الأسرة التيمورية ومكانتها في العلم والأدب والمعرفة١

بقلم  طه حسين

حضرة صاحب المعالي الدكتور طه حسين بك، وزير المعارف العمومية، حجة في الأدب، وعلم من أعلام الفكر، وإمام من أئمة النهضة الحديثة، وركن من أركان التقدم الثقافي، بل إنه العبقرية الفذَّة التي لها في المآثر والآثار التي يخطئ الإنسان العد إن أحصاها.

وهذه كلمة مما جادت به قريحته الوقادة في تاريخ الأسرة التيمورية، آثرنا تسجيلها فيما يلي، للتمتع بأثر من آثار هذا الوزير الخطير، وما امتاز به من طابع خاص لن يُعرف به سواه.

إني لسعيد كل السعادة بأن أنوب عن مجمعنا في استقبالك، بعد أن أظهر أعضاؤه حرصهم على أن تكون بينهم، وعلى أن تشاركهم فيما يبذلون من جهد لصيانة اللغة العربية، والمحافظة على سلامتها، وتمكينها من أن تكون مُنتجة ملائمة لمقتضيات الحياة على اختلاف عصورها.

figure
صورة تذكارية من أيام الصبا للعلامة المحقق المغفور له أحمد تيمور باشا وأنجاله إسماعيل ومحمد ومحمود.

فأنت تعلم أن المجمع ليس نظامًا مقصورًا على عصر دون عصر، وإنما هو نظام خالد ما خلدت «مصر»، وكل واحد من أعضائه إنما استعار من خلود هذا النظام لقبه الذي عُرف به المجمعيون في «فرنسا»، وهو لقب «الخالد» فنحن إنما نخلد بخلود هذا النظام الذي أنشئ ليبقى ما بقيت «مصر»، وما بقيت اللغة العربية.

وأنت منذ اليوم قد أقبلت، ولْتشاركنا في هذا الجهد، ولتشاركنا في تمكين هذا النظام من الإنتاج، وقد أنابني المَجْمَع، ووكل إليَّ الرئيس أن أهدي إليك لقب المجمعيين، فتصبح خالدًا من الخالدين.

وصدقني أيها الزميل العزيز أنك لم تكن في حاجة إلى هذا الخلود المستعار؛ فقد اتخذت لنفسك من جهدك وخصب ذهنك ونضج عقلك وذكاء قلبك وإنتاجك الرائع المبدع خلودًا أبقى وأشمل وأخص من هذا الخلود الذي لا نكسبه أنفسنا، وإنما نستعيره من عمل يبقى هو ونزول نحن.

فأما أنت فإن الخلود الذي اكتسبته لنفسك يبقى مهما تكن الظروف ومهما تكن الأحوال، سواء اتصلت بالمجمع أم لم تتصل به، وأنت تعلم أن في المجمعيين شيئًا غير قليل من الفضول، وأن فيهم كذلك شيئًا غير قليل من هذه الخصلة التي يحبها الأقلون ويبغضها الأكثرون، وهي خصلة البحث والاستقصاء، فليس كل الناس يحب البحث، وليس كل الناس يستطرف الاستقصاء، وإنما هي خصلة موقوفة على قوم شذوا في الحياة الاجتماعية، كرَّسوا أنفسهم للبحث والدرس، ولاستكشاف الحقيقة والتماسها حيث تكون، وهم من أجل ذلك يكلِّفون أنفسهم من الجهد ما يكلفونها، ويتعرضون لكثير من العبث، ولكثير من السخرية أحيانًا، وقد امتُحِنْتَ لكي تكون بين هؤلاء الناس، فاحتمِل هذا الامتحان صابرًا، ولك أجر المعذَّبين الممتَحَنين.

