زهرة الأوركيد الغريبة

ينطوي شراءُ زهور الأوركيد دائمًا على قدرٍ ما من المخاطرة؛ إذ تجد أمامَك كتلةً من النسيج الحي الذابل البنيِّ اللون، وعليك بعد ذلك أن تثق في تقديرك، أو تقدير البائع، أو حظِّك الطيب، حسبما ترى. ربما أشرفَتِ النبتةُ على الموت أو ماتت بالفعل، أو ربما تمثِّل صفقةً رابحة؛ أيْ مقابلًا جيدًا نظيرَ ما تدفعه من مال، أو لعلها — كما يحدث في العادة — تتفتَّح تدريجيًّا، يومًا بعد يوم، أمامَ عينَي المشتري السعيد المبتهجتين لتكشف عن تنوُّع جديد أو ثراء لا مثيلَ له، أو انحناءة غريبة في بَتلتها، أو تغيُّر دقيق في ألوانها، أو محاكاة غير متوقَّعة لشيءٍ ما. يجتمع الكبرياءُ والجمالُ والربح، بل وربما الخلود أيضًا، على سنبلةٍ خضراءَ واحدةٍ غضَّةٍ. ولعل هذه المعجزة الجديدة للطبيعة تقف بانتظارِ اسمٍ محدَّد جديد لها؛ وهل من اسم أنسبُ من اسمِ مكتشِفها؟ «جون-سميثيا» مثلًا! ثمة أسماء أسوأ بالفعل من ذلك.

لعل الأمل في مصادفة مثلِ هذا الاكتشاف السعيد هو ما جعَلَ وينتر ويدربيرن يُقبِل باستمرار على مثل هذه الصفقاتِ؛ ذلك الأمل، وربما أيضًا حقيقةُ أنه ليس لديه أيُّ اهتمامٍ بفعلِ أيِّ شيءٍ آخَر في الحياة. لقد كان رجلًا خجولًا، وحيدًا، قليلَ الحِيلة إلى حد ما، وكان ذا دخلٍ يَقِيه بالكاد العَوَز والاحتياج، ولكنْ تنقصه الطاقةُ الداخلية التي تدفعه للعمل في أي وظيفة مهمة. كان يمكن أن يجمعَ الطوابعَ أو العُملات، أو يترجمَ أعمالَ هوراس، أو يُجلِّد الكتب، أو يكتشف نوعًا جديدًا من طحالب الدياتوم. ولكنْ شاء القدر أن يزرع زهورَ الأوركيد ويمتلك صُوبة صغيرة واعدة.

بينما كان يحتسي قهوته وهو يتحرك ويفكر، قال ببطء ذات مرة: «يُخَيَّل إليَّ أن شيئًا ما سيحدث لي اليومَ.»

قالت مديرة منزله التي تربطه بها صلةُ قرابةٍ بعيدة: «أوه! لا تَقُلْ هذا!»؛ حيث كانت عبارةُ «شيئًا ما سيحدث» عبارةً مُخففة لا تعني لها إلا شيئًا واحدًا!

«لقد أسأْتِ فهمي. لم أكن أقصد شيئًا سيِّئًا … رغم أني لا أكاد أعرف بالضبط ما أعنيه.»

ثم أردَفَ، بعد برهةٍ من الصمت: «اليومَ سيبيع متجرُ بيترز مجموعةً من النباتات القادمة من جُزُر أندمان وجُزُر الهند الشرقية. سأذهب وأتفقَّد ما لديهم؛ لعلي أشتري شيئًا رائعًا على غير المتوقَّع. ولعل هذا ما كنتُ أقصده.»

أعطاها قدحَه حتى تملأَه له ثانيةً بالقهوة.

سألَتْه — وهي تملأ قدحَه — قائلةً: «هل هذه هي النباتات التي جمَعَها ذلك الشابُّ المسكين الذي حدثْتَني عنه مؤخرًا؟»

قال: «أجل.» وأخذ يتأمَّل قطعةً من الخبز المحمص.

