القسم الثاني
إذا كانت طريقة الأسئلة والأجوبة غيرَ مناسبة، فذلك لأسباب
بالغة البساطة؛ إذ يمكن أن تتغير نبرة الأسئلة: هناك نبرةٌ
خبيثة-غادرة، أو على العكس نبرة خانعة، أو نبرة الند للند.
نسمع هذا يوميًّا في التليفزيون، لكن الأمر دومًا مثلما في قصيدة
للوكا Luca (وأنا لا أستشهد
بالضبط): مطلقو الرصاص والمقتولون بالرصاص … وجهًا لوجه …
ظهرًا لظهر … وجهًا لظهر … ظهرًا لظهر ولوجه … ومهما كانت
النبرة، فإن طريقة الأسئلة-الأجوبة جُعلت لتُغذِّي الثنائيات؛
فمثلًا في حوار أدبي، هناك أولًا ثنائية المحاوِر المحاوَر، ثم،
فيما وراءها، ثنائية الإنسان-الكاتب، والحياة-العمل لدى
المحاور ذاته، ثم أيضًا ثنائية العمل-القصد أو دلالة العمل.
نفس الشيء حين يتعلق الأمر بندوة أو مائدة مستديرة. لم تعُد
الثنائيات ترتبط بوحدات، بل بخيارات متتالية: هل أنت أبيض أم
أسود، رجل أم امرأة، غني أم فقير … إلخ؟ هل تأخذ النصف الأيمن
أم النصف الأيسر؟ هناك دومًا آلة ثنائية تُشرف على توزيع
الأدوار، وتجعل كلَّ الأجوبة تمر إجباريًّا بأسئلة سابقة
التشكيل؛ لأن الأسئلة محسوبة بالفعل على أساس الأجوبة
المفترض أنها محتملة طبقًا للدلالات السائدة. هكذا تُقام شبكة
بحيث إن كل ما لا يمرُّ خلال الشبكة لا يمكن فَهْمه ماديًّا. مثلًا
في برنامج تليفزيوني عن السجون، سيتم طرح خيارات رجل القانون-مدير السجن، القاضي-المحامي،
الأخصائي الاجتماعي-الحالة
المثيرة للاهتمام، ويتم استبعاد رأي السجين المتوسط الذي
يملأ السجون خارج الشبكة أو خارج الموضوع. وبهذا المعنى نجعل
التليفزيون «يتملكنا» دومًا، ونكون قد خسرنا مقدمًا. وحتى حين
نظن أننا نتحدث باسم أنفسنا، فإننا نتحدث دائمًا بدل شخص آخر
لن يمكنه الكلام.
يجري تملُّكنا قسرًا، الهيمنة علينا أو بالأحرى نزع
هيمنتنا، تمامًا مثل لعبة الأوراق الشهيرة المسماة
بالاختيار القسري. تريد مثلًا جَعْل شخص يختار ملك الكوبا،
فتقول أولًا: هل تُفضِّل الأوراق الحمراء أم السوداء؟ وإذا
أجاب أنه يفضِّل الحمراء، فإنك تسحب الأوراق السوداء من
الطاولة؛ وإذا أجاب أنه يفضل السوداء، فإنك تأخذها،
وتسحبها بدورها. ولا يعود أمامك إلا أن تواصل: هل تفضل
القلوب أم المربعات؟ حتى تصل إلى: هل تفضل ملك أم سيدة
الكوبا؟ وتستمر الآلة الثنائية على هذا النحو، حتى حين
يكون المحاور حسن الطوية؛ فالآلة تتجاوزنا، وتخدم أغراضًا
أخرى. والتحليل النفسي مثال نموذجي بهذا الصدد، مع عملية
تداعي الأفكار الخاصة به، وأقسم أن الأمثلة التي أعطيها
حقيقية، كما أنها سرية وغير شخصية؛ أولًا: يقول مريض «أودُّ
أن أرحل مع جماعة هيبي groupe
hippie [جروب إيبي].»، فيجيب
المتلاعب: «لماذا تنطق جرو بيبي gros
pipi؟ [طرطرة كبيرة]» ثانيًا: يتحدث
مريض عن بوش-دو-رون
Bouches-du-Rhone
[مديرية مصبات نهر الرون في جنوب شرق فرنسا، مدينتها
الرئيسية هي مارسيليا، وتقع ضمن إقليم بروفانس-ألب-كوت دازور-م] فيعلق المحلل النفسي
قائلًا: «دعوة إلى
رحلة أؤكد أنها تخص فم الأم» (إذا قلت أم
mère، فإنني أبقيها،
وإذا قلت بحر mer، فإنني
أسحبها؛ وبذلك أفوز في كل ضربة)؛ ثالثًا: تتحدث مريضة
مكتئبة عن ذكريات المقاومة، وعن شخص اسمه رينيه
René كان زعيم
الشبكة. فيقول المحلل النفسي: لنحتفظ برينيه
Re-né [ولد-من-جديد]، لم تعد مقاومة،
بل ميلادًا جديدًا
[Renaissance =
نهضة]. والنهضة هل هي فرنسوا الأول
أم رحم الأم؟ لنحتفظ بالأم. نعم، التحليل النفسي ليس هو
الخطاب المسروق
على الإطلاق، بل هو الاختيار القسري. وحيث فرض التحليلُ
النفسي ذاته، فذلك لأنه منح الآلة الثنائية مادةً جديدة
وامتدادًا جديدًا، وفقًا لما يتوقعه المرء من جهاز سُلطة.
وحيث لم يفرض التحليل النفسي ذاته، فذلك بسبب وجود وسائل
أخرى. التحليل النفسي مشروع بارد جدًّا (ثقافة دوافع
الموت والإخصاء، و«السر الصغير» القذر) لسحق كلِّ ما
يقوله المريض، والحفاظ على قرين له مصاب بفقر الدم،
والإلقاء خارج الشبكة بكل ما يمكن للمريض قوله عن رغباته،
وخبراته، وتجميعاته
agencements
وسياساته، وأوجه محبته وكراهيته. لقد وُجد بالفعل الكثير
من الناس، الكثير من الكهنة، الكثير من الممثلين، يتحدثون
باسم وعينا، وقد توجَّب وجود هذا الجنس الجديد من الكهنة
والممثلين الذين يتحدَّثون باسم اللاوعي.