وأول ما يفرض عليَّ هذا الموقف حين أستقبلك، هو أن أخرج عن مألوف أوضاعنا الاجتماعية، فأتحدث إليك بما تعلم وبما لا تعلم من أمرك، وأُظْهِرك على أشياء لعلك كنت تعرفها، وعلى أشياء أخرى لعلك لم تلتفت إليها ولم تقف عندها، وأظن أنك لا تعرف أنك قد نشأت في أسرة كريمة كل الكرم، عزيزة كل العِزَّة، لها سابقة في المجد، ولها سابقة بنوع خاص في حب الأدب والعلم والبحث والإنتاج، والتفوق في هذه كلها.

•••

أَقْبَلَ جدكم مع «محمد علي» الكبير، وشارك فيما شارك فيه معاصرو ذلك البطل العظيم من احتمال الخطوب ومواجهة المحن والنفوذ من المشكلات، فكان جنديًّا، وكان قائدًا في الجيش، وكان مستشارًا للأمير، وكان مديرًا لشئون بعض الأقاليم، وأسَّسَ لنفسه ولأسرته من بعده هذا المجد الذي توارثه عنه أبناؤه، والذي وفوا في توارثه والقيام عليه.

ولأمرٍ ما أحبَّت العلمَ والأدبَ أسرتُك منذ استقرت في مصر، فجدُّك «إسماعيل تيمور» كان محبًّا للعلم، ميالًا أشد الميل إلى العُزلة، حريصًا كل الحرص على أن يقرأ ويبحث ويستقصي، مُؤثِرًا صحبة الكتاب على صحبة الكبراء والأمراء، لا يكاد يلي منصب الحكم إلا حين يُستَكرَهُ عليه استكراهًا، ولا يكاد يبلغ هذا المنصب بعد الجهد، حتى يحتال ليخرج منه ويعود إلى كتبه.

figure
الكاتبة القديرة والشاعرة المُجيدة الذائعة الصيت المغفور لها السيدة عائشة التيمورية.

•••

ووالدك العظيم «أحمد تيمور» ليس في حاجة إلى أن نذكر مكانه في الأدب، ومكانه في العلم وفي المعرفة باللغة العربية وتاريخها وتطوُّرها، وما كتب حول تاريخها، وحول تطورها منذ أقدم العصور.

ولعلك تعلم أو لا تعلم أن المكتبة التي ورثها أبوك العظيم عن والده، ثم نماها وقوَّاها وزاد فيها، هي ثالثة مكتبات ثلاث: دار الكتب المصرية، والمكتبة الأزهرية، ومكتبة «تيمور»، وهي عدا ذلك قد تمتاز بمجموعة من المخطوطات القيمة ليست في هذه المكتبة أو في تلك.

كان إذن محبًّا للكتاب من حيث هو كتاب، ثم كان لا يكتفي بهذا الحب الظاهر الرفيق، وإنما يحب ويريد أن يزدرد ما يحبه ازدرادًا، فكان لا تصل يده إلى كتاب إلا قرأه وأعاد قراءته، واستخلص منه ثمرته وخلاصته.

ورث كثيرًا من ذلك عن أبيه، وأضاف إلى ما ورث بجهده وكَدِّه ومواهبه الخاصة شيئًا كثيرًا.

•••

وعمتك سبقت إلى مجد أدبي خالد، فليس بين المثقفين في الشرق العربي، بل في الشرق كله، مَن يجهل «عائشة التيمورية»، ومن يجهل أثرها في الشعر العربي والتركي والفارسي.

فأنت إذن سليل هذه الأسرة التي نشأت في العلم والأدب والمجد جميعًا، أَلِفْتَ هذه كلها وأَلِفَتك، فليست غريبة عليك ولست غريبًا عنها.

والغريب في هذا كله أنَّ هذا التراث الكريم لم يقتصر نقله على فرد من أفراد الأسرة دون سائر أفرادها، لم يستبد به أبوك حين ورثه عن أبيه، وإنما شاركته فيه أخته «عائشة» مشاركة ممتازة.

