تصدير دولوز للطبعة الإنجليزية١
لقد شعرت دومًا أنني إمبيريقي
empiricist أي تعدُّدي
pluralist، لكن ماذا
يعني هذا التكافؤ بين النزعة الإمبيريقية والنزعة التعدُّدية؟
إنه مستمدٌّ من الخاصيتَين اللتَين عرَّف بهما هوايتهيد
Whitehead النزعة
الإمبيريقية: المجرَّد لا يَشرح، بل يجب شرحه هو نفسه؛ والهدف
ليس إعادة اكتشاف الأبدي أو الكلي، بل العثور على الشروط
التي يتم بمقتضاها إنتاج شيء جديد (الإبداعية creativeness).٢ في الفلسفات المسمَّاة بالعقلانية، يتم منح المجرد
مهمة الشرح، والمجرد هو ما يتحقق في العيني. يبدأ المرء
بتجريدات من قبيل الواحد، أو الكل، أو الذات، ثم يبحث عن
العملية التي يتم بها تجسيدها في عالمٍ تجعله هذه التجريدات
يتوافق مع متطلَّباتها (يمكن لهذه العملية أن تكون المعرفة، أو
الفضيلة، أو التاريخ …) حتى لو كان ذلك يعني الدخول في أزمة
مزعجة في كل مرة يرى المرء فيها الوحدة أو الكلية العقليتَين
تتحولان إلى نقيضَيهما، أو يرى الذات تُولِّد فظاعات.
تبدأ النزعةُ الإمبيريقيةُ بتقييم مختلف تمامًا؛ إذ تُحلِّل
حالات الأشياء؛ بحيث يمكن منها استخلاص المفاهيم غير-السابقة-الوجود. وحالات الأشياء
ليست لا وحدات ولا كليات،
بل كثرات multiplicities.
ليس الأمرُ مجردَ أن ثمَّة عدة حالات للأشياء (كل حالة منها يمكن
أن تكون أخرى)؛ ولا أن كل حالة للأشياء هي ذاتها كثيرة (مما
سيعني أن تُشير ببساطة إلى مقاومتها للتوحيد). الشيء
الجوهري، من وجهة نظر النزعة الإمبيريقية، هو الاسم كثرة multiplicity،
الذي يحدد منظومة من الخطوط أو الأبعاد لا يمكن اختزالها إلى
بعضها البعض. وكل «شيء» يتكوَّن بهذه الطريقة. بالطبع تتضمَّن
الكثرةُ بؤرات توحيد، ومراكزَ لإضفاء الطابع الكلي، ونقاطًا
لإضفاء الذاتية، لكن بوصفها عوامل يمكن أن تمنع نموها وتوقف
خطوطها. وهذه العوامل تكمن داخل الكثرة التي تنتمي إليها،
وليس العكس. وما يهمُّ في كثرة ما ليست الحدود أو العناصر، بل
ما يوجد في «الما بين»، والما بين هو منظومة علاقات لا تقبل
الانفصال عن بعضها البعض. كلُّ كثرةٍ تنمو من المنتصف، مثل
ورقة العشب أو الريزومة، ودائمًا ما نقيم تعارضًا بين الريزومة
وبين الشجرة، مثل مفهومَين وحتى طريقتَين مختلفتَين تمامًا
للتفكير. وأي خطٍّ لا يمضي من نقطة إلى أخرى، بل يمرُّ بين
النقاط، متفرعًا ومنحرفًا دون توقف، مثل أحد خطوط بولوك Pollock.
استخلاص المفاهيم التي تناظر كثرةً ما يعني تتبع الخطوط
التي تتكوَّن منها، وتحديد طبيعة هذه الخطوط، ورؤية كيف تُصبح
متشابكة، وتتصل ببعضها، وتتفرع، وتتجنَّب أو تُخفق في تجنُّب
البؤرات. هذه الخطوط هي صيرورات becomings
حقيقية، تختلف ليس عن الوحدات
unities فحسب، بل كذلك عن
التاريخ الذي تتطور فيه. الكثرات تتكوَّن من صيرورات دون تاريخ
من اكتساب للفردية دون ذات (على النحو الذي يتم فيه منح
الفردية لنهر، أو لمناخ، أو لحدث، أو ليوم، أو لساعة من
نهار). بمعنى أن المفهوم يوجد في النزعة الإمبيريقية بقدر ما
يوجد في النزعة العقلانية، لكنْ له استخدامٌ مختلف تمامًا
وطبيعة مختلفة تمامًا: إنه الكينونة-كثيرًا
being-multiple بدل
الكينونة-واحدًا، أو الكينونة-كلًّا، أو الكينونة كذات.
النزعة الإمبيريقية مرتبطةٌ من الناحية الأساسية بمنطقٍ — هو
منطق الكثرات (الذي تمثل العلاقاتُ فيه جانبًا واحدًا).