من الخطأ القول بأن الآلة الثنائية لا توجد إلا لأسباب
تتعلق بالملاءمة. يقال إن «القاعدة ٢» هي الأسهل، لكن في
الحقيقة فإن الآلة الثنائية هي قطعة مهمة من أجهزة السلطة.
سيتم تأسيس ما يكفي من التعارضات الثنائية بحيث يمكن مَسْمَرة
كل فرد على الحائط، أو تغطيسه في ثقب. وحتى انحرافات الحيود
ستُقاس وفق درجة الخيار الثنائي: أنت لست أبيض ولا أسود، عربي
إذن؟ أم هجين؟ أنت لست رجلًا ولا امرأة، مخنَّث إذن؟ هذا هو نسق
الحائط الأبيض-الثقب الأسود. وليس مدهشًا أن تكون للوجه كل
تلك الأهمية في هذا النسق؛ إذ يجب أن يكون لك وجه دورك، عند
هذا المكان أو ذاك بين الوحدات الأولية الممكنة، على هذا
المستوى أو ذاك في الخيارات المتتالية الممكنة. لا شيء أقل
شخصية من الوجه. وحتى المجنون يجب أن يكون له وجه معين مناسب
ويتوقعه المرء منه. وحين يكون لمعلمة المدرسة مظهر غريب،
يستقر المرء عند هذا المستوى الأخير من الخيار، ويقول: نعم،
إنها معلمة المدرسة، لكن انظروا إنها مكتئبة، أو أصبحت
مجنونة، والنموذج القاعدي، المستوى الأول، هو وجه الأوروبي
المتوسط اليوم، ما يسميه إزرا باوند الرجل الحسي أيًّا كان،
عوليس. ويقرر المرء كل أنماط الوجه انطلاقًا من هذا النموذج،
عن طريق تعارضات ثنائية متتابعة. وإذا كانت اللغويات ذاتها
تتواصل عن طريق التعارضات الثنائية (مثلًا، أشجار تشومسكي حيث
تعمل آلة ثنائية داخل اللغة)، إذا كانت المعلوماتية تتواصل
بواسطة تتابع الخيارات الثنائية، فليس ذلك بريئًا كما يمكن أن
يعتقد المرء، فربما كانت المعلومات خرافة، وربما لم تكن اللغة
ناقلة للمعلومات من الناحية الجوهرية. أولًا، هناك علاقة لغة-وجه، وكما يقول فيليكس،
فإن اللغة مفهرسةٌ دومًا على أساس
قسمات الوجه، قسمات «الوجهية»: انظر إليَّ حين أكلِّمك … أو اخفض
عينَيك … ماذا؟ ماذا قلت؟ لماذا تجعل رأسك هكذا؟ وما يسميه
النحويون «القسمات المميزة» لن يمكن تبيُّنها دون قسمات
الوجهية. ومن البديهي أكثر أن اللغة ليست محايدة، وليست
ناقلة للمعلومات. لم تُصنع اللغة لنصدِّقها بل لنطيعها. وحين
تشرح معلمة المدرسة عمليةً للأطفال، أو حين تعلمهم النحو،
فإنها لا تعطيهم معلومات بالمعنى المحدد، بل تنقل إليهم
أوامر، تنقل إليهم كلمات أمر، تجعلهم ينتجون منطوقات صحيحة،
أفكارًا «صائبة»، تتمشى بالضرورة مع الدلالات السائدة؛ ولهذا
السبب يجب تعديل مخطط المعلوماتية. ينطلق مخطط المعلوماتية
من معلومة نظرية يُفترض أنها قُصوى
maximale؛ وعند الطرف
الآخر، يضع الضوضاء باعتبارها تشوشًا، ضد معلومات، وفيما
بين الاثنين، الإطناب، الذي يقلل المعلومات النظرية، لكنه
أيضًا يتيح لها الانتصار على الضوضاء. وعلى النقيض سيكون هذا
إلى أعلى الإطناب كنمط وجود ونشر الأوامر (الصحف، و«الأخبار»
تعمل بالإطناب)؛ وأسفله المعلومات-الوجه بوصفها دائمًا الحد
الأدنى الضروري لفهم الأوامر؛ وأسفلها أيضًا شيء يمكن أن يكون
الصرخة أو الصمت، أو التلعثم، سيكون بمثابة خط الهروب للغة،
تحدثُ المرء داخل لغته الخاصة كأجنبي، استخدام اللغة
استخدامًا أقلياتيًّا … ويمكن أن نقول أيضًا: أنقذونا من الوجه،
تخلَّصوا من الوجه. وعلى أية حال إذا كانت اللغويات، إذا كانت
المعلوماتية، تلعبان اليوم ببساطة دورًا قامعًا؛ فذلك لأنهما
تعملان هما ذاتهما كآلات ثنائية داخل أجهزة السلطة هذه،
وتمثلان تشكيلًا كاملًا لكلمات الأمر أكثر من كونهما علمًا
خالصًا للوحدات اللغوية، وللمضامين المعلوماتية
المجردة.