ولم تستبدَّ أنت حين ورثته عن أبيك، وإنما شاركك فيه أخواك «إسماعيل تيمور»، و«محمد تيمور»، وشاركك «محمد تيمور» مشاركة لا أقول ممتازة، وإنما أقول رائعة، ولعله سبقك إلى هذه المشاركة، كنتما شريكين في حب الأدب والبحث والدرس والإنتاج، ولكنه سبقك إلى التفوق والامتياز، وعسى أن يكون قد وجَّهك التوجيه الذي أتاح لك ما بلغت الآن من نضج وتفوق ونبوغ.

والجيل المصري الحديث لا يستطيع أن ينسى فضل أخيك على التمثيل، ممثِّلًا أولًا، وكاتبًا وممثلًا بعد ذلك، ثم كاتبًا يكرس من جهده للإنتاج للفن آخر الأمر، يكتب في اللغة العربية الفصحى، ويكتب في اللغة العربية العامِّيَّة، ولا يكاد يكتب، ولا يكاد الناس يسمعون بعض ما يكتب حتى يصل إلى قلوبهم كما يصل الفاتح إلى المدينة التي يقهرها فيستأثر بها الاستئثار كله.

وأكاد أخشى عليك من كل هذا المجد، وأكاد أشفق عليك من كل هذا التراث الضخم الثقيل، فقد يخيَّل إلى الذين لا يستقصون ولا يتعمَّقون الأشياء — كما يفعل المجمعيون — أنك في هذا إنما حفظت ما أحفظك، أو ما أورثك آباؤك وأخوك، ولم تكد تجدد شيئًا، فمن الجائز ألا يُستغرب أن تكون نابغة ممتازًا؛ فقد أزهرْتَ ونشأْتَ وشببت في أسرة نابغة ممتازة.

figure
المغفور له إسماعيل تيمور باشا.

ولكن نحن الذين نؤثِر التعمق والبحث لا نكاد ننظر إلى شيء يسير من آثارك الكثيرة، حتى نستيقن أنك قد تفوَّقت على هذه الأسرة الممتازة كلها، أخذت خير ما عندها، وأضفت إليها ما لم تستطع هي أن تصل إليه.

شارك أبوك في العلم وفي جمع الآثار العلمية القيمة وقراءتها وتذوقها، وهذه كلها من الخصال الكريمة الرائعة، ولكنك توافقني على أن الذين يشاركون أباك في هذا كثيرون في شرق الأرض وغربها.

وسبق أخوك إلى الإجادة في التمثيل، ولكنك توافقني على أنَّ الذين أجادوا في التمثيل ليسوا قليلين.

وسبقْتَ أنت إلى شيء لا أعرف أن أحدًا شاركك فيه في الشرق العربي كله إلى الآن، وإذا ذهب أحد مذهبك أو جاء أحد فيما بعدُ بخيرٍ مما جئت به، فلن يستطيع أن يتفوق عليك؛ لأنك فتحت له الباب، ومهدت له الطريق، ويسرت له السعي، وأتحت له أن يُنتج وأن يمتاز وأن يتفوق.

هذا الذي تفوَّقت فيه وامتزت وسجلت به لنفسك خلودًا في تاريخ الأدب العربي لا سبيل إلى أن يُمْحَى، هو القصص على مذهبه الحديث في العالم الغربي.

ولست أدري ما الذي كان بينك وبين القصص من هذا الحب الغريب؛ فقد كنت في صباك أولًا مشغوفًا بقراءته، حريصًا على أن تمضي بياض يومك وسواد ليلك في «ألف ليلة وليلة»، تكاد تؤثر ذلك على الدرس المنظم الرسمي، ولم تكد تتعلم اللغة الأجنبية حتى التمست القصص في هذه اللغة التي تعلمتها.

