القسم الأول
من الصعب جدًّا أن «يشرح المرء نفسه». في حوارٍ، محاورة، محادثة.
أغلب الوقت، حين يطرح عليَّ أحدٌ سؤالًا، حتى حين يتعلَّق بي،
أتبيَّن أنني ليس لديَّ ما أقوله على وجه الدقة. الأسئلة تُخترع،
مثل أي شيء آخر. وإذا لم تُترك لتخترع أسئلتك، بعناصر مأخوذة
من كل مكان، لا يهم من أين، إذا تم «طرحها» عليك، فلن يكون لديك
الكثير لتقوله. فن بناء مشكلة هو أمر بالغ الأهمية؛ فالمرء
يخترع مشكلة، طرحًا لمشكلة، قبل أن يجد حلًّا. ولا يتم شيء من
هذا كله في حوار، في محادثة، في نقاش، حتى التأمُّل، على انفراد،
أو بين اثنَين أو أكثر، ليس كافيًا. ليس التأمل في المقام
الأول. أما الاعتراضات، فهي أسوأ. في كل مرة يقدِّم فيها أحدٌ
اعتراضًا عليَّ أود أن أقول: «حسنًا، حسنًا، فلننتقل إلى شيء
آخر.» الاعتراضات لم تُسهم بشيءٍ أبدًا. نفس الشيء حين يُطرح
عليَّ سؤال عام. الهدف، ليس إجابة الأسئلة، بل الخروج، الخروج
منها. يعتقد الكثيرون أن المرء لا يمكنه الخروج من السؤال
إلا باجتراره. «ماذا عن الفلسفة؟» هل ماتت؟ هل نتجاوزها؟
الأمر شاقٌّ جدًّا. لن يتوقف المرء عن العودة إلى السؤال للتوصُّل
إلى الخروج منه، لكن الخروج لا يجري أبدًا على هذا النحو.
الحركة تجري دومًا خلف ظهر المفكر، أو في اللحظة التي يطرف
فيها جفنه. الخروج متحقق فعلًا، وإلا فلن يحدث أبدًا. الأسئلة
عمومًا تمتد صوب مستقبل (أو ماضٍ). مستقبل النساء، مستقبل
الثورة، مستقبل الفلسفة … إلخ، لكن، في هذه الأثناء، بينما
يدور المرء في دوائر بين هذه الأسئلة، ثمَّة صيرورات تعمل في
صمتٍ، تكاد تكون غير محسوسةٍ. نفكِّر أكثر مما ينبغي على أساس
التاريخ الشخصي أو العام، والصيرورات تنتمي إلى الجغرافيا،
إنها توجهات، اتجاهات، عمليات دخول وخروج. ثمَّة صيرورةُ-امرأة
ليست هي النساء، ماضيهن ومستقبلهن، ويجب أن تدخل النساء هذه
الصيرورة ليخرجْنَ من ماضيهن، ومن مستقبلهن، من تاريخهن. ثمة
صيرورة-ثوري ليست هي مستقبل الثورة، ولا تمر بالضرورة
بالمناضلين. ثمة صيرورة-فيلسوف لا تمتُّ بصلة بتاريخ
الفلسفة، وتجري بالأحرى عبر أولئك الذين لا يتمكَّن تاريخ
الفلسفة من تصنيفهم.
الصيرورة لا تعني أبدًا التقليد، ولا أن «نفعل مثل»، ولا
الامتثال لنموذج، سواء كان نموذجًا للعدل أو للحقيقة. لا يوجد
حدٌّ ينطلق المرء منه، ولا حد يصل إليه أو يجب أن يصل إليه.
ولا حدَّان يتم تبادلهما. وسؤال «ماذا تصير؟» أحمق بوجه خاص؛
إذ بقدر ما يصير المرء، فإن ما يصيره يتغيَّر بقدر ما يتغير
هو. ليست الصيرورات ظواهر تقليد، ولا تمثل، بل استيلاء
capture، مزدوج تطور غير متوازٍ، أعراس noces بين
مملكتَين. والأعراس دومًا ضد الطبيعة. الأعراس نقيض الاقتران
الثنائي. لم تعُد ثمة آلات ثنائية: سؤال-إجابة، مذكر-مؤنث،
إنسان-حيوان … إلخ. هذا ما يمكن أن تكونه المحادثة، مخطط
صيرورة ببساطة. ويقدِّم الزنبور وزهرة الأوركيد المثال. يبدو
أن زهرة الأوركيد تشكل صورة للزنبور، لكن هناك في الحقيقة
صيرورة-زنبور لزهرة الأوركيد، وصيرورة-زهرة أوركيد
للزنبور، استيلاء مزدوج لأن «ما» يصيره كلٌّ منهما يتغيَّر بدرجة
لا تقلُّ عن «ذلك الذي يصير». يصير الزنبور جزءًا من جهاز
تناسل زهرة الأوركيد، في نفس الوقت الذي تصير فيه زهرة
الأوركيد عضوًا جنسيًّا للزنبور. صيرورة واحدة ووحيدة، كتلة
bloc صيرورة واحدة، أو،
كما يقول ريمي شوفان Rémy
chauvin «تطور لا متوازٍ لكائنَين لا
علاقة مطلقًا لأحدهما بالآخر.» هناك صيرورات-حيوانات للإنسان
لا تتمثَّل في القيام بدور الكلب أو القط؛ حيث إن الحيوان
والإنسان لا يلتقيان إلا على مسار نزع-توطين مشترك، لكنه
غير متماثل. الأمر مثل طيور موتسارت: فثمة صيرورة-طائر
في هذه الموسيقى، لكنها مشتبكة داخل صيرورة-موسيقى للطائر،
وتُشكِّل الاثنتان صيرورةً واحدة، كتلة واحدة، تطورًا لا متوازيًا، ليس تبادلًا على الإطلاق،
بل «ثقة دون محاور
محتمل»، كما يقول معلق على موتسارت؛ محادثة باختصار.
