الفصل الخامس

الطيور المهاجرة!

عادت الأيام الحلوة من تاني، وعاد خطَّاب أفندي إلى الواجهة، ولكن في ثوب قشيب … خطَّاب أفندي لم يعد هو الأفندي الجربان المقشف الذي عرفه الناس من قبل، ولكنه صار من الأعيان؛ يملك أرضًا في ريف الجيزة، وله أصهار يأكلون اللحمة نية، وهو لم يعد مجرد رقم في حزب السلطة، ولكنه أصبح دينامو مكتب الاتحاد الاشتراكي في الجيزة. وأمين المكتب رجل مثقف وأستاذ جامعي ولكن حركته بطيئة وعلاقته بالجماهير محدودة، وهو يجيد التفكير ووضع البرامج، ولكنه لا يجيد حشد الجماهير أو تحريكها، وأصبح خطَّاب أفندي هو المسئول الحقيقي في المكتب، فهو همزة الوصل بين مكتب القسم وأمين المحافظة، وهو في أحيان كثيرة يجتمع مع أمين التنظيم مندوبًا لأمين القسم، وأحيانًا يكلفه كبار المسئولين بمهام لا يعرف أمين القسم عنها شيئًا.

اطمأن خطَّاب أفندي للمستقبل، أما الحاضر فالحمد لله الحمد لله، لم يعد خطَّاب أفندي في حاجة إلى الفردة التي كان يفرضها على المعلم كتكوت. وانقلب الحال فأصبح يُغدق بشدة على «الوله ريعو»، وأصبح المعلم كتكوت يبدي الاحترام الكامل لخطَّاب أفندي، وهو احترام نابع من قلب المعلم بسبب سلوك خطَّاب أفندي في الفترة الأخيرة، لقد أصاب التغيير خطَّاب أفندي، فأصبح يخدم الناس بدون مقابل، وأصبح يقيم الولائم بين الحين والآخر.

تبدلت الأحوال في عصر الاتحاد الاشتراكي، فلم يعد خطَّاب أفندي في حاجة لأن يمد يده انتظارًا لمبلغ من هنا ومبلغ من هناك. لقد فتحها الله عليه من واسع. استطاع باتصالاته الجديدة أن يحصل على توكيل شركة الدخان والسجاير في المركز الذي يقيم فيه أصهاره. وخطَّاب أفندي ليس من الغباء لكي يحصل على التوكيل باسمه، لقد حصل عليه باسم شقيق زوجته، وهو مزارع نشيط ورجل طيب مشهود له في جميع الأوساط، وكان الدخل الذي يحققه التوكيل يكفي خطَّاب للإنفاق على أسرته، بالإضافة إلى مدخرات تكفي لشراء قطعة أرض جديدة يضيفها إلى أملاكه التي رفعته إلى مصاف كبار ملاك الريف. الاتحاد الاشتراكي هو أفضل تنظيم ثوري شهدته مصر منذ فترة طويلة، وحظ الاتحاد الاشتراكي حسن لأن أقطابه اهتدوا إلى خطَّاب أفندي ليكون لسان حال الاتحاد الاشتراكي وترجمانه في بلاط الشعب المصري. وبالرغم من اطمئنان خطَّاب أفندي للمستقبل، وشعوره بالراحة للحاضر، إلا أنه كان يعاني من قلق لا يعرف مصدره، لأن تجارب خطَّاب أفندي في الحياة أكدت له صحة الحكمة التي نطق بها الشاعر:

لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسان
هي الحياة كما عهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان!

واستعاذ خطَّاب أفندي بالله من تقلب الأيام وغدر الزمان، وحاول جاهدًا أن يبعد عن نفسه شر هذه الوساوس، ولكن شكوك خطَّاب أفندي تحولت إلى حقائق أكدتها بعض الشواهد الخطيرة، اكتشف خطَّاب أفندي أن هناك لقاءات سرية يعقدها أمين القسم في مكتبه بعد انتهاء العمل في المكتب وانصراف الموظفين، وتعمد خطَّاب أفندي أن ينصرف مبكرًا لشأن من شئونه في قريته البعيدة، ولكنه لم يذهب إلى القرية، وقضى بعض الوقت في قهوة كتكوت، عاد بعدها إلى المكتب ليجد طابورًا من السيارات أمام المكتب، ودخل خطَّاب أفندي مسرعًا وفتح باب مكتب الأمين، ويا لهول ما رآه … عشرة أشخاص على الأقل بينهم أساتذة جامعة وفلاح وعامل واحد، الشباب الذين كانوا يترددون على المكتب بين الحين والآخر. ولكن كل هؤلاء «كوم» ومحمد أفندي عبده «كوم» آخر «يا داهية دقي يا جدعان» محمد عبده بين المجتمعين.

