الفصل السادس

فلتكمل مشيئة الله

وفي اليوم الثالث اجتمع الحصان والبغل والحمار في ديوان التفتيش، وأمروا بإحضار الثعلب المتهم بالكفر والإلحاد إلى المجلس كي يسمع الحكم الذي أصدره القضاة الثلاثة، وكانت قضيته قد اشتهرت، فسمع بها القاصي والداني من جميع الحيوانات، فحضر منهم عدد غفير إلى المجلس ليروا الثعلب المتهم، ويسمعوا تلاوة الحكم المخيف، ولما دخل الثعلب المجلس مكبلًا بالحديد، ومحاطًا باثنين من الخفر أخذت الحيوانات في اللبيط والصفير والنهيق، ولم يكن المتفرج ليسمع إلا كلمات يفهم منها الصلب والشنق والحريق: فليمت الثعلب! فلتسقط الكهربائية! فليحيا المجلس!

الحصان : يأمركم المجلس بالنظام، وينهاكم عن المظاهرات والصفير والنهيق، اسمعوا قراءة الحكم الذي أبرزه المجلس بصوت حي.
(فاستتب عند ذلك السكوت، وبدأ الكاتب بقراءة ما يلي):

قد ظهر للمجلس وتحقق للمستنطقين: أولًا أن للثعلب اعتقادات خصوصية شريرة تخالف تعاليم جمعيتنا المقدسة، وتناقض شريعة الله التي أقامنا عليها أمناء وأوصانا بها، وهذا ما ندعوه كفرًا وإلحادًا. وقد تبين ثانيًا أن المتهم لم يبرهن عن اعتقاداته الفاسدة إلا بأسلوب التهكم والازدراء والاستخفاف؛ إذ كان يتكلم عن القضايا المقدسة بالهزء والسخرية، وهذا ما نسميه تجديفًا. وثالثًا أنه لم يجاوب على سؤالات القضاة إلا بعد أن سيم العذاب الاعتيادي والغير اعتيادي، وهذا ما نعتبره تمردًا وتكبرًا. ورابعًا أنكر على القضاة السلطة، واحتقرهم وأهانهم بإلقائه عليهم سؤالات ليس من شأنه إلقاؤها، وهذا ما نعده وقاحة وفضولًا، ولذلك قد التأم المجلس في جلسة سرية، وتفاوض الأعضاء في أمر المتهم، وأبرموا الحكم الآتي:

«بقوة السلطة الروحية المعطاة لنا نحن أعضاء مجلس التفتيش نحكم على الثعلب أولًا بالفضول والوقاحة. وثانيًا بالتمرد والعصيان. وثالثًا بالتجديف. ورابعًا بالكفر والهرطقة والإلحاد، وعقابه على كل واحد من هذه الجرائم هو كما يلي: قصاص الذنب الأول هو أن نغصب من الملحد كل أملاكه، وتضاف إلى أملاك الجمعية المقدسة، وعقاب الذنب الثاني أن يبقى تحت الحرم سنة كاملة، والثالث: أن يلقى في السجن خمس سنوات، وأما عقاب الذنب الرابع فهو الإعدام بالنار، وقد حركت أعضاء المجلس عاطفة الشفقة والرحمة، فعزموا على نقض الحكم بالإعدام إذا أنكر المتهم اعتقاداته الخبيثة الشيطانية المضرة، واعترف بشرائعنا، واعتذر أمام المجلس عن كل كلمة وقحة فاه بها أثناء المحاكمة. أما الذنوب الثلاثة الأخرى، فعقاب المتهم عليها ثابت كما ذكرنا تأديبًا للكافرين المارقين، والمتمردين المجدفين، ويسأل المجلس الثعلب أمام الجمع عما إذا كان يريد أن يرجع عن غيه، ويكفر عن ذنوبه بإنكاره كل اعتقاداته الخبيثة، ويعترف بتعاليمنا كي يعفى عنه من الموت»، ولما انتهى الكاتب من قراءة الحكم عاد الحصان إلى السؤال قائلًا: هل تريد أن تفعل ذلك؟ فأجاب الثعلب بدون تردد: هل تريدون أن أشتري حياتي بضميري، إني لا أرى نسبة بين الثمن والمشترى اطلبوا مني غير هذا.

