القسم الأول
الرحيل، الفرار، يعني رسمَ خط. أرقى هدف للأدب، بالنسبة
للورانس هو: «الرحيل، الرحيل، الفرار … عبور الأفق، النفاذ
إلى حياة جديدة … هكذا يجد ملفيل نفسه في قلب المحيط
الهادي، لقد عبر حقًّا خط الأفق.» خط الهروب هو
نزع للتوطين déterritorialisation.
الفرنسيون لا يعرفون جيدًا ما يعنيه هذا. بديهي أنهم
يهربون مثل الجميع، لكنهم يظنون أن الهروب يعني الخروج
من العالم، غيبيًّا أو فنيًّا، أو أنه نوع من التخاذل؛ لأن
المرء يتملَّص من التزاماته ومسئولياته. الهروب، لا يعني
مطلقًا التخلِّي عن الفعل، فلا شيء أشد نشاطًا من الهروب.
إنه نقيض المتخيل. وهو أيضًا تهريب شيء، ليس الآخرين
بالضرورة، بل تهريب شيء ما، تهريب نسق مثلما ينسف المرءُ
أنبوبًا. يكتب جورج جاكسون عن سجنه: «ربما أهرب، لكنني
طوال هروبي أبحث عن سلاح.» ومرة أخرى يقول لورانس:
«أقول إن الأسلحة القديمة تفسد، اصنعوا أسلحة جديدة
وأطلقوا طلقات صائبة.» الهروب، يعني رسم خط، خطوط، خرائطية
كاملة. لا يكتشف المرء عوالم إلا عبر هروب طويل متكسر،
ولا يكفُّ الأدب الأنجلو-أمريكي عن تقديم تلك
الانقطاعات، تلك الشخصيات التي تخلق خطَّ هروبها، التي
تخلق بواسطة خط الهروب. توماس هاردي، ملفيل، ستيفنسون،
فيرجينيا وولف، توماس وولف، لورانس، فيتزجيرالد، ميلر،
كيرواك. كل ما فيهم رحيلٌ، صيرورة، عبور، قفز، قوة روحية،
علاقة بالخارج. يخلقون أرضًا جديدة، لكن يمكن بالضبط أن
تكون حركة الأرض هي نزع التوطين ذاته. يعمل الأدب
الأمريكي وفق خطوط جغرافية: الهروب صوب الغرب اكتشاف أن
الشرق الحقيقي هو الغرب، ومعنى الحدود باعتبارها شيئًا يجب
عبوره ودحره وتجاوزه.
١ الصيرورة جغرافية، وليس ثمة معادل لذلك في
فرنسا؛ فالفرنسيون مفرطون في إنسانيتهم، مفرطون في
تاريخيتهم، مفرطون في قلقهم على المستقبل والماضي. يقضون
وقتهم في تحديد الوضع. لا يعرفون الصيرورة، يفكرون على
أساس الماضي والمستقبل التاريخيَّين. وحتى بالنسبة للثورة،
يفكرون في «مستقبل الثورة»، بدل التفكير في صيرورة-ثورية. لا يعرفون رسم خطوط، اقتفاء
قناة. لا يعرفون
اختراق، أو تسوية الجدار. إنهم مغرمون بالجذور،
بالأشجار، بالمساحة، بنقاط التشجير، بالخصائص. انظروا إلى
البنيوية: إنها نسق من النقاط والمواضع، تعمل بواسطة
انقطاعات كبرى يقال إنها دالة، بدل التقدُّم بالاندفاعات
والتصدعات، وتسد خطوط الهروب، بدل أن تتبعها، وترسمها،
وتمدَّها داخل مجال اجتماعي.
هل هي عند ميشليه Michelet، تلك الصفحة
الجميلة التي يوضع فيها ملوكُ فرنسا في تعارضٍ مع ملوك إنجلترا:
هؤلاء بسياساتهم المتعلِّقة بالأرض، والمواريث، والزيجات،
والمنازعات القضائية، والتلاعبات والمخادعات، وأولئك بحركة نزع
التوطين، وتجوالاتهم وتخلِّياتهم، بخياناتهم كقطارٍ جهنمي يمرُّ؟
يُطلقون معهم تدفقات الرأسمالية، لكن الفرنسيين يخترعون جهازَ
السلطة البورجوازية القادر على إعاقتها، ووضعها موضع
الحساب.
