القسم السادس

ومن هذه الأوهام تغيير الأسماء، وهو ثلاثة أنواع:
  • الأول: لفظي، وهو ما كان التغيير فيه في أحرف الاسم بالتقديم والتأخير، أو الزيادة أو النقصان.
  • والثاني: معنوي، وهو ما وُضِعَ فيه اسم موضع آخر.
  • والثالث: جامع لهما، وهو ما وقع فيه التغييران كلاهما.

فالأول: كقول الأسود بن يَعْفُر يصف درعًا:

ودعا بمحكمة أمينٍ سكها
من نسج داود أبي سَلَّام

يريد: «أبي سليمان»، فلما اضطُرَّ، قال: سلَّام، وكقول الآخر:

وسائلة بثعلبة بن سَير
وقد علقت بثعلبة العَلُوق

يريد ثعلبة بن سيَّار، ومثله كثير، ولا كلام لنا فيه لخروجه عن مقصودنا.

والثاني: كقول حُسَيل بن سُجَيح الضَّبِّي يذكر درعًا:

وبيضاء من نسج داود نَثْرة
تخيَّرْتها يوم اللقاء الملابسا١

فإن الدروع من نسج داود نفسه لا ابنه سليمان، وأكثر ما يقع هذا بذكر الابن بدل الأب وعكسه، وخرَّجه التبريزيُّ في شرح ديوان الحماسة على أنه من عادة العرب في إقامة الأب مقام الابن، والابن مقام الأب، وتسمية الشيء باسم غيره إذا كان من سببه.

والثالث: أي الجامع للَّفظيِّ والمعنويِّ، كقول الحطيئة:

فيه الرماح وفيه كل سابغة
بيضاء محكمة من نسج سلَّام٢

وقول النابغة:

وكل صموت نَثْلة تُبَّعيَّة
ونسج سُلَيم كل قَضَّاء ذائل٣

قال القاضي الجرجاني في الوساطة: «أرادا داود فغلطا إلى سليمان، ثم حرَّفا اسمه، فقال أحدهما: سلَّام، وقال الآخر: سليم.» انتهى.

وتبعهما أبو العلاء المعري فقال في الدرعيات:

سليميَّة من كل قتر يحوطها
قتير نبت عنه الغواني الأوانسُ٤

فمن المعنوي قول الصَّلَتان العبدي:

أرى الخَطَفَى بذَّ الفرزدق شعرُه
ولكنَّ خيرًا من كُلَيب مجاشع

قال ابن مطرف في القرطين: «أراد أرى جريرًا بذَّ الفرزدق فلم يمكنه، فذكر جده.» وفي خزانة البغدادي: أراد أرى جرير بن عطية بن الخطفى، وجاز هذا لكونه معلومًا عند المخاطب، وقد أنكر الخوارزمي كون هذا من باب الحذف، وقال: إنما هو من باب تعدي اللقب من الأب إلى الابن، كما في قوله:

كراجي الندى والعرف عند المذلَّق

«أي ابن المذلق.» انتهى.

ومنه قول حسان بن ثابت:

من معشر لا يغدرون بذمة
الحارث بن حبيب بن سحام٥

قال القاضي الجرجاني في الوساطة: «وإنما هو حبيب.»

ومنه قول أوس بن حَجَر:

فهل لكم فيها إليَّ فإنني
طبيب بما أعي النطاسي حِذْيَما

أراد ابن حذيم، وكان من أطبَّاء العرب فذكر أباه.

وذهب ابن السِّكِّيت في شرحه لديوان أوس إلى أن حذيمًا اسم الطبيب نفسه، وتبعه في ذلك صاحب القاموس، ولكن الأكثرين على أنه أبوه، واستشهد الزمخشري في الكشَّاف بهذا البيت على حذف المضاف لأمن اللبس، ولكنه خالف كلامه في المُفَصَّل فجعله من المحذوف مع وجود اللبس، وأنشد معه قول ذي الرمة:

عشيَّة فرَّ الحارثيون بعدما
قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر٦

أي يزيد بن هوبر، وقد صوَّب البغدادي في خزانته قول الأول بأن الإلباس وعدمه إنما يكون بالنسبة إلى المخاطَب الذي يُلقي المتكلم كلامه إليه لا بالنسبة إلى أمثالنا، فإنه وإن كان عندنا من قبيل الإلباس فهو مفهوم واضح عند المخاطَب به في ذلك العصر.