الصيرورات، هي أقل الأشياء قابلية للإدراك، هي أفعال لا
يمكن احتواؤها إلا في حياة، والتعبير عنها في أسلوب. الأساليب
ليست بناءات أكثر من أنماط الحياة. في الأسلوب لا تهم
الكلمات، ولا العبارات، ولا الإيقاعات والمجازات. وفي الحياة
لا تهم الحكايات، ولا المبادئ أو العواقب. يمكنك دومًا
استبدال كلمة بأخرى. إذا لم تعجبك هذه الكلمة، إذا لم
تناسبك، خذ أخرى، ضع أخرى في مكانها. إذا قام كلُّ واحدٍ بهذا
الجهد، يمكن للجميع أن يتفاهموا ولا يعود ثمة سببٌ لطرح أسئلة
أو توجيه اعتراضات. ليس ثمة كلمات مناسبة، وكذلك ليس ثمة
استعارات (فكل الاستعارات كلمات بذيئة، أو تجعلها كذلك). ليس
ثمة سوى كلمات غير دقيقة لتحديد شيء ما بدقة. فلنخلق كلمات
استثنائية، شرط جعل استخدامها أكثر الاستخدامات عادية، وجعل
الكيان الذي تُحدِّده يوجد بنفس الطريقة باعتباره أكثر
الأشياء شيوعًا. اليوم، في متناولنا طرق جديدة للقراءة، وربما
للكتابة. منها طرق سيئة وبذيئة. فمثلًا، يتولَّد لدينا الانطباع
بأن كتبًا معينة تُكتب من أجل مراجعتها التي من المفترض أن
يقوم بها صحفي، بحيث لا تعود ثمة حاجة إلى المراجعة، بل لمجرد
كلمات فارغة (يجب أن تقرءوا هذا! إنه مشهور! هيا! سترون!) من
أجل تجنُّب قراءة الكتاب ووضع المقال، لكن الطرق الجيدة
للقراءة اليوم تعني التوصل إلى معاملة كتاب ما مثلما ينصت
المرء إلى أسطوانة، أو مثلما يشاهد فيلمًا أو برنامجًا
تليفزيونيًّا، أو يستمع إلى أغنية: كل معاملة للكتاب تتطلَّب له
احترامًا خاصًّا، انتباهًا من نوع آخر، تأتي من عصر آخر وتُدين
الكتاب بشكل حاسم. ليس ثمة أية مسألة صعوبة أو فهم؛ فالمفاهيم
مثل الأصوات تمامًا، أو الألوان، أو الصور، إنها كثافات
تناسبك أو لا تناسبك، مقبولة أو غير مقبولة، فلسفة بوب. ليس
ثمة ما يجب فَهْمه، ولا ما يجب تفسيره. أودُّ أن أقول ما هو
الأسلوب. إنه ملكية لمن يقال عنهم عادةً «ليس لهم أسلوب …»
ليس بنية ذات دلالة، ولا تنظيمًا متعقلًا، ولا إلهامًا
عفويًّا، ولا توزيعًا أوركستراليًّا، ولا قطعة موسيقية صغيرة.
إنه تجميعة agencement،
تجميعة منطوقات. الأسلوب هو التوصُّل إلى التلعثم في لغة المرء
ذاته. وهو صعب؛ إذ يجب أن تكون ثمة ضرورةٌ لمثل هذا التلعثم،
لا أن يكون المرء متلعثمًا في حديثه، بل متلعثمًا في اللغة
ذاتها. أن يكون مثل غريب في لغته ذاتها. أن يصنع خط هروب
ligne de fuite والأمثلة
الأشد إدهاشًا بالنسبة لي هي: كافكا
Kafka، وبيكيت
Beckett، وجيراسيم لوكا
Gherasim Luca وجودار
Godard. جيراسيم لوكا
شاعر عظيم بين أعظم الشعراء: وقد ابتكر تلعثمًا خارقًا،
تلعثمه هو. وقد بلغ حد القيام بقراءات عامة لقصائده؛ بحضور
مائتَي شخص، ورغم هذا كان ذلك حدثًا، كان حدثًا يمر عبر هؤلاء
المائتَين، لا ينتمي إلى أية مدرسة أو حركة. الأمور لا تمر
أبدًا حيث يعتقد المرء، ولا عبر الطرق التي يعتقدها.
يمكن دومًا الاعتراض بأننا نأخذ أمثلةً مواتية، كافكا
اليهودي التشيكي الذي يكتب بالألمانية، وبيكيت الأيرلندي
الذي يكتب بالإنجليزية والفرنسية، ولوكا الروماني الأصل، وحتى
جودار السويسري. وماذا بعد؟ ليست هذه هي المشكلة بالنسبة لأيٍّ
منهم؛ إذ يجب أن نكون ثنائيي اللغة حتى داخل لغة واحدة، يجب
أن نملك لغة أقلية داخل لغتنا، يجب أن نصنع من لغتنا ذاتها
استخدامًا أقلياتيًّا. التعددية اللغوية ليست فحسب امتلاك
أنساق متعدِّدة يكون كلٌّ منها متجانسًا في ذاته؛ بل هي أولًا خط
الهروب أو التنوُّع الذي يؤثِّر على كل نسقٍ بحيث يمنعه من أن
يكون متجانسًا، لا تعني التحدُّث كأيرلندي أو كروماني داخل لغة
أخرى غير لغته، بل على العكس التحدُّث في
لغته الخاصة كأجنبي. يقول بروست:
«الكتب الجميلة مكتوبة في نوع من اللغة الأجنبية؛ فتحت كلِّ
كلمة يضع كلُّ واحد منا معناه، أو على الأقل صورته الذهنية التي هي عادةً معنًى خاطئ،
لكن في الكتب الجميلة تكون كل المعاني الخاطئة
التي يصنعها المرء جميلة.»
١ إنها طريقة القراءة الجيدة: كل المعاني الخاطئة
جيدة، بشرط ألَّا تتمثَّل في تفسيرات، بل تخص استخدام الكتاب،
بشرط أن تُضاعف استخدامه، أن تصنع لغةً داخل لغته. «الكتب
الجميلة مكتوبة في نوع من اللغة الأجنبية …» هذا هو تعريف
الأسلوب. هنا أيضًا تكون المسألةُ مسألة صيرورة. يفكر الناس
دومًا في مستقبل أغلبياتي
majoritaire (حين أكبر،
حين تكون لديَّ السلطة …). بينما تتمثَّل المشكلة في الصيرورة-أقلياتيًّا
devenir-minoritaire:
ليس الادِّعاء، ولا لعب دور الطفل أو تقليد الطفل، أو المجنون،
أو المرأة، أو الحيوان، أو المتلعثم، أو الأجنبي، بل الصيرورة
كل هذا، من أجل اختراع قُوًى جديدة أو أسلحة جديدة.