حقيقيٌّ أن في كل ما كتبت توجد تيمة صورة للفكر تمنع
التفكير، تمنع ممارسة الفكر، لكنك لست هايدجريًّا. أنت تحب
العشب أكثر من الأشجار والغابة. أنت لا تقول إننا لن نعود
نفكِّر، وإن ثمة مستقبلًا للفكر يغوص في الماضي السحيق، وإن
فيما بين الاثنين، سيكون كل شيء «محجوبًا». المستقبل والماضي
لا يعنيان الكثير، وما يهم، هو الصيرورة-حاضرًا: الجغرافيا
وليس التاريخ، المنتصف وليس البداية ولا النهاية، العشب الذي
في المنتصف والذي ينبت من المنتصف، وليس الأشجار التي لها
قمة وجذور. دائمًا عشب بين أحجار الرصف، لكن الفكر على وجه
التحديد تسحقه أحجار الرصف هذه التي نسميها فلسفة، تسحقه هذه
الصور التي تخنقه وتجعله يصفر. و«الصور»، هنا، لا تحيل إلى
الأيديولوجيا، بل إلى تنظيم برمته يدرب الفكر فعليًّا على
ممارسة نفسه طبقًا لمعايير سلطة أو نظام قائم، وفضلًا عن ذلك،
يركب فيه جهازًا للسلطة، يُقيمه هو ذاته كجهاز للسلطة
العقل [ملكة الحكم]
Ratio بوصفه محكمة،
بوصفه دولةً كلية، بوصفه جمهوريةً للأفكار (وكلما خضعت،
أصبحت مشرعًا؛ لأنك لن تخضع إلا للعقل الخالص). وفي الاختلاف والتكرار Différence et
Répétition حاولت عمل
تعداد لتلك الصور التي تقترح على الفكر غايات مستقلة عنه،
لجعله يخدم بشكل أفضل غايات يصعب الإقرار بها. وتتلخص جميعها
في كلمة-الأمر: امتلكوا أفكارًا صائبة! إنها في المقام
الأول صورةُ الطبيعة الطيبة والإرادة الطيبة؛ الإرادة
الطيبة للمفكر الذي يبحث عن «الحقيقة»، والطبيعة الطيبة
للفكر الذي يملك «الحق» عن صدق. ثم هي صورة «حس مشترك»،
تناغم كل ملكات كائن مفكِّر. ثم هي أيضًا صورة الإقرار،
«الاعتراف»، ألَا يعني هذا أن شيئًا أو شخصًا قد أقيم كنموذج
لنشاطات المفكر الذي يمارس كل ملكاته على شيء يُفترض أنه هو
نفسه. ثم أيضًا هي صورة الخطأ — كأن الفكر ليس عليه سوى أن
يحذر من التأثيرات الخارجية القادرة على جعله يأخذ «الزائف»
على أنه الحقيقي. وأخيرًا هي صورة المعرفة — كموضع للحقيقة،
والحقيقة بوصفها مُصادقة على الأجوبة أو الحلول لأسئلة
ومشكلات يفترض أنها «معطاة».
الشيء المثير للاهتمام هو بالأحرى العكس: كيف يمكن للفكر أن
يزعزع نموذجه، أن يجعل عشبه ينمو، ولو موضعيًّا، ولو حتى عند
الحواف، بصورة غير محسوسة؛ أولًا: إنها أفكار لن تنطلق من
طبيعة طيبة ومن إرادة طيبة، بل ستأتي من عنف يعاني منه
الفكر؛ ثانيًا: لن تعمل هذه الأفكار داخل انسجام بين الملكات،
بل على النقيض، ستأخذ كل ملكة إلى آخر حدود تنافرها مع غيرها
من الملكات، ثالثًا: لن تنغلق على الاعتراف، بل ستنفتح على
اللقاءات، وستعرف نفسها دائمًا كدالة لخارج، رابعًا: لن يكون
عليها أن تناضل ضد الخطأ، بل سيكون عليها أن تفصل نفسها عن
عدو أشد داخلية وأشد قوة؛ هو الحماقة. خامسًا: سيكون عليها أن
تتحدَّد ضمن حركة الإدراك وليس ضمن نتيجة المعرفة، ولن تترك
لأحد، ولا لأية سلطة مهمة «طرح» الأسئلة أو «تحديد»
المشكلات. وحتى المؤلفون الذين كتبتَ عنهم، سواء كانوا هيوم،
أو سبينوزا، أو نيتشه، أو بروست أو كان فوكوه، لم تُعاملهم
كمؤلفين، أي كموضوعات للاعتراف، بل وجدت لديهم أفعال الفكر
تلك دون صورة، العمياء والمسببة للعمى، أفعال العنف تلك، تلك
اللقاءات، تلك الأعراس التي جعلت منهم مبدعين قبل أن يكونوا
مؤلفين. يمكن القول دائمًا إنك حاولت جذبهم صوبك، لكنهم لم
يدعوا أنفسهم ينجذبون. لم تقابل إلا أولئك الذين لم ينتظروك
لإجراء لقاءات فيهم هم أنفسهم، حاولت أن تُخرج من تاريخ
الفلسفة أولئك الذين لم ينتظروك لإخراجهم منه، لم تجد مبدعين
إلا في أولئك الذين لم ينتظروك ليكفوا عن كونهم مؤلفين (فلا
سبينوزا ولا نيتشه كانوا «مؤلفين»: إنهما يفلتان من ذلك؛
الأول بقوة منهج هندسي، والثاني بالأقوال المأثورة التي هي
نقيض حكم المؤلف، وحتى بروست يفلت من ذلك، بلعب الراوي؛ كما
يفلت فوكوه، راجع الطرق التي يقترحها لتجنب وظيفة المؤلف، في
نظام الخطاب l’Ordre du
discours). دائمًا في نفس
اللحظة التي يتمُّ فيها تحديد مؤلف، يتم إخضاع الفكر لصورة،
وجعل الكتابة نشاطًا مختلفًا عن الحياة، تكون غاياتها في ذاتها … لتخدم بصورة أفضل غايات
ضد الحياة.