ومنه قول الآخر يصف إبلًا:

صبَّحن من كاظمة الخُصِّ الخَرِبْ
يحملن عبَّاس بن عبد المطلب٧

قال ابن مُطَرف الكناني في القرطين: «أراد عبد الله بن عباس، فذكر أباه مكانه.» وجعله ابن جِنِّيٍّ في الخصائص من المحذوف لأمن اللبس، فقال: «وإنما أراد عبد الله بن عباس، ولو لم يكن على الثقة بفهم ذلك لم يجد بدًّا من البيان.» وأورده المُبَرِّد في الكامل، وأنشد معه للفرزدق في سليمان بن عبد الملك:

ورثتم ثياب المجد فهي لَبُوسكم
عن ابْنَيْ مناف عبد شمس وهاشم

يريد ابن عبد مناف، وأنشد معه أيضًا قول كُثَيِّر لما حبس عبدُ الله بن الزبير محمدَ ابن الحنفيَّة في سجن عارم:

تخبَّر من لاقيت إنَّك عائذ
بل العائذ المحبوس في سجن عارم
وَصِيُّ النبي المصطفى وابن عمه
وفكاك أعناق وقاضي مغارم

يريد ابن وصي النبي، وفي مادة «وصى» من اللسان: «إنما أراد ابن وصي النبي وابن ابن عمه، وهو الحسن بن علي، أو الحسين بن علي، رضي الله عنهم، فأقام الوصيَّ مقامها، ألا ترى أن عليًّا رضي الله عنه لم يكن في سجن عارم، ولا سُجِنَ قط؟! قال ابن سِيدَهْ: أنبأنا بذلك أبو العلاء عن أبي علي الفارسي، والأشهر أنه محمد ابن الحنفية رضي الله عنه، حبسه عبد الله بن الزبير في سجن عارم، والقصيدة في شعر كُثَيِّر مشهورة، والممدوح بها محمد ابن الحنفية.» انتهى.

ومنه قول دُرَيْدِ بن الصِّمَّة يرثي أخاه عبد الله:

فإن تُعقب الأيام والدهر فاعلموا
بني قارب أنَّا غضاب بِمَعْبَد٨
وإن كان عبد الله خلى مكانه
فما كان طيَّاشًا ولا رعش اليد

أراد بمعبد: عبد الله، وقد صرح به في البيت الثاني، والأقرب عدُّ هذا من الخطأ اللفظي؛ أي بتحريف عبد بمعبد، وسهله له رجوع كلا اللفظين إلى معنى العبودة.

ومنه قول الآخر:

أرض تخيَّرها الطيب مقيلها
كعب بن مامة وابن أم داود
قال البغدادي في الخزانة: «هو أبو داود الشاعر، واسمه جارية،٩ والتقدير ابن أم أبي داود، فحذف الأب.»

ومنه ما ذكره السيرافيُّ في شرحه لكتاب سيبويه فقال: «وأما ما لا يجوز في الشعر ولا في الكلام، فالغلط الذي يغلطه الشاعر في اسمٍ أو غيره مما يظن أن الأمر فيه على ما قاله؛ كقوله:

والشيخ عثمان أبو عفَّان١٠

فظن أن عثمان يُكَنَّى أبا عفَّان؛ لأن اسم أبيه عفَّان، وإنما هو أبو عمرو، فهذا مما لا يجوز.»

ومنه قول لبيد يرثي عمَّه عامر بن مالك الملقَّب بملاعب الأسِنَّة:

قُوما تنوحان مع الأنواح
وأَبِّنا ملاعب الرماح

وقوله فيه:

لو أنَّ حيًّا مدرك الفلاح
أدركه ملاعب الرماح

فاضطرته القافية إلى تلقيبه بلقب غيره؛ لأن ملاعب الرماح هو عامر بن الطُّفيل، هذا على ما جاء في موارد البصائر، ومادتَيْ «رمح» و«لعب» من اللسان، وجاء في مادة «رمح» من القاموس: «وملاعب الرماح: عامر بن مالك بن جعفر، والمعروف ملاعب الأسنة، وجعله لبيد رماحًا للقافية.» إلا أنه اقتصر فيه على المشهور في مادة «لعب».

ومنه قول زهير:

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

فذكروا أنه أخطأ في قوله كأحمر عاد، وهو أحمر ثمود، وقال بعض أهل اللغة: العرب تسمِّي ثمود: عادًا الآخرة، وتسمي قوم هود: عادًا الأولى، فقول زهير صحيح.