الهروب لا يعني بالضبط الارتحال، ولا حتى الحركة. أولًا،
لأن ثمة رحلات على الطريقة الفرنسية، مفرطة في تاريخيتها،
وثقافتها، وتنظيمها، حيث يقنع المرء بنقل «ذاته». وثانيًا،
لأن عمليات الهروب يمكن القيام بها في نفس المكان، في رحلة
ساكنة. ويُبيِّن توينبي أن البدو، بالمعنى الدقيق، بالمعنى
الجغرافي، ليسوا مهاجرين ولا مرتحلين، بل هم على العكس مَن لا
يتحرَّكون، مَن يتشبثون بالسهوب، ساكنون ذوو خطواتٍ واسعة، يقتفون
خط هروب ثابت في مكانه، هم أعظمُ مبتكري الأسلحة الجديدة.
٢ لكن التاريخ لم يفهم مطلقًا أي شيء عن البدو
الذين ليس لهم لا ماضٍ ولا مستقبل. الخرائط هي خرائط كثافات،
والجغرافيا ليست أقل ذهنية وجسدية من كونها فيزياء في حركة.
وحين يهاجم لورانس ملفيل، فإنه يلومه على أنه أفرط في أخذ
الرحلة على محمل الجد. قد يحدث أن تكون الرحلة عودةً إلى
المتوحشين، لكن تلك العودة تُعدُّ تقهقرًا. ثمة دومًا طريقة
لإعادة توطين المرء لنفسه في الرحلة، فدائمًا ما يكون أبوه أو
أمه (أو ما هو أسوأ) هم مَن يصادفهم المرء في الرحلة. «العودة
إلى المتوحشين جعلت ملفيل مريضًا تمامًا … وفور أن رحل، بدأ
يتأوَّه، ويندم على
الفردوس،
لكون
الوطن و
الأم عند الطرف النائي لرحلة صيد الحيتان.»
٣ أما فيتزجيرالد فيعبر أفضل: «توصلت من ذلك إلى
فكرة أن من نجوا قد حققوا قطيعة حقيقية، قطيعة تعني الكثير
ولا علاقة لها بقطع الأغلال التي يكون مقدورًا للمرء عمومًا
أن يجد أغلالًا غيرها، أو أن يعاود تكبيل نفسه بالأغلال
القديمة. الفرار الشهير هو جولة في فخ حتى لو شمل هذا الفخ
بحار الجنوب، التي لم تُصنع إلا لمن يريدون الإبحار فيها أو
رسمها. القطيعة الحقيقية هي شيء لا يمكن للمرء النكوص عنه،
لا تُغتفر لأنها تجعل الماضي يكفُّ عن الوجود.»
٤
لكن حتى حين نُميز بين الهروب وبين الرحلة، يظلُّ الهروب
عمليةً ملتبسة. إذ ما الذي يخبرنا بأننا، على خط هروب، لن نجد
من جديد كلَّ ما نهرب منه؟ أثناء هروبنا من ثنائية الأب-الأم
الأبدية، ألن نجد من جديد كل التشكيلات الأوديبية على خط
الهروب؟ وأثناء هروبنا من الفاشية، نجد من جديد تخثُّرات
فاشية على خط الهروب. وأثناء هروبنا من كل شيء، كيف لا نُعيد
تأسيس بلدنا الأصلي، وتشكيلاتنا السلطوية، وكحولياتنا،
وتحليلاتنا النفسية، وآبائنا-أمهاتنا؟ ماذا نفعل حتى لا
يختلط خطُّ الهروب مع حركة تدميرٍ ذاتيٍّ خالصةٍ وبسيطة، إدمان
فيتزجيرالد للكحول، فتور همة لورانس، انتحار فيرجينيا وولف،
نهاية كيرواك الحزينة. الأدب الإنجليزي والأمريكي تتخلله
تمامًا سيرورة هدم كئيبة، تجرف الكاتب. موت سعيد؟ هذا بالضبط
ما لا يمكن أن يدركه المرء إلا على الخط، في نفس الوقت الذي
يرسمه فيه: الأخطار التي تحدِّق به، الصبر والاحتياطات التي يجب
أن يبذلها، التصحيحات التي يجب أن يقوم بها طوال الوقت؛ كي
يُخلِّص الخط من الرمال ومن الثقوب السوداء. لا يستطيع المرء
التنبؤ. القطيعة الحقيقية قد تمتد في الزمن، إنها تختلف عن قطع
بالغ الدلالة، ويجب حمايتها دون توقُّف لا من أشباهها الزائفة
فحسب، بل من نفسها أيضًا، ومن إعادات التوطين التي تترصدها.
