توضيح من المترجم
هذا الكتاب «الذي هو عبارة عن تهويمات حول تشكلات اللاوعي، وحول التشكلات الأدبية والعلمية، والسياسية»، يمثل أفضل تقديم لفكر دولوز، لا كعرض مدرسي، بل بالشكل الذي يتفق مع بنية هذا الفكر.
الفلسفة عند دولوز هي علم إبداع المفاهيم، لكن هذه المفاهيم لا تتمتع بمراتبية تضع في الصدارة مفاهيم مجردة، من قبيل المثل الأفلاطونية، على سبيل المثال، تشرِّح وتوضِّح مفاهيمَ أخرى تتبعها وتنبثق عنها. لقد أقرَّ سبينوزا مفهوم الجوهر الواحد المحايث لكل الموجودات، فانتفت المراتبية ولم يعد المجرد يشرح بل يجب شرحه هو نفسه. يجب البدء من حالات الأشياء، التي «ليست لا وحدات ولا كليات، بل كثرات»، ما يهم فيها ليست الحدود أو العناصر، بل ما يوجد في «الما بين». «كل كثرةٍ تنمو من المنتصف، مثل ورقة العشب أو الريزومة».
كل هذا يشرحه دولوز هنا بصورة أستاذية، لكنه أراد أن يعكس الكتاب هذه الأفكار بأن يتشكَّل هو ذاته ككثرة، «لا تهم فيها الأطراف أو النقاط، بل مجموعة الخطوط المتفرعة، المتباعدة، المتشابكة التي شكلته والتي تمر بين النقاط»؛ لهذا السبب لم تعد صيغة السؤال والجواب مناسبة. وربما مثَّل ذلك بعض الصعوبة للقارئ، تتزايد كلما تقدم في فصول الكتاب، لكن طريقة دولوز التوليدية الخلاقة تتيح لهذا القارئ أن يقرأ جزءًا ثم يترك الكتاب؛ ليبدأ فيما بعد من جزء آخر، وهكذا. وربما حفزت بعضَ القراء على مواصلة الاشتباك معه فيما نعتقد أنه محاولة تستحقُّ العناء؛ لخلخلة جوانب جمود كثيرة في تفكيرنا نأخذها مأخذ المسلَّمات.
وربما كان هذا سببًا إضافيًّا لإتمام هذه الترجمة — بعد أن اكتشفت أثناء عملي في فصوله الأولى وجود ترجمة مغربية سابقة (صدرت عام ١٩٩٩م) قام بها الأستاذان عبد الحي أزرقان وأحمد العلمي — ليكون الكتابُ متاحًا للقراء من جديد، من جهة؛ ولتقدَّم المعرفة بدولوز نتيجة صدور عدد كبير من ترجماته في هذه الأثناء، من جهةٍ أخرى؛ ولموقعته في مناخ ثقافي وزمن مختلفَين الآن، من جهة ثالثة.
ولزيادة الفائدة، أضفت إلى هذه الترجمة — عن الفرنسية — تصدير دولوز للطبعة الإنجليزية، والهامش الذي تفضَّل به لها، كما ألحقتُ تقديم مترجميها في نهاية الكتاب. وأضفتُ أيضًا قائمةً بالتعريبات التي قمتُ بها لبعض المصطلحات المحورية لدولوز، راجيًا اعتبارها بمثابة اقتراحات تضاف إلى اقتراحات أخرى كثيرة لآخرين، سيكون اختبار الزمن والمناخ الثقافي فيصلًا في استمرارها أو تجاوزها.