوانية، شرفتم أيها الحمير الكرام، آنستم أيها البغال الورعون العظام، لو كان لي صوت لطيف لكنت أنشدكم فأطربكم، أها. نعم، نعم، إن لكاتبي الجحش صوتًا رخيمًا: يا جحش يا جحش، آتنا بعودك، وأطربنا بنشيدك.

فجاء الجحش مطيعًا، وبيده عود مصنوع من الجلد، وأوتاره من الشعر، فجلس على سدة بالقرب من المائدة، وأخذ يلعب بالأوتار إلى أن عدل عوده، وصرخ منشدًا: شرف القوم الكرام … إلخ.

فطرب الحاضرون، وهاجت عواطفهم، فصرخوا جميعهم متهللين: كمان يا جحشنا كمان، بالله عليك منعاد، يا سلام ما حد سمع بعد. بعد. وغيره من عبارات الاستحسان، وصرخات السكران الولهان.

ولما سمع المغني هذه التصدية الجميلة لصوته الأجمل أخذ ثانية عوده الهندي، وطفق ينقل على أوتاره اللطيفة ريشته الرشيقة الخفيفة، وغنى على لحن وضعه أحد الغزلان في أبيات لجمال عربي:

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة
ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
وإني لتعروني لذكراك هزة
كما انتفض العصفور بلله القطر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى
وزرتك حتى قيل ليس له صبر
البغال (بصوت واحد) : أما والأسد فهذا من أبدع ما غُني وأُنشد.
صاحب الدعوة : زدنا بالله عليك يا جحشنا العزيز من غنائك المطرب المهيج، فعدل الجحش عوده ثالثة وتمتم بعض الأشعار، ثم غنى أبيات جمال آخر في بعض جواري الملوك المناذرة:
ولقد دخلت على فتاة
الخدر في اليوم المطير
فدفعتها فتدافعت
مشي القطاة إلى الغدير
فلثمتها فتنفست
كتنفس الظبي البهير
أحد الحمير : أما والأسد العظيم فهذا لا يحتمل. تريد منا آه يا جحش كمان من دفعتها فتدافعت ولثمتها فتنفست، كمان كمان وأنت الآمر المطاع، أما الجحش فلم يسمع تضرعات الحمار، بل أتبع الأبيات لحنًا من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وغنى بيتين رقيقين لأحد جمالي الدولة الأموية:
ألا يا ظبية البلد
براني طول ذا الكمد
فردي يا معذبتي
فؤادي أو خذي جسدي
أحد البغال : هذا يا جحشنا المطرب لمن أبدع الألحان وأعذبها، فقد أجدت في غنائك، وأحدثت طربًا عظيمًا في نفوس أنسبائك، فاسمحوا لي يا أسيادي إذن أن أشرب نخب من إذا هز حلقه هز القلوب، أو حرك عنقه أزال الكروب، وأطلب إليكم أن تشاركوني بهذا النخب الواجب علينا شربه بعد طلب الإذن من صاحب الدعوة. إني أشرب وإياكم سر جحشنا المغني المطرب الذي لو وجد في دار ذاك الآدمي الذي يدعى الرشيد لما سمعنا بإبراهيم العظيم وإسحاق الفريد.
figure
فلثمتها فتنفست
كتنفس الظبي البهير.

فوقف جميع الحاضرين ورفعوا كئوسهم إلى فوق رءوسهم، وشربوا نخب من أطربهم بألحانه العذبة الرقيقة، ولكن بين كل هؤلاء الحمير والبغال والجياد الواقفة كان يرى الناظر حيوانًا صغيرًا جالسًا على برميله يتبسم ابتسامة الاستخفاف والتهكم، وهو الثعلب الذي دعي إلى الجلسة؛ لأنه صحافي ليذيع أعمال المجمع العظيم، ولكنه كبقية الثعالب المتفكرة أبى أن يشارك الجمع بنخب من إذا هز حلقه اهتزت له القلوب. وعمله هذا الشاذ أوقع الاستغراب والدهشة، لا بل الغيظ في قلوب بقية الحيوانات الذين أخذوا يتساءلون عن هذا العاصي، وعن سبب تصرفه السيئ، الخارج عن دائرة الأدب والاعتدال، والبعض من المتحمسين الحادي الطبع من الحمير لم يستطيعوا إخفاء ما داخلهم من الحنق والغضب، فأخذوا يتساءلون بصوت مرتفع: «من هو هذا الصعلوك؟» «من أين أتى؟» «ماذا يقصد هذا الثعلب الحقير بتصرفه المعوج؟» «أما والأسد فقد شتمنا، وشتم المغني أيضًا»، «هل هو جلمود؟» «ألا يشعر بقوة الجمال؟» «ألا يعرف قيمة الصوت الرخيم؟» … إلخ.