ثم لم تكد تبلغ من الثقافة حظًّا يتيح لك التوسع في القراءة حتى أسرعت إلى الآداب القصصية في اللغات الأجنبية على اختلافها، فقرأت القصص الفرنسي، وقرأت القصص الروسي، وقرأت من القصص الألماني والإنجليزي غير قليل، عشت القصص وكاد القَصَص أن يعيش لك في «مصر»، وامتزجت بالقصص حتى كدتَ تصبح قصة!

ومن الناس من يحب القصص ويعكف عليها وينفق عمره فيها، يريد أن يأخذ منها ما يستطيع دون أن يقدر على أن يردَّ بعض ما أخذ، أو يعطي بعض ما استعار.

ولكنك لم تكن من هؤلاء، ولم تكن تحب القصص لتأخذ فحسب، وإنما كنت تحب القصص لتأخذ ثم تقلد، ثم تلتمس شخصيتك، ثم تظفر بها، ثم تنتج فتملأ الشرق والغرب أدبًا وحكمةً وفقهًا لشئون الحياة، كأروع ما يكون الأدب والحكمة والفقه في شئون الحياة.

فأدبك ليس مقصورًا على مصر، ولا هو مقصور على البلاد العربية وحدها، ولكنه تجاوز حدود «مصر»، ثم ضاقت به حدود البلاد العربية، فعبر البحر إلى أقطار مختلفة من «أوروبا».

figure
القصصي المشهور والأديب الكبير المغفور له الأستاذ محمد تيمور بك.

ترجمتَ إلى الفرنسية والإنجليزية، وأحسب أنك ترجمت إلى اللغة الروسية أيضًا.

فإذا قيل إنك أديب مصري ففي ذلك غض منك، وإذا قيل إنك أديب عربي ففي ذلك تقصير في ذاتك، وإنك توفَّى حقك إذا قيل إنك أديب عالميٌّ بأدق معاني الكلمة وأوسعها وأعمقها.

إنك حين قصدت إلى القصص أحببتَ أول ما أحببت هذا القصص العربي الشعبي اليسير الذي يتحدث عن القلوب وعن الطبائع وعن الأذواق المصفاة في غير مشقة ولا تكلُّف ولا عناء، هذا الأدب اليسير الذي تزدريه الخاصة المثقفة في البلاد العربية، وتهوي إليه قلوب العامة، فتُكَوِّنَ منه أذواقها، وتُكَوِّن منه شعورها.

وقد أحببت هذا الأدب كما تحبه العامة، أخلصت له وأخلص لك، وكدت تكون عاميًّا في حبك له وكلفك به.

وليس هذا غريبًا، فإنك حين حاولت أن تكتب القصص وتصبح منتجًا بعد أن كنت مستهلكًا كان التعبير على هذا المنهج العامي اليسير البسيط هو أوَّل ما قصدت إليه ونجحت فيه.

ففي أطوار حياتك الأدبية ما يعطي منك صورة القاصِّ العربي الذي يصل إلى أعماق الحياة، ويفقه كُنهها، ويستخلص صفوتها، يصوغ ذلك صياغة حسنة، فإذا كتب قرأه العامي؛ لأنه يلائم ذوقه وقلبه وطبعه، وقرأه الرجل الخاص؛ لأن فيه من الابتكار في المعاني ما لا يجده في كثير جدًّا من الأدب الخاص الممتاز.

ويظهر أنك حاولت أن تحتفظ بهذه النزعة الشعبية في التعبير، فكان بينك وبين اللغة العربية الفصحى صراع شديد، كانت تريد أن تغلبك على أمرك، وكنت تريد أن تقاومها، وكانت اللغة العربية الفصحى تنسلُّ إلى أسلوبك وألفاظك الخاصة بين حين وحين، وإذا أدَبُك الشعبي يأخذ قليلًا قليلًا مسحة من روعة اللغة العربية الفصحى.