وعملك مع فيليكس (الكتابة بين اثنين؛ هي بالفعل طريقة للكف
عن كون المرء مؤلفًا) لم يُخرجك من هذه المشكلة، لكنه منحها
توجهًا مختلفًا تمامًا. لقد شرعت في وضع الريزومة
rhizome في مقابل
الأشجار. والأشجار ليست استعارةً على الإطلاق، بل هي صورة للفكر،
أداء، جهاز برمته مزروع في الفكر لجعله يمضي في خط مستقيم،
وينتج الأفكار الصائبة الشهيرة. هناك كل أنواع الخصائص في
الشجرة؛ فثمة نقطة أصل، بذرة أو مركز؛ وهي آلة ثنائية أو مبدأ
انقسام ثنائي، بتفريعاتها الدائمة الانقسام وإعادة الإنتاج،
نقاط تشجيرها؛ إنها محور دوران، ينظم الأشياء في دائرة،
والدوائر حول المركز؛ إنها بنية، نسق من النقاط والمواقع ينظم
في شبكة كل ما هو ممكن، نسق مراتبي أو نقل للأوامر، بمرحلة
مركزية وذاكرة إجمالية لها مستقبل وماضٍ، جذور وقمة، تاريخ
كامل، تطور، نمو؛ يمكن قطعها، وفقًا لطرق قطع توصف بأنها ذات
دلالة بقدر ما تتبعُ تشجيراتها، وتفرعاتها، واتحادها في
المركز، ولحظات نموها. وما من شكٍّ في أن أشجارًا تتم زراعتها
في رءوسنا: شجرة الحياة، شجرة المعرفة … إلخ. العالم كلُّه يطالب
بجذور؛ فالسلطة دائمًا شجرية. وقلة من التخصصات لا تمر
بمخططات شجرية: البيولوجيا، اللغويات، المعلوماتية (الأنساق
التلقائية أو المركزية)، لكن لا يمر شيء خلال ذلك، حتى في
هذه التخصصات؛ فكل فعل حاسم يشهد على فكر آخر، بقدر ما تكون
الأفكار هي ذاتها أشياء. ثمَّة كثراتٌ لا تكفُّ عن المضي، أبعد
من الآلات الثنائية ولا تدع نفسها تنقسم ثنائيًّا. ثمة مراكز
في كل مكان، مثل كثرات من الثقوب السوداء لا تجعل نفسها
تتراكم. ثمة خطوط لا ترجع إلى مسار نقطة، وتُفلت من البنية
خطوط هروب، صيرورات، دون مستقبلٍ ولا ماضٍ، دون ذاكرة تقاوم الآلة
الثنائية، الصيرورة-امرأة التي ليست لا رجلًا ولا امرأة،
الصيرورة-حيوانًا التي ليست لا حيوانًا ولا إنسانًا. تطورات
غير متوازية، لا تتقدم بالتمايز، لكنها تقفز من خط إلى آخر،
بين كائنات متنافرة تمامًا؛ تصدُّعات، انقطاعات غير محسوسة،
تكسر الخطوط حتى لو استؤنفت في موضع آخر، وتقفز فوق
الانقطاعات ذات الدلالة … الريزومة هي هذا كله. التفكير داخل
الأشياء، بين الأشياء، هو بالضبط عمل الريزومة، وليس الجذر،
عمل الخط، وليس
النقطة. جعل الصحراء
مأهولة، وليس عمل أنواع وفصائل في غابة. جعل الحيز مأهولًا
دون تحديد على الإطلاق.
ما هو الوضع اليوم؟ خلال زمنٍ طويل، تم تنظيم الأدب وحتى
الفنون في «مدارس». المدارس من نمط شجري. والمدرسة شيء فظيع
بالفعل؛ فهناك دومًا بابا، وبيانات، وممثلون، وتصريحات طليعية،
ومحاكم، وحرمانات كنسية، وتحولات سياسية وقحة … إلخ. والأسوأ
في المدارس ليس فحسب تعقيم الحواريين (الأمر الذي يستحقونه
تمامًا)، بل بالأحرى سحق، إخماد كل ما كان يجري قبلًا أو في
نفس الوقت — مثلما أخمدت «النزعة الرمزية» الحركة الشعرية
الاستثنائية، الثراء لأواخر القرن التاسع عشر، ومثلما سحقت
النزعة السوريالية حركة الدادا الأممية … إلخ. واليوم لم تعُد
المدارس تُدرُّ ربحًا، بل أصبحت تعمل لصالح تنظيم أشد قتامة:
نوع من التسويق، تتزحزح فيه المصلحة، ولا تعود ترتبط بالكتب،
بل بالمقالات الصحفية، والبرامج المذاعة، والسجالات، والندوات،
والموائد المستديرة حول كتاب غير مؤكد، ما كان له أن يوجد، في
الحد الأقصى. هل هذا هو موت الكتاب كما أعلنه ماكلوهان
Mac Luhan؟ هناك ظاهرة
بالغة التعقيد؛ فالسينما بالدرجة الأولى، لكن كذلك، إلى حد
معين، الصحيفة، والراديو، والتليفزيون، كانت هي ذاتها عناصر
قوية طرحَت للتساؤل وظيفة المؤلف، وأطلقت وظائف إبداعية، على
الأقل احتماليًّا، دون المرور على مؤلف، لكن بقدر ما علَّمَت
الكتابةُ نفسَها أن تنفصل عن وظيفة المؤلف، بقدر ما تأسست
هذه من جديد عند الأطراف، واستعادت مصداقيةً في الراديو
والتليفزيون وفي الصحف، وحتى في السينما («سينما المؤلف»).