ثم قال على الفور وقد بدأ يفكِّر بصوتٍ عالٍ: «لا شيءَ يحدث لي مطلقًا! ما السبب في ذلك؟ أشياء كثيرة تحدث للآخَرين. خذي هارفي كمثال؛ الأسبوعَ الماضي وحدَه وجد ستةَ بنسات يوم الإثنين، ومرضَتْ جميعُ دجاجاته الصغيرة يومَ الأربعاء، ووصل ابنُ عمه إلى أرض الوطن عائدًا من أستراليا يومَ الجمعة، وكُسِر كاحله يومَ السبت. يا لها من دوَّامة من الأحداث المثيرة! مقارَنةً بي.»

قالت مديرة منزله: «أظن أنني أفضِّلُ البقاءَ دون هذا القَدْر الكبير من الإثارة. لن يكون هذا في صالحك بأي حالٍ من الأحوال.»

«أعتقد أنه أمر مزعج. ولكن … كما ترين، لا شيءَ يحدث لي مطلقًا. حين كنتُ صبيًّا، لم تقع لي أية حوادث قَط، وحين كبرتُ لم أقع في الحبِّ قَطُّ، ولم أتزوَّج قَط … إنني أتساءل ما الشعور الذي ينتابُكِ حين يَحْدُث لكِ شيء؛ شيءٌ مهمٌّ فعلًا.

لقد كان ذلك الشابُّ جامعُ زهور الأوركيد يبلغ من العمر ستة وثلاثين عامًا فقط — أيْ أصغر مني بعشرين عامًا — عندما مات. تزوَّجَ مرتين وطلَّقَ مرة؛ وأُصِيب بحمى الملاريا أربعَ مرات، وكُسِرتْ فخذه مرة، وقَتل رجلًا من الملايو، وجُرِح بسهم مسموم ذات مرة. وفي النهاية، قتلتْه علقات الغابة. لا بد أن كل هذه الأحداث مزعجة، ولكنها مثيرةٌ للغاية، كما تعلمين، ربما باستثناء العلقات.»

قالت السيدة بنبرةٍ واثقة: «أنا متأكدة أنَّ كلَّ هذه الإثارة لم تكن في صالحه.»

ردَّ قائلًا: «ربما لم تكن كذلك»، ثم نظر إلى ساعته وقال: «الساعة الآن الثامنة وثلاث وعشرون دقيقة. سأسافر بقطار الساعة الثانية عشرة إلا الربع؛ حتى يكون لديَّ متَّسع من الوقت. أظن أنني سأرتدي سترتي المصنوعةَ من صوف الألباكا — الجو دافئ إلى حد ما — وقبعتي الرَّماديةَ المصنوعة من اللباد وحذائي البنيَّ. أظن أن …»

ألقى نظرة عبر النافذة على السماء الصافية والحديقة المنيرة بضوء الشمس، ثم نظر بتوتُّر في وجه قريبته.

قالت بنبرة واثقة: «أظنُّ أنه من الأفضل أن تأخذَ مِظَلَّةً معك إذا كنتَ ستسافر إلى لندن؛ فثَمَّةَ طريقٌ طويل ذهابًا وإيابًا.»

عندما عاد، كان في حالةٍ من الإثارة إلى حدٍّ ما؛ فلقد أتمَّ صفقةَ شراء. كان من النادر أن يتمكَّن من اتخاذ قرارٍ بالشراء بالسرعة الكافية، ولكنه فعَلَ هذه المرة.

قال: «توجد نبتة فاندا ونبتة دندروبيوم وبعض نَبْتات الفالنوبسيس.» تفحَّصَ مشترياته بإعجابٍ أثناء تناوُله الحساء. كانت موضوعةً أمامه على مفرش الطاولة النظيف تمامًا، وحكى لقريبته عنها جميعًا بينما كان يتناول عشاءه على مَهل؛ إذ كان من عادته أن يرويَ تفاصيل جميعِ زياراته إلى لندن في المساء ليسليَ نفسَه وقريبته.