لهذا السبب تقفز، من كاتبٍ إلى آخر، كشيء تتوجب إعادة بدئه.
والإنجليز والأمريكيون ليست لهم نفس طريقة إعادة البدء التي
للفرنسيين؛ فإعادة البدء الفرنسية هي البدء من الصفر، البحث
عن يقين أولي كنقطة أصل، دائمًا نقطة ارتكاز. وعلى النقيض، فإن
الطريقة الأخرى لإعادة البدء، هي استئناف الخط المنقطع، وصل
قطعة للخط المنكسر، جعله يمرُّ بين صخرتَين، في شعب ضيق، أو فوق
الفراغ؛ حيث كان قد توقف. ما يهم ليس أبدًا البداية ولا
النهاية؛ فالبداية والنهاية هما نقطتان. ما يهم هو المنتصف.
الصفر الإنجليزي دائمًا في المنتصف، والاختناقات دائمًا في
المنتصف. المرء عند منتصف خط، وهذا أشدُّ المواقف مشقَّة. المرء
يبدأ من المنتصف. الفرنسيون يفكرون أكثر مما يجب على أساس
الشجرة: شجرة المعرفة، نقاط التشجير، الألف والياء، الجذور
والقمة. وهذا نقيض العشب. العشب لا ينمو فقط عند منتصف
الأشياء، بل إنه هو ذاته ينمو من المنتصف. هذه هي المشكلة
الإنجليزية، أو الأمريكية؛ فالعشب له خط هروبه، ولا تجذُّر له.
في رأس المرء عشب، لا شجرة: هذا ما يعنيه التفكير، هذا هو
المخ، «جهاز عصبي معين»، من العشب.
٥
الحالة المثالية لذلك هي توماس هاردي؛ فالشخوص عنده ليست
أشخاصًا ولا ذوات، بل مجموعات من المشاعر الكثيفة، كلٌّ منها
مجموعة معينة، حزمة، كتلة مشاعر متغيرة. هناك احترام غريب
للفرد، احترام استثنائي: لا لأنه سيدرك ذاته باعتباره شخصًا،
وسيتم الاعتراف به على أنه شخص، على الطريقة الفرنسية، بل على
النقيض، بالضبط، لأنه ينظر إلى نفسه وإلى الآخرين على أنهم
«صُدَفٌ فريدة» - الصدفة الفريدة التي
نتجت عنها هذه التوليفة أو تلك. إفراد دون
ذات. هذه الحزم من المشاعر المتوقدة، هذه التشكيلات أو
التوليفات، تمر على خطوط الصدفة، أو الصدف السيئة؛ حيث تحدث
التقاءاتها، وإذا لزم الأمر، التقاءاتها السيئة، التي تؤدي
حتى إلى الموت، حتى إلى القتل. يستحضر هاردي نوعًا من
القدَر الإغريقي لهذا العالم التجريبي الإمبيريقي. حزم من
المشاعر الفردية تمر فوق المرج مثل خط هروب، أو خط نزع توطين
للأرض.
الهروب هو نوع من الهذيان
délire. الهذيان هو
بالضبط الخروج عن الخط المرسوم (مثل «التلفُّظ بالحماقات» …
إلخ.) ثمة شيء شيطاني، أو جني، في خط الهروب. الجن يتميزون
عن الآلهة؛ لأن للآلهة سمات وخصائص، ووظائف ثابتة، مواطن
وشفرات يرتبطون بالخطوط المرسومة، والتخوم، وعمليات المسح.