وفي نفس الوقت الذي أخذت تخلق فيه الصحافةُ باطِّراد الأحداثَ
التي تتحدث عنها اكتشف الصحفيُّ أنه مؤلف، وأضفى راهنية من
جديد على وظيفة فقدت مصداقيتها. تغيرت تمامًا علاقاتُ القوة
بين الصحافة وبين الكتاب؛ وانتقل الكُتاب أو المثقفون إلى
خدمة الصحفيين، أو جعلوا من أنفسهم صحفيين لأنفسهم. أصبحوا
خدم المحاورين والمناقشين ومقدمي البرامج: إنه إضفاء الطابع
الصحفي على الكاتب، ممارسات المهرجين التي تجعل الإذاعات
والتليفزيونات الكتاب الراضين يتحملونها. وقد حلل أندريه
سكالا André Scala جيدًا هذا
الوضع الجديد. ومن هنا إمكانية التسويق التي تحلُّ اليوم محل
المدارس على الطريقة القديمة. بحيث تتمثَّل المشكلة في إعادة
ابتكار الوظائف الإبداعية أو الإنتاجية المتحررة من وظيفة المؤلف، تلك التي تولد من جديد
على الدوام، لا بالنسبة
للكتابة فحسب، بل كذلك بالنسبة للسينما والراديو والتليفزيون،
وأيضًا بالنسبة للصحافة؛ فعيوب المؤلف، هي تأسيس نقطة انطلاق،
أو نقطة أصل، تشكيل ذات للنطق تعتمد عليها كلُّ المنطوقات
الناتجة، جعل التعرف عليه وتحديد هويته داخل نظام من
الدلالات السائدة أو السلطات القائمة: «أنا بحكم كوني …»
الوظائف الإبداعية مختلفة تمامًا، هي استخداماتٌ غير ممتثلة
ذات طابع ريزومي وليس طابع شجرة، تتقدم بالمفترقات، بتقاطعات
الخطوط، بنقاط الالتقاء عند المنتصف: ليس ثمة ذات، بل تجميعات
جماعية للنطق؛ لا خصائص نوعية، بل تعدادات
populations موسيقى،
كتابة، علوم، وسائل سمعية بصرية، بامتداداتها، وأصدائها،
وتفاعلاتها العاملة. ما يفعله موسيقيٌّ في مكان سيفيد كاتبًا في
مكان آخر، ويجعل عالم مجالات بالغة الاختلاف تتحرك، وتجعل
آلة إيقاع رسامًا يقفز: هذه ليست لقاءات بين مجالات؛ لأن كل
مجال مكوَّن فعلًا من مثل تلك اللقاءات في ذاته. ليس ثمة سوى
فواصل des intermezzo, des
intermezzi بمثابة بؤر للإبداع. هذا ما
يعنيه الحوار، وليس المحادثة ولا السجال السابقَي التجهيز
للأخصائيين فيما بينهم، ولا حتى ما-بين-تخصصية يمكن أن
تُرتَّب في مشروع مشترك. بالتأكيد لا تستنفد المدارس القديمة
والتسويق الجديد إمكاناتنا؛ فكل ما هو حي يجري في مكان آخر،
ينتج في مكان آخر. يمكن أن يوجد ميثاق للمثقفين، والكتاب،
والفنانين، يتحدث فيه هؤلاء عن رفضهم لتدجينهم من جانب
الصحف، ومحطات الراديو، والتليفزيونات، حتى لو كان هذا يعني أن
يشكِّلوا مجموعات إنتاج ويفرضوا ارتباطات بين الوظائف
الإبداعية، وبين الوظائف الخرساء لمن ليس لديهم الوسيلة أو
الحق في الكلام. لا يتعلق الأمر في المقام الأول بالحديث من
أجل التعساء، بالحديث باسم الضحايا، باسم المعذَّبين والمضطهَدين،
بل بعمل خط حي، خط متكسِّر. ستكون الميزة، على الأقل، في العالم
الثقافي مهما صغر، هي فصل أولئك الذين يريدون أن يكونوا
«مؤلفين»، أو مدرسة أو تسويقًا، واضعين أفلامهم النرجسية،
وحواراتهم، وبرامجهم، وحالاتهم المزاجية، عار اليوم، عن أولئك
الذين يحلمون بشيء آخر — لا يحلمون — بل يجري الأمر من تلقاء
ذاته. الخطران هما: المثقف بوصفه أستاذًا أو تلميذًا، أو
المثقف بوصفه كادرًا؛ كادرًا وسيطًا أو راقيًا.
ما يهمُّ في درب، ما يهمُّ في خط، هو دائمًا المنتصف، لا
البداية ولا النهاية. المرء دومًا في منتصف طريق، في منتصف
شيء ما. والأمر المزعج في الأسئلة والأجوبة، في الحوارات، في
المحادثات، هو أنه يتعلق غالبًا يتقييم الوضع: الماضي والحاضر،
الحاضر والمستقبل. وهذا هو السبب في أن بالإمكان دومًا أن
نقول لمؤلفٍ ما إن عمله الأول كان يحتوي كلَّ شيء بالفعل، أو
على العكس إنه لا يكف عن تجديد نفسه، عن التحول. إنها، على
أية حال، تيمة الجنين الذي يتطور، سواء انطلاقًا من تشكُّل مسبق في الجرثومة، أو بفعل
تشكُّلات بنيات متتابعة، لكن الجنين
والتطور ليسا أشياء جيدة؛ فالصيرورة لا تمرُّ من هنا. في
الصيرورة، لا يوجد ماضٍ ولا مستقبل، ولا حتى حاضر، لا يوجد
تاريخٌ. في الصيرورة، يتعلَّق الأمر بالأحرى بالالتفاف: ليس
بالتراجع ولا بالتقدم. الصيرورة، هي الصيرورة، رزينًا باطِّراد،
بسيطًا باطِّراد، مهجورًا باطِّراد، ومأهولًا باطِّراد لهذا السبب
ذاته. هذا ما يصعب شرحه: إلى أي مدًى يجب الالتفاف
involuer، بديهي أن هذا
نقيض التطوُّر
évoluer، لكنه
أيضًا نقيض التراجع، العودة إلى طفولة ما، أو إلى عالم بدائي.
