الفصل السادس

حميدو

كان واحدًا من أشهر أهالي الجيزة بالرغم من تواضع نشأته ووضاعة مهنته. فقد قيل إن والده كان شيالًا بمحطة أوتوبيسات كافوري بميدان الجيزة، ولما فشل في توفير القوت الضروري لولده الوحيد قام بتسليمه إلى ملجأ البنين بالجيزة، ولكنهم رحلوه بعد فترة إلى إصلاحية الأحداث؛ لأن الملجأ خاص بالأيتام فقط، ولا مكان فيه لغيرهم!

وعندما خرج حميدو من الإصلاحية كان قد أصبح شابًّا، ولم يجد مكانًا يتجه إليه إلا محطة أوتوبيسات كافوري، في المكان الذي قضى فيه والده أغلب فترات حياته، قبل أن يموت فجأة وهو واقف على الرصيف. ولكن مهنة الوالد لم تَرُق لحميدو، فاشترى صندوقًا صغيرًا واستقر به الحال في قهوة كتكوت يمسح أحذية المترددين على القهوة من العمد والأعيان وتجار القطن وجماعة الأدباء. ولأنه كان صاحب تجربة مريرة فقد كان يبدي للزبائن مزيدًا من الأدب الزائف والخضوع الشديد، مما دفع بعض الزبائن إلى تكليفه بمهام أخرى غير مسح الحذاء، بعضهم كان يعهد إليه بتنظيف الشقة، والبعض الآخر كان يبعث به لشراء أدوية من الأجزخانة أو بضاعة من السوق. وكان من الممكن أن تنحصر شهرة حميدو في نطاق قهوة كتكوت، لولا أن رجلًا يهوديًّا كان يدير ستوديو سينما على بعد خطوات من قهوة كتكوت، وكان يستعين بأفراد من أهل الجيزة للقيام بأدوار الكومبارس، وفي فيلم علي بابا والأربعين حرامي أصاب الحظ حميدو، فظهر في دور أحد الحرامية الذين اختفوا داخل «الزلع» الموجودة في مغارة الكنز، وكان دور حميدو يتلخص في الدخول في الزلعة، وعندما يأتي العسكر، يفتحون الزلع واحدة وراء الأخرى، فإذا برز منها رأس أحد اللصوص ضربه العسكري على رأسه فيرتمي الحرامي داخل الزلعة، ولكن ضربة حظ أصابت حميدو، فكان دوره يقضي بأن يبرز رأسه من داخل الزلعة فيضربه العسكري ويرتمي داخل الزلعة، ثم يعود رأسه إلى البروز مرة أخرى، فيضربه العسكري مرة أخرى، فيعود إلى الاختفاء دون أن يعود مرة أخرى للظهور. وبعد عرض الفيلم صار حميدو من نجوم الجيزة … حميدو راح … حميدو حضر. ولما كان حميدو هو بطل طلبة وتلاميذ مدارس الجيزة فقد فكر بعضهم في استخدام حميدو بدل محمد في كتاب المطالعة، فيقال: زرع حميدو، وحصد حميدو، وأكل حميدو، وضرب حميدو … إلى آخر رحلة حميدو في الحياة. واتسعت شهرة حميدو أكثر عندما ظهر في فيلم أمير الانتقام، في دور كومبارس صامت، ولكنه كان دورًا يستحق الاحترام، فقد امتطى صهوة حصان، وارتدى زي فارس مغوار، واشترك في المعارك التي نشبت تحت قيادة أمير الانتقام. ولكن ضربة حميدو الكبرى كانت في فيلم عريس من إسطنبول، فقد ظهر في دور خادم في سرايا الباشا، وتكلم في هذا الدور عدة كلمات، وانتقل بذلك من مرتبة كومبارس صامت إلى كومبارس متكلم، واعتبر حميدو هذه النقلة خطوة واسعة على طريق النجومية، شأنه شأن أنور وجدي ومحسن سرحان، وبالفعل أثرت هذه التطورات على مهنة حميدو الأصلية، فاعتزل مهنة مسح الأحذية واحتفظ بالصندوق في الوقت نفسه، واستعان بشاب عاطل للقيام بمسح الأحذية لقاء نسبة معينة من الدخل، وتفرغ هو لأعماله الفنية التي اتسعت فشملت المسرح أيضًا، وكان يوسف بك وهبي يعرض مسرحياته كل صيف على مسرح شهرزاد بالجيزة، والذي تقوم مكانه الآن سينما شهرزاد الصيفي في مواجهة كوبري عباس. وتمكن حميدو من الالتحاق بدور كومبارس في مسرحية أولاد الشوارع، وعندما وجد حميدو نفسه على المسرح أمام الجمهور، ومن بينهم بعض أعيان الجيزة الذين يعرفونه ويعرفهم، فكر في قطع خطوة أوسع على طريق المجد، فقرر أن يشارك في التمثيل بالكلام، مع أن دوره كان دورًا صامتًا في ثياب متسول يفترش الرصيف.