«كنتُ على يقينٍ من أنَّ ثَمَّة شيئًا سيحدث اليومَ، وها أنا قد اشتريتُ كلَّ هذه الأشياء. أنا واثق أنَّ بعضها — بعضها — كما تعلمين، سيكون مدهشًا. لا أعرف كيف سيكون ذلك، ولكني على يقينٍ من أن بعضها سيكون كذلك، كما لو أن أحدهم أخبرني بذلك.»

ثم قال — وهو يشير إلى ساق جذرية أرضية ذابلة: «هذه لم يكن نوعها معروفًا. ربما كانت إحدى زهور الفالنوبسيس، وربما لم تكن كذلك. ربما كانت صنفًا جديدًا، أو حتى نوعًا جديدًا بالكامل. لقد كانت آخِر شيء جمعه باتن المسكين.»

قالت مديرة منزله: «لا يروق لي منظرها؛ إن شكلها قبيح جدًّا.»

«بالنسبة إليَّ، أرى أن لا شكلَ لها تقريبًا.»

قالت مديرة منزله: «لا تروق لي تلك الأشياء البارزة للخارج.»

«لا بد من وضعها غدًا في أَصِيص.»

قالت مديرة المنزل: «تبدو كأنها عنكبوت تتظاهر بالموت.»

ابتسَمَ ويدربيرن وعايَنَ الساقَ الذابلة وهو يميل برأسه جانبًا، ثم أردَفَ قائلًا: «هي قَطْعًا ليست شيئًا جذَّابًا، ولكنكِ لا تستطيعين أبدًا الحُكْمَ على مثل هذه الأشياء من مظهرها الجاف؛ فلعلَّها تتحوَّل إلى زهرةِ أوركيد جميلة جدًّا حقًّا. كم سأكون مشغولًا غدًا! يجب أن أقرِّر الليلةَ ما سأفعله بهذه النباتات بالضبط، وغدًا سأبدأ العمل.»

وسرعان ما أردَفَ قائلًا: «لقد وجدوا باتن المسكين جثة هامدة، أو وجدوه يُحْتَضَر، في مستنقعٍ لأشجار المانجروف — نسيتُ أيَّ واحدٍ كان، وكان يوجد أسفلَ جسده واحدة من زهور الأوركيد هذه وقد سُحِقت تمامًا. كان قد مكث بضعة أيام مريضًا مصابًا بنوعٍ من الحمى المحلية، وأظن أنه فقد الوعي أيضًا. هذه المستنقعات خطيرة جدًّا. قالوا إن علقات الغابة امتصت كل قطرة من دمه حتى مات. ولعل الحصول على هذه النبتة تحديدًا هو ما كلَّفَه حياته.»

«أظن أنه لهذا الأمر تحديدًا لا خير فيها.»

قال ويدربيرن بنبرة جادة عميقة: «يجب على الرجال أن يكدحوا، أما النساء فينتحبن.»

«تخيَّلِ الموتَ بعيدًا عن كل سُبُل الحياة في مستنقع بغيض! تخيَّلِ الإصابةَ بالحمى دون أن يتوافر لك شيء سوى الكلوروداين والكينين — لو تُرِك الرجال بمفردهم لَعاشوا على الكلوروداين والكينين — ولا يوجد أحد حولك سوى السكان المحليِّين البَشِعين! يقولون إن أهالي جُزُر أندمان هم أكثر الناس إثارةً للاشمئزاز؛ وعلى أية حال قد يكون من بينهم ممرِّضون أكْفاء؛ على الرغم من أنهم لا يتلقَّوْن التدريبَ الضروري. وهذه هي الطريقة التي يحصل بها الناس في إنجلترا على زهور الأوركيد!»

«أنا لا أقول إن الأمر سهل، ولكن بعض الرجال يستمتعون بمثل هذه الأشياء. على أية حال، السكان المحليون الذين يعملون معه كانوا على قدرٍ كافٍ من التحضُّر للاعتناء بالمجموعة التي جمعها حتى عاد زميله، عالِم الطيور، من داخل الجُزُر؛ على الرغم من عدم قدرتهم على تحديدِ نوعِ زهرة الأوركيد التي سُحِقت تحته، وتَرْكهم لها حتى ذبلَتْ؛ وهذا ما يجعل هذه الأشياء مثيرةً للاهتمام أكثر.»

