القسم الأول

فمن أسباب الوهم في المعاني جهل الشاعر بما يذكره لبعده عنه، فتراه يأتي به على غير حقيقته، ويضعه في غير موضعه، أو يبهم في وصفه فلا يدنيه منك ولا يبعده، كالحَضَرِيِّ الذي لم يسبق له التبدِّي، والبدوي الذي لم يتحضَّر، فإنهما قلَّما يستطيع أحدهما أن يذكر ما عند الآخر فيصيب فيه، أو يصفه فيحسن الإفصاح عنه؛ لأنه إنما يذكر ما لم يعرفه، ولم يره إلا بسمعه، حكى صاحب الأغاني عن الكُمَيْت أنه قال لما قدم ذو الرمة أتيته فقلت إني قد قلت قصيدة عارضت بها قصيدتك: «ما بالُ عينك منها الماء ينسكب» فقلت:

هل أنت عن طلب الأيفاع منقلب
أم كيف يحسن من ذي الشيبة اللعب؟

حتى أنشدته إياها، فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولًا ما يقدر إنسان أن يقول لك أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به، ولا تقع بعيدًا عنه، بل تقع قريبًا. قلت له: أوتدري لمَ ذلك؟ قال: لا، قلت: لأنك تصف شيئًا رأيته بعينك، وأنا أصف شيئًا وُصِفَ لي، وليست المعاينة كالوصف. قال: فسكت. انتهى.

ويروى أن الكميت كانت له جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه، فمن هناك كان علمه.

قلنا وقد رأيت كيف لم يُغْنِهِ وصف الجَدَّتين شيئًا، فوقع فيما احتاج إلى الاعتذار منه، وليت شعري! أين عزَبَتَا عنه لمَّا نظم قصيدته: «أبت هذه النفس إلا ادِّكارًا» فقال فيها:١
إذا ما الهجارس غنَّيْنَها
يُجاوبن بالفَلَوَات الوِبارا٢

وقال:

كأنَّ الغُطامط من غليها
أراجيزُ أَسْلَمَ تهجو غِفارا٣

فكانتا تخبرانه بأنَّ الوِبار لا تسكن الفَلَوَات، وبأنَّ أسلمَ ما هجت غفارًا قط، فتنجيانه من انتقاد نُصَيب.

ومَثَلُ هذا الحضريِّ في وصفه ما لم يرَه من أمور البادية، كَمَثَلِ ذلك البدويِّ الذي سمع بأنَّ الرقاق والفستق من مأكول الحضر، وأراد وصف جارية بالتبدِّي، فقال:

دستيَّةٌ لم تأكل المرقَّقا
ولم تذقْ من البقول الفستقا٤
وعذره أنه لم يعرف الفستق، وإنما سمع به فظنه من البقول، وهو ثمر شجرة، قال شارح القاموس: «وتمحَّلَ بعضُهم فقال: إنما هو من النقول بالنون،٥ قال الصاغاني: «ولكن الرواية بالباء لا غير.» انتهى.
ولا ندري ما الذي كان يأتينا به في الرقاق لو اتسع له المجال في البيت، ولو أنَّا قدَّرنا عكس هذه الحالة، وأرينا هذا الأعرابيَّ الرقاق والفستق قبل أن نخبره بهما، لكان حقًّا علينا أن نعذره كما عذرناه أولًا إذا رأيناه يعدل عن حقيقتهما إلى ما يُصوِّره ظنه فيهما، كما وقع للعرب في وقعة أُلَّيْس،٦ لما استولوا على ما في معسكر الفرس، فجعل من لم ير الرقاق منهم يقول: «ما هذه الرقاع البيض؟» على ما حكاه ابن الأثير في الكامل.