أما ما يخص الجن، فهو القفز فوق الفواصل، ومن فاصلة إلى أخرى.
يسأل أوديب: «أيُّ جنيٍّ قفز أطول قفزة؟» ثمة دومًا خيانة على خط
الهروب. ليس خداعًا على طريقة رجل نظامي يُدير مستقبله، بل
خيانة على غرار رجل بسيط لم يعد له ماضٍ ولا مستقبل. يخون
المرء القوى الثابتة التي تريد إعاقتنا، القوى القائمة للأرض.
وقد تم تعريف حركة الخيانة بأنها الإشاحة المزدوجة: الإنسان
يشيح بوجهه عن الرب، الذي يشيح بوجهه عن الإنسان بنفس القدر.
وفي هذه الإشاحة المزدوجة، في تباعد الوجهَين، يرتسم خط الهروب؛
أي نزع توطين الإنسان. الخيانة مثل السرقة، إنها دومًا مزدوجة.
لقد جعلنا من أوديب في كولونوس، بتيهه الطويل، المثالَ النموذجي
للإشاحة المزدوجة، لكن أوديب هي التراجيديا السامية الوحيدة
لدى الإغريق. الرب الذي يشيح عن الإنسان، الذي يشيح عن الرب،
هذا هو الموضوع الأولي للعهد القديم. إنه حكاية قابيل، خط
هروب قابيل. إنه حكاية يونس: بهذا يتم التعرف على النبي،
بأنه يتخذ الاتجاه المعاكس لذلك الذي يأمره به الرب؛ وبذلك
يحقق وصية الرب أفضل مما كان قد أطاع. الخائن جلب على نفسه
الشر. تتخلل العهد القديم دون توقف خطوط الهروب تلك، خط
الفصل بين الأرض وبين المياه. «لتتوقف العناصر عن العناق
وتدير ظهرها إلى بعضها البعض، فليشح رجلُ الماء عن امرأته
الآدمية وعن أطفاله … أعبر البحار أعبر البحار، ينصح القلب.
تخلَّ عن الحب وعن الدار.»
٦ في «الاكتشافات الكبرى» في البعثات الكبرى، ليس
ثمة فحسب عدمُ يقين مما سيتم اكتشافه، وغزوٌ لمجهول، بل اختراع
خط هروب، وقوة الخيانة، كون المرء الخائن الأوحد، وخيانة
الجميع — أجيري
Aguirre أو
غضب الرب. كريستوفر كولومبوس، كما يصفه جاك بيس في حكاية
استثنائية، بما في ذلك الصيرورة-امرأة لكولومبوس.
٧ السرقة المبدعة للخائن ضد انتحالات
المخادع.
العهد القديم ليس ملحمةً ولا تراجيديا، إنه الرواية الأولى،
وعلى هذا النحو يفهمه الإنجليز باعتباره أساس الرواية.
والخائن هو الشخصية الأساسية للرواية، البطل. خائنٌ لعالم
الدلالات السائدة والنظام القائم. وهو شديد الاختلاف عن
المخادع؛ فالمخادع يزعم الاستحواذ على ممتلكات محدَّدة، أو
احتلال أرض، أو حتى إقامة نظام جديد. المخادع له مستقبل كبير،
لكن ليست له صيرورة على الإطلاق. الكاهن، أو العراف، مخادع،
لكن من يجرب خائنٌ. رجل الدولة، أو رجل البلاط، مخادع، لكن رجل
الحرب (وليس المارشال أو الجنرال) خائن. تقدِّم الرواية
الفرنسية الكثير من المخادعين، وروائيونا غالبًا ما يكونون هم
أنفسهم مخادعين. ليست لهم علاقة خاصة مع العهد القديم. قدَّم
شكسبير الكثير من الملوك المخادعين، الذين تولوا السلطة
بالخداع، واتضح في نهاية المطاف أنهم ملوك جيدون، لكنه حين
يصادف ريتشارد الثالث يرتقي إلى أكثر التراجيديات روائية؛
لأن ريتشارد الثالث لا يريد السلطة ببساطة، بل يريد الخيانة.