تذكر أنك رب عائلة فلك زوجة وأولاد يشق — لا شك — عليك فراقهم، ألا تعرف بأنك تجلب إلى عائلتك التعاسة والشقاء إذا أنت لم تنكر اعتقاداتك الخبيثة؟ ألا تعرف بأنك مديون لأولئك الصغار أولادك، فلا تكن لهم مثلًا رديئًا، وقدوة قبيحة تأمل قليلًا أعد نظرك على هذه المسائل الخطيرة لا تكن أحمق متمردًا، إذ إن هذه الصفات السافلة لا تكسبك شيئًا، وشكاسة أطباعك تفضي بك إلى النار، فنسألك الآن ثانية، هل تريد أن تنكر اعتقاداتك، وتعتذر عن وقاحتك، وتجديفك، وترتد إلى اعتقادك الأصلي الذي نشأت عليه، وورثته عن أجدادك؟
الثعلب : أنتم أيها القضاة المحترمون الأفاضل أحوج في رأيي إلى الإنكار والاهتداء مني، فأنتم في عيني كما أنا في أعينكم، فإذا طلبتم مني إنكار اعتقادي تجعلون لي حقًّا بأن أطلب منكم إنكار اعتقادكم، وإذا تركتموني وشأني أترككم وشأنكم، فلم تحكمون علي بالإعدام، وأنا لم أرتكب قط ذنبًا، لماذا أعطاني إلهي عقلًا، ووهبني قوتي الحكم والتمييز، ألكي أقتلهما وأعيش من أجل بطني فقط؟ أيعطي الله العصفور جناحين، ثم يهلكه إذا طار بهما؟ أيعطيني عقلًا ثم يهلكني إذا استخدمته للافتكار والتأمل؟ لا شك في أن اعتقادي هو أرسخ في قلبي من اعتقادكم في قلوبكم، ومتى أنكرت وجود الخالق أنكر إذ ذاك اعتقادي، وأقر لكم بتعاليمكم الخرافية، فأنتم أكرهتموني فاعترفت بما لا أعترف به إلا بعد العذاب الأليم اضطررتموني إلى إنكار وجود الله، وأنا لا أنكر إلا إلهكم، أجبرتموني على إنكار الكتاب بكامله، وأنا لا أستهجن إلا ما جاء فيه من الخرافات والخزعبلات، تقولون إني أنكر العجائب، وأنا لم أنكر ولم أثبت، ولكن لكم الأمر وعلي الطاعة، أما ما تطلبونه الآن فهو أكثر مما أطلبه من نفسي، لا يا أسيادي إن الحياة التي تريدون قتلها بخسة جدًّا بالنسبة إلى الضمير الذي يحيا سعيدًا شريفًا طاهرًا، إن هذا الجسد لا يسوى ما تطلبونه مني، أنتم تطلبون قتل ضميري ليبقى جسدي حيًّا، وما نفع الجسد بلا ضمير، فأنا أفضل أن أرى نفسي في النار المستعرة على أن أرى ضميري مكبلًا بسلاسل العبودية، خذوا جسدي، واتركوا لي ضميري.
الحمار : أيها الثعلب المسكين، اسمع صراخ زوجتك، ترأف على أولادك، أشفق على نفسك، إن الحياة عزيزة، والهلاك الأبدي فظيع مرعب، فاحفظ الأولى واتق الثاني، احفظ حياتك بكلمة واحدة، أنكر اعتقاداتك، وعش مع زوجتك وأولادك سعيدًا.
الثعلب : لا تزدني من هذه الإرشادات، فقد عزمت على أن أموت من أجل اعتقادي، كما مات الأسد على الصليب من أجل دعوته، خذوني إلى النار، وألقوني فيها فأستريح من هذه الحياة، وأفرح بالآخرة.
الحصان : إذن أنت تأبى الإنكار، وترفض الاهتداء، فلا حول ولا قوة، فالمجلس إذن يبعث بك تحت الحفظ إلى أصحاب السلطة المدنية لينفذوا فيك حكمه المبرم.
(وتبوأ عندئذ الحصان كرسيه، وأمر الكاتب بأن يأخذ قرطاسًا وقلمًا، ويكتب ما يلي):

إلى الثور قاضي قضاة الحكومة المدنية:

إن مفتاح السماء يستنجد سيف الدولة، فالثعلب الواصل إليكم قد حوكم في مجلسنا على اعتقاداته الشخصية الخبيثة المضرة بتعاليمنا، ووجد بعد المخابرة والاستنطاق أنه ارتكب الذنوب الآتية: أولًا الوقاحة والاستهزاء. ثانيًا التمرد والمكابرة. ثالثًا التجديف. ورابعًا الكفر والهرطقة والإلحاد، وقد رفض أن يهتدي، وينكر اعتقاداته الشيطانية، مكفرًا بذلك عن ذنوبه القبيحة، وفضل أن ينفذ فيه حكم المجلس الذي هو كما تعلمون الإعدام في النار، فأملنا أن تستخدموا القوة المعطاة لكم لتنفيذ حكم المجلس، وفي كل الأحوال إن مفتاح السماء يستنجد سيف الدولة.