ومن طريف ما يُروَى عن ناهض بن ثومة، وكان بدويًّا جافيًا، أنه نزل حلب، وشهد في ضاحيتها عرسًا، فلما رأى احتشاد الناس ظنَّهم في أحد العيدين، ثم تذكَّرَ أنه خرج من البادية في صفر وقد مضى العيدان، ولما رأى العروس بين السماطين ظنه أمير البلد في يوم جلوسه للناس، ثم وصف ما رآه في العرس على ما تصوَّره، فقال عن الموائد: «فلم أنشب أن دخل رجال يحملون هَنَات مُدَوَّرات، أما ما خفَّ منها فيُحْمَلُ حملًا، وأما ما كبر وثقل فيُدَحْرَج، فوُضِعَ ذلك أمامنا، وتحلَّقَ القوم عليه حِلَقًا، ثم أُتِينا بِخرَقٍ بيضٍ، فأُلقِيَت بين أيدينا فظننتها ثيابًا، وهممتُ أن أسألَ القوم منها خرقًا أقطعها قميصًا، وذلك أني رأيت نسجًا متلاحمًا، لا يبين له سَدًى ولا لُحمَة، فلما بسطه القوم بين أيديهم، إذا هو يتمزق سريعًا، وإذا هو فيما زعموا صنفٌ من الخبز لا أعرفه»، وقال عن العود: «وكان معنا في البيت شابٌّ لا آبَهُ له، فَعَلَتِ الأصواتُ بالثناء عليه والدعاء، فخرج فجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عودًا، فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها وحركها بخشبة في يده، فنطَقَت وربِّ الكعبة! وإذا هي أحسن قَيْنَة رأيتها قط، وغنَّى عليها فأطربني حتى استخفَّني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه، وقلت: بأبي أنت وأمي ما هذه الدابة؟ فلست أعرفها للأعراب، وما أراها خُلِقَت إلا قريبًا؟ فقال: هذا البَرْبَط. فقلت: بأبي أنت وأمي، فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: الزِّير. قلت: فالذي يليه؟ قال: المَثْنى. قلت: فالثالث؟ قال: المَثْلث. قلت: فالأعلى؟ قال: البَمُّ. فقلت: آمنت بالله أولًا، وبك ثانيًا، وبالبربط ثالثًا، وبالْبَمِّ رابعًا.» انتهى.

ومن قبيل بيت الفستق قول عمر بن أحمر الباهليِّ يصف امرأة بالغرارة:

لم تدرِ ما نسجُ اليَرَنْدَجِ قبلها
ودراس أعوصَ دارسٍ متخدَّد

يريد أنها غرَّة لا تعرف نسج اليرندج، ولم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفى أحيانًا ويتبين أحيانًا، قالوا: ولم يعرف الشاعر أنَّ اليرندج: جلد أسود تُعمَل منه الخفاف، فظنه مما يُنسَج، والتمس بعضهم له مخرجًا، فقال: أراد بالنسج هنا: المعالجة والعمل، وقال آخر: بل أراد أنها لغرَّتها وقلة تجاربها ظنت أن اليرندج منسوج.

قلنا: ولا نخال النصوص اللغوية تساعد على الأول، أما الثاني فكما قال أبو هلال في الصناعتين: إن ألفاظ البيت لا تدل عليه.

«ومن قبيله» قول رؤبة:

بلْ بلدٍ ملء الفجاج قَتَمُهُ
لا يُشتَرَى كتَّانه وجَهْرَمُهْ

وجَهْرَم: قرية بفارس تنسب إليها الثياب والبُسُط، قال أبو عمرو والأصمعي: فظن رؤبة أنها ثياب، وردَّ عليهما عليٌّ بن حمزة البصري في التنبيهات: بأنه أراد كتانة وجهرمية، فقطع ياء النسب، كما قال العجاج:

يكاد يدري القيقبان المُسرجَا

والقيقب: خشب تُنحَتُ منه السروج، فنسب السُّرُج إليه، فقال القيقبانيُّ: ثمَّ قطع ياء النسب.

وقد استشهد الوزير البطليوسيُّ بهذا البيت في شرح ديوان امرئ القيس، فذهب فيه مذهب أبي عمرو والأصمعي؛ حيث قال: «وغلط في الجهرم ظن أنها ثياب وهو بلد بفارس.»

