الفصل الخامس عشر

عزيزة وطلبة!

غابت شلة الأدباء عن قهوة كتكوت ثلاثة أيام كاملة. لم يعرف أحد سبب غيابهم، ولكن المعلم كتكوت تصور أن غيابهم كان وراءه تصرف الواد ريعو مع الأستاذ طلبة. وانتهز المعلم فرصة تعثر الواد ريعو وسقوط الصينية التي كان يحملها على كفه وتحطم ما عليها من أكواب، واندفع المعلم نحوه كالثور الهائج ولطمه لطمة شديدة على وجهه جعلت الشرر يتطاير من عين ريعو.

وقال له المعلم وهو يسب الأخضرين: شاطر تطفش الزباين وكمان تكسر الكوبيات، ما تغور في داهية يا أخي وتريحني من وشك.

وانزوى ريعو خلف باب القهوة مُخفيًا عينه المتورمة بقبضة يده.

وتركه المعلم في وقفته ولم يبد أي اهتمام به، وراح يحمل الطلبات بنفسه إلى الزبائن. ولما شعر بالتعب واستبد به الغيظ توجه نحو مخبأ الواد ريعو، وفي نيته ضربه علقة من النوع الذي أوصى به سيدي حسان اليماني، ولكن دهشته كانت كبيرة عندما لم يجد ريعو خلف الباب، وخطف المعلم نظرة خاصة على القهوة كلها ولم يلمح أي أثر لريعو، فاقتحم النصبة وفتشها وفتش المخزن الملحق بها، ولم يعثر على ريعو، ووقف المعلم عند باب النصبة وراح يضرب كفًّا بكف ويتساءل بصوت عالٍ: راح فين ده؟ الأرض بلعته. ثم قال مهددًا: طيب يا ريعو الكلب، بس لما عيني تقع عليك!

عانى المعلم كتكوت كثيرًا بعد غياب الواد ريعو … ولام المعلم نفسه بشدة عندما عادت شلة الأدباء إلى القهوة، واكتشف أن غيابهم لم يكن له علاقة بما وقع بين الأستاذ طلبة وريعو. واستعان المعلم بزبون للقهوة أبدى رغبته في المساعدة، وهو موظف سابق على المعاش، وكان عليه دين للقهوة بلغ عدة جنيهات فشل في تدبيره عدة شهور، ولعله وجدها مناسبة لإرضاء المعلم، وفي الوقت نفسه كانت فرصة له لمعاودة شرب الشاي الذي حرم نفسه منه فترة طويلة، وبالطبع لم يكن أحد يضيف ثمن هذا الشاي على الحساب القديم، وعندما طلب منه المعلم أن يستريح شاكرًا له خدماته، رد بانفعال: أنت يا معلم طول عمرك بتخدم الناس، فيها إيه لما نخدمك.

ولكن لا المعلم ولا الموظف المتطوع نجحا في سد الفراغ الذي تركه الواد ريعو. ولذلك قرر المعلم آخر الليل أن يدوس على كبريائه وأن يذهب في الصباح إلى حيث يسكن ريعو ليجره من يده إلى القهوة، حتى لو اضطُر المعلم إلى لطع بوسة على رأس الواد ريعو، والاعتذار له عما بدر منه!

في الصباح الباكر شق المعلم طريقه عبر شارع عباس إلى «المقلب»، وراح يغوص في تلال الزبالة، بينما سد منخريه بأصابعه ليبعد عنه الروائح الخبيثة المنبعثة من المكان. وبعد أن دق على الباب عدة دقات أوجعته راح ينادي بصوت عالٍ على الواد ريعو، ولكنه لم يتلق جوابًا على الإطلاق. وفي النهاية أطلت الحاجَّة صاحبة البيت وأبلغت المعلم بأن الواد ريعو لم يحضر إلى البيت منذ عدة أيام، وعبثًا حاول المعلم أن يعرف من الحاجَّة أي معلومة عن المكان الذي ذهب إليه ريعو، ولكن دون جدوى. عاد المعلم أدراجه مخترقًا نفس الطريق الذي سلكه في الصباح، وشعر بالغيظ الشديد يأكل قلبه، لقد خذله الواد ريعو وأنكر فضله، فهو الذي التقطه من الشارع، وهو الذي سمح له بالمبيت في القهوة عوضًا عن الشارع، ثم علمه صنعته التي احترفها بعد ذلك. ولكن أين يعثر على ريعو الآن؟ وما العمل لضمان حسن سير العمل في القهوة؟