وبالفعل ألقى حميدو خطبة مقتبسًا إياها من مقتطفات مختلفة من أدوار يوسف بك وهبي نفسه في عديد من المسرحيات، ولما كان يوسف بك وهبي يقف على خشبة المسرح في تلك اللحظة فقد استبدت به الدهشة وتصور أنه معتوه أو مخبول، وتأكد من ذلك عندما أمره بالصمت فلم يصمت، بل واصل الخطابة بطريقة يوسف بك وهبي، مما اضطر يوسف بك وهبي إلى ضربه بالشلوت ضربة قوية أطاحت به من فوق الخشبة على كراسي المتفرجين. وسببت هذه الحادثة مشكلة في الجيزة، فقد انتشر الخبر وذاع في أنحاء الجيزة بعد أن نشرته مجلة فنية واسعة الانتشار، مما دفع بحميدو إلى الدفاع عن نفسه بأن ما حدث كان نتيجة مؤامرة من جانب يوسف بك وهبي، لأن تمثيل حميدو على المسرح كشف يوسف بك وهبي وأظهره كمجرد ممثل عادي إلى جانب حميدو الذي سيطر على المتفرجين ودفعهم إلى التصفيق له بشدة لمدة عدة دقائق … ولم يكن أمام يوسف بك وهبي إلا ضربه بالشلوت لكي يقطع هذا السباق بينه وبين حميدو الذي لو استمر لكانت النتيجة في صالح حميدو بالتأكيد. وراح حميدو يردد ذلك في مجالسه الخاصة وبين زبائن قهوة كتكوت. واقتنع بعض الناس بما كان يردده حميدو، لدرجة أن المعلم كتكوت عرض على حميدو أن يستأجر منه بوفيه المسرح، وقد وافق حميدو على الفور، فطلب من المعلم كتكوت سلفة تُخصم من الإيجار فيما بعد. ولكن مضت شهور طويلة وسنوات أيضًا دون أن ينفذ حميدو شيئًا من أحلامه. وزاد الطين بلة أن أفلام السينما التي كانت تُنتج في استوديو مزراحي المواجه لقهوة كتكوت أصبحت قليلة، وانخفضت أجور الكومبارس بسبب حرب ٤٨ في فلسطين. وألقت الأحوال السيئة ظلها على حميدو، وبدأ يعاني من وقف الحال، مما اضطره في النهاية إلى العودة لمهنته القديمة، وقام بتسريح الشاب الذي استأجره للقيام بمسح الأحذية، وراح حميدو نفسه يمارس عملية تلميع الأحذية بنفسه، وكان إذا سأله أحدهم عن سر عودته إلى مهنته القديمة برر ذلك بأن مسح الأحذية أشرف من إجباره على تمثيل الأدوار التي تُعرَض عليه، وزعم أن المخرج محمد كريم عرض عليه دور فؤاد في أحد المواضيع، ولكنه