ومن هو محمد عبده؟ إنه ولد صايع يعمل موظف قشرة في مصلحة الزراعة، وهو عدو من أعداء الثورة المباركة، كان في تنظيم شيوعي متطرف، وقضى عدة سنوات في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات في سجن الواحات، وتردد على المعتقل بعض الأوقات، وكان لا يخفي عداءه للثورة ورجالها الميامين. وقبل الثورة كان عدوًّا للحزب السعدي، وكان يطلق عليه حزب الأغلبية، وكم من المعارك نشبت بينه وبين خطَّاب أفندي من قبل. ما الذي جاء بمحمد عبده إلى هنا؟ وما هي الرابطة التي تربط هذا المحمد عبده بهؤلاء الأساتذة الأجلاء؟! اضطرب أمين المكتب عندما اقتحم خطَّاب أفندي خلوته مع أصدقائه، وسأل خطَّاب أفندي في صوت يشوبه الخجل: «انت مش كنت مسافر؟ إيه اللي رجعك تاني؟» واعتذر خطَّاب أفندي وتعلل بأنه نسي أوراقًا هامة على مكتبه، وأنه عاد ليأخذها معه، ولكنه فوجئ بطابور السيارات أمام المكتب، فتوقع أن يكون حادثًا خطيرًا قد وقع، ولذلك جاء يستفسر من سيادة الأمين عن حقيقة الأمر. ودعاه السيد الأمين إلى الجلوس، وراح يشرح له الأمر قائلًا: «الناس دول يا سيدي مش عاجبهم شغلنا، قدموا شكوى ضدنا في الأمانة العامة، وفوجئنا بهم جايين المكتب، فأردت أن أوضح لهم حقيقة موقفنا، والحمد لله إنك رجعت تاني.» وأشار أمين المكتب إلى خطَّاب أفندي وقال للمجتمعين: «عندكو خطَّاب أفندي مثلًا، شايل هم المكتب وشغال ليل ونهار وبدون مقابل إلا الرغبة المشبوبة في خدمة الجماهير.» ورد خطَّاب أفندي على استحياء: «كله بفضل توجيهات السيد الأمين.» انفض الاجتماع وخرج الجميع، وذهب خطَّاب أفندي إلى قهوة كتكوت وجلس ساهمًا يفكر فيما رآه بعينيه في مكتب الأمين. إنه لم يصدق حرفًا واحدًا مما قاله الأمين، ولكن ما هي حقيقة الأمر؟ وما الذي جمع الشامي على المغربي في هذا الاجتماع المريب؟ وقضى خطَّاب أفندي عدة أسابيع بعد ذلك يراقب مكتب الأمين، وكان ينصرف أحيانًا ثم يعود إلى المكتب فجأة، ولكنه لم يضبط أي اجتماع في المكتب بعد ذلك. وبعد فترة كاد فيها خطَّاب أفندي أن ينسى ما حدث في تلك الليلة، غير أن الولد ريعو جاءه بخبر أشعل النار من جديد في قلب خطَّاب، أبلغه الولد ريعو أنه رأى رئيسه أستاذ الجامعة مع جماعة من الناس يترددون على بيت محمد عبده. يا خبر أسود ومدهون بالنيلة. السيد الأمين بذات نفسه ومعه عدد آخر من الناس يذهبون لزيارة محمد عبده، هذه من علامات الآخرة ورب الكعبة. وكان الأمين ومن معه قد اتخذوا قرارًا بعد اقتحام خطَّاب أفندي لمكتب الأمين، أن يعقدوا اجتماعاتهم في بيت أحدهم، ولما كان بيت محمد عبده يقوم في منطقة على حافة المزارع في نهاية العمران بالجيزة، فقد قرروا عقد اجتماعات «التنظيم الطليعي» هناك. ولم يُضِع خطَّاب أفندي وقتًا في اكتشاف حقيقة الأمر. ولما كان الولد ريعو يسكن حجرة على سطح منزل مجاور لبيت محمد عبده. فقد اتفق مع ريعو على أن يتردد أحيانًا إلى حجرته لأمر هام، ورحب ريعو بالفكرة، ولكن ريعو للأسف لا يكون في المنزل غالبًا في الأوقات التي تُعقَد فيها هذه الاجتماعات. وقال خطَّاب أفندي لريعو وهو يدس في يده بأوراق نقدية: «ولا يهمك … أنا هابقى آخذ المفتاح واروح هناك أقعد شوية لوحدي إذا ما كانش عندك مانع.» ورد ريعو: «أستغفر الله يا أستاذ، دا بيتك ومطرحك ولو أنه مش أد المقام.» ونفذ خطَّاب أفندي مشروعه في اليوم التالي مباشرة. ومضت عدة أيام لم يحدث فيها جديد، حتى كانت الليلة الموعودة، عندما بدأ الاجتماع المشبوه، حضر نفس الأشخاص الذين رآهم خطَّاب أفندي في مكتب الأمين تلك الليلة، وحضر الأمين على قدميه ممسكًا في يده بشنطة تحوي أوراقًا. يا داهية دقي يا ناس … نفس الأشخاص ونفس الوجوه. ما الذي جعل هؤلاء السادة يجتمعون في مثل هذا المكان؟ ولماذا يختفون عن الأنظار؟ لقد تحققت شكوكه أخيرًا، وهذا الأمين أستاذ الجامعة شيوعي بدون شك. إنها مؤامرة ضد الثورة المباركة، والولد الصايع محمد عبده سيصبح يومًا ما حاكمًا للجيزة، مفيش كلام! وراح خطَّاب أفندي يستعرض علاقته مع أستاذ الجامعة أمين قسم الجيزة، أخيرًا أدرك خطَّاب معنى هذه الكلمات التي كانت تتردد في حديث الأستاذ … المد الشعبي، والتنظيم الثوري، وأصحاب الياقات البيضاء، ومن كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب حاجته.