تحولت مشكلة ريعو إلى مشكلة عامة، حتى شلة الأدباء قضوا السهرة كلها في الحديث عن مشكلة ريعو، ووصفها الشيخ شهاب بأنها مشكلة حقيقية تعاني منها مصر كلها في الأزمنة الحديثة، وقال إنه في شبابه اعتاد القعود على قهوة المعلم السروجي، وخلال عام واحد تعامل مع ثلاثين جرسونًا بواقع ثلاثة جرسونات كل شهر. وكانت أي غلطة يرتكبها الجرسون تؤدي إلى فصله. وكانت يومية الجرسون عشرة قروش، والوردية تستغرق ۱۲ ساعة، وأحيانًا أكثر. ومع ذلك كان الجرسون يقضي وقتًا طويلًا أمام المعلم يستعطفه ويتوسل إليه أن يبقيه في العمل. كان العاطلون على قفا من يشيل، وكان من بينهم من يقبل أجرًا أقل من عشرة قروش في اليوم. اليوم تغيرت الأحوال وأصبح العامل هو سيد الموقف، وأصبح المعلم هو الذي يستعطف العامل ويتوسل إليه. وختم الشيخ شهاب حديثه قائلًا: إنها علامة من علامات الآخرة.

ولم يكن غياب الواد ريعو فقط هو الذي أدى إلى هذا الانقلاب في روتين قهوة كتكوت، ولكن غياب الأستاذ طلبة هو الآخر لفت إليه الأنظار، خصوصًا في محيط شلة الأدباء. فمنذ ذهب الأستاذ طلبة غاضبًا من تصرفات الواد ريعو لم يقع بصر أحد عليه، حتى الأستاذ الشيخ شهاب مر عليه في منزله ذات يوم ودق عليه الباب ولكنه لم يتلق جوابًا، ولم يعطه البواب جوابًا شافيًا عن السر في غيابه. وإذا كان غياب الواد ريعو مبرَّرًا بسبب اعتداء المعلم عليه وعلى مشهد من الزبائن، فما السر في غياب الأستاذ طلبة؟ هل تصرف ريعو معه يؤدي إلى قطيعة نهائية بينه وبين القهوة؟

يا لها من أيام أسود من قرون الخروب مرت على المعلم كتكوت، في كل يوم يظهر في القهوة جرسون جديد، ويمضي اليوم كلشنكان، ولكن في المساء تدب الخناقة بين الجرسون والمعلم كتكوت. صابر حسنين لم يحتمل ملاحظة أبداها المعلم فخلع الفوطة وترك القهوة وأسرع إلى الشارع وغاب في الزحام. ولكن تصرف الواد حسنين كان مختلفًا، عندما صرخ المعلم كتكوت في وجهه طالبًا منه في لهجة آمرة: ما تتلحلح يا واد وانت واقف زي الحمار المجروح كده والزباين قطعت إيديها م التسقيف.

رد الواد حسنين قائلًا: أنا مش حمار يا معلم، أنا بني آدم زيك، وعيب تقل أدبك قدام الزباين. ورد المعلم وعلامات الشر بادية على وجهه: أنت بترد عليَّ يا واد؟

– بقولك إيه؟ فوق لنفسك، أنت راجل كبير في السن واحفظ أدبك، ورب الكعبة أخلِّي اللي ما يشتري يتفرج عليك.

عند هذا الحد لم يستطع المعلم السيطرة على نفسه، اندفع نحو الواد حسنين ولطمه على وجهه لطمة قوية، وفي غمضة عين كان الواد حسنين قد حمل المعلم بين ذراعيه وألقى به على الأرض، ثم خلع الفوطة ورماها على المعلم الممدد على الأرض، ثم بصق عليه وغادر القهوة وهو يبرطم بكلام غير مفهوم. وضع المعلم كتكوت ذراعه في الجبس بعد هذه «الوقعة» التي حطمت عظام جسمه، واكتفى بالقعود على مقعد مريح على رصيف القهوة، وتغيرت أحواله فلم يعد يتدخل في أي موضوع، ولم يعد يتكلم مع الآخرين. ولكن حدث بعد شهر من كسر ذراعه ما جعل المعلم كتكوت يعود إلى طبيعته المشاغبة، فقد جاء عبد الحفيظ إلى القهوة ليعمل جرسونًا ليوم واحد، وهمس في أذن المعلم بسر خطير … إن الولد ريعو هرب مع البنت عزيزة وتزوجا ونزحا إلى الإسكندرية حيث يعمل ريعو في مقهًى شهير هناك، ويعيش الزوجان معًا في حي غيط العنب. يا الله لم يلتفت أحد إلى غياب البنت عزيزة بياعة اليانصيب، ولم يربط أحد في القهوة بين غيابها وهروب الواد ريعو. ثلاثة أيام كاملة والمعلم يهذي كالمجنون … وهو يدور حول نفسه فوق رصيف القهوة: صحيح، تربي الكلب ينفعك، تربي البني آدم يقلعك!