يفضل الجوع على القيام بمثل هذه الأدوار. ولما كانت الأمور قد تدهورت إلى هذا الحد مع حميدو فقد آثر الاختفاء بعض الوقت، ولغط الناس بأنه سافر إلى فلسطين، وقال آخرون إنه ذهب إلى الإسماعيلية للعمل في معسكرات القناة. المهم أن غيبة حميدو لم تستمر طويلًا، سرعان ما ظهر من جديد في قهوة كتكوت، ولكنه عاد هذه المرة ببدلة وعلى رأسه برنيطة بيضاء مصنوعة من القماش. وعرف رواد قهوة كتكوت من حميدو نفسه أنه كان في بورسعيد، وأنه عمل في معسكر بحري على شاطئ الميناء، واكتشفوا أنه ينطق ببعض الكلمات الإنجليزية. وبعد أن قضى أسبوعًا في القهوة اختفى من جديد، وعاد إلى بورسعيد، وفي هذه المرة امتدت غيبته عامًا كاملًا، وعندما عاد كان ينفق عن سعة، ويدخن سجائر فاخرة قال إنه حصل عليها من النافي الإنجليزي بقروش قليلة. وعرف رواد قهوة كتكوت أنه صار موضع ثقة القائد الإنجليزي وهو ضابط برتبة كابتن، وأنه لا يتخذ أمرًا إلا بعد مشاورة حميدو وموافقته. ولكن أكاذيب حميدو انكشفت كلها، عندما هبط على القهوة ذات مساءٍ عدد من المخبرين على رأسهم ضابط مباحث وألقوا القبض على حميدو وذهبوا به إلى قسم الشرطة. ثم عرف أهل الجيزة أن حميدو قُدِّمَ للمحاكمة وأنه أُدينَ في جريمة سرقة المعسكر الإنجليزي، وحكموا عليه بالسجن لمدة سنتين. نسي الناس حميدو، وساعدهم على نسيانه أنه لم يعد إلى الجيزة بعد خروجه من السجن، ولكنه ذهب مرة أخرى إلى بورسعيد، وقيل إنه تزوج من بنت بورسعيدية، واستقام هناك وعمل مع أخيها البمبوطي على قارب في الميناء. وقيل إنه حصل على باسبورت بحري وأنه سافر على ظهر مركب ترفع علم هونج كونج. ولم يظهر له أثر بعد ذلك إلا بعد النكسة، عندما عاد إلى قهوة كتكوت واستقر فيها زبونًا فقط بلا عمل من أي نوع، ونصحه البعض بالعودة إلى شغلته القديمة ماسح أحذية، ولكنه قال بأنه يفكر في مستقبله، ولم يستقر رأيه على عمل معين بعد. ثم جاء ذات مساءٍ إلى القهوة لتوديع المعلم كتكوت والجرسون ريعو، وكان معه جواز سفر مصري وتذكرة سفر على الطائرة وتأشيرة دخول لليونان.