إنه شيوعي هو الآخر مثل محمد عبده، ولكن ما الذي ينقصه لكي يتحول إلى شيوعي؟ المسألة طبيعية مع محمد عبده، فهو جربان وشقي وتعيس، ولكن الأستاذ … هذا هو الأمر العجيب! هل يقف خطَّاب أفندي مكتوف اليدين أمام هذا الخطر الداهم؟ وخصوصًا أن المسألة تخص خطَّاب أكثر من أي أحد آخر. لو انتصرت الشيوعية فسيموت خطَّاب في السجن بالتأكيد، يا لها من مشكلة رهيبة، ولا بد من حلها بسرعة قبل أن تقع الفاس في الراس. لم يتوان خطَّاب أفندي عن العمل بسرعة، فتوجه ذات ليلة إلى قسم الشرطة، واجتمع بعض الوقت مع ضابط المباحث، وقص عليه بالتفصيل ما رآه بعينيه في مكتب الأمين وفي بيت محمد عبده. وحرص على أن يذكر للضابط أن الدكتور أستاذ الجامعة رجل فاضل ولكنه شيوعي بالتأكيد، ولا بد من الإسراع في مواجهة هذا الأمر الخطير. ومن أجل التأكد بأن الأمور تسير في الطريق الصحيح، حرص خطَّاب أفندي على البقاء في حجرة ريعو وقتًا أطول، على الأقل لكي يسعد نفسه بمنظر القبض على هذه الفئة الضالة التي تخطط لإشعال النار في الوطن، وكان يتواجد أحيانًا في بيت ريعو أثناء وجود الأخير فيه، وأحيانًا يتواجد فيه بمفرده. ولما لاحظ ريعو قلق الأستاذ وعصبيته نصحه بأن يشد نفسين من سيجارة ملغومة لكي يريح أعصابه ويريح مخه الذي أرهقه التفكير، وشعر خطَّاب أفندي بأن السيجارة لها مفعول السحر في نفسه، فراح يطلب منها المزيد، وكان ريعو في الخدمة بأسلوب «اطبخي يا جارية كلف يا سيدي!» ولم يتردد خطَّاب أفندي في تغطية كل التكاليف. وذات مساءٍ وقعت عينا خطَّاب على بنت صبية في السادسة عشرة من عمرها تقيم مع أسرتها الفقيرة في حجرة مجاورة لحجرة ريعو. كانت البنت رغم فقرها تبدو مليحة وناضجة، صدرها يترجرج في حركة مرسومة كأنه من وَضْع مُخرِج، وشفتاها مكتنزتان يتوسطهما شق يحرك شهية العابد العاكف المعتزل للحياة. واستبدت الرغبة بخطَّاب أفندي فنادى على البنت وهي في طريقها للخروج، وتوسل إليها في أدب بالغ أن تشتري له علبة سجاير، وعندما عادت شكرها بشدة وأعطى لها فكة الجنيه، ولكن البنت استكثرت المبلغ وأصرت على إرجاعه، فأطبق خطَّاب على كفها بكفه وأقسم بكل المقدسات أن تحتفظ بالمبلغ هدية متواضعة من عمها خطَّاب. لم يشعر خطَّاب أفندي في حياته بهذا الشعور الذي أحس به في اللحظات القليلة التي أطبق فيها بأصابعه على كف البنت الصغيرة، واستبدت الدهشة بخطَّاب أفندي لهذا الشعور اللذيذ الذي لم يشعر به في أي وقت، وخصوصًا أن خطَّاب أفندي لم يكن له أية مغامرات من هذا النوع. وأصبح من عادة خطَّاب أفندي كلما رأى البنت أن يكلفها بشراء أشياء له من الخارج، ويحرص على أن يترك لها الباقي هدية متواضعة منه لخدماتها الجليلة، ولاحظ خطَّاب أفندي أن البنت أصبحت وهي في طريقها للخارج تحرص على أن تسأل خطَّاب أفندي إذا كان يرغب في شراء شيء من الخارج، ثم صارت تتحدث معه وقتًا أطول. وضاعف خطَّاب أفندي من هداياه للبنت. حتى كان يوم جاءت إليه الأم تسأله إذا كان يرغب في تنظيف الحجرة أو غسيل ملابسه، فهو رجل كريم يستحق الخدمة التي هو أهل لها بكل تأكيد. وذات صباح جاءت الأم ومعها البنت واستأذنت خطَّاب أفندي في أن يسمح لشربات بأن تقوم بكنس الحجرة التي يبدو أنها لم تُكنس منذ عدة شهور.

