الفصل الرابع

عودة خطَّاب!

لم تتحقق تنبؤات المعلم كتكوت، فسرعان ما عاد خطَّاب أفندي إلى الاتحاد القومي. كان الاتحاد القومي خطوة أكثر وضوحًا من منظمة التحرير، كان اتحادًا بين جميع الطبقات؛ العمال وأصحاب الأعمال، الفلاحين وأصحاب الأطيان، المستأجرين وأصحاب البيوت؛ كان ائتلافًا تقدره السلطة، ويسيطر على المراكز الحساسة فيه الضباط الأحرار، وبالرغم من أن عودة خطَّاب أفندي كانت متواضعة؛ لأن قيادة الاتحاد في الجيزة كانت في يد أحد أبناء العائلات الثرية في المدينة، وكان على معرفة بالناس وبأقدارهم، ولذلك استقبل خطَّاب أفندي بفتور، ولكن من حسن حظ خطَّاب أفندي أنه كان زميلًا للرجل الثري في الحزب السعدي، ولذلك خصص له مكتبًا صغيرًا بالقرب من الباب … ولما كان خطَّاب أفندي قد عمل فترة من الوقت مدرسًا في بعض القرى القريبة من الجيزة، فقد كانت حجرته الصغيرة تضيق أحيانًا بالعُمَد والمشايخ، وهو الأمر الذي جعله يرتفع في عين المسئول عن العمل السياسي بالجيزة، لدرجة أنه كان يستعين به في عقد الندوات والمؤتمرات في القرى المحيطة بالجيزة، وهي ندوات كانت أشبه بسهرات طيبة في بيوت العمد والمشايخ، وكان الحوار يدور حول موائد الطعام الدسم، حيث كانت الموائد الممدودة تضم كل خيرات الريف.

ولكن عودة خطَّاب أفندي كان لها صدى بعيد في قهوة كتكوت، وكان أول المهنئين هو المعلم كتكوت نفسه والولد ريعو، وفي أول زيارة لهما في مكتب خطَّاب أفندي، انحنى المعلم على يد الأفندي في محاولة لتقبيلها، ولكن الأفندي سحب يده مستغفرًا ربه، واكتفى بغمز المعلم بطريقة ساخرة: مش أنا يا معلم اللي راحت عليه زي بديعة؟!

ورد المعلم قائلًا: يا باشا ما تدقش على الكلام، خصوصًا ساعة غضب، والشيطان شاطر وربنا يجازي اللي كانوا السبب.

وتساءل خطَّاب أفندي: ومين همة دول؟

وصاح الولد ريعو بدون وعي: قطط سود ولها ذنب!

وبدا على خطَّاب أفندي أنه قبل اعتذار المعلم كتكوت، ولكنه اعتذر عن زيارة القهوة لأنه مشغول حبتين، ووعد بالتردد على القهوة في فترة قادمة.

وعندما ضاقت حجرته الصغيرة بزواره من العمد والأعيان، طلب إعداد مكتب أكبر، ولكن المسئول اعتذر لخطَّاب قائلًا له: «عد غنمك يا جحا.» وانتهزها خطَّاب فرصة فطلب السماح له باتخاذ قهوة كتكوت محلًّا مختارًا له، ووجد المسئول في قهوة كتكوت حلًّا للمشكلة فوافق على الفور. عادت أيام خطَّاب أفندي في قهوة كتكوت مع اختلاف في الصنف، كان المترددون عليه من العمد والمشايخ وأصحاب العزب، وكانوا أثرياء فعلًا وأسخياء أيضًا. مما جعل الولد ريعو لا يبتعد كثيرًا عن المكان الذي يجلس فيه خطَّاب أفندي. وأخذت الاتفاقية القديمة طريقها إلى التطبيق مع فروق شديدة … المعلم يرفع السعر على المترددين الأثرياء، وخطَّاب أفندي يقبض المعلوم شهريًّا، وكان المعلوم لا بأس به، فقد وصل إلى أربعين جنيهًا شهريًّا!

