مقدمة

كتابة على الأرض

محمد مستجاب

أربعة ظللت أخشاهم دهورًا: سيدنا محمد عثمان شيخ الكُتَّاب، خالي أحمد خميس ناظر مدرسة النصارى، عِفريت كان يداهمني بين ليلة وأخرى أثناء تسللي إلى غيط طماطم الجيران ليلًا، وامرأة كانت تفتح عينها وترفع حاجبها تحديًا وهي تخطو فوق العتبة لتدخل إلى واحد من أثرياء بلدتنا دون اهتمام بمشاعرنا، وخامسهم السعدني — محمود — هذا الذي جذب القصة من بين آهات يوسف السباعي، ونوافذ حارة نجيب محفوظ، وإنسانية محمود البدوي، وحزن يوسف إدريس المرير؛ جذبها من شعرها — هذه القصة المكتوبة في الورق المسطور — وألقى بها على أرضية الشارع المكفهر لتتلوى صارخة ضاحكة تتلاطم مع محلات الكفتة ولحمة الراس والممبار ولفائف البطولة الصارخة الواهنة، وسَحَب اللغة الرصينة الدافئة المنظمة من بين جدران أساليب المنفلوطي وأمين الخولي وطه حسين، وخلع عنها أرْدِيَتَها لتجري عارية واقعية في شوارع الجيزة والأحراش المبكرة لشارع الهرم، وجعلها — إن أراد أن تبدو لامعة — تجلس بعض الوقت تداعب بأقدامها الحافية تيارات ناعمة من مياه البحر الأعظم، ثم يسامر اللغة — آخر الليل — على قهوة كتكوت، لتفرز أنواعًا من السلوك الواقعي الحقيقي لشعب ظل الكثير من المعبرين عنه يؤلفون له ما لا يعرفه — هذا الشعب — أبدًا.

كنت ريفيًّا أتلهف على قراءة ما أستطيع الوصول إليه من أوراق، حينما عاد محمود السعدني من الجزائر لينشر تحقيقاته المتفردة عن ثورتها. ظل أيامها يثابر (يهابر أفضل) كي يجد طريقًا للخروج عما هو معهود من السياق اللغوي والمعاني الجميلة. وخلال ذلك، أو قبل ذلك، قرأت له أقاصيص في مجلة التحرير أو الرسالة الجديدة — فيما أعتقد، وكان من بينها — والاعتماد هنا على الذاكرة الصبيانية الرائقة — قصة «جنة رضوان» التي حملت فيما بعدُ عنوان مجموعة كاملة، لكن الأخطر من كل ذلك أنه — بعد ذلك بسنوات — كتب روايته الحلوة الشائكة الواخزة «حتى يعود القمر»، بالطبع كانت الرواية على غير النسق والمعاني المعهودة السائرة والسارية أيامها، فقد فتح السعدني بطن الواقع الذي كانت اللافتات والشعارات والمكتوبات من قصص ومقالات وروايات قد جهلته (لم أقل تجاهلته). كانت حروب الفدائيين ضد الإنجليز في معسكرات القنال قد استولت — بطبيعة الأمر — على عواطفنا فور إلغاء المعاهدة الشهيرة بالصداقة، وهو ما أثبت قدرة هذا الشعب المصري (أيامها) على الصلابة والقدرة والتحمل، ووقع شهداء من كافة الفصائل مدنيين وشرطة، مما أدى إلى ثورات عارمة في الشوارع — في كافة البلاد — تندد بالنظام الخائن والملك الخائن، حتى وصل الأمر إلى حرائق القاهرة الشهيرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م، وخلال اضطرابات سياسية وتغييرات وزارية واعتقالات ثورية، قام عبد الناصر بانقلابه المعبر عن هذه الثورة (وأنا أميل إلى الإنصات إلى استنتاج يشير إلى أن عبد الناصر قطع الطريق على ثورة شيوعية)، وكل ما كُتِبَ من موضوعات أو تنظيرات لم تومئ أبدًا أو تكتشفْ أو تَغُصْ في أتون النار الذي اشتعل في قناة السويس أثناء حرب الفدائيين، فالحس الشعبي بالذات ظل خاضعًا للشعارات والعاطفة الوطنية أكثر من الإمعان في فلسفة السلوك الشعبي في أرض الموقعة ذاتها، وكان مدهشًا لدرجة تثير اضطرابي الصبياني أن أجد في رواية السعدني «حتى يعود القمر» آدميين يجعجعون صارخين بالشجاعة مقابل هؤلاء الأبطال الذين استُشهِدوا بالفعل، إنهم أناس من الواقع الفعلي الذي يقع في شباك السلوك العفوي التلقائي من حداقة (وصف للرجل الحدق الذي يبدو فاهمًا) وحركات فتونة وتراقص واستذكاء خلال عمليات تهريب السلاح للفدائيين أو إيوائهم. كانت طبيعة الناس تتفسخ في الرواية كاشفة عن أمور لا نحب نحن الكتَّاب أن نتورط فيها عادة، وهي ثورة تعبير لم يدركها أحد من النقاد حتى الآن، أدركتها وحدي، وكانت من بين أسباب اقتحامي الشخصي لهذه المعاني والمُثُل التي يصمم كتَّابنا أن يحافظوا عليها معتقدين أنها تصنع المجد الشعبي العظيم.

ولم يغب السعدني عن بالي أبدًا، كنت قد كبِرت وظللت — في تلك السنوات المريرة الطويلة — أبحث عن عمل دون إهمال في الوقوع داخل حُفر الغرام الملتهب بين مرارة وأخرى، لكني ظللت مع السعدني في مواقعه المبكرة مع لويس عوض ومأمون الشناوي، وشاركته أسى اصطدامه بيوسف السباعي أيام علاج طفلته الغالية «هالة»، وما صاحب ذلك من مرارة الواقع المصري، وظللت أتقلب بين رُبًا وتِلالٍ ووِهادٍ ووِديانٍ وجُزرٍ وخراباتٍ وحدائقَ وسجونٍ ومطاعمَ ومجالسِ تحشيشٍ وشُربِ بوظة ومتاجرةٍ في شعارات، العالم عنده يتسع ويتسع حتى يملأ حارة بالجوعى، ثم يضيق ويضيق حتى يختنق بين قارة أفريقيا، الواقع هو سيد الموقف، والحس الشعبي الغامر هو رقصة الزار الصاخبة التي بسببها سُجِنَ واعتُقِل هذا الكاتب الجميل المتفرد، في كافة العصور، ولاذ بعثمان أحمد عثمان في «المقاولون العرب»، ثم هرب إلى لندن (وبالمناسبة كان يصدر مجلة ٢٣ يوليو أو يكتب فيها خلال تلك السنوات التي تَكارَهَ فيها مع السادات)، ثم إلى الخليج، حياة تبدو مترفة بالمرارة والغربة والحزن الذي يكوي سراديب العقل والفؤاد، حيث ينتهي الأمر — كل الأمر — في طاسة تعبَق برائحة الكبدة المحمرة بالبقدونس، وقد حاصرتها جدران المعتقلات؛ الحوائط والكلمات.

وظلت خطوطي مع السعدني تتوازى (الخطوط وليست الحياة ذاتها)، اشتغلت في السد العالي (وبالمناسبة كنت في شركة عثمان) وعدت إلى القاهرة لأتزوج وأظل سنوات طويلة في مجمع اللغة العربية، وأقرأ السعدني، وأشارك في مهاجمة السعدني، وأفتح بطنه، وأقلب تجاربه، وأزداد به حبًّا وانتقادًا وسخرية.

•••

منذ شهور — قد تتجاوز العام — جاءني صوته الشارخ في التليفون: واد يا مستجاب … عاوز أشوفك.

وتوجهت إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