الالتفاف، هو اتخاذ خطوٍ بسيط، مقتصد ومتزن باطِّراد. ويصدق
الأمر أيضًا على الثياب: الأناقة، باعتبارها نقيض الإفراط في
الملبس؛ حيث يرتدي المرء أكثر مما يجب، حيث يُضيف المرء على
الدوام شيئًا يُفسد الأمر برمته (الأناقة الإنجليزية ضد
الإفراط في الملبس الإيطالي). ويصدق الأمر أيضًا على المطبخ:
ضد المطبخ التطوري، الذي يضيف شيئًا على الدوام، وضد المطبخ
التراجعي الذي يعود إلى العناصر الأولية، هناك مطبخ التفافي،
ربما كان مطبخ فاقدي الشهية المرضيين [الأنوركسيين]. لماذا
توجد تلك الأناقة لدى أنوركسيين
anorexiques معينين؟
ويصدق الأمر أيضًا على الحياة، حتى الأكثر حيوانية: فإذا كانت
الحيوانات تخترع أشكالها ووظائفها، فلا يجري هذا دائمًا
بالتطور، أو النمو، ولا بالتراجع، مثلما في حالة ما قبل النضج،
بل بالفقد، بالتخلي، بالتقليل، بالتبسيط، ولو كان ذلك يعني خلق
العناصر الجديدة والعلاقات الجديدة لهذا التبسيط.
١ التجريب التفافي، هو نقيض الجرعة الزائدة.
والأمر يصدق أيضًا على الكتابة: الوصول إلى هذه الرصانة، هذه
البساطة التي ليست نهاية ولا بداية شيء ما. الالتفاف هو
الكينونة في «الما بين»، في المنتصف، متاخمًا. وشخوص بيكيت في
حالة التفاف دائم، دائمًا في منتصف طريق، على الدرب بالفعل.
وإذا توجب الاختباء، إذا توجب اتخاذ قناع على الدوام، فليس
هذا راجعًا لمزاج يفضِّل السر الذي سيكون سرًّا شخصيًّا صغيرًا،
ولا من باب الاحتياط، بل راجعًا إلى سرٍّ ذي طبيعة أرقى، أن
الطريق ليس له بداية ولا نهاية، وأن من طبيعته أن يُبقي
بدايته ونهايته محجوبتَين؛ إذ لا يمكنه أن يفعل خلاف ذلك.
وإلا لما ظل طريقًا؛ فهو لا يوجد بوصفه طريقًا سوى في المنتصف.
سيكون الحلم أن تكون أنت قناع فيليكس وفيليكس قناعك. عندها
سيكون ثمة طريقٌ حقًّا بين الاثنَين، يمكن أن يأخذه شخص آخر في
المنتصف، ولو أنه بدوره … إلخ. هذه هي الريزومة، أو العشبة
الضارة. الأجنَّة، الأشجار، تتطوَّر وفقًا لتشكلاتها الجينية
المسبقة، أو لإعادات تنظيمها البنيوية، لكن ليس العشبة
الضارة؛ فهي تفيضُ بقوة كونها متعقِّلة. تنمو في الما بين. إنها
الطريق ذاته. الإنجليز والأمريكيون الذين هم الأقل شبهًا
بالمؤلفين بين الكتَّاب، لديهم اتجاهان حادَّان بوجه خاص،
ويلتقيان: اتجاه الطريق والدرب، اتجاه العشبة والريزومة.
وربما كان هذا هو السبب في أنهم ليس لديهم فلسفةٌ كمؤسسة
متخصصة، ولا يحتاجون إليها؛ لأنهم عرفوا في رواياتهم كيف
يجعلون من الكتابة فعل تفكير، ومن الحياة قوةً لا شخصية،
عشبًا وطريقًا، أحدهما في الآخر، صيرورة-ثور أمريكي. هنري
ميلر: «لا يوجد العشب إلا بين الفضاءات الكبرى غير
المزروعة. إنه يملأ الفراغات.
ينمو
بين - فيما بين الأشياء الأخرى. الزهرة
جميلة، والكرنب مفيد، والخشخاش يسبب الجنون، لكن العشب يفيض،
إنه درس في الأخلاق.»
٢ التنزه بوصفه فعلًا، بوصفه سياسة، بوصفه تجريبًا،
بوصفه حياةً: «أنا أنشر نفسي كالضباب فيما بين الأشخاص الذين
أعرفهم بشكل أفضل.» هكذا تقول فيرجينيا وولف في تنزهها بين
عربات التاكسي.
المنتصف ليس له علاقة بالمتوسط، ليس نزعة مركزية ولا
اعتدالًا. بل يتعلق على النقيض بسرعة مطلقة. ما ينمو في
المنتصف يتمتَّع بمثل تلك السرعة. يجب التمييز لا بين الحركة
النسبية والحركة المطلقة، بل بين السرعة النسبية والسرعة
المطلقة لأي حركة كانت. النسبي هو سرعة حركة ما مأخوذة من
نقطة إلى أخرى، لكن المطلق هو سرعة الحركة بين الاثنتَين، في
منتصف الاثنتَين، التي ترسم خط هروب. الحركة لا تعود تمضي من
نقطة إلى أخرى، بل تحدث بين مستويَين مثلما في فرق [اختلاف]
في الجهد. اختلاف الكثافة هو الذي يُنتج ظاهرةً ما، يُطلقها أو
يلفظها، يبعثها في الفضاء. كذلك فإن السرعة المطلقة يمكنها
قياس حركة سريعة، لكن أيضًا حركة بالغة البطء، أو انعدام
للحركة، مثلما في حركة في موضعها. مشكلة السرعة المطلقة
للفكر: حول هذه التيمة هناك تصريحات غريبة لأبيقور. أليس هذا
ما يفعله نيتشه بالقول المأثور؟ أن يتمَّ إطلاق الفكر كحجر بواسطة
آلة حرب. السرعة المطلقة، هي سرعة البدو، حتى حين يتنقلون
ببطء. البدو دومًا في المنتصف. والسهوب تنمو من المنتصف، إنها
بين الغابات الضخمة وبين الإمبراطوريات الضخمة. السهوب،
والعشب والبدو هم نفس الشيء. البدو ليس لهم لا ماضٍ ولا
مستقبل، ليس لهم سوى صيرورات، صيرورة-امرأة، صيرورة-حيوان،
صيرورة-حصان: فنهم الحيواني الاستثنائي. البدو ليس لهم تاريخ،
لهم جغرافيا فقط. نيتشه: «إنهم يصلون مثل القدَر، دون قضية، دون
سبب، دون اعتبار، دون ذريعة …» كافكا: «من المستحيل فَهْم كيف
تغلغلوا حتى العاصمة، ورغم ذلك فهم هناك، وكل صباح يبدو أنهم
يزيدون عددهم …» كلايست: «الأمازونات يصلن، ويعتقد الإغريق
والطرواديون، جرثومتا الدولة، أنهن يأتين حلفاء، لكنهن يمررن
بين الاثنين، وعلى طول ممرهن، يطحن بالجانبين إلى خط الهروب …»
فيليكس وأنت وضعتما فرضية أن البدو قد اخترعوا آلة الحرب.