هكذا الحياة أيضًا. ففي الحياة نوعٌ من الخرق، من اعتلال
الصحة، من ضعف البنيان، من التلعثم الحيوي الذي يمثل سحر شخص
بعينه. السحر، منبع الحياة، مثلما الأسلوب منبع الكتابة،
والحياة ليست هي تاريخك، ومَن ليس لديهم سحر ليست لديهم حياة،
إنهم كالموتى، لكن السحر ليس هو الشخص على الإطلاق. إنه ما
يجعل الأشخاص يُدركون باعتبارهم توليفات
combinaisons عديدة،
وفرصًا فريدة تُستخلص منها مثل تلك التوليفة. إنه رمية نردٍ
رابحة بالضرورة؛ لأنها تؤكد الصدفة بدرجة كافية، بدل تقطيع
الصدفة، أو تشويهها، أو اختزالها إلى الاحتمالات. وهكذا، من
خلال كل توليفة هشَّة، تتأكَّد قوة حياة بنشاط، وعناد، وإصرار في
الكائن الذي لا مثيل له. ومن المثير للاهتمام كيف أن
للمفكرين العظام في آنٍ واحد حياة شخصية هشة، وصحة بالغة
الاعتلال، وفي نفس الوقت يحملون الحياة إلى حالة القوة
المطلقة أو «
الصحة
العظمى». هؤلاء ليسوا أشخاصًا، بل هم شفرة توليفتهم
الخاصَّة. السحر والأسلوب كلمتان سيئتان، ويجب العثور على
غيرهما، واستبدالهما. السحر يمنح الحياة قوةً غير شخصية،
تفوق الأفراد، وفي نفس الوقت يمنح الأسلوب الكتابة غاية
خارجية تتجاوز ما هو مكتوب. ونفس الشيء الكتابة ليس لها
غاية في ذاتها، بالضبط لأن الحياة ليست شيئًا شخصيًّا. الكتابة
غايتها الوحيدة هي الحياة عبر التوليفات التي تستخرجها. هذا
هو نقيض «العصاب»، حيث على وجه الدقة يتم دون توقُّف تشويه
الحياة، وتحقيرها، وشخصنتها، وقتلها، وحيث تتخذ الكتابة من
نفسها غاية. يكتب نيتشه، نقيضُ العصابي، صاحبُ الحيوية الضخمة
ذو الصحة المعتلَّة: «يبدو أحيانًا أن الفنان، وبالأخص الفيلسوف،
ليس سوى صدفةٍ في حقبته … وعند ظهوره، فإن الطبيعة التي لا
تقفز أبدًا، تقوم بوثبتها الوحيدة، وهي وثبة بهجة؛ لأنها
تستشعر أنها للمرة الأولى قد بلغت هدفها، هنالك، حيث تفهم
أنها بمراهنتها مع الحياة والصيرورة قد واجهت خصمًا عنيدًا
جدًّا. هذا الاكتشاف يجعلها تتوهَّج، ويستقر فوق وجهها إجهاد
مسائي عذب يسميه الناس سحرًا.»
٢
حين يعمل المرء، يكون بالضرورة في عزلة مطلقة. لا يمكنه
عمل مدرسة، ولا أن يُشكِّل جزءًا من مدرسة. ما من عمل إلا وهو
عمل أسود، غير مشروع، لكنها عزلة مفرطة الازدحام. ليست مزدحمة
بالأحلام، ولا بالأشباح أو المشروعات، بل باللقاءات. اللقاء،
ربما كان هو نفسه الصيرورة أو العرس. من أعماق هذه العزلة
يمكن للمرء القيامُ بأي لقاءٍ كان. يلتقي المرء بأناس (أحيانًا
دون أن يعرفهم أو يكون قد رآهم أبدًا)، لكنه يلتقي أيضًا
بحركات وأفكار وأحداث، وكيانات. ولكلِّ هذه الأشياء أسماء
أعلام، لكن اسم العلم لا يحدِّد على الإطلاق شخصًا أو ذاتًا،
بل يحدد تأثيرًا، خطًّا متعرجًا، شيئًا يمر أو يحدث بين شيئَين
مثلما تحت تأثير فرقٍ في الجهد: «تأثير كومبتون
Compton»، «تأثير كيلفين
Kelvin». وقد قلنا نفس
الشيء عن الصيرورات: ليس طرفًا من الأطراف يصير آخر، بل يلتقي
كلُّ واحد بالآخر، صيرورة واحدة ليست مشتركة بين الاثنين، فلا
علاقة لأحدهما بالآخر، لكنها فيما بين الاثنين، لها اتجاهها
الخاص، كتلة صيرورة، تطوُّر لا متوازٍ. إنه هذا الاستيلاء
capture المزدوج،
الزنبور وزهرة الأوركيد: ليس حتى شيئًا سيكون في أحدهما، أو
شيئًا سيكون في الآخر، حتى لو توجب تبادله، أو امتزاجه، بل شيء
فيما بين الاثنَين، خارج الاثنين، ويتدفَّق في اتجاه آخر.
الالتقاء يعني العثور، يعني الاستيلاء، يعني السرقة، لكن ما
من طريقة للعثور سوى الإعداد الطويل. السرقة نقيض الانتحال،
النسخ، التقليد أو المحاكاة. الاستيلاء هو دومًا استيلاء مزدوج،
والسرقة، سرقة مزدوجة، إنه ما يصنع، لا شيئًا متبادلًا، بل كتلة
غير متماثلة، تطورًا غير متوازٍ، أعراسًا، دائمًا «خارج»
و«ما بين». هذا إذن ما سيكونه، محادثة.
نعم، أنا لصُّ أفكار،
ولست، من فضلكم، سارقَ أرواح.
لقد بنيتُ وأعدتُ البناء
على ما كان ينتظر؛
لأن الرمل على الشواطئ
ينحت قلاعًا كثيرة،
على ما كان متاحًا
قبل زمني.
على كلمة، أو لحن، أو قصة، أو سطر.
مفاتيح في الريح تفتح مغاليق ذهني،
وتمنح أفكاري الحبيسة نسيم فناء خلفي.
ليس من شأني أن أجلس وأتأمل
متعجِّبًا ومضيعًا الوقت،
مُفكِّرًا في أفكار لم يفكر فيها أحد،
مفكرًا في أحلام لم يحلم بها أحد،
أو في أفكار جديدة لم تُكتب بعد،
أو في كلمات جديدة تناسب القافية …
ولا أقلق على القواعد الجديدة؛
لأنها لم توضع بعد،
وأصيح بما ينشد في رأسي
مدركًا أنني وأمثالي
من سنضع تلك القواعد الجديدة،
لو كان أناسُ الغد
بحاجة حقًّا إلى قواعد اليوم،
تجمعوا جميعًا، إذن، يا كل المدَّعين
العامِّين؛
فالعالم ليس سوى قاعة محكمة.