ودخلت شربات الحجرة ترتدي جلبابًا ممزقًا مفتوح الصدر، وراحت تكنُس الحجرة وهي منحنية في حركة متعمدة لإبراز مفاتنها، ولم يتمالك خطَّاب أفندي نفسه فاحتضن البنت في رفق ومسح بيده على شعرها ثم انحنى وطبع على خدها قبلة.

لم تقبل البنت هذا السلوك ولم ترفضه، ولكنها تململت في دلع وتركت المكنسة وانطلقت من الحجرة نافرة وراضية في الوقت نفسه. واضطرب خطَّاب بشدة وخاف من عواقب فَعلته، وبالرغم من ذلك شعر بأنه يكاد يطير من السرور. أخطر ما شعر به هو الرائحة التي نفذت إلى خياشيمه وتسللت إلى أعماق روحه، رائحة البنت الصبية، إنها رائحة تختلف عن الروائح التي جربها من قبل مع غيرها من النساء. يبدو أن للشباب رائحة خاصة لا يعرفها إلا مجرب. ولم يستطع خطَّاب أفندي أن يبقى في الحجرة فغادرها مسرعًا إلى قهوة كتكوت.

وأيام طويلة وكثيرة مرت دون أن يقع ما كان ينتظره خطَّاب أفندي، لم يُقبَض على أحد، بينما الاجتماعات تتكرر في منزل محمد عبده. تصبح مصيبة كبرى لو أن ضابط المباحث متواطئ هو الآخر مع الشيوعيين، ولكن هذا الضابط الصغير ربما ليس في دائرة اهتماماته أمر خطير على هذا المستوى. إنه مجرد ضابط مباحث يتعقب النشالين واللصوص والبلطجية وباعة المخدِّرات، وخطف خطَّاب أفندي رجله إلى مكتب المباحث العامة، وحكى للمفتش كل شيء بالتفصيل. الكارثة الكبرى أن المفتش استمع إلى تفاصيل المؤامرة في هدوء، وقال لخطَّاب: سنبحث الأمر في هدوء وعلى مهل، ونصح خطَّاب أفندي بعدم الثرثرة في هذا الأمر مع أحد. وأضاف بأن هناك أشياء تحدث قد يخطئ الإنسان في تفسيرها، ولذلك يجب ضبط الأعصاب والتصرف بحكمة بالغة. يا خبر زي الزفت، يبدو أن البلد كلها تحولت إلى الشيوعية، والمستقبل مجهول، والمصير أسود من قرون الخروب! ولكن خطَّاب أفندي لن يهدأ ولن يكل. ثرثر بما يعرفه لصهره في القرية ثم عاود الثرثرة مع المعلم كتكوت والولد ريعو، ثم راح يثرثر مع كل الناس. لقد نذر نفسه لمحاربة الشيوعية حتى النفس الأخير.