وسافر بالفعل إلى اليونان، ولكنه غاب عدة أشهر طويلة قبل أن يظهر من جديد، واكتشف الناس أن البوليس اعتقله في المطار لأن جواز السفر كان مزورًا وتأشيرة دخول اليونان أيضًا. وكانت آخر مرة وقع فيها بصري على حميدو في إحدى أمسيات مايو الحارة من عام ۱۹۷۱م.

ولم أره بعد ذلك لعدة أعوام طويلة، ولكن بسبب غيابي والحمد لله خلف أسوار السجن، وعندما خرجت من السجن اكتشفت أنه يعمل تاجر شنطة، وأنه دائم التَّرحال بين القاهرة وبيروت. وغاب العبد لله عشر سنوات كاملة خارج مصر، وعندما عدت كان حميدو يدير محلًّا صغيرًا في الميدان يعرض فيه ما يهرُب به من بضائع من لبنان. وعندما جاء ليهنئني بالعودة كان يرتدي بدلة صيفي فاخرة صناعة لبنانية وكرافتة من الحرير الفاخر، وحذاءً إيطاليًّا، وكان سعيدًا وقلقًا على نحو ما، وهمس في أذن العبد لله بأن السر وراء القلق الذي يستبد به أنه اقترض عدة ألوف من الجنيهات من البنك، ثم تعثر في السداد، والبنك يهدده برفع الأمر إلى القضاء. وقيل إن حميدو تغير كثيرًا وأنه يتردد على المسجد للصلاة في المواعيد المحددة، وأنه يصوم رمضان، ويؤذن أحيانًا لصلاة الفجر في المسجد المجاور للمحل الذي يمتلكه. ثم تأكدت لي هذه الحقيقة عندما شاهدته ذات مرة على قهوة كتكوت يجلس مع بعض أصدقائه، وقد أطلق لحيته … يا سبحان الله … صار حميدو بين المشايخ كما صار شولح بين الأنبياء، مع فارق بسيط هو أن الناس في غزة تعجبت لدخول شولح بين الأنبياء، ولكن أهل الجيزة لم يندهشوا لدخول حميدو بين المشايخ!

وذات مساءٍ، وكان الجو خريفًا، وثمة ريح باردة تهب على الميدان، فوجئت بحميدو يحضر إلى مجلسي ليس للسلام، ولكن لمناقشة مشروع تجاري مضمون الربح، وقال حميدو في لغة رجل الأعمال: أنت قضيت عشر سنين بره، وطبعا الشغل بره غير الشغل هنا، وانا عارف إنك راجع ومعاك لا مؤاخذة قرشين. إيه رأيك إحنا داخلين مشروع تجاري إنما سمين قوي، وانا معايا شركاء جماعة من مصر بس شغالين في الكويت، والشغلانة بسيطة … القرشين اللي معاك ع القرشين اللي معانا، وعلى قرشين من البنك كمان، وهنعمل شركة كبيرة لتوظيف الأموال … وعلى فكرة … الجماعة اللي معايا همة السبب في العز اللي عايش فيه الجماعة اللي عندهم شركات من النوع ده، لأنهم كانوا زملا مع بعض في الكويت.

وسألته: وكيف ستقوم بتوظيف الأموال؟

فقال على الفور: أنا قدامي شغلة عارفها ودارسها. أنا بدل ما اروح بيروت لوحدي، وأجيب معايا شنطتين، هاروح ومعايا كام عيل من بتوع الجامعة دول، ونرجع ومعانا عشرين شنطة. وهناخد دكان تاني كبير قوي وهنعرض فيه الحاجة، والبضاعة هتمشي زي الإكسبريس، وآخر كل شهر نوزع قرشين على الناس والباقي في جيبنا، حاجة مضمونة زي الساعة السويسري.

وسكت فترة قبل أن يقول: إيه رأيك؟

– المسألة دي عاوزة دراسة، وماقدرش أحكم عليها بالشكل ده، وبعدين …

ولكن حميدو قاطعني فجأة قائلًا: ما تخافش، خلِّي قلبك جامد، التجارة تحب الشجاعة. وبقولك دي حاجة مضمونة زي ورقة البوسطة.

وظهر الغضب الشديد على وجه حميدو عندما قلت له: وكمان أنا ما معيش فلوس زي ما أنت فاهم، وانا كنت عاوز أدرس المشروع عشان مصلحتك.

وقال حميدو وهو يهم بالوقوف: على كل حال أنا قلتلك عشان مصلحتك، لكن أنت حر، وانا عملت اللي علي وربنا عالم، وبيني وبينك ناس كتير بتتحايل علي عشان تشاركني، بس أنا مش ممكن أشارك أي حد، وانا اللي اخترتك من دون الناس اللي قاعدين ع القهوة.

ومضى حميدو غاضبًا، ولم أره مرة أخرى قبل عدة شهور، وكانت أحواله قد تطورت بشكل خطير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