مما يعني ضمنيًّا أن الدول لم تفعل، وأن سلطة الدولة كانت
مؤسسة على شيء آخر. ستكون مهمة هائلة أن تحاول الدول
الاستحواذ على آلة الحرب، بجعلها مؤسسةً عسكرية أو جيشًا،
لتحولها ضد البدو، لكن الدول ستجد دومًا الكثير من الصعوبات مع
جيوشها. وآلة الحرب ليست في المقام الأول قطعةً من جهاز
الدولة، ليست تنظيمًا للدولة، بل هي تنظيم البدو بقدر ما ليس
لديهم جهاز دولة. اخترع البدو تنظيمًا عدديًّا كاملًا يمكن أن
نجده في الجيوش (العشرات، المئات … إلخ). ويتضمن هذا التنظيم
الأصلي علاقاتٍ مع النساء والنباتات والحيوانات، والمعادن
بالغة الاختلاف عن تلك المشفَّرة في دولةٍ ما. وجعل الفكر قوةً
بدوية، لا يعني التحرُّك بالضرورة، بل يعني زعزعة نموذج جهاز
الدولة، المعبود أو الصورة التي تثقل على الفكر، الوحش الذي
يجثم فوقه. إعطاء الفكر سرعةً مطلقة، آلة حرب، جغرافيا، وكل
هذه الصيرورات أو تلك المسالك التي تجتاز سهوبًا. أبيقور،
وسبينوزا، ونيتشه، كمفكرين بدو.
مسألة السرعة هذه مهمة، وكذلك بالغة التعقيد. لا تعني أن
تكون الأول في السباق؛ إذ يمكنك أن تتأخر من خلال السرعة.
ولا تعني أيضًا أن تتغير، إذ يمكن أن تكون لَامتغيرًا وثابتًا من
خلال السرعة. السرعة تعني أن تكون في قبضة صيرورة، ليست نموًّا
ولا تطورًا. يجب أن يكون المرء مثل تاكسي، طابور انتظار
ligne d’attente، خط
هروب ligne de fuite تكدُّس
مروري، عنق زجاجة، إشارات خضراء وحمراء، ذهانُ تشكُّك
paranoia خفيف، علاقات
صعبة مع الشرطة. أن يكون المرء خطًّا مجردًا ومتكسرًا، خطًّا
متعرجًا ينزلق في «الما بين». العشب سرعة. وما سميته خطأ،
للتو، السحر أو الأسلوب، هو السرعة. الأطفال يمضون مسرعين
لأنهم يعرفون كيف ينزلقون في الما بين. وتتخيَّل فاني
Fanny نفس الشيء
للشيخوخة: هنا أيضًا ثمة صيرورة-عجوز تحدِّد الشيخوخات
الناجحة، بمعنى دخول سريع في الشيخوخة يتعارض مع نفاد الصبر
المعتاد للعجائز، مع استبدادهم، وكربهم المسائي (قارن الصيغة
الكريهة «الحياة بالغة القصر …»). الدخول سريعًا في الشيخوخة،
طبقًا لفاني، لا يعني الدخول بتعجُّل في الشيخوخة، بل على العكس
يعني هذا الصبر الذي يتيح على وجه الدقة الإمساك بكل السرعات
التي تمر. والشيء نفسه بالنسبة للكتابة؛ إذ يجب أن تُنتج
الكتابة سرعةً، ولا يعني هذا الكتابة بسرعة. وسواء كان سيلين
Céline، أو بول مونار
Paul Monard الذي كان
سيلين يعجب به («لقد جعل اللغة الفرنسية تنبض بالجاز.») أو
ميلر Miller: ثمة نتاجات
سرعة مذهلة. وما فعله نيتشه باللغة الألمانية، هذا ما يعنيه
أن يكون المرء أجنبيًّا داخل لغته الخاصة. في الكتابة المصنوعة
بأبطأ ما يمكن يبلغ المرء هذه السرعة المطلقة، التي ليست
تأثيرًا، بل نتاجًا. سرعة الموسيقى، حتى أشدها بطئًا. هل من
قبيل الصدفة أن الموسيقى لا تعرف سوى الخطوط وليس النقاط؟ لا
يمكن التشديد على نقطة في الموسيقى؛ فليس سوى صيرورات دون
مستقبل ولا ماضٍ. الموسيقى مضادة للذاكرة. إنها ممتلئة
بالصيرورات، الصيرورة-حيوانًا، الصيرورة-طفلًا، الصيرورة-جزيئيًّا. يريد ستيف رايش Steve
Reich أن يتم إدراكُ كلِّ شيء على الفور
في الموسيقى، أن تكون السيرورة مفهومةً برمتها، ومن هنا فهذه
الموسيقى هي الأبطأ، بفعل أنها تجعلنا نُدرك حسيًّا كل السرعات
التفاضلية. أي عمل فني يجب على الأقل أن يحدد الثواني. هذا
مثل المستوى الثابت: طريقة لجعلنا ندرك حسيًّا كل ما في الصورة.