«ومن قبيله» قول الراعي يصف امرأة تَدَّهِنُ بالمسك:

تكسو المفارق واللبَّات ذا أرج
من قُصب معتلِف الكافور درَّاج

فجعل المسك من القصب، وهو الْمِعَى، وكأنه لما سمع أنه من دابة ظنها تعتلف الكافور، فيتحول في أمعائها إلى مسك، ويُجتَنَى منها، وخطَّأَه أبو حنيفة الدينويُّ في كتاب النبات في قوله يصف إبلًا:

لها فأرة ذفراء كل عشية
كما فتق الكافور بالمسك فَاتِقُهْ٧
فقال: «ظنَّ أنه يُفتق به، وكان الراعي أعرابيًّا قُحًّا، والمسك لا يُفتق بالكافور»، ولكن علي بن حمزة البصري رد عليه في التنبيهات بقوله: «أما قوله: والمسك لا يفتق بالكافور فصحيح، ولم يقل الراعي كما فتق المسك بالكافور، وإن كان المسك لا يفتق بالكافور، فإن الكافور يفتق بالمسك، وجعل الراعي أعرابيًّا قُحًّا، ونسبه إلى الجفاء، وأوهم أنه قد غلط، وخطأه في شيء لم يقله، اللهم إلا أن يكون عند أبي حنيفة أن الكافور لا يفتق بالمسك، ويكون قد غلط هو في العبارة وعكسها، فيكون في هذه الحالة أسوأ حالًا منه في الأولى، ويكون قليل الخبرة بالطيب وعمله واستعماله، ولا رائحة أنمُّ٨ من الكافور إذا فُتق بالمسك، يشهد بذلك بنو النعمة والعطارون قاطبة.» انتهى.

«ومن قبيله» قول رؤبة:

هل يعصمنِّي حَلِف سِخْتيت
أو فضة أو ذهب كبريت٩

قال ابن الأعرابي والأصمعي وغيرهما: ظن رؤبة أن الكبريت ذهب، وفي العقد: سمع بالكبريت أنه أحمر فظن أنه ذهب، وفي شفاء الغليل: «وَذَكَرَه رؤبة في شعره بمعنى الذهب، وخُطِّئ فيه لأن العرب القدماء يخطئون في المعاني دون الألفاظ.»

قلنا: ولا يخرج ما في اللسان عن ذلك، ولكنه ذكر تفسير الكبريت بالذهب الأحمر في قولٍ لبعضهم، وهو كما لا يخفى يناقض ما اعترض به هؤلاء الأئمة، فلعله حدث بعد نظم البيت، وبنى على ما فيه وثوقًا من قائله بالشاعر، وليُحقَّقْ.

«ومن قَبيله» قول أبي ذؤيب في وصف الدرة:

فجاء بها ما شئت من لَطَميَّة
يدوم الفُرات فوقها ويموج١٠

قالوا: والدُّرَّةُ لا تكون في الماء العذب، وإنما تكون في الماء الملح، كذا في اللسان والعقد والوساطة وما يجوز للشاعر في الضرورة وغيرها، وذكر أبو هلال في الصناعتين: أن من يحتج له يرى أن مراده ماء الدرة، وقد وقفت في شرح السيرافي على كتاب سيبويه على تفصيل لذلك بما نصه: «قال الأصمعي: هذا غلط، وذلك أنه ظن أن اللؤلؤ يخرج من الماء العذب لبعده عن مواضع اللؤلؤ، ومعنى يدوم الفرات فوقها ويموج: أي يسكُن مرةً ويهيجُ أخرى بالريح أو زيادة الماء»، وذكر بعض أهل اللغة أن هذا صحيح، وأن الأصمعي هو الغالط، وكيف يذهب هذا على أبي ذؤيب، وهو من هُذيل، ومساكنهم جبال مكة المطلة على البحر ومواضع اللؤلؤ، وإنما أراد أبو ذؤيب بالفرات هاهنا ماء اللؤلؤ الذي قد علاها وجعله فراقًا؛ إذ كان أعلى المياه ما كان فراقًا، وقوله: يدوم الفرات؛ أي يسكن، ويموج؛ أي يضطرب، إنما أراد أنه يسكن في الناظر مرة، ويضطرب أخرى لصفائها وبريقها، وأن الماء هو ماء اللؤلؤة، انتهى.

ومن ذلك قول لَبِيد:

ومقام ضَيِّقٌ فرَّجتُه
بمقامي ولساني وجَدَلْ
لو يقوم الفيل أو فيَّالُه
زلَّ عن مثل مقامي وزحل١١

أي: لو يقوم الفيل أو صاحبه في هذا المقام لزلَّ وتنحى ولم يثبت مثل ثباتي، ولا معنى لذكر الفيَّال هنا، ولكنه لما سمع بعظم خلق الفيل وشدة أَيْدِهِ ظنَّ أن لِسَائِسِه مثلَ قوَّته فأخطأ.