لا يريد الاستيلاء على الدولة، بل تجميعة آلة حرب: كيف يكونُ
الخائن الأوحد، ويخون كلَّ شيء في نفس الآن؟ وحواره مع الليدي
آن، الذي اعتبره المعلِّقون «قليل الاحتمال ومبالغًا فيه»،
يُظهر الوجهَين اللذَين يُشيحان عن بعضهما، وأن التي تستشعر موافقة ومنبهرة بالفعل، الخط
المتعرج الذي يأخذ ريتشارد في
رسمه. ولا يكشف الخيانة أكثر من اختيار
الموضوع. لا لأنه اختيار للموضوع، وهي مقولة
سيئة، بل لأنه صيرورة، إنه العنصر الشيطاني بامتياز. ففي
اختياره آن ثمة صيرورة-امرأة لريتشارد الثالث. فيمَ يكمن ذنب
القبطان أهاب عند ملفيل؟ في أنه اختار موبي ديك، الحوت
الأبيض، بدل أن يُطيع قانون جماعة الصيادين، الذي يقضي بأن
كل حوت يصلح للصيد. هذا هو العنصر الشيطاني لأهاب، خيانته،
علاقته مع اللوياثان
Léviathan، هذا الاختيار
الذي يجعله ينخرط في صيرورة-حوت. وتظهر نفس التيمة في
بنثسيليا Penthésilée
عند كلايست: خطيئة بنثسيليا أنها اختارت أخيل، بينما يقضي
قانون الأمازونيات بعدم اختيار العدو؛ ويدخل العنصر الشيطاني
بنثسيليا في صيرورة-كلب (كان كلايست يفزع الألمان، ولم
يعترفوا به كألماني: بتجوالاته الكبرى على صهوة حصانه، ينتمي
كلايست إلى أولئك الكتاب الذين عرفوا، رغم النظام الألماني،
كيف يرسمون خط هروب متألق عبر الغابات والدول. والأمر ذاته
مع لنتس Lenz أو بوشنر
Büchner، مع كل المناهضين
لجوته). يجب تحديد وظيفة خاصة، لا تختلط لا بالصحة ولا
بالمرض: وظيفة اللامعياري l’Anomal.
اللامعياري دائمًا على الحدود، على حافة زمرة أو كثرة؛ يشكِّل
جزءًا منها، لكنه يجعلها تمر بالفعل داخل كثرة أخرى، يجعلها
تصير، يرسم خطًّا في الما بين. إنه أيضًا «اللامنتمي»: موبي
ديك، أو الشيء، الكيان عند لوفكرافت،
الرعب.
ربما تكون الكتابة في علاقة أساسية مع خطوط الهروب.
الكتابة، تعني رسم خطوط هروب ليست متخيلة ولا بد من اتباعها؛
لأن الكتابة تلزمنا بها، وتورطنا فيها في حقيقة الأمر. الكتابة، تعني الصيرورة، لكنها
لا تعني الصيرورة كاتبًا على الإطلاق، بل تعني الصيرورة شيئًا آخر. يمكن الحكم على كاتب
محترف وفق ماضيه أو وفق مستقبله، وفق مستقبله الشخصي أو وفق
الأجيال القادمة («سيتم فهمي خلال عامَين، خلال مائة عام» … إلخ). وتختلف تمامًا الصيرورات
المتضمنة في الكتابة حين لا
تعتنق كلمات الأمر القائمة، بل ترسم هي ذاتها خطوط هروب. يمكن
القول بأن الكتابة، حين لا تكون رسمية، تنضمُّ من تلقاء ذاتها
بالضرورة إلى «الأقليات»، التي لا تكتب لحساب نفسها
بالضرورة، وكذلك لا نكتب نحن عنها، بمعنى أننا لا نتخذها
موضوعًا، لكننا رغم ذلك نقع في قبضتها، طوعًا أو كرهًا، لمجرَّد
أننا نكتب. لا توجد أبدًا أقلية جاهزة؛ إذ إنها لا تتأسس إلا
على خطوط هروب هي أيضًا طريقتها في التقدم والهجوم. ثمة