الداعون لحضرتكم
الحصان، الحمار، البغل
أعضاء مجلس التفتيش

(ولما فرغ الكاتب من كتابة الرسالة قدمها إلى المجلس فوقع عليها كل منهم بإمضائه، وسلمها الحصان مختومة إلى الخفر قائلًا: خذ الثعلب تحت الحفظ إلى السجن، وسلم هذه الرسالة إلى صاحبها، فنحن والحمد لله قد تممنا وظيفتنا، ونقدر أن نقول براحة وسرور، وضمير مستقيم: «إننا أبرياء من دم هذا الصديق»، فلتكمل مشيئة الله.)

الحمار : وسيرى الثعالب أي منقلب ينقلبون.
البغل : فلتكمل مشيئة الله، وارفض المجلس عندئذ، وخرج جميع الحيوانات متهللين فرحين وهم ينتظرون أن يشاهدوا عن قريب إحراق الكافر المسكين.

أما الثور، فإنه عندما وصله الكتاب فضه، وقرأه، ثم صادق عليه، وناوله للجلاد؛ ليعمل بموجبه، وأعطي الثعلب فرصة عشرة أيام ليتفكر في أمره؛ لعله يرتد عن غيه، وينكر اعتقاده، وكان الثور يذهب كل يوم إلى الثعلب في سجنه، ويحاول إقناعه، ولكنه لم يظفر بأرب إذ إن المحكوم عليه بقي مصرًّا على عناده، متشبثًا بآرائه، ومحافظًا على ما كانت تدعوه إليه استقامة ضميره التي أفضت به إلى الموت احتراقًا، وبعد أن مضت المدة المعينة، وجاء صبح اليوم الحادي عشر ذهب الجلاد مع أعوانه إلى الساحة العمومية في المدينة، وأضرموا هنالك نارًا متأججة، وجاءوا بالمحكوم عليه راسفًا بسلاسل الحديد، محاطًا بالخفر، وأوقفوه على دكة عالية تشرف على النار المضطرمة بالقرب منها. وكانت الحيوانات قد ازدحمت في الساحة العمومية، ومن جملتهم الحصان والحمار والبغل الذين أتوا ليروا هذا المشهد المرعب، ويتلذذوا بثمرة أعمالهم الصالحة، ولم يكن بين كل هذه الخلائق المحتشدة ثعلب واحد؛ لأن الحكومة كانت قد اتخذت كل الاحتياطات لمنع المظاهرات الثعلبية، وأعلنت أنها تستخدم القوة في هذا اليوم لقمع كل عنيد مكابر يحاول أن يثير الخواطر، ويدس الدسائس، فبقيت الثعالب في بيوتها، واحتملت المصيبة بقلب مملوء من الخوف والحنق.

وكان السرور والابتهاج يشملان كل الجماهير المحتشدة؛ إذ إن أكثر الحيوانات كانوا يكرهون الثعالب الكافرة، ويعتقدون بأن وجودهم مضر بالصالح العمومي، فشكروا المجلس الذي أصدر الحكم، والقاضي الذي صادق عليه، وجاءوا الآن ليسدوا شكرهم الجزيل إلى الجلاد الذي ينفذه.

فوقف إذ ذاك الجلاد بالقرب من الثعلب على الشرفة، وحلق له شعره، وعصب عينيه بمنديل، وخاطبه قائلًا: أسألك لآخر مرة إن كنت تريد أن تنكر اعتقادك، وترتد عن غيك مهتديًا إلى الصواب، فرفع الثعلب يده إلى السماء، وقال: «اسأله عز وجل، ولا تسألني».

الجلاد : لا تريد أن تنكر اعتقادك إذن؟
الثعلب : إني أموت لأن الحيوانات نيام، أما أنتم فستموتون؛ لأنهم سيكونون أيقاظًا.
الجلاد : إذًا بالسلطة المعطاة لي من الثور قاضي القضاة، وبموجب الأمر الذي بيدي أرمي هذا الثعلب الكافر في النار لتطهر جامعتنا، وتنقى آدابنا من سفاهات الزندقة، التي تشوهها.