وهذا الكتاب (الذي نُشر لأول مرةٍ في فرنسا عام ١٩٧٧م) يهدف
إلى تسليط الضوء على وجود وعمل الكثرات في مجالات بالغة الاختلاف. ذات يومٍ استشعر فرويد
أن المريض النفسي يخبر
الكثرات ويفكر بها؛ فالجلد مجموعةٌ من المسام، والخفُّ حقل من
الغرز، والعظمة مُستخلصة من مستودع عظام … لكنه كان يرتدُّ
دومًا إلى الرؤية الأهدأ للا وَعيٍ عُصابي يلعب بتجريدات أبدية
(وحتى موضوعات ميلاني كلاين Melanie
Klein الجزئية لا تزال تشير إلى وحدة،
حتى لو كانت مفقودة، وإلى كلِّية، حتى لو كانت قادمة، وإلى
ذات، حتى لو كانت منقسمة). من الصعوبة بمكانٍ التوصُّلُ إلى فكرة
عن الكثير the multiple
بوصفه كذلك، يكون قد أصبح اسمًا [substantif]
ولا يحتاج إلى أن يشير إلى أي شيءٍ بخلاف ذاته: أداة التنكير
باعتبارها حرفًا، واسم العلَم باعتباره اكتسابًا للفردية دون
ذات، والفعل في صيغة المصدر باعتباره صيرورةً خالصة، «هانز ما
يصبح حصانًا …» بدا لنا أن المشروع العظيم للأدب الإنجليزي
والأمريكي هو الاقتراب من تلك الكثرات، وفي هذا الأدب، فإن
سؤال «ماذا يعني أن تكتب؟» قد تلقَّى دون شكٍّ الإجابةَ الأقرب
إلى الحياة ذاتها، إلى الحياة النباتية والحيوانية. كما بدا
لنا أن الهدف الأسمى للعلم والرياضيات والفيزياء هو الكثرة؛
وأن كلًّا من نظرية المنظومات ونظرية الفضاءات ما زالتا في
طفولتهما. بدا لنا أن السياسة موضع رهان بدورها، وأن الريزومات
في حقل اجتماعي تنتشر في كل مكان تحت الأجهزة
الشجرية.
هذا الكتاب يتكوَّن من مجموعةٍ من التهويمات
[reveries] حول تشكُّلات
اللاوعي، وحول التشكُّلات الأدبية والعلمية والسياسية.
وهذا الكتاب ذاته كان في «الما بين» بمعانٍ عديدة؛ فقد كان
فيما بين كتابَين، ضد
أوديب، الذي كنا قد أنهيناه جاتاري وأنا،
وألف مسطَّح، الذي كنا
قد بدأناه والذي كان أشدَّ أعمالنا طموحًا، وتطرفًا، وأسوأها
استقبالًا. حدث هذا الكتاب، إذن، ليس فقط فيما بين كتابَين، لكن
فيما بين فيليكس جاتاري Félix
Guattari وبيني. وبينما كنت أكتبه مع
كلير بارنت، كانت هذه نقطة جديدة تتيح خطًّا جديدًا في الما بين. ما كان يهم لم يكن النقاط
— فيليكس، وكلير بارنت، وأنا
وآخرين عديدين، كانوا يقومون ببساطة بوظيفة نقاط اكتساب
ذاتية مؤقتة، وعابرة، ومتبخِّرة — بل مجموعة الخطوط المتفرعة،
المتباعدة المتشابكة التي شكلت هذا الكتاب ككثرة، والتي كانت
تمر فيما بين النقاط، حاملةً إياها معها دون أن تمضي أبدًا من
نقطة إلى الأخرى. ومن هنا، فإن الخطة الأولى لمحادثة بين
شخصَين، يطرح فيها واحدٌ الأسئلة ويجيب الآخر، لم تعُد لها أي
قيمة. كان على الانقسامات أن ترتكز على الأبعاد المتنامية
للكثرة، طبقًا لصيرورات لا يمكن نسبتها لأفراد؛ لأنهم لا
يمكنهم الانغماس فيها [في الكثرة] دون أن يتغيروا كيفيًّا.
وفيما أصبحنا أقل يقينًا بصدد ما جاء من شخص، وما جاء من
الآخر، أو حتى من شخص مختلف، أصبحنا أكثر وضوحًا بصدد «ماذا
يعني أن تكتب؟». فهذه سطور ستستجيب لبعضها البعض، مثل
التبرعمات تحت الأرضية لريزومة، في مقابل وحدة الشجرة
ومنطقها الثنائي. كان هذا حقًّا كتابًا دون ذات، دون بداية ولا
نهاية، لكنه ليس دون وسط، يناظر عبارة ميلر
Miller: «العشب ينمو في
الما بين … إنه فيضٌ، درس في الأخلاق …»
جيل دولوز، ١٩٨٦م
١
⋆
تمَّت ترجمةُ التصدير عن الطبعة الإنجليزية الصادرة عام
١٩٨٧م، عن جامعة كولومبيا، نيويورك، من ترجمة هيو
توملينسون Hugh
Tomlinson وباربارا هابرجام
Barbara
Habberjam وأُضِيفَت إلى الكتاب
المترجم عن الفرنسية، حرصًا على أن يتضمَّن الكتاب هذا
التوضيح المنهجي الهام من دولوز (المترجم).
٢
بالإنجليزية في الأصل (م).