صيرورة-امرأة في الكتابة. ولا يتعلق الأمر بالكتابة «مثل»
امرأة. مدام بوفاري «هي» أنا، هذه عبارة مخادع هستيري؛ فحتى
النساء لا ينجحْنَ دائمًا حين يجتهدْنَ في الكتابة كنساء، وفق
مستقبل المرأة. المرأة ليست الكاتب بالضرورة، بل الصيرورة-أقلياتية لكتابته، سواء كان
الكاتب رجلًا أو امرأةً. حرمت
فيرجينيا وولف على نفسها «الحديث كامرأة»: لقد أدركت بالأحرى
الصيرورة-امرأة للكتابة. يعتبر لورانس وميلر من كبار
مؤيدي سيطرة القضيب؛ بينما أدخلتهم الكتابة في صيرورة-امرأة لا تُقهر. لم تُنتج إنجلترا
كل هذا القدر من الروائيين
إلا بواسطة هذه الصيرورة، حيث يكون على النساء بذلُ نفس الجهد
كالرجال. ثمة صيرورات-زنجي في الكتابة، صيرورات-هندي لا
تتمثل في الكلام بلغة الهندي الأحمر أو الزنجي الصغير. وثمة
صيرورات-حيوانات في الكتابة، لا تتمثل في تقليد الحيوان، في
«التشبه» بالحيوان، مثلما لا تُقلَّد موسيقى موتسارت الطيور،
رغم تغلغل الصيرورة-طائرًا داخلها. القبطان أهاب له صيرورة-حوت ليست تقليدًا. لورانس
والصيرورة-سلحفاة، في قصائده
المثيرة للإعجاب. ثمة صيرورة-حيوانات في الكتابة، لا تتمثَّل
في حديث المرء عن كلبه أو قطه. إنه بالأحرى التقاء بين مجالَين،
ماس كهربائي، التقاط للشفرة ينتزع فيه كل طرف توطينه.
بفعل الكتابة يمنح المرء الكتابة
لمن لا يملكونها، لكن هؤلاء يمنحون الكتابة صيرورةً لن
توجد بدونها، بدونها ستكون لغوًا خالصًا في
خدمة القوى القائمة. أن يكون الكاتب أقلياتيًّا لا يعني وجود
أشخاص يكتبون أقل مما يوجد قراء؛ لن يكون هذا صحيحًا حتى في
وقتنا الراهن، فهذا يعني أن الكتابة تلتقي دومًا بأقلية لا
تكتب، ولا تضع على عاتقها أن تكتب من أجل هذه الأقلية، ولا
نيابة عنها، ولا بصددها، لكن ثمة التقاء يدفع فيه كل طرف
الآخر، ويُدخله في خط هروبه، في نزع توطين متضافر. تتضافر
الكتابة دومًا مع شيء آخر يُشكِّل صيرورتها الخاصة. لا توجد
تجميعة تعمل على تدفُّق وحيد. ليست مسألة تقليد بل ارتباط.
الكاتب مخترقٌ في أعمق أعماقه، بصيرورة-لا-كاتب. لم يعد
هوفمانشتال Hofmannsthal
(الذي يتخذ عندئذٍ اسمًا حركيًّا إنجليزيًّا) يستطيع الكتابة حين
يرى احتضار قطيع من الفئران؛ لأنه يشعر بأن روح الحيوان تكشف
عن أسنانها بداخله. وقد قدَّم فيلم إنجليزي جيد، هو ويلارد Willard،
صيرورة-فأر لا تُقاوَم للبطل الذي كان يتشبث رغم ذلك بكل
فرصة إنسانية، لكنه وجد نفسه منساقًا داخل هذا الاقتران
القاتل. والكثير من حالات الصمت والكثير من حالات انتحار
الكتَّاب ينبغي تفسيرها بهذه الأعراس ضد الطبيعة، بهذه
المشاركات ضد الطبيعة. أن يكون المرء خائنًا لمجاله الخاص، أن
يكون خائنًا لجنسه ولطبقته، ولأغلبيته، هل من سببٍ آخر
للكتابة؟ وأن يكون خائنًا للكتابة.