ولعلك تذكر، وإني أُذَكِّرك إن كنت قد نسيت، حديثًا ألقيته في بعض مؤتمرات المستشرقين، وكدت تخلص فيه للدفاع للغة العامية، وضقت أنا في ذلك اليوم بهذا الدفاع، لم تكن تُقَدِّر أنك ستكون مجمعيًّا في يوم من الأيام، ولم تكن تُقَدِّر أن اللغة العربية أقوى منك، كما كانت أقوى من كثير جدًّا لا من الأفراد بل من الشعوب، ولم تكن تُقَدِّر أنك ستضطر في يوم من الأيام أن تكون من حماة هذه اللغة العربية الفصحى التي كنت تؤثِر عليها اللغة العامية في بعض أوقاتك.

ثم نرى تغلُّب هذه اللغة العربية عليك يزيد شيئًا فشيئًا، وإذا هي تلتهمك التهامًا، وإذا هي تصوغك على ما تريد هي، لا على ما كنت تريد أنت، وإذا أنت لا تستطيع أن تكرهها إلا على شيء واحد، هو خير ما نحب لها، وهو خير ما تحب لنفسها، تُكْرِهُها على أن تطيق من المعاني والخواطر والفنون الرائعة الأدبية الجديدة ما لم تألفه من قبل، وإذا أنت من الممرِّنين لها أحسن تمرين، تُكَلِّفُها أن تصوغ ما لم تتعود أن تصوغ، وتؤدي بها معاني لم تكن تُكلَّف تأديتها من قبل.

قرأتَ «حديث عيسى بن هشام» حين كنت صبيًّا فلم تتأثر به، وأكبر الظن أنك لم تتأثر به؛ لأنه كتب على منهج «الهمذاني»، وأنك كنت تؤثِر عليه قصص «ألف ليلة وليلة».

figure
الكاتب المتفنن والقصصي العصري والأديب الناثر الأستاذ محمود تيمور بك.

وحين استأثرَتْ بك اللغة العربية لم تفرض عليك أسلوب «عيسى بن هشام» ولم تفرض عليك أسلوب «الجاحظ» ولم تفرض عليك أسلوب القدماء، وإنما كانت بينك وبينها هدنة اكتفت منك بأن تخضع لها، وقبلتْ منك أن تفرض عليها أسلوبك الخاص.

لم تقبل ذلك منك عن ذلة أو ضعف أو استكانة، وإنما قبلت ذلك منك؛ لأنها واسعة الصدر، سمحة النفس، تؤثِر أن تأخذ أكثر مما تعطي، وتتقبل ما يُهدَى إليها ليضاعف من ثروتها ويمنحها الغنى والسعة، وأنت قد أكسبتها بأسلوبك الجديد سعة وقوة وقدرة ومرونة لم تكن لها من قبلُ.

وإني أقرأ آثارك التي كتبتها باللغة العامية، فأرتاح إليها أشد الارتياح، على رغم نفوري من اللغة العامية حين تُكْتَب، وحبي لها حين يتكلمها الناس.

ثم أقرأ الآثار التي تكتبها باللغة العربية الفصحى فأُفْتَن بها الفتنة كلها، تفتنني معانيها التي كانت تفتنني حين كانت تلبس الثوب العامي المهلهل، ويفتنني لفظها لسحره وروعته في سهولة ويسر، وفي غير تكلُّف ولا عنف، وفي غير بحث عن ألفاظ غريبة، ولا محاولة لتنميقها وترشيقها.

وأمرك غريب أيها الزميل العزيز، كنت تكتب العامية فكانت تأتي كأنما يتفجر بها ينبوع.

ثم أخذت تكتب العربية الفصحى فكانت تأتي كأنما يتدفق بها نهر ضخم، فأنت رائع حين تكتب في العامية، وأنت رائع حين تكتب في اللغة العربية.