قال له الشيخ شهاب ذات مرة: وناوي تعمل إيه يا معلم؟ هتفضل تولول كده زي الأرملة.

– هو مين؟ دا انا هاجيبه لو كان في بطن أمه.

كان واضحًا أنه يقول هذا الكلام من غلبه، وأنه رجل عاجز وغلبان ومهزوم أيضًا، وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى الانتظار والكلام. ولكن الموظف السابق الذي عمل جرسونًا في وقت سابق، ليضمن الحصول على الشاي، قعد مع المعلم ذات صباح وأقنعه بأنه قادر على الوصول إلى المقهى الذي لجأ إليه الواد ريعو وزوجته.

– ما دام قاعد في غيط العنب يبقى اطمئن يا معلم.

تساءل المعلم في لهفة: إزاي يعني؟

– ما هو أنا في مبدأ حياتي اشتغلت في اسكندرية وسكنت في غيط العنب، وأعرف كل الناس هناك، ويبقى حظنا كويس لو كان المعلم أبو عوف لسه عايش.

– مين أبو عوف دا؟

– دا راجل زي حضرتك كده، الناس كلها تهابه وتعمل له ألف حساب، زي ما تقول فتوة غيط العنب يعني، وراجل طيب ويخدم الناس لوجه الله، لو كان عايش هيجيبه من تحت طقاطيق الأرض.

– وأنت تعرفه الراجل ده؟

– دا صاحبي الروح بالروح، ما كانش يقعد ولا يشرب الشاي ولا يفطر الصبح بدري إلا مع محسوبك.

– طيب انت فاضي تيجي معايا المشوار ده.

فكر الموظف السابق بعض الوقت ثم قال: وحتى لو مشغول أفضي نفسي عشانك يا معلم.

واتفق المعلم كتكوت والموظف السابق على السفر إلى الإسكندرية. ولكن قبل يوم واحد من السفر فاجأ المعلم كتكوت الموظف السابق بأنه صرف النظر عن السفر معه إلى الإسكندرية لأنه يحتاجه فيما هو أهم من السفر. وتساءل الموظف السابق: خير يا معلم؟

– أنا مش هلاقي أحسن منك ياخد باله م القهوة.

– مش فاهم يا معلم.

– ما انت عارف … أنا واحداني لا ورايا ولا قدامي، هسيب القهوة وأمشى هتتاكل، والناس ما بقاش في قلوبهم رحمة، وأنت عارف الزباين وعارف العيال اللي شغالين في النصبة، أنت أقعد باشر القهوة وهاديلك خمسة جنيهات كل يوم.

– من غير فلوس يا معلم، بس انت عارف الدنيا بقت غالية أد إيه، وع العموم أنا خدامك. بس برضه عاوز أقولك إن سفري معاك كان أحسن.

– أنا أصلي من غير مؤاخذة قابلت الضابط مصطفى شمعة اللي كان في المباحث هنا في الجيزة، ودلوقت هو في اسكندرية، ولما عرف حكاية الواد ريعو والبنت عزيزة قاللي تعالالي اسكندرية وانا هاجيبولك. وفعلًا خد مني صورته واسمه بالكامل ونمرة البطاقة بتاعته، وإن شاء الله ربنا هيكرمني.

غادر المعلم كتكوت مصر إلى الإسكندرية، وقعد الموظف السابق مكان المعلم يدير القهوة بطريقة أفضل، وغاب المعلم عدة أيام قبل أن يعود إلى الجيزة، ولكنه عاد وقفاه يقمر عيش كما وصفه عم عبده الصنايعي الذي يباشر العمل في النصبة.

– وعملت إيه يا معلم في اسكندرية؟

– الراجل الظابط كتر ألف خيره عمل بأصله. بس الواد ريعو مالوش وجود في غيط العنب ولا في اسكندرية كلها، يظهر الواد اللي نقل لنا الخبر دا كداب.

– وناوي تسكت يا معلم؟

– مين دا؟ هو هيروح مني فين، دا لو كان عند العفاريت الزرق برضه هاجيبه.

طلب المعلم من الموظف السابق أن يواصل مهمة الإشراف على القهوة لأنه قرر التفرغ للبحث عن ريعو، وبالفعل خطف رجله في اليوم التالي إلى بيت عزيزة، والتقى مع أبيها الذي كانت رائحة البوظة تفوح منه، وعندما سأله عن عزيزة هب صارخًا: ماعنديش بنات هنا وماليش بنت اسمها عزيزة.