سرعة مطلقة، تجعلنا ندرك كل شيء في نفس الوقت، ربما كانت
خاصية البطء أو حتى اللاحركة. محايثة. هذا بالضبط هو نقيض
التطور، حيث لا يظهر أبدًا لحسابه مباشرةً المبدأ المتعالي
الذي يحدِّد ويُبنيِن، في علاقة محسوسة بسيرورة، بصيرورة. حين
يرقص فريد آستير Fred
Astaire الفالس، لا يكون هذا ١، ٢، ٣، بل
أكثر تفصيلًا إلى ما لا نهاية. وطبل الطام-طام، ليس ١، ٢.
وحين يرقص الزنوج لا يكونون في قبضة شيطان الإيقاع، بل إنهم
يسمعون وينفِّذون كل النوتات، كل الإيقاعات، كل النغمات، كل
ارتفاعات الصوت، كل الكثافات، كل الفواصل. لا يكون الأمر أبدًا
١، ٢ ولا ١، ٢، ٣، بل ٧، ١٠، ١٤ أو ٢٨، زمن أولي مثلما في
موسيقى تركية. نصادف من جديد سؤال السرعات والإبطاءات هذا،
كيف تتركب، وبالدرجة الأولى كيف تتقدم إلى اكتسابات للفردية
[إفرادات] individuations
بالغة الخصوصية، كيف تقوم باكتسابات للفردية [إفرادات] دون
«ذات».
الامتناعُ عن تقييم الوضع، ومنع النفس من التذكُّر، لا
يعني تسهيل الحوار، لكن ثمة صعوبة أخرى. فيليكس وأنت
(فيليكس أسرع منك)، لا تكفَّان عن شجب الثنائيات، تقولان
إن الآلات الثنائية هي أجهزة سلطة لكسر الصيرورات: أنت
رجل أم امرأة، أبيض أم أسود، مفكِّر أم حي، بورجوازي أم
بروليتاري؟ لكن ماذا تفعلان، إن لم يكن اقتراح ثنائيات
أخرى؟ أفعال تفكير دون صورة، ضد صورة الفكر؛ الريزومة أو
العشب، ضد الأشجار؛ آلة الحرب ضد جهاز الدولة، الكثرات
المركَّبة، ضد التوحيدات أو التعميمات الكلية، قوة
النسيان ضد الذاكرة؛ الجغرافيا ضد التاريخ، الخط ضد
النقطة … إلخ. ربما توجَّب القول أولًا إن اللغة مصاغةٌ بشكل
عميق بواسطة الثنائيات، الانقسامات الثنائية، التقسيمات
على ٢، الحسابات الثنائية: مذكر–مؤنث، مفرد–جمع،
المركب اللغوي الاسمي-المركب اللغوي الفعلي syntagme nominal-syntagme
verbal. اللغويات لا تجد في اللغة
إلا ما هو موجود فعلًا: النسق الشجري للمراتبية وللأمر. اﻟ
أنا، اﻟ أنت، اﻟ هو،؛ هذا من اللغة بشكل عميق.
يجب التحدُّث مثل الجميع، يجب المرور عبر الثنائيات ١-٢، أو
حتى ١-٢-٣. لا يجب القول إن اللغة تُشوِّه واقعًا سابق
الوجود أو من طبيعة أخرى. اللغة تأتي أولًا، وقد اخترعت
الثنائيات، لكن عقيدة اللغة، تنصيب اللغة، اللغويات ذاتها
أسوأ من الأنطولوجيا القديمة، التي أخذت هي مكانها. يجب
أن نمرَّ عبر الثنائيات لأنها في اللغة، لا يتعلق الأمر
بالتخلص منها، لكننا يجب أن نناضل ضد اللغة، أن نخترع
التلعثم، لا لنعود إلى واقع زائف قبل لغوي، بل
لنتتبَّع خطًّا صوتيًّا أو مكتوبًا، سيجعل اللغة تنساب بين هذه
الثنائيات، وسيحدد استخدامًا أقلياتيًّا للغة، تنويعة كامنة،
كما يقول لابوف
Labov.
في المحل الثاني، من المحتمل ألَّا تتحدَّد كثرة ما بعدد
أطرافها. إذ يمكننا دائمًا أن نضيف ثالثًا إلى ٢، ورابعًا إلى
٣ … إلخ، ولا نخرج بهذه الطريقة من الثنائية؛ لأن عناصر منظومة
أيًّا كانت يمكن ربطها بتتابع من الخيارات هي نفسها ثنائية.
ليست العناصر ولا المنظومات هي ما تحدِّد الكثرة. فما يحددها
هو اﻟ و، بوصفها شيئًا يجد مكانه فيما بين العناصر أو فيما
بين المنظومات. و، و، و التلعثم. وحتى لو لم يكن هناك سوى
طرفَين، فهناك و بين الاثنَين، ليست هذا ولا ذاك، وليست هذا الذي
يصير ذاك، لكن الذي يؤسس الكثرة على وجه الدقة؛ لهذا السبب
يمكن دومًا فك الثنائيات من الداخل، بتتبع خط الهروب الذي يمر
بين الطرفَين أو بين المنظومتَين، الجدول الضيق الذي لا ينتمي
لا إلى الواحد ولا إلى الآخر، لكنه يجذب الاثنَين في تطور لا
متوازٍ، في صيرورة متنافرة زمنيًّا. على الأقل ليس هذا من
الديالكتيك. هكذا يمكننا التقدم على هذا النحو: سيظلُّ كلُّ
فصلٍ مُقسمًا إلى قسمَين، ولن يعود ثمة سبب لتوقيع كل قسم،
فسوف يجري الحوار بين القسمَين المجهولَي الكاتب وستنبثق
وفيليكس، وفاني، وأنت، وكل ما نتحدث عنه، وأنا، مثل الكثير غيرها
من الصور المشوهة في ماءٍ جارٍ.