والحمد لله على أن اللغة العربية قد استأثرت بك الاستئثار كله، فقد كنت عدوًّا لها عنيفًا، تُحَبِّبُ العامية حين كنا نريد أن نُبَغِّضها إلى الناس، فانتصرَتِ اللغة العربية عليك انتصارًا رائعًا لا شك فيه.

وأنت كاتبٌ حُلو النفس، عَذْب الروح، خفيف الظل، لا تثقل على قرائك مهما يطيلوا عشرتك.

وأذكر أني تلقَّيتُ ذات مرة في باريس «سلوى في مهب الريح»، فترددت في قراءتها، وآثرت أن أقرأ ما كنت أقرأ فيه من الأدب الفرنسي — على اختلافه — ولا سيما حين أكون في فرنسا، ولكنني لا أستطيع أن أرد نفسي عن قراءة آثارك، فأخذت نفسي بأن أقرأ من كتابك هذا صُحُفًا بين حين وحين، على ألا يصرفني عما أنا فيه من قراءة في الأدب الفرنسي، وأُقْسِمُ ما بدأتُه حتى أعرضت عن كل ما أنا فيه، ومضيت في قراءته حتى أتممت كتابك على طوله، ولم أقطع القراءة إلا حين لم يكن من قَطْعِها بدٌّ.

وهذا شأن غيرها من القَصَص الذي تكتبه باللغة العربية، يأتي هذا كله من أنك دقيق في التصوير، ومن أنك متعمق لحقائق الأشياء، دون أن يظهر تعمُّقك للقرَّاء، ودون أن تقول للقارئ انظر، ألا ترى أني قد بحثت فأحسنت البحث، واستقصيت فأحسنت الاستقصاء؟ ودون أن تصنع صنيع «البحتري» حين كان ينشد بعض قصائده، فإذا رأى من «المتوكل» وممن حوله شيئًا من الفتور سأل: ما لكم لا تعجبون؟! وما لكم لا تُصَفِّقون؟!

وفيك بعد هذا كله دُعابة حُلوة لا يكاد الإنسان يبلُغها حتى يقف عندها، ثم يمضي في قراءتها، ولكن لا ينسى هذه الدعابة؛ دُعابة في اللفظ، ودُعابة في التصوير، ودُعابة في التفكير أيضًا.

وقد كنت أقرأ منذ أيام قصةَ «شفاه غليظة»، وكم كنت أحب أن تسميها «الشفاه الغلاظ»، فوُفِّقْتَ عند تصويرك لشفتي تلك الفتاة: شفتان غليظتان لا تريدان أن تلتقيا، كأنَّ بينهما خصامًا؛ الشفة العليا لا تريد أن تنحدر أو أن تهبط لتمسَّ الشَّفَة السفلى، كأن بها كبرياء، ولكن الشيء الذي استهوى بطلك في هذه القصة، وملك عليه قلبه ولبه وفؤاده كله، هو شيء في إحدى هاتين الشفتين، نتوء ضئيل جدًّا في وسط الشفة لا ينفرج ولا يتسع، ولا يتيح لهذه الشفة أن تستوي إلا حين تضحك الفتاة أو تبكي أو تأخذها ثورة من ثورات العاطفة.

هذا النتوء اليسير كان مدار قصتك كلها من أولها إلى آخرها، شيء يسير جدًّا في شفة فتاة من الفتيات، رآها مُحامٍ فَفُتِنَ بها وهام بها الهيام كله، وأقام عليها حياةً أَخَصُّ ما توصف به أنها حياة رجل ذكي عبثت به فتاة فاستغفلته مرتين أو مرات.

وكذلك أنت في كثير جدًّا من قصصك، أو في كل قصصك، تصل أو تستكشف شيئًا يسيرًا، وتجعله مدارًا للقصة تعود إليه، كأنه لحنٌ من هذه الألحان اليسيرة التي يبني الموسيقي عليها قطعته.