نعم،
لكنني أعرف المتهمين خيرًا منكم،
وبينما تنهمكون في الادعاء،
ننهمك نحن في الصفير،
في تنظيف القاعة،
كانسين كانسين،
منصتين منصتين،
غامزين لبعضنا البعض،
حذارِ
حذارِ
ما أشد كبرياء وروعة، وكذلك تواضع، هذه
القصيدة لبوب ديلان Bob
Dylan. إنه يقول كل شيء. بوصفي
أستاذًا، أودُّ أن أبلغ مرتبة أن ألقي درسًا مثلما يُنظِّم
بوب ديلان أغنيةً، كمنتج مدهش أكثر من كوني مؤلفًا، وأن
يبدأ الدرس مثله، فجأةً، بقناع المهرج الذي يضعه، بفن
التواطؤ على كل تفصيلة، وارتجالها رغم ذلك. إنه نقيضُ
المنتحل، لكنه أيضًا نقيض الأستاذ أو النموذج. إعداد بالغ
الطول، لكن دون منهج ولا قواعد، ولا وصفات. أعراس، لا
أزواج ولا تزاوج. أن يكون لديَّ حقيبة أضع فيها كلَّ ما
أصادفه، بشرط أن أوضع أنا أيضًا في حقيبة. العثور،
والالتقاء، والسرقة، بدل التنظيم، والاعتراف، وإصدار الحكم؛
لأن الاعتراف هو نقيض الالتقاء. وإصدار الحكم هو مهنة
الكثير من الناس، وليست مهنةً جيدة، لكنه أيضًا الاستخدام
الذي يصنعه الكثيرون بالكتابة. الأفضل أن يكون المرء
كناسًا عن أن يكون قاضيًا. وكلما زاد خطأ المرء في
حياته، أعطى دروسًا؛ وليس أفضل من ستاليني لإعطاء
دروس عن اللاستالينية، وصياغة «القواعد الجديدة». ثمَّة
جنس كامل من القضاة، وتاريخ الفكر يختلط بتاريخ محكمة،
ويزعم أنه محكمة للعقل
الخالص، أو للإيمان
الخالص … وهذا هو السبب في أن الناس يتحدَّثون بسهولة
بالغة باسم الآخرين وفي مكانهم، وفي أنهم يحبون الأسئلة
كثيرًا، ويعرفون جيدًا كيف يطرحونها وكيف يُجيبونها. وهناك
أيضًا مَن يطالبون بأن يُحاكَموا، ولو لإعلان أنهم مذنبون. في
العدالة، فإن ما يطالبون به هو الامتثال، حتى لو كان
لقواعد يخترعونها، أو لتسامٍ يزعمون كشفه، أو لمشاعر
تُحركهم. العدل والصواب فكرتان سيئتان. لنضع في مقابل
ذلك صيغة جودار؛ لا صورة صائبة، بل مجرد صورة
[pas une image juste, juste une
image] ونفس الشيء في الفلسفة،
مثلما في فيلم أو أغنية: لا أفكار صائبة، بل مجرد أفكار.
مجرد أفكار، هذا هو الالتقاء، الصيرورة، السرقة، والأعراس،
هذه العزلات «فيما بين اثنَين». وحين يقول جودار: أريد أن
أكون مكتب إنتاج، فإنه بداهةً لا يريد أن يقول: أريد أن
أنتج أفلامي الخاصة، أو أريد أن أنشر كتبي الخاصة، بل
يريد أن يقول مجرد أفكار؛ لأن الأمر حين يبلغ هذا الحد،
يكون المرء وحيدًا تمامًا، لكنه يكون أيضًا مثل جمعية من
الأشقياء. لا يعود المرء مؤلفًا، بل يصبح مكتب إنتاج، لم
يكن أبدًا أكثر ازدحامًا. أن يكون المرء «عصابة»: تحيا
العصابات أسوأ المخاطر، الإصلاح من جانب القضاة، والمحاكم،
والمدارس، والعائلات والعلاقات الزوجية، لكن ما هو جيد في
عصابة، من ناحية المبدأ، هو أن كل واحد فيها يتولى شئونه
الخاصة بينما يلتقي بالآخرين، كل واحد يجلب غنيمته،
وترتسم خطوط صيرورة، تأخذ كتلة
bloc في الحركة، لا
تعود تخص أحدًا، بل إنها «فيما بين» الجميع، مثل قارب
صغير يفلته أطفال ويفقدونه، ويسرقه آخرون. في الحوارات
التليفزيونية بعنوان «٦ في ٢» ماذا فعل جودار وميفيل
Mieville، إن لم يكن
الاستخدامَ الأكثر ثراءً لعزلتهما، استخدامها كوسيلة
للالتقاء، جعل خطٍّ أو كتلةٍ يمرُّ ما بين شخصَين، إنتاج كل
ظواهر الاستيلاء المزدوج، توضيح ما هو حرف العطف «و»، فلا
هو اجتماع، ولا تعارض، بل مولد تلعثم، رسم خط منكسر يمضي
دائمًا في تماس، نوع من خط الهروب النشط والخلاق؟ و… و…
و…
لا يجب أن تبحث إن كانت فكرة ما صائبة أو حقيقية، بل يجب
البحث عن فكرة أخرى تمامًا، بعيدًا، في مجالٍ آخر؛ بحيث يحدث
شيءٌ بين الاثنتين، ليس في هذه ولا في تلك. هذه الفكرة
الأخرى، لا يجدها المرء من تلقاء ذاته عمومًا، بل يجب أن
تتوافر صدفة، أو أن يمنحها لك شخص ما. لا يجب أن تكون عارفًا،
تعرف مجالًا أو يكون مألوفًا لك، بل أن تتعلم هذا أو ذاك في
مجالات بالغة الاختلاف. هذا أفضل من «التقطيع»
«cut-up». إنه بالأحرى
عملية «التقِطْني»
«pick-me-up»، أو «التقاط» «pick-up» — وتعني في
القاموس = التجميع، الصدفة، إعادة تشغيل الموتور، التقاط
الموجات، ثم المعنى الجنسي للكلمة. والتقطيع لدى بوروز
Burroughs ما زال منهجًا
للاحتمالات النحوية على الأقل، وليس طريقة لسحب الأوراق، أو
فرصة وحيدة في كل مرة تجمع بين العناصر المتنافرة. فمثلًا،
أحاول توضيح أن الأشياء، والأشخاص، يتكوَّنون من خطوط شديدة
التنوع، وأنهم لا يعرفون بالضرورة على أي خط من خطوطهم
يكونون، ولا أين يجعلون الخط الذي يرسمونه يمر، هناك باختصار
جغرافيا كاملة داخل الأشخاص، بخطوط صلبة، وخطوط لينة، وخطوط
هروب … إلخ. أرى صديقي جان-بيير Jean-Pierre الذي يشرح لي، في موضوع آخر، أن
الميزان النقدي يتضمن خطًّا بين نوعَين من العمليات البسيطة
ظاهريًّا، لكن هذا الخط بالضبط، يمكن للاقتصاديين أن يجعلوه
يمرُّ حيثما شاءوا، لدرجة أنهم لا يعرفون على الإطلاق أين
يجعلونه يمر. هذا التقاء، لكن مع من؟ مع جان-بيير مع مجال،
مع فكرة، مع كلمة، مع إيماءة؟ مع فانِّي
Fanny [زوجة دولوز]، لم
أكفَّ أبدًا عن العمل بهذه الطريقة. فدائمًا ما تأخذني أفكارها
من وراء ظهري؛ إذ تأتي من بعيد جدًّا، لدرجة أننا نتقاطع مثل
إشارتَي مصباحَين. وخلال عملها عثرَت على قصائد للورانس
Lawrence تخص السلاحف،
لم أكن أعرف شيئًا عن السلاحف، ورغم ذلك غيَّر هذا كلَّ شيء بشأن
الصيرورات-حيوانات، ليس مؤكدًا أن يكون حيوان أيًّا كان مشتبكًا
في هذه الصيرورات، ربما السلاحف، أو الزرافات. ها هو لورنس
يقول: «أنا زرافة، والإنجليز الذين يكتبون عني كلاب مدرَّبة
جيدًا، ولم يعد هذا ينتج شيئًا، فالحيوانات بالغة الاختلاف.