ثمة كثيرون يحلمون بأن يكونوا خونة. يؤمنون بذلك، يؤمنون
بأنهم خونة. إلا أنهم ليسوا سوى مخادعين صغار. إنها الحالة
المثيرة للشفقة لموريس ساكس Maurice
Sachs، في الأدب الفرنسي. أي مخادعٍ لا
يقول لنفسه: آهٍ أخيرًا، أنا خائن حقيقي! لكن أي خائن أيضًا لا
يقول لنفسه في المساء: في نهاية المطاف لم أكن سوى مخادع. أن
يكون المرء خائنًا، أمر صعب، لأنه يعني الإبداع. يجب فيه أن
يفقد هويته، ووجهه. يجب أن يختفي، أن يصير مجهولًا.
الهدف، غاية الكتابة؟ فيما وراء الصيرورة-امرأة،
الصيرورة-زنجيًّا، أو حيوانًا … إلخ، فيما وراء الصيرورة-أقلياتيًّا، يوجد المشروع النهائي
للصيرورة-لا محسوسًا.
لا، الكاتب لا يمكن أن يرغب في أن يكون «معروفًا»، معترفًا
به. اللامحسوس الخاصية المشتركة للسرعة القصوى وللبطء
الأقصى. فقدان الوجه عبور أو اختراق الجدار، صقله بصبر
شديد، ليس للكتابة هدف آخر. إنه ما سمَّاه فيتزجيرالد
القطيعة الحقيقية: خط الهروب، ليس الرحلة في بحار الجنوب،
بل اكتساب مجهولية (حتى لو توجَّب أن يصير المرء حيوانًا،
أن يصير زنجيًّا أو امرأة). أن يكون مجهولًا أخيرًا، مثل قلة
من الناس، هذا هو فعل الخيانة. من الصعب جدًّا ألَّا يعود
المرء معروفًا على الإطلاق، حتى من حارسة بوابة منزله، أو
في حيه، أن يكون المغني دون اسم، الريتورنيللو
ritournello [نغمة
القرار]. في نهاية
عذبٌ هو
الليل، يتلاشى البطل حرفيًّا، جغرافيًّا.
ويقول النص البالغ الجمال لفيتزجيرالد،
The
crack up: «شعرتُ
بأنني مثل الرجال الذين كنتُ أراهم في قطارات الضواحي في
جريت نك
Great Neck
قبلها بخمسة عشر عامًا …» ثمة نسق اجتماعي كامل يمكن أن
يسميه المرء نسق الجدار الأبيض — الثقب الأسود. نحن دومًا
مثبتون فوق جدار الدلالات السائدة، نحن دومًا غائصون في
ثقب ذاتيتنا، الثقب الأسود لأنانا الأعز علينا من كل
شيء. الجدار المنقوش عليه كل التحديدات الموضوعية التي
تُثبتنا، تضعنا في شبكة، تُحدد هُويتنا وتجعلنا معروفين،
والثقب الذي نودع فيه مع وعينا، مشاعرنا، وعواطفنا،
وأسرارنا الصغيرة المعروفة تمامًا، ورغبتنا في جعلها
معروفة. وحتى لو كان الوجه نتاجًا لذلك النسق، فإنه إنتاج
اجتماعي: وجه كبير بوجنات بيضاء، مع الثقب الأسود للعينَين.
مجتمعاتنا بحاجة إلى إنتاج وجه. وقد اخترع المسيح الوجه.
أما مشكلة ميلر (وأيضًا مشكلة لورانس) فهي: كيف ننزع
الوجه، محررين في داخلنا الرءوس الباحثة التي ترسم خطوط
الصيرورة؟ كيف نعبر الجدار، متجنِّبين أن نرتدَّ عليه،
متراجعين، أو أن نُسحق؟ كيف نخرج من الثقب الأسود، بدل
أن ندوم في أعماقه، أية جزيئات نجعلها تخرج من الثقب
الأسود؟ كيف نحطِّم حتى حبنا ذاته لنصير أخيرًا قادرين على
الحب؟ كيف نصير لا محسوسين؟ «لم أعُد أنظر في عيني المرأة
التي أضمها بين ذراعي، لكنني أعبرهما سباحة، بالرأس
والذراعَين والساقَين جميعًا، وأرى أن خلف محجرَي عينَيها
يمتدُّ عالمٌ لم يُكتشف، عالم أشياء مستقبلية، وكل منطق غائب
عن ذاك العالم … العين، وقد تحررت من ذاتها، لم تعد تكشف
أو تضيء، بل تمضي عبر خط الأفق، مسافرًا أبديًّا ومحرومًا
من المعلومات … لقد كسرتُ جدار الميلاد، وخط رحلتي
مستدير ومغلق، دون انقطاع … لا بد لجسدي بأكمله أن يصير
شعاعًا أبديًّا من الضوء يكبر باستمرار … أغلقُ إذن أذنيَّ،
وعينيَّ، وشفتيَّ. فقبل أن أعود لأصبح رجلًا مكتملًا، ربما كان
عليَّ أن أوجد كحديقة.»