وانتشرت حكاية الشيوعية التي أشاعها خطَّاب أفندي. وواصل مراقبته لبيت محمد عبده ورصد الاجتماعات وكتابة تقارير عنها راح يرسلها إلى الأمين العام وأمين التنظيم ووزير الداخلية، وأصبح يقضي وقتًا أطول في حجرة ريعو. ويا هناه عندما اكتشف أن البنت شربات لم تكشف سره ولم تفضحه، وتجرأ أكثر، حتى جاء يومٌ وهو مستلقٍ فوق الكنبة التي يستخدمها ريعو كسرير، عندما دخلت البنت شربات لترتيب الحجرة، ولكنه طلب منها أن تعد له كوبًا من الشاي.

وعندما فرغت من إعداد الشاي، نام على بطنه وطلب منها تدليك ظهره لأنه يشعر بأن البرد ينام في ضلوعه ويكاد يمزق عضلاته، وراحت البنت تدلك عضلات خطَّاب أفندي، ولكنه جذبها فجأة واحتضنها بشدة، وكاد يطير من الفرح عندما وجد استجابة من شربات وسرورًا بالغًا بالخطوة الجديدة.

وأصبحت عادة عند خطَّاب أفندي، أن يشتري الكباب والعيش والسلطة ويذهب إلى حجرة ريعو ليتناول طعام الغداء مع شربات، ثم يقضي معها وقتًا طيبًا قبل أن يغادر الحجرة بعد المغرب. ثم يقوم بعد ذلك بجولته المعتادة في مكافحة الشيوعية والضرب بشدة على أيدي الشيوعيين، لأنه لا يَضيع حق وراءه مطالب.

فقد تلقى استدعاء من أمين التنظيم، أخيرًا نجحت حملته وستبدأ حركة التطهير لوضع الأمور في نصابها. عندما جلس في مواجهة أمين التنظيم اكتشف أن الأمر لم يكن كما توهم، عاتبه الرجل على خروجه على تقاليد العمل الحزبي، وأنه ارتكب جريمة التشنيع على حزب الدولة. وراح خطَّاب أفندي يشرح لأمين التنظيم مدى الخطر الذي تتعرض له مصر على يد بعض أبنائها الذين كرمتهم الدولة ورفعتهم إلى المناصب الكبرى، كما هو الحال مع أمين التنظيم بالجيزة … دكتور الجامعة، واتهم محمد عبده بأنه سوسة تنخر في قوائم النظام لهدمه من أساسه. واضطُر أمين التنظيم إلى زجر خطَّاب أفندي بشدة، ووصف حركته بأنها جنون ينبغي كبحه، وهدده بطريق غير مباشر بالعواقب الوخيمة لسلوكه الذي لا يمكن قبوله. وخرج خطَّاب أفندي من مكتب أمين التنظيم وقد تأكد أن المؤامرة متشعبة، وأن مصر محاصرة وأنها في الطريق إلى الشيوعية. ولأن المصائب لا تجيء فرادى، فقد تلقى خطَّاب أفندي صفعة أخرى بإلغاء انتدابه من الاتحاد الاشتراكي. ولكنه رفض العودة إلى التدريس وتفرغ تمامًا لعلاقته الجديدة بشربات، وللوقوف في وجه المؤامرة الشيوعية. وحاول بعض أصدقائه من العارفين ببواطن الأمور توضيح الصورة له دون جدوى. شبح المؤامرة كان مسيطرًا عليه، ووجود محمد عبده هو الدليل على أن مصر مستهدفة، وأن المصير مظلم بلا شك. واتسعت حركة خطَّاب أفندي فراح يقوم بزيارات للقرى المجاورة ويحذر من الانقلاب الشيوعي القادم. ثم جاء يوم أسود هز كيان خطَّاب وكاد يصيبه بالجنون؛ جاءته أم شربات أثناء تناوله الغداء مع شربات وجلست أمامه حزينة وأبلغته، فيما يشبه الإنذار، بأن عليه أن يقوم بتصحيح غلطته؛ أن يتزوج شربات أو يواجه الحساب أمام الشرطة وفي المحاكم. ولكن خطَّاب أفندي تلقى الإنذار باستهانة شديدة واتهم الأم بمحاولة ابتزازه، وأنذرها بأنه رجل مسئول ويعرف كيف يحمي نفسه، وهددها بمصير مظلم إذا خطت خطوة واحدة ضده، وانقطع عن التردد على حجرة ريعو، واتفق مع ريعو على إنكار أي تردد له على حجرته، وسلمه المفتاح الذي كان في حوزته. ولما كان انقطاع خطَّاب أفندي عن زيارة حجرة ريعو، ذهبت الأم إلى ضابط المباحث وتقدمت بشكوى تتهم فيها خطَّاب أفندي بالاعتداء على ابنتها القاصر شربات! وكانت فضيحة بجلاجل انتهت بحبس خطَّاب أفندي أربعة أيام، ثم أفرجوا عنه بكفالة، وأصر خطَّاب على أن الاتهام باطل، وأنه مجرد رد فعل لاكتشافه المؤامرة الشيوعية التي تستهدف مصر بعلم كبار المسئولين.