تقولون إنكم تحبونني صدقوني أنتم لا تحبونني، أنتم تحتقرون
بصورة غريزية الحيوانَ الذي أكونه.» أعداؤنا كلاب، لكن ما هو
على وجه الدقة الالتقاء مع شخص يحبه المرء؟ هل هو التقاء مع
شخص ما، أم مع حيوانات تأتي لتسكنك، أم مع أفكار تجتاحك، أم
مع حركات تحرك مشاعرك، أم مع أصوات تتخلَّلك؟ وكيف نفصل بين
هذه الأشياء؟ أستطيع التحدث عن فوكوه، أستطيع حكيَ أنه قال لي
هذا الشيء أو ذاك، وتفصيل كيف أراه، لكن هذا لا شيء، طالما لم
أعرف كيف ألتقي فعليًّا بهذه المنظومة من الأصوات المطروقة،
والإيماءات الحاسمة، والأفكار من الخشب الجاف والنار،
والاهتمام المتطرف والانغلاق المباغت من الضحكات والابتسامات
التي يشعر المرء بأنها «خطيرة»، في ذات اللحظة التي يتحقق
فيها من رقتها — هذه المنظومة مثل توليفة فريدة سيكون اسم
العَلَم لها هو فوكوه؛ رجل دون مرجعيات، كما يقول فرنسوا إيوالد
Francois Ewald: أفضل
إطراء … جان-بيير، الصديق الوحيد الذي لم أهجره أبدًا ولم
يهجرني … وجيروم هذا الظل السائر المتحرك، الذي تخترقه
الحياة من كل جانب، والذي يتغذى سخاؤه، وحبه من مصدر سري، هو
يونس … في كل واحدٍ منا،
كما هي الحال، ثمة زهد، موجَّه جزئيًّا ضد أنفسنا. نحن صحارى،
لكنها مأهولة بالقبائل، والحيوانات والنباتات. ونحن نقضي
وقتنا في تنظيم تلك القبائل، في ترتيبها بطريقة أخرى، في تصفية
بعضها، وجعل أخرى تزدهر. وكل هذه العشائر، كل هذه الحشود، لا
تمنع الصحراء، التي هي زهدنا ذاته، بل إنها على العكس تسكنها،
تمر خلالها، فوقها. في داخل جاتاري، كان ثمة دومًا نوعٌ من
الروديو rodéo الوحشي، موجَّهٌ
ضد نفسه جزئيًّا. الصحراء التجريب على أنفسنا، هو هُويتنا
الوحيدة، فرصتنا المنفردة من أجل كل التوليفات التي تسكننا، ثم
يقال لنا: «لستم سادة، بل أنتم خانقين أكثر.» كنا نود بشدة أن
نكون شيئًا آخر.
تأهَّلتُ على يد أستاذَين، أحببتهما وأعجبتُ بهما كثيرًا،
ألكييه وهيبوليت Alquié et
Hyppolite. وكانت العاقبة سيئة. كانت
لأحدهما يدان طويلتان بيضاوان وتلعثمٌ لا تدري إن كان يأتي من
الطفولة، أم أنه موجود، على العكس، ليُخفي لكنةً إقليمية، موضوع
في خدمة الثنائيات الديكارتية. وكانت للثاني سحنة قوية،
بملامح غير مكتملة، ويوقِّع بقبضته الثلاثيات الهيجلية، معلِّقًا
الكلمات بالإيقاع. وعند التحرير، كنا لا نزال عالقين بشكل
غريب في تاريخ الفلسفة. كنا نغوص ببساطة في هيجل، وهوسرل،
وهايدجر؛ وقذفنا أنفسنا كجراء صغيرة في نزعة مدرسية أسوأ من
مدرسية العصور الوسطى. ولحسن الحظ، كان هناك سارتر. كان
سارتر هو الخارج بالنسبة لنا، كان حقًّا تيار النسيم القادم من
فناء خلفي (وكان أمرًا قليل الأهمية أن نعرف ماذا كانت علاقاته
بالضبط مع هايدجر من وجهة نظر تاريخ لاحق). ومن بين كل
احتمالات السوربون، كان هو التوليفة الفريدة التي تمنحنا
القوة لتحمُّل استعادة النظام الجديدة. ولم يكفَّ سارتر أبدًا
عن أن يكون ذلك، لا نموذجًا، ولا منهجًا، ولا مثالًا، بل بعض
الهواء النقي، تيارًا من النسيم حتى وهو يأتي من مقهى فلور
Flore، مثقفًا غيَّر بشكلٍ
فريد وضْعَ المثقف. ومن الحماقة أن نتساءل ما إذا كان سارتر
بداية أم نهاية شيء ما؛ فهو، مثل كل الأشياء الخلاقة والناس
الخلاقين، في المنتصف، ينمو من المنتصف. يبقى أنني لم أشعر
في تلك الفترة بالانجذاب تجاه النزعة الوجودية، ولا تجاه
الظاهراتية، لا أدري لماذا، لكن كان الأمر تاريخًا بالفعل حين
وصلت، الكثير من المنهج والمحاكاة، والشروح والتفسيرات
باستثناء سارتر. بعد التحرير، إذن، انغلق تاريخ الفلسفة حولنا
بإحكام، دون حتى أن ننتبه تحت ذريعة أن يفتح لنا مستقبلًا
للفكر، سيكون في نفس الوقت الفكر الأكثر قدمًا. لم يبدُ لي أن
«سؤال هايدجر» هو: هل كان نازيًّا بعض الشيء؟ (بالطبع، بالطبع)، لكن ماذا كان دوره في
هذا الحقن الجديد لتاريخ الفلسفة؟ الفكر، لا أحد يأخذ هذا على محمل الجد تمامًا، سوى
مَن يزعمون
أنهم مفكرون، أو فلاسفة محترفون، لكن هذا لا يمنع على الإطلاق
أن تكون له أجهزةُ سلطة — أو أن يكون من تأثيرات جهازه للسلطة
أن يقول للناس: «لا تأخذوني على محمل الجد؛ لأنني أفكر لكم؛
لأنني أمنحكم امتثالًا، ومعايير، وقواعد، وصورة.» وإزاء ذلك كله
يمكنكم أن تُسلِّموا أكثر فتقولوا: «ليس هذا من شأني، ليس لهذا
أهميةٌ، إنه شأن الفلاسفة ونظرياتهم الخالصة.»