ومنه قول النَّمِر بن تَوْلَب:

هلَّا سألتِ بعادياء وبيته
والخل والخمر التي لم تمنع١١
وفتاتهم عَنْز عشية أبصرت
من بعد مرأى في القضاء ومسمع
قالت أرى رجلًا يقلِّب نعله
أُصُلًا وجوٌّ آمنٌ لم يفزع١٢

وعَنْز (بفتح فسكون): اسم زرقاء اليمامة، وكانت — على ما زعموا — تُبْصِرُ من مسيرة ثلاثة أيام، وهي من جَديس، فجعلها الشاعر من بيت «عادياء»، وهو أبو السموءل الأزدي الغساني، فأخطأ في وضعه اسمًا موضع آخر.

وقال بعضهم أراد بعادياء عادًا، والعرب تقول لكل شيءٍ قديم عاديٌّ.

قلنا: وعلى هذا القول فهو من الخطأ اللفظي بتحريف عاد بعادياء، والأقرب في الاعتذار عنه قول ابن حبيب في شرحه لديوانه: «نسب عنزًا إلى بيت عادياء، وليست منهم، وإنما كان شيئًا في أول الدهر فنسبه إلى بعضهم، كما قال زهير: كأحمر عاد، وإنما كان في ثمود.»

ومنه قول البحتري من المولدين:

هم ثأروا الأخدود ليلة أغرقت
رماحهم في لجَّة البحر تُبَّعا

قال أبو العلاء المعري في عبث الوليد: «الذي غرق من ملوك اليمن في البحر لما أرهقته الحبشة هو ذو نُوَاسٍ الحِمْيَري، ولم يكن يقال له تُبَّع، إلا أن هذا يحتمله الشعر على أن يجعل كل ملكٍ للعرب تُبَّعًا، كما جعلوا كل ملك للروم قيصر، وكل ملك من ملوك الحيرة النعمان.»

•••

وكل ما ذكرناه من المآخذ لم نأتِ به من عند أنفسنا، بل عوَّلنا فيه على ما في كتب أئمة اللغة والأدب؛ كاللسان، والمزهر، والخصائص، والأغاني، والعقد، ومحاضرات الأدباء، والقرطين، والتنبيهات، ومجالس أبي مسلم، والوساطة، والموشح، وسِفْر السعادة، والخزانة، وكتب الأضداد، والضرورات الشعرية، وشروح الدواوين، وغيرها، فإن كان لنا فيه شيء فَجَمْعُ ما انتثر منه، وضم الشبيه إلى شبيهه، أو ما كان كالتوطئة، أو الشرح لكلامهم، وقد مَنَعَنَا طول المقال عن إلحاقه بما وقع من هذه الأوهام لفحول المولدين غير ما تقدم ذكره بالمناسبة فأرجأناه لمقال آخر خاص بهم.

١  أصله: تخيرتها من الملابس، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى المفعول فنصبه.
٢  ويروى: «جدلاء» بدل بيضاء.
٣  الذائل: الدرع الطويلة الذيل، وفي شرح السيرافي على كتاب سيبويه: أنه صغَّر سليمان على سُلَيْم تصغير ترخيم.
٤  من كل قتر؛ أي من كل جانب، ويعني بالقتير: مسامير الدروع، ولما كان القتير موهمًا طلائع الشيب ذكر نفرة الغواني عنه.
٥  ورد هذا البيت هكذا في النسخة المطبوعة بصيدا من الوساطة، ولم نجدْه في ديوانه.
٦  رواية المزهر: «هوى بين أطراف الأسنة هوبر.»
٧  وفي رواية: «الحصن» بدل «الخص» كما في مادة «وصى» من اللسان.
٨  كذا في اللسان والوساطة، والذي في المزهر وموارد البصائر وشرح السيرافي على سيبويه «لمعبد» وفيه بدل البيت الثاني:
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسًا
فقلت أعبدُ اللهِ ذلكم الردي
٩  الذي في القاموس وشرحه: «جويرية» أي بالتصغير.
١٠  كذا في شرح السيرافي على سيبويه، والذي في المزهر «أبو عفانا» ولا يتعين أحدهما إلا بالوقوف على بقية الرَّجَز.
١١  قوله: بعادياء، يريد عن عادياء.
١٢  جو (بفتح الأول): اسم بلد، وهي اليمامة، والمراد هنا: أهل جو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