ولكن إذا كان خطَّاب أفندي قد أصبح خارج الأسوار، فقد واجه محنة أشد من محنة السجن. رفض أصهاره أن يستقبلوه وهددوه بأوخم العواقب إذا اقترب من حدود القرية. واكتشف خطَّاب أفندي أنه اشترى الترام، لأن كل أملاكه التي اشتراها في زمام القرية كانت باسم السيدة حرمه، ولما كانت الزوجة من عائلة لها شوكة قوية، فقد آثر الصمت وبادر إلى طلاق زوجته طلبًا للأمان. وعندما فاتح ريعو بأن يستأجر غرفة أخرى بعيدًا عن بيت شربات يسدد أجرها من جيبه، ويسكنها ريعو بلا مقابل، رفض ريعو لأن المعلم حذره من إقامة أية علاقة مع خطَّاب، وقهوة كتكوت طبعًا ليس لديها استعداد لاستقباله بأي حال من الأحوال. حتى توكيل شركة السجائر كان باسم صهره، وعندما حاول إلغاءه وجد صدًّا شديدًا، وحتى مدير شركة السجائر رد عليه في التليفون من طراطيف أنفه وعامله باحتقار، واضطُر إلى إنهاء المكالمة بحجة أنه مشغول بشدة. وهكذا سُدَّت جميع الأبواب أمام خطَّاب أفندي، فانسحب في هدوء، وغادر القاهرة كلها، وودع الجيزة وذهب إلى شبرا الخيمة، واختفى هناك عند أحد الأصدقاء.

وقبل موعد محاكمة خطَّاب بأيام قلائل، انقلبت أوضاع الدولة وتم إعلان ثورة مايو، وذهب جميع المسئولين السابقين إلى السجن.

وأعيدت قضية خطَّاب مع شربات إلى النيابة من جديد، لإعادة التحقيق فيها، وانتهت إلى الحفظ، وعاد خطَّاب إلى الجيزة ظافرًا. ولم تمض سوى أيام قليلة حتى صدر قرار بحل الاتحاد الاشتراكي وإعادة تشكيله من السفح إلى القمة، وانتهت عملية تطهير الصفوف من الخونة. وصدر قرار بتعيين خطَّاب أفندي أمينًا لفرع الجيزة في الوقت الذي غاب فيه أستاذ الجامعة ومحمد عبده وزملاؤهما خلف الأسوار. وخرجت جرائد الصباح في اليوم التالي بعناوين ضخمة: «عودة الطيور المهاجرة» وصورة خطَّاب أفندي تتصدر الصفحات، وفي المساء اشتعلت قهوة كتكوت بأضواء الكهرباء، ورُفعت اللافتات بشعارات الترحيب بعودة المناضل خطَّاب. حتى عقد توكيل شركة الدخان تم إلغاؤه وأُعيدَ تحريره باسم خطَّاب … هكذا علنًا وبالمكشوف … فهذا عصر الحرية وسقوط عهد الخوف … وفي تلك الليلة التي احتفلت فيها قهوة كتكوت بعودة الطيور المهاجرة، رقص المعلم كتكوت حتى الصباح، ولكن خطَّاب أفندي لم يشرِّف الحفل، واكتفى بإيفاد مندوب عنه لشكر المعلم كتكوت، ومع الشكر مظروف يحوي بعض المال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