أحد البغال : اطردوه من الإسطبل.
أحد الجياد : نعم اطردوه.

(فوقف إذ ذاك الثعلب على برميله، ونظر إلى الجمع نظرة المستعطف، وأنشدهم قول ذلك الشاعر العظيم الذي أراد من الزمن أن يبلغه ما ليس يبلغه في نفسه الزمن، قال):

يا ساقيي أخمر في كئوسكما
أم في كئوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا ما لي لا يحركني
هذا المدام ولا هذي الأغاريد
أحد البغال : أنت بالحق صخرة، اصمت، اصمت إذن.
أحد الحمير : اطردوه اطردوه لا تدعوه يتكلم.
الثعلب : يا أسيادي الأفاضل، لو أذنتم لي بكلمتين لجاوبتكم على سؤالاتكم، وبينت لكم أسباب تصرفي الذي لم يصادف استحسانكم.
الجميع : اصمت، اسكت، انزل عن برميلك.
الثعلب : ألا يحق لي أن أتكلم كبقية الحاضرين وأنا مدعو لهذه الجلسة، هل يرضى صاحب الدعوة الفاضل عن إسكاتي وطردي؟ هل يرضى عن إهانة ضيوفه في إسطبله؟ هل من قوانين الاجتماعات وقواعد الأدب أن تقذفوا نحوي كل كلمة باطلة قبل أن تعرفوا غايتي وقصدي (هس هس هس اصمت فليسقط الثعلب اللعين) أعيروني أذنًا مصغية، ولا تقلدوا الحيات بأصواتكم رشقتموني بسؤالات مهينة وقبلتها بقلب متواضع (هس هس) وأجاوبكم عليها دون أن أمس كرامتكم «من أنا؟» (هس هس)، «من أين أتيت؟» (هس هس)، «ماذا أقصد بتصرفي؟» اسمعوا وبعد ذلك اصفروا وهسهسوا، أنا يا أسيادي صحافي (هس هس بش بش) أجاهد وإياكم في سبيل الحق والحرية، أنا حيوان جئت من بين الحيوانات الضعيفة التي تنظر إليكم شزرًا، وتكتم لكم الشر والعدوان، رسالتي في هذا العالم هي أن أوفق بينهم وبينكم، وغايتي القصوى أن أهذب الجهلاء في مملكتنا كي يقدروا تعاليمكم حق قدرها، وأن أنبهكم إلى هذه القوة العظيمة الكامنة الآن في بطن الجهل، فالاستبداد من جهة والجهل من جهة أخرى يولدان اضطرابًا مستمرًا، وقتالًا متواصلًا، أنا يا أسيادي ممثل التعاسة والاضطهاد، جئت لأشارككم في هذا المؤتمر؛ لعله يكون فيه فائدة لعالمنا، ولعله يرفع عن نفوسنا المضغوطة أثقال الظلم والجهل، ويتم فيه قتل التعصب الذي ينفث بيننا سم الشقاق والخصام، ولتكسر القيود التي تكبلت بها أقلامنا، قد جئت لأشارك في البحث عن أمر جليل، ولم أجئ لأسمع الغناء، وأشرب أسرار المغنين:
غير مجد في مذهبي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وخصوصًا في مثل هذا الوقت، ففي ساعات الفراغ أسر بصوت رخيم وعود جميل، ولست كما تظنون جلمودًا غير أني أعجب كيف أن أمرًا طفيفًا يحولكم عن مقصدكم، ويصير مؤتمركم هذا قهوة مصرية كيف أن صوت جحش ينسيكم نفوسكم، ويسلبكم عقولكم (قف قف هس هس)، لا تظنوا أني أنكر على الجحش فضله، لا والحق فإني أطرب بغنائه في غير هذا المقام، وأشرب نخبه في غير هذا الموقف فضلًا عن أن الأشعار التي أنشدها فيها من التغزل وبذيء الكلام ما لا يليق بحضراتكم استماعه، ماذا يقول عنكم جمهور الحيوانات التي ترشدونها وتنهونها عما أنتم فاعلون الآن؟ ماذا تركتم لأولئك الحيوانات الذين يصلون ليلهم بنهارهم، منغمسين في التهتك، ومسترسلين في اللذات؟ وكيف نوفق بين تقواكم المعهودة، وتقشفكم الغير المحدود، وبين أعمالكم هذه؟ كيف تسرون وتفرحون بغناء فيه هذه العبارات القبيحة، والتلميحات السفيهة: «ولقد دخلت على الفتاة، فدفعتها فتدافعت فلثمتها فتنفست»، يا أسيادي الأفاضل، عودوا إلى حكمتكم التي تركتموها في هذه الدقيقة، تأملوا في ما أنتم فاعلون، اذكروا أننا اجتمعنا لنتخابر بأمور خطيرة، فيها صيانة حياتنا، وحفظ مقامنا كما ذكر في رقعة الدعوة. لا تظنوا أنني أخالف لكي أعرف، كلا أنا أخالف الآن لأني لم أنس الغاية التي من أجلها اجتمعنا، فاعذروني إن كنت شديد اللهجة، إنما ذلك نتيجة غيرتي الحاضرة على أبناء جنسي، ولا أقول ذلك لأتهمكم ضمنًا بالفتور وعدم الاكتراث، ولكن لما رأيتكم غارقين في بحور اللذات، ساهين لاهين خفت على مشروعكم من الانقلاب والفساد، فجئت منبهًا يا أسيادي لا منذرًا ومذكرًا لا متهددًا.