وهكذا حلَّقت السعادة فوق رءوس الجميع … خطَّاب أفندي والمعلم كتكوت والولد ريعو. ولكن على رأي المثل: «يا قاعدين في حالكم المصايب جيالكم!» فجأة وقع حادث لم يكن على البال؛ وقع الانفصال بين شطري الجمهورية العربية المتحدة، واعتكف المسئول عن الاتحاد القومي في منزله، ولاح في الجو أن الرجل انتهى سياسيًّا، وأنه سيلزم بيته إلى آخر العمر. ومع ذلك لم يحدث شيء يعطي مؤشرًا عن جوهر التغيير مستقبلًا، وإذا كان الرجل المسئول قد لزم بيته فالاتحاد القومي ظل قائمًا، والصحف تكتب اسم الرجل على أنه المسئول الأوحد عن الاتحاد القومي. وعلى مستوى خطَّاب، فقد استمرت القعدات على قهوة كتكوت، كما واصل رحلاته مع مسئوله المحلي إلى قرى الريف، حيث الأرز المعمر والفراخ البلدي والبط المزغط. وكان خطَّاب أفندي يبدي حماسًا شديدًا للمسئول الذي لزم بيته، وخاض معارك رهيبة ضد الذين كانوا يتعرضون لسيرته بالسوء. وذات وليمة في بيت أحد العمد كان هناك شاب يبدو عليه أنه من طلبة الجامعة، أكد أن المسئول الكبير فصلوه بالفعل وأن البحث جارٍ عن رئيس جديد. وانبرى خطَّاب أفندي فسخر بشدة من الشاب وقال له مستنكرًا: يفصلوه … ليه؟ هو طالب زيك. انت عارف انت بتتكلم عن مين؟

ونظر الشاب بغضب إلى خطَّاب أفندي وقال له: أنا بتكلم عن السيد أمين الاتحاد القومي … ممنوع الكلام يعني؟

ورد خطَّاب متعجبًا: لأ مش ممنوع، بس عيب … لأن دا راجل مش صغير، دا عضو قيادة الثورة، ووزير أكثر من مرة، ورئيس وزارة الإقليم الجنوبي … مش لعبة، ثم دا لو خرج من السلطة هتحصل كارثة.

ورد الشاب قائلًا في هدوء: نفس الكلام اللي انت قلته عن أمين هيئة التحرير. وحصل إيه؟ خرج من السلطة ولا حاجة.

وزمجر خطَّاب قائلًا: خد بالك ومالوش لازمة تغلط، انت بتتكلم عن أشرف الناس … فاهم؟

وتدخل أحد العمد الحاضرين وقال لخطَّاب أفندي: حيلك شوية يا خطَّاب أفندي، لفندي ما غلطش، ثم انت محموق ليه كده؟ دا حتى انت كنت سعدي زمان، وكان ربنا فوق وعبد الهادي باشا تحت … انت نسيت يا خطَّاب أفندي؟

بالرغم من السهرة الطيبة والطعام الطيب، إلا أن خطَّاب أفندي شعر بالضيق من الحديث الذي دار عن الثورة، وخصوصًا حديث الشاب الذي يبدو أنه من طلبة الجامعة، وهناك شكوك بأنه شيوعي من بتوع روسيا. لكن ماذا لو صح كلام الولد الطالب وطردوا سيادة الأمين العام من منصبه وأصدروا قرارًا بحل الاتحاد القومي كما حلوا هيئة التحرير من قبل؟ كانت ضربة قاسية لخطَّاب أفندي عندما أذاع الراديو نبأ استقالة الرجل المسئول عن الاتحاد القومي. مع أن خطَّاب أفندي كان قبل يوم واحد في زيارة هذا المسئول في بيته، وبالأمس فقط كان الرجل مصرًّا على الدفاع عن موقعه، مع تمسكه بأن الاتحاد القومي بريء مما يُنسب إليه من أخطاء، وأنه إذا كانت هناك أخطاء فهي من فعل الغير. ما الذي حدث حتى يغير الرجل موقفه ويجعله يذهب بعيدًا إلى حد الاستقالة؟ ثم كيف يستقيل هكذا فجأة دون أن يعطي أنصاره فرصة لتدبير أمرهم؟ شعر المعلم كتكوت بأن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، ولكنه لم يكرر ما حدث منه في المرة السابقة، حرص على أن يجلس مع خطَّاب أفندي حتى عندما انقطع سيل الزائرين الذين كانوا يقيمون في المقهى ويلتفون حول خطَّاب أفندي، ليس هذا فقط، ولكنه ذهب أبعد من ذلك لتأكيد موقفه الجديد، حرص على أن يسدد الإتاوة الشهرية بالرغم من انقطاع سيل الزوار ونضوب الموارد، لقد علمته التجارب أن يفكر طويلًا قبل اتخاذ خطوة متسرعة وغير محسوبة. وهذا الرجل الشيطان خطَّاب أفندي قد يكون سيئًا وملوثًا، ولكنه مثل القطط بعدة أرواح، وهو بالتأكيد سيعود إلى الواجهة مرة أخرى مهما تعددت وتغيرت أسماء التنظيمات. حتى الولد ريعو حرص على إحاطة خطَّاب أفندي بكل مظاهر التوقير والاحترام.