– أصل أنا سمعت إنها.

وقاطعه والد عزيزة بحركة عصبية قائلًا: مش عاوز اسمع أي حكاية عن عزيزة، وانا ما عرفش حد اسمه عزيزة، ولا كان عندي حد اسمه عزيزة … وكفاية كده يا معلم بقى، عشان أنا اللي دهاني مكفيني.

لم يستطع المعلم أن يصل مع والد عزيزة إلى شيء، فآثر السلامة وعاد إلى القهوة وقد تأكد أن الأبواب كلها مغلقة، وأن الواد ريعو اختفى من حياته إلى الأبد. ولكن الجرسون عبد الحفيظ الذي همس في أذن المعلم ذات صباح بأن ريعو والبنت عزيزة في غيط العنب، جاء إلى القهوة مرة أخرى حاملًا نبأً جديدًا ومثيرًا.

– البنت عزيزة يا معلم بتيجي تشوف أهلها أول كل شهر. وبتيجي يا معلم شايلة ومبضعة ولابسة موضة وحالتها معدن خالص.

لم يكذب المعلم الخبر، فقرر أن يرابط عند أحد البقالين أصدقائه بالقرب من مسكن أسرة عزيزة. وثلاثة أيام كاملة والمعلم مربوط على مقعد أمام البقالة مدعيًا للبقال صديقه أن الولد ريعو لهف إيراد القهوة لمدة شهر كامل وفص ملح وداب. وكاد يفقد الأمل في العثور على عزيزة، ولكن ربنا أراد للمعلم أن ينجح في مسعاه في آخر لحظة، فقد ظهرت البنت ثالث يوم في الشهر. ويا سبحان الله … كم تغيرت عزيزة. الذي لا يعرف أصلها يتصور أنها بنت ذوات أو خواجاية. وجاءت تحمل أشياء كثيرة. ولكن هل تغيرت أحوال ريعو إلى هذا الحد؟ ودخلت عزيزة إلى الإسطبل الذي تقيم فيه وغابت طويلًا. ولم تخرج إلا بعد غروب الشمس، وخرج خلفها الرجل الدنف أبوها، ولكنه لم يصاحبها أكثر من عدة خطوات ثم تركها وعاد إلى الإسطبل من جديد.

ونهض المعلم كتكوت وتعقب عزيزة، اخترقت شارع عباس ثم انحرفت ناصية سينما الفانتازيو، ثم خرجت إلى شارع الترماي ومرت أمام قهوة سان سوسي، ثم دخلت القهوة من الباب المطل على شارع المدارس وخرجت من الباب المفتوح على شارع مراد، وانحرفت يسارًا في طريقها إلى حديقة الحيوان.

وقبل أن تقطع مسافة كبيرة لحق بها أحد الأفندية وتبادلا الحديث ثم راحا يقطعان الطريق معًا. وأسرع المعلم كتكوت وراءهما حتى لحق بهما … يا قوة الله … مين؟ الأستاذ طلبة … طلبة وعزيزة! لقد كان ينتظر ريعو وعزيزة، ولكن ها هي الحقيقة أمامه عارية بلا غطاء، الأستاذ طلبة وعزيزة، وعزيزة أصبحت أنثى تؤكل مقشرة ولا اللوز الحلبي. ولكن ما العمل الآن؟ هل يمسك بتلابيب عزيزة؟ وما علاقته بعزيزة؟ ثم ما علاقة عزيزة بالأستاذ طلبة؟ هل هو زوجها؟ هذه كلها حقائق لا بد من معرفتها جيدًا قبل الإقدام على أي خطوة من هذا النوع؟ المهم أن المعلم تعقب عزيزة وطلبة حتى اختفيا داخل عمارة على شاطئ النيل بالمنيل. وانفجر خبر عزيزة وطلبة في قهوة كتكوت كالقنبلة، وأعلن الشيخ شهاب عن عزمه لزيارة طلبة لكشف حقيقة الأمر، وعلق الشاعر خميس على الموضوع ساخرًا: يظهر إن عزيزة قرأت كتاب الأستاذ طلبة فوقعت في غرام الأستاذ من أول سطر.

وقال الأستاذ عجماوي: ما حدث ليس الأول من نوعه … فقد تزوج الفنان المبدع تولوز لوتريلي من بنت بياعة خضار في سوق باريس، وتزوج الشاعر الإنجليزي الكبير بيرون من بنت كانت تقدم الخمور لرواد بار بائس في أثينا. فما هو الغريب في ارتباط طلبة وعزيزة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