وكان لكلام الثعلب في النهاية وقع حسن في صدور البغال والجياد، فندموا كلهم على ما فعلوا، وانقلبوا ببرهة من أعداء إلى أصدقاء للثعلب الذي كان كلامه قاضيًا على السكر، وهوسة الغناء، فرماهم في لجج الهواجس والتفكر، حتى إن أكثرهم أفاقوا من غفلتهم، وأخذوا يبدون علائم الاستحسان، فالثعلب الذي ابتدأ يتكلم بين هسهسة المستهزئين فاز فوزًا مبينًا، وختم خطابه بين لبيط الاستحسان.

أحد الحمير : أما والحق إن في كلامه زبدة.
أحد البغال : إنه لعين الحق، فقد جئنا لنعقد مجلس إصلاح، وليس مجلس غناء.
أحد الجياد : فليعش الثعلب إنه العاقل الوحيد فينا، يجب أن يترأس الجلسة، واجتمع حوله إذ ذاك عدد غفير من الحاضرين، وأخذوا يهنئونه على جرأته، ويثنون على أدبه، ويستغفرون منه لإهانتهم إياه قبل أن عرفوا عنه شيئًا.

(وبينما هم يهنئون الثعلب وقف أحد الحمير الشقر السكارى فهز أذنيه المنتصبتين، ولبط لبيطًا قويًّا حتى استلفت إليه أنظار الحاضرين، ثم رفع كاس الجعة فوق رأسه، وقال):

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة (هك)
ترى الدهر عبدًا (هك) خاضعًا ولك الحكم
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيًا (هك)
ومن لم يمت سكرًا بها فاته الحزم (هك)
ما بعرف يا إخواني منين جوني هالبيتين (هك)، ولكن منين ما كانوا مليح قد عبروا عن فكري (هك). إيش بيهمني أنا إن صار إصلاح (هك)، وإن ما صار، وإن تم اتحاد، وإن ما تم بدي أسمع غنا الجحش، وأنبسط (هك)، بدي آكل وأشرب وأفرح بركي بكره موت. (هك) فارتفعت عند هذا الكلام الضوضاء والهسهسة، وجاء من أربع زوايا الإسطبل صوت واحد يطلب إسقاط هذا الحمار السكران: اسكت واخرج من الإسطبل.
الحمار : إوعا تصدقوا إني (هك) بسكت إلا ما يفتح تمه الجحش (هك)، وإوعا تصدقوا إني بخرج من الإسطبل إلا أنا وإياه (هك) أنتو كلكم مجانين، والثعلب (هك) اللي حكي بالأخير أكل دجاج كثير (هك)، أنا حيوان كلكم تعرفونني، حيوان عندي هلق، صوت طيب، وعود وكبايه، وما ناقصني غير (هك) … ها ها ها، فلثمتها «فتنفست موش» هيك دخلك.
الجميع (بصوت حي) : أخرجوه من الإسطبل، أخرجوه حالًا، سفيه متهتك سكران أسقطوه عن البرميل! أخرجوه من الإسطبل.

فهجم إذ ذاك عليه أربعة من البغال الكبار، اثنان منهم قبضًا على رجليه وذنبه، واثنان أمسكاه برأسه، وحملوه كلهم إلى باب الإسطبل، وهو يقول: تذكروا أنكم شحطوني (هك) من جمعيتكم، فلا تعتبوا علي إذا صرت جمل، ولفيت لفه خضرا ضراعين (هك)، بطلت كون (هك) حمار خليلكم هالفروه (هك) لا إله إلا الله، وبكره بتسمعوا (هك) عني في جرائد إسطنبول (هك)، هونيك بغني وبرقص، وبنبسط بين الحريم (هك)، وأجري بضهر الفلك (هلك)، أنتو صلحوا العالم، وخلصوا نفوس البشر (هك)، وأنا أجري (هك)، وكان قد وصل إلى الباب فرماه البغال خارجًا، وأغلقوا باب الإسطبل، وأقفلوه كي لا يحاول الدخول ثانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