وبالرغم من ذلك، اختفى خطَّاب أفندي من قهوة كتكوت عندما تأكد من أن الاتحاد القومي قد لحق بهيئة التحرير، وجاء الاتحاد الاشتراكي على أنقاض سلفه، ولكن بوجوه جديدة، وكان مسئول الجيزة هذه المرة أستاذًا جامعيًّا لا يعرف من الجيزة إلا قهوة سان سوسيه الواقعة على جانب ميدان الجيزة الرئيسي، ولا يعرف من أهلها إلا زملاءه من أساتذة الجامعة. وطالت غيبة خطَّاب أفندي، فمن الناس من زعم أنه هاجر من الجيزة كلها وعاد ليعيش بقية حياته في قريته بالمنوفية. ومنهم من ادعى أنه يقضي عقوبة طويلة في السجن في قضية فساد. وبالرغم من غموض مصير خطَّاب أفندي إلا أن المعلم كتكوت بقي محافظًا على موقفه الطيب من خطَّاب أفندي. وكان موقفه هذا بناء على شعور داخلي بأنه حتمًا سيعود يومًا ما إلى الواجهة، وأن لياليه في قهوة كتكوت ستعود بالتأكيد، ما بقي خطَّاب أفندي على قيد الحياة.

ولكن أين اختفى خطَّاب أفندي؟ أهاجر إلى قريته أم يقضي أيامه في السجن أم تُوفي إلى رحمة الله؟ ذات صباح جاء إلى قهوة عبد الله عمدة من عمد القرى القريبة من مدينة الجيزة، وكشف عن سر اختفاء خطَّاب أفندي. لقد تزوج خطَّاب أفندي فتاة ريفية عانسًا، هي شقيقة شيخِ قريةٍ متيسرٍ وأحواله المالية على ما يرام. وكان شيخ البلد قد تعرف على خطَّاب أفندي في إحدى جولاته في نطاق نشاط الاتحاد القومي، وتوطدت أواصر الصداقة بين شيخ البلد وخطَّاب، وفي إحدى الزيارات التقى صدفة بأخت شيخ البلد. كانت قريبة من عمره، ربما في الخمسين أو تجاوزتها بقليل، ولكنها بالرغم من ذلك كانت مليحة وصبية، إلى جانب أنها كانت وارثة لعشرين فدانًا من أجود الأطيان. وعندما عرض خطَّاب أفندي على شيخ البلد رغبته في الزواج من أخته زينب، رحب الشيخ كثيرًا ولكنه طلب مهلة لاستشارتها، وتمت مراسم الزواج سريعًا، وطلب خطَّاب أفندي نقله من مدينة الجيزة إلى المدرسة التي تقع في زمام قرية أصهاره. وذاق خطَّاب أفندي طعم السعادة الحقيقية، ربما لأول مرة في حياته … طعم البط المزغط والوز الغارق في شحمه، مما ضاعف من متعة خطَّاب في الحياة، لدرجة أنه فكر في الاستقالة من التدريس ليتفرغ لإدارة أعماله والاستمتاع بالحياة، ولكنه قبل أن يُقْدِم على تنفيذ فكرته وقع حادث من تدبير القدر جعله يصرف النظر عن تنفيذ ما عزم عليه؛ أُقِيمَ في القرية مهرجان سياسي كبير لقيادة الاتحاد الاشتراكي بالمحافظة. وأقام العمدة سرادقًا كبيرًا لهذه المناسبة. وأقبل جميع عمد ومشايخ البلاد المحيطة لاستقبال أمين الاتحاد الاشتراكي أستاذ الجامعة الذي اكتسب شهرة واسعة قبل أن ينخرط في العمل السياسي، ولفت نظر أستاذ الجامعة حركة خطَّاب أفندي الواسعة وعلاقاته الوثيقة بجميع الحاضرين من عمد وأعيان الريف. وأدهشه خطَّاب أفندي عندما بدأ يلقي خطابه على الحاضرين، لغته سليمة ولديه مقدرة فذة على مخاطبة الفلاحين، ولم يملك أستاذ الجامعة نفسه فراح يصفق بشدة عندما اختتم خطَّاب أفندي خطابه ببيت الشعر الشهير: قطط سود ولها ذنب. «لا حول ولا قوة إلا بالله» هكذا هتف أستاذ الجامعة في سره بعد أن انتهى خطَّاب أفندي، وتساءل بينه وبين نفسه: ولماذا يبتعد هذا النوع عن العمل السياسي؟ ولماذا لا يوجد رجل مثل خطَّاب أفندي في قيادة الاتحاد الاشتراكي بالجيزة؟ لا بد أن هناك خللًا في تركيبة التنظيم، ولا بد من إعادة النظر في هيكل التنظيم لكي يقترب أمثال خطَّاب أفندي من الصفوف. وبعد أيام كان خطَّاب أفندي يشق طريقه بصحبة صهره شيخ البلد إلى مدينة الجيزة لمقابلة أمين الاتحاد الاشتراكي، ولكنه لم يشأ أن يذهب إليه مباشرة، قصد أولًا قهوة كتكوت ليستريح قليلًا ويشرب كوبًا من الشاي، ولكي يبشر المعلم كتكوت بعودته إلى سابق عهده، ويطمئنه بأن الأحوال ستعود كما كانت، وربما أفضل مما كانت.

شعر المعلم كتكوت بالزهو لأن تنبؤاته كلها كانت هذه المرة صحيحة، وها هو ذا خطَّاب أفندي بلحمه وشحمه يسعى بقدمه إلى مكانه الذي شغله في كل الأحوال، وغدًا ستضاء الأنوار حتى الفجر في قهوة كتكوت، ستزدحم عن آخرها بروادها من العمد والأعيان، ومن الفلاحين أصحاب الحاجات. وكان الولد ريعو أكثر الجميع حركة وأشدهم سرورًا. أشرف بنفسه على إعداد الشاي الكشري لخطَّاب أفندي وضيوفه، وقضى وقتًا طويلًا في تنظيف الشيشة قبل أن يقوم بتقديمها إلى صهر خطَّاب أفندي. ورفض المعلم كتكوت تقاضي ثمن المشروبات، واعتبر وجود خطَّاب أفندي في القهوة هو جائزته التي لا تقدر بثمن، حتى الولد ريعو رفض الجنيه الورق الذي قدمه شيخ البلد له على سبيل البقشيش. وشعر خطَّاب أفندي بالارتياح، وأفرز هذا الاستقبال الحافل من جانب المعلم كتكوت وريعو نوعًا من التفاؤل في نفس خطَّاب أفندي. لا بد أن الحياة ستبتسم أخيرًا لخطَّاب أفندي، ولا بد أن الاتحاد الاشتراكي سيكون مختلفًا عما سبقه من تنظيمات، أو بالتأكيد لن يلقى نفس المصير الذي لقيه ما سبقه من تنظيمات. والغد سيكون يومًا آخر، عندما يجلس خطَّاب أفندي مع أستاذ الجامعة … ليتفقا على أسس التعاون بينهما في قادم الأعوام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