«بل يجعلها مثيرةً للاشمئزاز. أخشى أنها تحمل مرضَ الملاريا. فكِّرْ فقط في الأمر؛ فوق هذا الشيء البَشِع كانت توجد جثة إنسان! لم أفكر في ذلك الأمر من قبل، وها أنا أعلن أنني لا أستطيع تناوُلَ لقمةٍ أخرى على العشاء.»

«سأرفعها عن الطاولة إذا كنتِ ترغبين في ذلك، وسأضعها على المقعد المجاور للنافذة. أرى أن وضعها هناك أنسب.»

وعلى مدار الأيام القليلة التالية، انشغل ويدربيرن كثيرًا بصُوبته الصغيرة المُشبَعة بالبخار، وانهمَكَ في إجراء تجارِبه على الفحم النباتي، وفي قطع خشب الساج، والطحالب، وسائر الأشياء الغريبة التي يتعامل معها زارع زهور الأوركيد. ظنَّ أنه يقضي وقتًا حافلًا بالأحداث الرائعة، وفي المساء كان يتحدَّث مع أصدقائه عن زهور الأوركيد الجديدة هذه، وكان يعاوِد الحديثَ مرارًا وتكرارًا عن توقُّعه حدوث شيءٍ غريب.

ماتت عدة نباتات من زهور الفاندا والدندروبيوم خلال رعايته لها، ولكن سُرعانَ ما بدت على زهرة الأوركيد الغريبة علاماتُ الحياة. كان مسرورًا لذلك؛ لذا قاطَعَ مديرة منزله بينما كانت تصنع المربى لكي تأتي لرؤيتها فورًا، وأعلَنَ مباشَرةً عن الاكتشاف.

قال: «ذلك بُرْعم، وسُرعانَ ما سيظهر به الكثير من الأوراق، وتلك الأشياءُ الصغيرة البارزة هنا هي جُذيرات هوائية.»

علَّقَتْ مديرة المنزل قائلةً: «بالنسبة إليَّ، تبدو أشبهَ بأصابع صغيرة بيضاء اللون تبرز وسطَ اللون البني. إنها لا تروق لي.»

«لِمَ؟»

«لا أعرف السبب. تبدو كأنها أصابع تحاوِل الإمساكَ بك. لا حيلةَ لي فيما أحبُّ وأكره.»

«لست متيقنًا؛ ولكني لا «أظن» أنه يوجد أيُّ نوع من زهور الأوركيد التي أعرفها له جُذيرات هوائية كهذه تمامًا. وبالطبع، ربما يكون كلُّ هذا من وَحْي خيالي. تلاحظين أنها مفلطحة قليلًا عند الأطراف.»

قالت مديرة منزله وهي ترتجف فجأةً وتبتعد: «لا تروق لي. أعرف أن هذا سخفٌ مني؛ آسِفة جدًّا، لا سيما أنكَ معجَب بها كثيرًا. ولكنْ لا يسعني التوقُّف عن التفكير في تلك الجثة.»

«ولكن ربما لا تكون هذه النبتة تحديدًا هي السبب في موته. ذلك كان مجرد تخمينٍ من جانبي.»

هزَّتْ مديرة المنزل كتفَيْها قائلةً: «إنها لا تروق لي على أية حال.»

شعر ويدربيرن بالاستياء قليلًا من نفورها من النبتة، ولكن هذا لم يمنعه من الحديث معها عن زهور الأوركيد بوجهٍ عام، وعن هذا النوع من زهور الأوركيد بوجهٍ خاص، متى أحَسَّ بمَيْل إلى ذلك.