كان تاريخُ الفلسفة على الدوام وسيطَ
l’agent السلطة في
الفلسفة، وكذلك في الفكر. ولعب دور القامع: كيف تريد أن
تُفكِّر دون أن تكون قد قرأت أفلاطون، وديكارت، وكانط، وهايدجر،
وكتاب فلان أو علان عنهم؟ مدرسة ترهيب ضخمة تصنع الأخصائيين
في الفكر، لكنها كذلك تجعل مَن يبقون خارجًا يمتثلون أفضل لذلك
التخصص الذي يسخرون منه. تأسست تاريخيًّا صورة للفكر، سُميت
فلسفة، تمنع الناس تمامًا من التفكير. ولا ترجع علاقة الفلسفة
بالدولة فحسب إلى حقيقة أن أغلب الفلاسفة كانوا، منذ عهد
قريب، «أساتذة عموميين» (رغم أن هذه الحقيقة كان لها، في فرنسا
وفي ألمانيا، معنًى مختلفٌ تمامًا)؛ فالعلاقة أبعد من ذلك بكثير؛
إذ يستعير الفكر صورتَه الفلسفية بالمعنى المحدد من الدولة
بوصفها داخليةً جميلةً جوهريةً أو ذاتية. يخترع الفكر دولة
روحية بالمعنى المحدد، بوصفها دولة مطلقة، ليست حلمًا على
الإطلاق؛ إذ إنها تعمل بكفاءة في العقل. ومن هنا أهمية
المقولات من قبيل الكلية والمنهج، والسؤال والجواب، وملكة
الحكم، والاعتراف أو التعرف، والأفكار الصائبة، امتلاك أفكار
صائبة على الدوام. ومن هنا أهمية تيمات من قبيل جمهورية
العقول، والبحث في الفهم، ومحكمة العقل، و«الحق» الخالص
للفكر، مع وزراء داخلية وموظفي الفكر الخالص. الفلسفة
يتخلَّلها مشروعُ أن تصير اللغة الرسمية لدولة خالصة. وهكذا
تمتثل ممارسة الفكر لأهداف الدولة الواقعية، للدلالات
السائدة مثلما لمتطلبات النظام القائم. وقد قال نيتشه كل شيء
عن هذه النقطة في شوبنهاور
المربي. وما يتم سحقه، وشجبه باعتباره
إزعاجًا، هو كل ما ينتمي إلى فكر دون صورة نزعة البداوة، آلة
الحرب، الصيرورات، الأعراس ضد الطبيعة، الاستيلاءات والسرقات،
الأشياء ما-بين-المجالَين، اللغات الأقلياتية أو التلعثمات
داخل اللغة … إلخ. من المؤكد أن تخصُّصاتٍ أخرى غير الفلسفة
وتاريخها يمكنها أن تلعب دور قامع الفكر هذا، بل يمكن القول
اليومَ إن تاريخ الفلسفة قد أفلس، وإن «الدولة لم تعُد بحاجة
إلى مصادقة الفلسفة»، وإن منافسين شرسين قد أخذوا مكانها
بالفعل. أخذت الإبستمولوجيا [فلسفة المعرفة] الزمام من تاريخ
الفلسفة. وتشهر الماركسية حكمًا على التاريخ أو حتى محكمة
للشعب مقلقين أكثر من غيرهما. وينشغل التحليل النفسي باطِّراد
بوظيفة «الفكر»، وثمة سبب لتزاوجه مع اللغويات. هذه هي
الأجهزة الجديدة للسلطة في الفكر ذاته، ويشكل ماركس، وفرويد
وسوسير قامعًا غريبًا بثلاثة
رءوس، لغة سائدة كبرى، والتفسير، والتحويل، والنطق هي الأشكال
الجديدة للأفكار «الصائبة». وحتى مؤشر تشومسكي الصرفي هو
ذاته مؤشر سلطة في المقام الأول. انتصرت اللغويات في نفس
الوقت الذي تطوَّرت فيه المعلومات كسلطة، وفرضت صورتها للغة
وللفكر، وفقًا لنقل كلمات الأمر mots
d’ordre ووفقًا لتنظيم الإطنابات. ليس
ثمة معنًى حقًّا في التساؤل إن كانت الفلسفة قد ماتت، حين تتولَّى
تخصصات أخرى كثيرة وظيفتها. وليس لنا أن نزعم لأنفسنا أي حق
في الجنون، طالما يمر الجنونُ هو ذاته عبر التحليل النفسي
واللغويات مجتمعين، وطالما تتخلله أفكار صائبة، أو ثقافة
قوية، أو تاريخ دون صيرورة، طالما يكون له مهرجوه وأساتذته،
وزعماؤه الصغار.