(وعند ذلك رجع الجلاد إلى الوراء، وأخذ الحبل الموصول باللوح، وشد به فانسحب اللوح من تحت أقدام الثعلب، ووقع في النار المستعرة، تحته فصرخ إذ ذاك الجلاد قائلًا: (فلتكمل مشيئة الله)، فكان لصرخته صدى تصاعد من بين الجمع الذي هتف مرددًا: «فلتكمل مشيئة الله»، فليمت كل كافر، فليحا البغل والحمار والحصان.)

أما الثعلب، فلما انسحب من تحت أقدامه اللوح، ووقع في جوف النار المستعرة صرخ صرخة مرعبة هائلة، وكان لم يزل مالكًا على عقله عندما هتف الجمع المحتشد: «فلتكمل مشيئة الله»، فحركته عواطفه الفطرية لتذكر خالقه، فهتف معهم بصوت يخنق اللهيب: (فلتكمل مشيئة الله)، وبعد مضي برهة من الزمن أصبح الثعلب رمادًا، فسرت الحيوانات، وصعد بعدئذ الحمار والبغل والحصان إلى الشرفة ليشكروا الله، ويتوسلوا إلى العزة الإلهية كي تساعدهم دائمًا على استئصال شأفة كل كافر ملحد، ولم يكد الحصان يلفظ اسم الخالق حتى حدث في الجو اضطراب عظيم، فاكفهرت السماء، وهطلت الأمطار، وتساقط البرد كالحجارة، وجالت ريح عاصفة في أرجاء الفضاء تجر وراءها البرق والصواعق، وبقي هذا الحال مدة نصف ساعة، فوقف الجميع مرتعشين خائفين، ثم انقشعت الغيوم، وظهر من ورائها الأسد راكبًا أوتومبيلًا كبيرًا، فوقف فيه وخاطب الحصان والحمار والبغل قائلًا: «اطلب رحمة وليس ضحية، قلت لكم: حبوا أعداءكم، قلت لكم: لا تدينوا لئلا تدانوا، قلت لكم: مثلما تريدون أن يفعل الغير بكم افعلوا أنتم بهم أيضًا، قلت لكم: لا تقتلوا، بأي جسارة ترتكبون هذه الجرائم الفظيعة، ومن ثم تقولون: إنها من أجلي؟ أي متى قلت اذبحوا وأحرقوا إخوانكم من أجلي؟ بأي كتاب قلت عذبوهم، واطردوهم، وأحرقوهم، واسجنوهم من أجلي؟ أما والحق أقول لكم: إنكم دنستم اسمي، وافتريتم عليَّ، وأفسدتم تعاليمي، ويل لكم من العقاب الشديد الصارم، ويل لكم حين تقفون يوم الدين لتجاوبوا عن كل جريمة ترتكبونها باسمي من أجل مطامعكم، وغاياتكم الذاتية!» فتشجع عند ذلك الحمار، ونفض عن جسمه غبار الرعشة، وخاطب الأسد بصوت خافت قائلًا: ألم تقل لنا: «أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فآتوا بهم ها هنا واذبحوهم قدامي»، فصرخ الأسد إذ ذاك صرخة مرعبة قائلًا: «هذا كذب باسمي وافتراء عليَّ، فأنتم أفسدتم تعاليمي، ونقحتموها على ما يوافق أذواقكم، ويساعدكم على نيل مطامعكم، بأي جسارة تضيفون عليها هذه الآيات الشيطانية، فكيف أقول لكم حبوا أعداءكم، ثم أناقض نفسي بنفسي، وآمركم بذبح أعدائي، الحق أقول لكم: إن جرائمكم عديدة، وويل لكم في الآخرة، فاذهبوا من أمامي، ولا تتجاسروا على تكرير هذه الأعمال الفظيعة»، وتلبدت إذ ذاك السماء بالغيوم، وغاب الأسد في أوتومبيله عن الأبصار.

أما الحصان والبغل والحمار، فذهبوا إلى إسطبلهم منكسين وجوههم خاسئين، وبينما هم سائرون ذات يوم على طريق السكة الحديدية؛ إذ صفر قطار العلم القائد عربات البخار والكهربائية والاختراعات، ومر عليهم جميعًا فسحقهم سحقًا، وتطايرت رءوسهم، وبقايا أجسادهم في الجو، وتشتتت أعضاؤهم المتقطعة على طريق التمدن الحديث ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