ذات يومٍ قال: «ثمة أمورٌ غريبة بخصوص زهور الأوركيد؛ تلك الاحتمالات الخاصة بوقوع مفاجآت. كما تعرفين، لقد درس داروين طريقةَ تلقيحها، وبيَّنَ أن تكوينَ زهرة الأوركيد العادية مصمَّمٌ بحيث تتمكَّن الفراشات من حَمْلِ حبوبِ اللقاح من نَبْتة إلى أخرى. حسنًا، يبدو أن هناك الكثيرَ من أنواع الأوركيد المعروفة التي لا يمكن بأية حال استخدامُ زهورها في التلقيح بهذه الطريقة؛ على سبيل المثال: لا توجد حشراتٌ معروفة يمكنها على الأرجح أن تخصِّب بعضَ نباتات فصيلة السيبريبيديوم؛ فبعضها لا توجد به بذورٌ ألْبَتَّة.»

«ولكنْ كيف تكون نباتات جديدة؟»

«من خلال السيقان الأرضيةِ والدَّرَنات، ونوعٍ من النمو الزائد، وهذا يسهل تفسيره. المعضلة هي: ما وظيفة الزهور إذن؟»

ثم أضاف قائلًا: «من المرجح جدًّا أن تكون نَبتة الأوركيد التي اشتريتُها استثنائيةً على ذلك النحو. وإنْ كان الأمرُ كذلك، فلَسوف أدرسها. لطالما كنتُ أفكِّر في إجراءِ أبحاثٍ مثلما فعَلَ داروين، ولكنْ لم يُتَحْ لي الوقت حتى الآن، أو لعل شيئًا آخَر منعني من ذلك. لقد بدأَتِ الأوراق تتفتَّح الآن، أتمنَّى فعلًا أن تأتي وتشاهديها بنفسك!»

ولكنها قالت إن درجة الحرارة في الصُّوبة عاليةٌ جدًّا، لدرجة أنها كانت تشعر بالصداع داخلَها. لقد شاهَدَتِ النبتةَ مرةً أخرى وتخيَّلَتْ كأنَّ الجُذيرات الهوائية — التي زاد طولُ البعض منها الآن لأكثر من قدم — براثنُ تمتد سعيًا خلف شيءٍ ما؛ ولقد راودتها في أحلامها إذ طاردتها بسرعة مذهلة؛ ومن ثَمَّ، شعرت بارتياحٍ تامٍّ إزاءَ قرارها بعدم رؤيةِ تلك النَّبْتة مرةً أخرى، وتَرْك ويدربيرن يُعجَب بأوراقها وحدَه. كانت الأوراق من النوع العريض المعتاد وذات لون أخضر داكن ولامع، وكانت ذات نُقَط وبُقَع بلونٍ أحمرَ داكنٍ ناحيةَ قاعدة النَّبْتة. لم يكن قد رأى أوراقًا شبيهةً بهذه الأوراق من قبلُ. وُضِعت النَّبْتة على منضدة منخفضة بجوار الترمومتر، وبالقرب منها كان ثَمَّةَ جهازٌ بسيط مكوَّن من صنبور تسقط منه قطرات في مواسير المياه الساخنة ليحافظ على تشبُّع الجو بالبخار. وأصبح ويدربيرن يقضي فترات ما بعد الظهيرة في التأمُّل بانتظامٍ في الإزهار الوشيك لهذه النَّبْتة الغريبة.

وأخيرًا، وقَعَ الحدثُ العظيم؛ فبمجرد أن دخل إلى الصُّوبة الصغيرة، عرف أن السنبلة قد انفجرَتْ، على الرغم من أن «نَبْتة الفالنوبسيس لوي» كانت تحجب الركن الذي تقف فيه نبتته الجديدة الأثيرة. كان ثمة عبقٌ جديد في الجو؛ رائحةٌ فوَّاحة زَكِيَّة طغَتْ على الروائح الأخرى الموجودة في تلك الصُّوبة الصغيرة المزدحمة والمُشبَعة بالبخار.

وما إنْ لاحَظَ الأمرَ حتى أسرَعَ ناحيةَ نبتة الأوركيد الغريبة، ورأى أن السنابل الخضراء الممتدة تحمل الآن ثلاثةَ براعم زهرية كبيرة، تفوح منها تلك الرائحة الجميلة النفَّاذة. توقَّفَ أمامَها بنشوةٍ إعجاب.