بدأتُ إذن بتاريخ الفلسفة، حين كان لا يزال يفرض نفسه. ومن
جانبي لم أجد طريقة أخلِّص بها نفسي — لم أكن أطيق ديكارت،
الثنائيات والكوجيتو، ولا هيجل، الثالوثات وعمل النفي. وهكذا
أحببتُ مؤلفين كان يبدو أنهم يشكِّلون جزءًا من تاريخ الفلسفة،
لكنهم يفلتون منه من جانب واحد أو تمامًا: لوكريتيوس، سبينوزا،
هيوم، نيتشه، برجسون. بالتأكيد، في كل تاريخ للفلسفة فصلٌ عن
النزعة الإمبيريقية، ويجد لوك وبيركلي مكانهما فيه، لكن لدى
هيوم شيء غريب جدًّا يزيح النزعة الإمبيريقية تمامًا، ويمنحها
قوةً جديدة ممارسة ونظرية للعلاقات ﻟﻠ «و»، جرى اقتفاء أثرها
عند رسل وهوايتهيد، لكنها تظل مطمورةً أو هامشيةً بالنسبة
للتصنيفات الكبرى، حتى حين تلهم مفهومًا جديدًا للمنطق
وللإبستمولوجيا. وبالتأكيد أيضًا، كان برجسون مشتبكًا في تاريخ
الفلسفة على الطريقة الفرنسية؛ ورغم ذلك يظل فيه شيء لا يقبل
الاندماج مكَّنه من أن يُشكِّل صدمة، نقطة التقاء لكل المعارضين،
وموضوعًا لكل ضروب الكراهية، ولا يرجع هذا إلى تيمة الديمومة
durée بقدر ما يرجع إلى
نظرية وممارسة الصيرورات من كل نوع، إلى الكثرات المتزامنة
الوجود coexistantes. أما
سبينوزا، فمن السهل منحه مكان الصدارة بين أتباع النزعة
الديكارتية، لكنه يطفر عن هذا المكان في كل الاتجاهات، وما من
ميت حي يرفع غطاء تابوته بكل تلك القوة، ويصيح بكل تلك
القوة: أنا لست واحدًا من قومكم. وقد عملت على سبينوزا بأكبر
قدر من الجدية وفق معايير تاريخ الفلسفة، لكنه أكثر من منحني
الشعور بلفحة نسيم تلفح ظهرك في كل مرة تقرؤه، بمكنسة ساحرة
يجعلك تمتطيها. لم نبدأ بعد في فَهم سبينوزا، وأنا نفسي لا
أفهمه أكثر من الآخرين. كل هؤلاء المفكرين ذوو بنية هشة،
ورغم ذلك تتخللهم حياة لا يمكن تجاوزها، ولا يتقدمون إلا مِن
خلال القوة الإيجابية، والتوكيدية. لديهم نوع من عقيدة
الحياة (أحلم بأن أكتب مذكرةً لأكاديمية العلوم الأخلاقية
لأوضح أن كتاب لوكريتيوس لا يمكن أن ينتهي بوصف الطاعون، وأن
هذا اختراع، تزييف من المسيحيين الراغبين في إظهار أن مفكرًا
شقيًّا لا بد أن ينتهي به الأمر بالعذاب والرعب.) هؤلاء
المفكرون لديهم القليل من العلاقات مع بعضهم البعض —
باستثناء نيتشه وسبينوزا — لكنها لديهم. ويمكن القول بأن
شيئًا ما يجري بينهم، بسرعات وكثافات مختلفة، شيئًا ليس في هؤلاء
ولا أولئك، لكنه في فضاء مثالي لا يعود يمثل جزءًا من
التاريخ، وأقل من ذلك حوارًا بين الموتى، بل محادثة بين الكواكب،
بين نجوم متفاوتة تمامًا، تشكِّل صيروراتها المختلفة كتلة
متحركة يتعلق الأمر بالتقاطها، طيرانًا بينيًّا، سنوات ضوئية.
عندها، كنتُ قد سدَّدت ديوني، أعفاني منها نيتشه وسبينوزا.
فكتبتُ مزيدًا من الكتب لحسابي. وأعتقد أن ما كان يعنيني على
أية حال، كان وصف هذه الممارسة للفكر، سواء لدى كاتب، أو
لذاتها، بقدر ما تتعارض مع الصورة التقليدية التي طرحتها
الفلسفة، أقامتها في الفكر كي تُخضعه وتمنعه من العمل، لكنني
لا أودُّ أن أبدأ هذه التوضيحات من جديد؛ فقد حاولت بالفعل قول
ذلك كله في خطاب إلى صديق؛ هو ميشيل كريسول
michel Cressole الذي
كتب عني أشياء شديدة الرقَّة وشديدة الشر.
وقد غيَّر التقائي بفيليكس جاتاري الكثير من الأشياء. كان
لفيليكس بالفعل ماضٍ طويل من الانخراط في السياسة والعمل في
الطب النفسي — لم يكن «فيلسوفًا مؤهلًا»، لكن كان له فضلًا عن
ذلك صيرورةٌ — فيلسوف، وصيرورات أخرى كثيرة. ولم يتوقَّف أبدًا.
قلة من الناس مَن أعطوني الانطباع مثله بأنه يتحرك في كل
لحظة، ليس بأنه يتغير، بل بأنه يتحرك بكامله بواسطة إيماءة
يقوم بها، أو كلمة يقولها، أو نبرة صوت، مثل كاليدوسكوب يشكِّل
في كل مرة توليفة جديدة. فيليكس هو نفسه دائمًا، لكن اسم
العلم الخاص به يحدد شيئًا يجري، لا ذاتًا. كان فيليكس رجل
الجماعة، رجل الزمر أو القبائل، لكنه رغم ذلك رجلٌ منفرد،
صحراء مأهولة بكل تلك الجماعات، وكل أصدقائه، وكل صيروراته.
العمل بين اثنَين فعله الكثير من الناس، الأخوان جونكور
Goncourt وإركمان-شاتريان Erckmann-Chatrian،
ولوريل وهاردي Laurel et
Hardy، لكن ليس ثمَّة قواعد، ما من صيغة
عامة. كنتُ قد حاولت في كتبي السابقة أن أصف ممارسةً معينة
للتفكير؛ لكن وصفها لم يكن يعني ممارسة التفكير بهذه
الطريقة. (وبنفس الطريقة، فإن الصياح «عاش الكثير
le multiple»، لا يعني
بعدُ عمله؛ إذ يجب عمل الكثير. كما لا يكفي القول: «تسقط
الأنواع [الأدبية].» بل تجب الكتابة فعليًّا بحيث لا تعود ثمَّة
«أنواع» … إلخ.) مع فيليكس، إذن، أصبح كل هذا ممكنًا، حتى لو
أخفقنا. لم نكن سوى اثنَين، لكن ما كان يهم بالنسبة لنا، لم يكن
العمل معًا، بقدر هذه الحقيقة الغريبة للعمل فيما بيننا نحن
الاثنين، كففنا عن كوننا «مؤلفين». وكان هذا «الفيما بين اثنين»
يُعيدنا إلى أناس آخرين، مختلفين من جانب ومن آخر. اتسعت
الصحراء، لكنها خلال ذلك أصبحت مأهولة أكثر. وليس لهذا شأن
بمدرسة، ولا بعمليات الاعتراف، لكن له شأن كبير بالالتقاءات.