فأنت تجد في قصصك فكرة أو صورة أو خاطرة دقيقة يسيرة تدور عليها قصتك، فتستهوي وتخلب وتَسْتَلِب القلوب.

كتبك ليست قليلة، وأحسبها قد بلغت الثلاثين أو جاوَزَتْها، تُرجِمَ منها الكثير، وسَيُتَرْجَمُ منها أكثر مما تُرْجِمَ، ولا أكاد أعتقد أن كاتبًا مصريًّا مهما يكن شأنه قد وصل إلى الجماهير المثقفة وغير المثقفة كما وصلت أنت إليها، فأنت شديد الانتشار، لا تكاد تكتب الكتاب حتى يتهافت عليه القارئون في البلاد العربية كلها.

أتظن بعد هذا أنك لم تتفوَّق على أسرتك، ولم تُضِفْ إلى تراثها العظيم؟

أتظن بعد هذا أنك مَدينٌ بمكانتك الأدبية لهذه الأسرة الأدبية النابغة؟

أليس الحق أنك أخذت عنها كثيرًا، وأضفت إليها كثيرًا؟

ثم أتفهم الآن لماذا سعى إليك المجمع رفيقًا، كما يسعى إلى شيء ذي خطر لا يسهل الوصول إليه؟ سعى إليك سَعْيَ الحية فيما يقول «عمر بن أبي ربيعة»، سعى فَقَدَّرَ آدابك العربية وأجازها ونوَّه بها، ثم اسْتَأْنَى بك لأنه يعرف تواضعك وهدوءك، ويعرف ما طُبِعْتَ عليه من حب العزلة والانزواء، اسْتَأْنَى بك حتى تسيغ هذا التقدير وحتى تطمئن إليه، استأنى بك سنة أو سنتين، فلما عرف أنك تلقيت هذه الصدمة وصبرت لها واحتملتها، ثم تعزَّيْتَ عنها، فسافرت وأقمت وقرأت وأنتجت، هجم هجمته الكبرى وأخذك على غِرَّةٍ، وأشهدُ ما عرفت أنت ولا أحسست قط بأن المجْمَع يريد أن يضمك إليه، وإنما أخذك المجمع فجاء في ذات يوم في جلسة من الجلسات، فَأْتَمَرَ بك صديقان لك، هما: «أحمد أمين» و«طه حسين»، فرشحَّاك للمجمع، ولم يكادا يَعرِضان ترشيحهما حتى أجمع هذا المجمع على اختيارك، وإذا أنت قد التهمك المجمع التهامًا كما التهمتك اللغة العربية الفصحى الْتهامًا من قبل.

كنتَ مدافعًا عن اللغة العربية الفصحى بما تكتب وما تنتج من آثار، لا تكاد تزيد على ذلك، وحسبك بهذا دفاعًا عنها وصيانة لها.

ولكنَّ المجمع يقول لك منذ الآن ألَّا تكتفيَ بالإنتاج الأدبي، بل تضيف إلى هذا الإنتاج الأدبي مشاركة في هذا العناء المتواضع الذي يشقى به المجمع مرة في كل أسبوع، وعسى أن يشقَى به أكثر من مرة، فاصبر نفسك على الصدمة الثانية، كما صبرتها على الصدمة الأولى، واطمئن إلى أن المجمع لا يملك أن يروعك بعد ذلك، فقد انتهى أمرك، ولكن لا تطمئن يا سيدي؛ فإنَّ الدنيا لا تشتمل على المجمع وحده، وإن الذين ينتجون مثلما تنتج ويسيرون في الحياة الأدبية والعقلية مثلما تسير مضطرون إلى أن يصبروا للأحداث، وأحداث المجد الأدبي خاصة، وهذه الأحداث أظن — بل أصدق — بأنك تعرف أثقالها، وتعرف كيف تحتمل هذه الأثقال؟

١  ألقاها في حفلة استقبال محمود تيمور بك عضو بالمجمع الملكي للغة العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