كانت الأزهار بيضاءَ اللون ذات خطوطٍ بلونٍ برتقالي ذهبي فوق البَتلات، وكانت البَتلة الضخمة ملتفَّةً في شكل بروز معقَّد؛ ليمتزج اللون الأرجواني المائل للزُّرْقة الرائع مع اللون الذهبي. أدرك على الفور أن هذه النَّبْتة من نوعٍ جديد تمامًا. كم كانت الرائحة نفَّاذة على نحوٍ لا يُحتمل! وكم كان المكان حارًّا! كانت الأزهار وكأنها تسبح أمام عينَيْه.

كان عليه أن يتحقَّق من أن درجة الحرارة مناسبة؛ فاتجه نحو الترمومتر. وفجأةً بَدَا كلُّ شيء في حالةٍ من عدم الاستقرار. كان بلاط الأرضية يتراقص صعودًا وهبوطًا، ثم بَدَتِ الأزهار البيضاء والأوراق الخضراء الموجودة خلفها والصُّوبة بأكملها تتمايل جانبيًّا، ثم في منحنًى صاعد.

•••

في الساعة الرابعة والنصف، أعَدَّتْ قريبته الشاي، كما هي عادتهما، إلا أن ويدربيرن لم يأتِ لتناوُل الشاي.

قالتْ في نفسها: «إنه مفتونٌ بشدة بنَبْتة الأوركيد البغيضة هذه.» ثم انتظرت لعشر دقائق أخرى وقالت: «لا بد أن ساعته قد تعطَّلَتْ. سأذهب لأنادي عليه.»

توجَّهَتْ مباشَرةً نحو الصُّوبة وفتحَتِ الباب ونادت عليه. لم يأتِها رد. لاحظَتْ أن الهواء مكتومٌ للغاية ومُشبَع برائحةٍ نفَّاذة، ثم شاهدت شيئًا ملقًى على الأرض وسطَ مواسير المياه الساخنة.

تسمَّرَتْ في مكانها بلا حَراك، ربما لدقيقة.

كان ويدربيرن ملقًى على ظهره ووجهه لأعلى بجانب نَبْتة الأوركيد الغريبة. لم تَعُدِ الجُذيرات الهوائية الشبيهة بالبراثن تتأرجح بحُرِّيةٍ في الهواء، ولكنها كانت محتشِدةً جميعًا في مكان واحد على هيئةِ جديلةٍ متشابكة من الأحبال الرَّمادية اللون الممتدة بإحكامٍ لتقبضَ بأطرافها على ذقنه ورقبته ويدَيْه.

لم تفهم شيئًا، ثم رأت خيطًا صغيرًا من الدماء يسيل أسفلَ واحدٍ من البراثن الممتدة عبر وَجْنته.

وبصرخةٍ مكتومة ركضَتْ نحوه، وحاولَتْ أن تجذبه بعيدًا عن البراثن الماصَّة الشبيهة بالعلقات. انتزعَتِ اثنين من هذه البراثن؛ حيث كان يسيل منهما عصارة حمراء اللون.

ثم بدأَتِ الرائحة النفَّاذة للزهور تُشعِرها بدوارٍ. عرفَتْ كيف أمسكَتْ هذه البراثن به. مزَّقَتِ الأحبالَ الغليظة وانزلَقَ ويدربيرن والزهرة البيضاء نحوها. شعرَتْ بأنها تفقد الوعي وأدركَتْ أنها يجب ألَّا تفعل؛ فتركَتْه وفتحت بسرعة أقربَ باب، وبعد أن التقطَتْ أنفاسَها لدقيقة في الهواء الطَّلْق، جاءتها فكرةٌ ذكية؛ أمسكَتْ بأَصِيص زهور وهشَّمَتِ النوافذَ الموجودة في مؤخرة الصُّوبة، ثم دخلت مرةً أخرى، وبقوةٍ متجدِّدة سحبَتْ جسدَ ويدربيرن الهامد، وسحقَتْ نبتةَ الأوركيد الغريبة على الأرض، وكانت لا تزال تتشبث بضحيتها بعنادٍ شديدِ الشراسة. وفي حالةٍ من الاهتياج، جرَّتْها وجرَّتْه بمشقَّة إلى الهواء الطَّلْق.

