القسم الثاني
وضعنا في الاعتبار حتى الآن الحالة التي يحيط بها فعلي
نفسه بافتراضيات متسعة باطِّراد، متباعدة ومتنوعة باطِّراد
يخلق جزيء ما كيانات عابرة، ويثير إدراك ما ذكريات، لكن
الحركة المعاكسة تفرض نفسها كذلك: حين تتقلَّص الدوائر، ويقترب
الافتراضي من الفعلي ليقل تمايزه عنه شيئًا فشيئًا. يتم الوصول
إلى دائرة داخلية لا تعود تجمع سوى الموضوع الفعلي وصورته
الافتراضية: يكون لجزيء فعلي قرينُه الافتراضي، الذي لا يتباعد
عنه إلا قليلًا جدًّا، ويكون للإدراك الفعلي ذكراه الخاصة كنوع
من القرين المباشر، التالي أو حتى المتزامن؛ إذ إن الذكرى،
كما بيَّن برجسون، ليست صورة فعلية ستتشكل بعد الموضوع المدرك،
بل هي الصورة الافتراضية التي توجد متزامنة مع الإدراك
الفعلي للموضوع. الذكرى هي الصورة الافتراضية المتزامنة مع
الموضوع الفعلي، قرينه «صورته في المرآة».
١ كذلك يوجد التحام وانشطار، أو تراوح بالأحرى،
تبادلٌ دائم بين الموضوع الفعلي وبين صورته الافتراضية: لا
تكفُّ الصورة الافتراضية عن التحول إلى فعلية، مثلما في مرآة
تستولي على الشخص، وتبتلعه، ولا تترك له بدوره سوى افتراضية،
على طريقة
سيدة شنغهاي La Dame de
Shanghaï تمتص الصورة
الافتراضية كل فعلية الشخص، في نفس الوقت الذي لا يعود فيه
الشخص الفعلي سوى افتراضية. هذا التبادل الدائم للافتراضي
والفعلي يحدِّد بلورة معينة. وفوق مستوى المحايثة تظهر
البلورات. يتزامن الفعلي والافتراضي في الوجود، ويدخلان في
حلقة ضيقة تقودنا باستمرار من أحدهما إلى الآخر. لم يعُد
الأمر تفردًا، بل فردنة باعتبارها سيرورة الفعلي وافتراضيه.
لم يعُد الأمر تفعيلًا بل تبلورًا. لم تعد الافتراضية الخالصة
بحاجة إلى التفعيل؛ حيث إنها ملازمة تلازمًا وثيقًا للفعلي الذي
تكون معه أصغر حلقة. لم يعد ثمة لا تعيُّن للفعلي وللافتراضي،
بل لا تميز بين الحدَّين اللذَين يتبادلان فيما بينهما.
الموضوع الفعلي والصورة الافتراضية الموضوع الذي أصبح
افتراضيًّا، والصورة التي أصبحت فعلية، هذه هي الأشكال التي
تظهر بالفعل في البصريات الأولية.
٢ لكن في كل الحالات، يناظر التمييز بين الافتراضي
وبين الفعلي الانشطار الأشد أساسية للزمن، حين يتقدم وهو
يتخالف وفق طريقَين كبيرَين: جعل الحاضر يمر والاحتفاظ بالماضي.
الحاضر هو معطًى متغير يقاس بواسطة زمن متصل، أي بواسطة حركة
مفترضة في اتجاه واحد: الحاضر يمر بقدر ما يستنفد هذا الزمن.
الحاضر هو الذي يمر هو الذي يحدد الفعلي، لكن الافتراضي يظهر
من جانبه في زمن أصغر من ذلك الذي يقيس الحد الأدنى للحركة
في اتجاه وحيد؛ ولذا فإن الافتراضي «عابر»، لكن داخل
الافتراضي أيضًا يُحفظ الماضي، حيث إن هذا العابر لا يكفُّ عن
الاستمرار داخل «الأصغر» التالي، الذي يحيل إلى تغير في
الاتجاه. الزمن الأصغر من الحد الأدنى للزمن المتصل الذي يمكن
التفكير فيه في اتجاه معين هو أيضًا الزمن الأطول، الأطول من
الحد الأقصى للزمن المتصل الذي يمكن التفكير فيه في كل
الاتجاهات. الحاضر يمر (على مقياسه)، بينما يحتفظ العابر
ويحافظ على ذاته (على مقياسه). تتواصل الافتراضيات مباشرةً
فوق الفعلي الذي يفصل بينها. يتميَّز جانبًا الزمن، الصورةُ
الفعلية للحاضر الذي يمر والصورة الافتراضية للماضي الذي يتم
الحفاظ عليه، يتميزان في التفعيل، ولكلٍّ منهما حد غير قابل
للتعيين، لكنهما يتبادلان فيما بينهما في التبلور، حتى يصبحا
غير قابلَين للتمييز، ويستعير كلٌّ منهما دور الآخر.
تؤسس علاقة الفعلي والافتراضي دائمًا حلقة، لكن بطريقتَين؛
فتارةً يحيل الفعلي إلى افتراضيات كما لو كان يحيل إلى أشياء
أخرى في حلقات واسعة، حيث يتفعَّل الافتراضي، وتارةً يحيل
الفعلي إلى الافتراضي كما لو كان يحيل إلى افتراضيه الخاص،
داخل الحلقات الأصغر حيث يتبلور الافتراضي مع الفعلي. ويحتوي
مستوى المحايثة في آنٍ واحد على التفعيل بوصفه علاقة
للافتراضي مع حدود أخرى، وكذلك على الفعلي بوصفه حدًّا يتبادل
معه الافتراضي. وفي كل الحالات فإن علاقة الفعلي والافتراضي
ليسَت هي العلاقة التي يمكن إقامتها بين فعليين. الفعليون
يتضمنون أفرادًا مؤسسون مسبقًا، وتحديدات بواسطة نقاط عادية؛
بينما تشكل علاقة الفعلي والافتراضي فردنة قائمة أو تفريدًا
بواسطة نقاط ملحوظة يجب تحديدها في كل حالة.