«ومنه» قول الآخر:

وأَلْيَن من مس الرخامات يلتقي
بمارنه الجاديُّ والعنبر الورد

أنشده السيوطي في المزهر، ونقل عن القالي في أماليه أنه قال: «غلط الأعرابي؛ لأن العنبر الجيد لا يوصف إلا بالشهبة.»

قلنا: البيت وارد في الأمالي، وهو من أبيات أولها:

سقى دمنتين ليس لي بهما عهد

وليس في النسخة المطبوعة ما نقل في المزهر من الانتقاد، فلعل القالي ذكره في كتاب آخر له.

ومنه قول خالد بن زهير:

وقاسمها بالله جَهْدًا لأنتمُ
ألذُّ من السَّلوَى إذا ما نَشُورُها

ظن السلوى العسلَ فقال نَشُورها؛ أي تجنيها من الخلية. قال الزَّجَّاج: أخطأ خالد، إنما السلوى طائر، وتمحَّلَ الفارسي في الرد عليه بأنَّ السلوى كل ما سلَّاك، وقيل للعسل سلوى؛ لأنه يسليك بحلاوته وتأتِّيه عن غيره مما تلحقك فيه مئونة الطبخ وغيره من أنواع الصناعة. انتهى، ولا يخفى ما فيه.

١  في الأغاني أن المُنْتَقِد للبيتين نصيب.
٢  الهجارس: الثعالب، أو كل ما يعسعس بالليل مما كان دون الثعلب وفوق اليربوع، والوِبار (بكسر الأول): جمع وبر، وهي دويبة على قدر السِّنَّوْر.
٣  أصل الغُطامط (بضم الأول): صوت غليان موج البحر، وأراد هنا صوت غليان القدور؛ لأنه يصف قدور أبان بن الوليد البجلي، والذي في الخصائص والمزهر أن أسلم وغفارًا لم تقع بينهما مهاجاة، ومثله في الموشح للمرزباني، وزاد أنهما من قبيلة واحدة، ومثله أيضًا في شرح القاموس إلا أنه ذكر في إحدى الروايات أنهما تهاجتا مرة، وهو قول تفرد به قائله.
٤  البيت لأبي نخيلة الأسدي، والدستية: المنسوبة إلى الدست، وهي الصحراء، وهي رواية اللسان، والذي في الصِّحَاح وأكثر كتب الأدب: «برية»، والمراد أنها بدوية لا تعرف الحضر ولا مآكله.
٥  النقول: جمع نقل، وهو ما يتنقل به على الشراب، ولعله أراد بالمتمحل الجوهري؛ لقوله في الصِّحَاح: «ظنَّ هذا الأعرابي أن الفستق من النقل، وهكذا يُروى بالباء، وأنا أظنه بالنون؛ لأن الفستق من النقل وليس من البقل.»
٦  في نسخة الكامل لابن الأثير المطبوعة ببولاق «الليس» والصواب: «أُلَّيْس» (بضم الهمزة وتشديد اللام المفتوحة وسكون الياء)، كما في معجم البلدان لياقوت.
٧  إذا رعت الإبل العشب وزهره، ثم شربت وصدرت عن الماء، نديت جلودها، ففاحت منها رائحة طيبة، فيقال لتلك: فأرة الإبل، والذفر: شدة ذكاء الريح من طيب أو نتن، والمراد هنا الأول، وفتق الطيب: خلطه بغيره لاستخراج رائحته.
٨  في نسخة التنبيهات (١١ : ٢٠٤): أخم بدل أنم، والسياق لا يقتضي الوصف بالرائحة الخبيثة المتغيرة، ولا نظنه إلا خطأ من النساخ، وصوابه: «أنم» كما أثبتناه، وهو من قولهم: نمَّ المسك، إذا سطع.
٩  السختيت (بكسر فسكون): الشديد.
١٠  اللطمية (بفتحتين) نسبة إلى اللطمية (بفتح فكسر): وهي الدواب التي تحمل العطر والبَزَّ ونحوهما غير الميرة، ورواية اللسان في «دوم»: تدوم البحار… إلخ، قال: ورواه بعضهم: يدوم الفرات، وهذا غلط لأن الدر لا يكون في الماء العذب.
١١  في رواية أخرى: «زاح» بدل «زلَّ»، ومعناه: تنحَّى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