ثم فكَّرت في تمزيقِ الجُذيرات الماصَّة الواحد تلو الآخَر، وفي الدقيقة التالية كانت قد حرَّرَتْه وسحبته بعيدًا عن هذا الرعب.

كان شاحبًا ينزف من عشرات الرُّقَع الدائرية.

دخل العاملُ المكلَّف بالقيام بالأعمال المنزلية الحديقةَ مذهولًا من تحطم الزجاج، ورآها تخرج وهي تسحب الجثةَ الهامدة ويداها ملطَّختان بالدماء. ولِلَحظةٍ، خطَرَت بباله أمورٌ مستحيلة.

صاحَتْ بصوت بدَّد أوهامَه، قائلةً: «أحضِرْ بعضَ الماء!» وعندما عاد بالماء — بسرعةٍ بالغة — وجدها تبكي بانفعالٍ ورأسُ ويدربيرن على ركبتها وقد أخذَتْ تمسح الدم عن وجهه.

قال ويدربيرن وهو يفتح عينَيْه في وهنٍ ويُغلِقهما مجددًا في الحال: «ما الخطب؟»

قالت للعامل بمجرد أن أحضَرَ الماء: «اذهبْ واطلبْ من آني أن تأتي إليَّ، ثم اذهبْ وأحضِرِ الدكتور هادون على الفور.» ثم أضافَتْ قائلةً حين رأته متردِّدًا: «سأخبرك بكل شيء عندما تعود.»

سُرعانَ ما فتح ويدربيرن عينَيْه ثانيةً، وما إنْ لاحظَتْ أنه انزعَجَ من وضعه المُربِك، حتى فسَّرَتْ له الأمرَ قائلةً: «لقد فقدتَ الوعي في الصُّوبة.»

– «وماذا عن نَبْتة الأوركيد؟»

قالت: «سأتولَّى أمرَها.»

لقد فقد ويدربيرن كَمِّيَّةً كبيرة من الدماء، وباستثناء ذلك لم يتعرَّض لإصابة بالغة. أعطَوْه بعضَ البراندي المخلوط بقدرٍ من عصارة اللحم الوردية اللون، وحملوه إلى الفراش في الطابق العلوي. حكَتْ مديرةُ المنزل قصتَها الغريبة للدكتور هادون على أجزاء، ثم قالت له: «تعالَ إلى الصُّوبة وشاهِدْ بنفسك.»

كان الهواء الخارجي البارد يهبُّ عبر الباب المفتوح، والرائحةُ النفاذة قد تبدَّدت تقريبًا، وكان معظم الجُذيرات الهوائية الممزَّقة ملقًى ذابلًا بالفعل وسطَ عدة بُقَع داكنة فوق البلاط. كانت ساق الزهرة مكسورةً من جرَّاء سقوط النبتة، وكانت الزهور تنمو رخوةً وبنيَّةَ اللون عند حواف البَتلات. مال الطبيبُ ناحيتَها، ثم رأى أنَّ واحدًا من الجُذيرات الهوائية لا يزال يتحرك بوهن؛ ومن ثَمَّ تردد.

وفي صباح اليوم التالي، كانت نبتة الأوركيد الغريبة لا تزال ملقاةً على الأرضية هناك، وقد صارت الآن سوداءَ اللون ومتعفنة. تأرجح البابُ جيئةً وذهابًا مع نسيم الصباح، وكانت مجموعة زهور الأوركيد الخاصة بويدربيرن جميعها قد ذبلت وافترشت الأرض. ولكنْ في الطابق العلوي كان ويدربيرن نفسه مرحًا يثرثر كثيرًا حول مغامرته الغريبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