كل هذه الحكايات عن الصيرورات، عن الأعراس ضد الطبيعة، عن
التطور اللامتوازي، عن ثنائية اللغة وسرقة الأفكار، كانت
ما نلته مع فيليكس. لقد سرقتُ فيليكس، وآمل أن يكون قد فعل
معي نفس الشيء. تعرفين كيف نعمل، أنا أكرر ذلك لأنه يبدو لي
هامًّا، لا نعمل معًا، بل نعمل فيما بين الاثنين. وفي هذه
الشروط، منذ أن يوجد هذا النمط من الكثرة، توجد ثمة سياسة،
ميكرو سياسة [سياسة متناهية الصغر]. وكما يقول فيليكس، قبل
الكائن هناك السياسة. إننا لا نعمل، بل نتفاوض. لم نكن أبدًا على
نفس الإيقاع، بل كان بيننا دومًا تفاوت: كنت أفهم وأستطيع
الاستفادة مما يقوله لي فيليكس بعدها بستة أشهر؛ أما ما كنتُ
أقوله له، فكان يفهمه على الفور، أسرع كثيرًا من ذوقي، كان
بالفعل في مكان آخر. أحيانًا كنا نكتب عن نفس الفكرة، وندرك
بعدها على الفور أننا لم نمسك بها بنفس الطريقة على الإطلاق،
والمثال على ذلك «الجسد دون أعضاء» corps
sans organs. وهناك مثال آخر. كان
فيليكس يعمل على الثقوب السوداء؛ كانت هذه الفكرة الفلكية
تسحره الثقب الأسود، هو ما
يأسرك ولا يدعك تخرج. كيف تخرج من ثقب أسود؟ كيف ترسل إشارات
من أعماق ثقب أسود؟ هكذا كان يتساءل فيليكس. أما أنا فكنت
أعمل بالأحرى على حائط أبيض: ما هو الحائط الأبيض؟ إنه شاشة، كيف تسوي سطح
الحائط وتجعل خط هروب يمر؟ لم نجمع بين الفكرتَين، لكننا
لاحظنا أن كل واحدة تميل من تلقاء ذاتها صوب الأخرى، لتنتج
بالضبط شيئًا لم يكن لا في هذه ولا في تلك؛ لأن الثقوب
السوداء فوق حائط أبيض، هي على وجه الدقة وجه، وجه ضخم بخدود
بيضاء تثقبها عيون سوداء، هذا لا يشبه وجهًا بعد، بل إنه
بالأحرى التجميعة
l’agencement أو الآلة
المجردة التي ستنتج وجهًا. فجأةً، ترتد المشكلة، فتكون
سياسية: ما هي المجتمعات، الحضارات التي تحتاج إلى جعل هذه
الآلة تعمل، أي تنتج، «تُشفِّر تشفيرًا مفرطًا» كلَّ الجسد
والرأس بوجه، ولأي هدف؟ ليس الأمر بديهيًّا وجه المحبوب، وجه
الرئيس تحويل الجسد الفيزيائي والاجتماعي إلى وجه … ها هي
كثرة، ذات ثلاثة أبعاد على الأقل، فلكي، وجمالي، وسياسي.
ونحن لا نقوم في أية حالة منها باستخدام استعاري، لا نقول:
هذا «مثل» الثقوب السوداء في الفلك، هذا «مثل» قماش أبيض في
الرسم. إننا نستخدم مصطلحات منزوعة التوطين؛ أي منتزعة من
مجالها، لنعيد توطين فكرة أخرى، «الوجه»، «الوجهية»
visagéité كوظيفة
اجتماعية. والأسوأ أن الناس لا يكفون عن الغوص في ثقوب
سوداء، ولا عن التدبيس فوق حائط أبيض. هذا ما يعنيه أن
تُحدَّد ماهيةُ المرء، ويُصنَّف، ويُعترف به: أن يعمل كومبيوتر
مركزي كثقب أسود يكنس حائطًا أبيض دون تضاريس. إننا نتحدث
حرفيًّا. وفي الحقيقة يتصوَّر الفلكيون إمكانية أنه، في مجرة
كواكب، ستتجمع كل أنواع الثقوب السوداء عند المركز في ثقب
وحيد له كتلة بالغة الضخامة … حائط أبيض — ثقب أسود، هذا
بالنسبة لي مثال نموذجي على الطريقة التي يتم بها تجميع عمل
فيما بيننا، لا اتحاد ولا تعارض، بل خط متكسر يمر بين اثنَين،
انتشار، مجسات.
هذا منهج بيك-أب
pick-up
[التقاط/ نشل]. لا، كلمة «منهج» كلمة سيئة، لكن بيك-أب
كإجراء، هي كلمة فاني
Fanny، التي تتخوَّف
هي فقط من كونها تلاعبًا مفرطًا بالكلمات. بيك-أب هي
تلعثم. ولا يصلح إلا في تعارض مع كلمة كت-أب
cut-up لدى بوروز
Burroughs: لا قطع،
ولا طي، ولا انقلاب رأسًا على عقب، بل مضاعفات طبقًا
لأبعاد متزايدة. البيك-أب أو السرقة المزدوجة، التطور
اللامتوازي، لا يجري بين أشخاص، بل يجري بين أفكار، يتم
نزع توطين كل واحدة في الأخرى، متبعة خطًّا أو خطوطًا ليست
لا في الواحدة ولا في الأخرى، وتجلب «كتلة» bloc. لا أودُّ أن
أتأمل فيما مضى. حاليًّا، ننهي، فيليكس وأنا، كتابًا ضخمًا.
قارب على الانتهاء، وسيكون الأخير. بعدها سنرى، سنقوم
بشيء آخر؛ ومن ثم أود أن أتحدث عما نفعل الآن. لا توجد
واحدة من هذه الأفكار لا تأتي من فيليكس، من جانب فيليكس
(الثقب الأسود، السياسة-المتناهية الصغر، نزع التوطين،
الآلة المجردة … إلخ.) الآن، هي لحظة تطبيق المنهج، وإلا
فلن تكون: أنت وأنا، يمكننا أن نستفيد منه في كتلة أخرى، أو
على جانب آخر، بأفكارك الخاصة، بحيث ينتج شيء لا يخص
أيًّا منا، بل بين ٢، ٣، ٤ … ن. لا يعود الأمر «س يشرح س،
بتوقيع س»، «دولوز يشرح دولوز، بتوقيع المحاور»، بل
«دولوز يشرح جاتاري بتوقيعك أنت»، «س يشرح ص بتوقيع ي». هكذا
ستصبح المحادثة وظيفة
حقيقية. على جانب فلان … يجب مضاعفة الجوانب، كسر كل
الدوائر لصالح المضلعات.