٨
هنا لم يعد لدينا سر، لم يعد لدينا ما نخفيه. إننا نحن من
أصبحنا سرًّا، نحن المختفون، بينما كل ما نفعله، نفعله في
رائعة النهار وفي الضوء الساطع. هذا نقيض رومانسية
«الملعون». لقد رسمنا أنفسنا بألوان العالم. شجب لورانس ما
بدا له أنه يتخلَّل كل الأدب الفرنسي: الهوس ﺑ «السر الصغير
القذر». للشخصيات وللمؤلفين دومًا سر صغير، يُغذِّي هوس
التفسير. يجب دائمًا أن يُذكِّرنا شيءٌ ما بشيء آخر، أن يجعلنا
نفكر في شيء آخر. لقد احتفظنا من أوديب بالسر الصغير القذر،
وليس بأوديب في كولونوس على خط هروبه، وقد صار لامحسوسًا،
مطابقًا للسر الكبير الحي. السر الكبير، هو حينما لا يعود لدى
المرء ما يخفيه؛ ومن ثم لا يستطيع أي شخص أن يمسك به. سر في
كل مكان، فلا يعود ثمة ما يمكن قوله. وبعد اختراع «الدَّال»،
لم تستقر الأشياء في مكانها. فبدل أن نفسر نحن اللغة، شرعت هي
في تفسيرنا، وفي تفسير نفسها. الدلالة وداء التفسير هما مرضا
الأرض، ثنائي المستبد والكاهن، الدال هو دائمًا السر الصغير
الذي لم يكفَّ أبدًا عن الدوران حول الأب-الأم. إننا نبتزُّ
أنفسنا بأنفسنا، نجعل من أنفسنا غامضين وكتومين، نتقدم بمظهر
من يقول «انظروا أي سر أنوء به.» الشوكة في اللحم. يؤدي السر
الصغير عمومًا إلى استمناء نرجسي حزين وورع: الاستيهام!
«الانتهاك»، هو مفهوم صالح تمامًا لطلبة المدارس اللاهوتية
الخاضعين لقانون بابا أو قسيس؛ أي للمخادعين. جورج باتاي مؤلف
فرنسي جدًّا، جعل من السر الصغير جوهر الأدب، بأم في الداخل،
وكاهن تحت، وعين فوق. لن يمكننا قولُ ما يكفي عن الأذى الذي
ألحقه الاستيهام بالأدب (وقد غزا حتى السينما)، بتغذية الدال
والتفسير أحدهما للآخر، أحدهما مع الآخر. «عالم الاستيهامات
هو عالمٌ من الماضي»، مسرحٌ للضغينة والشعور بالذنب. نرى اليوم
أناسًا يتقاطرون صائحين: عاش الإخصاء؛ لأنه موضع، وأصل وغاية
الرغبة! وننسى ما هو في المنتصف. نخترع دومًا أجناسًا جديدة من
الكهنة؛ من أجل السر الصغير القذر الذي ليس له من هدف سوى
جعلنا نعترف به، ووضعنا من جديد داخل ثقب بالغ السواد، وجعلنا
ترتد عن الجدار البالغ البياض.
سرك نراه دومًا على وجهك وفي عينك؛ فلتفقد وجهك. فلتَصر
قادرًا على الحب دون تذكُّر، ودون استيهام، ودون تفسير، دون
شرح. فلتكن ثمة تدفُّقات فحسب، تارةً تغيض، أو تتجمد، أو تفيض،
وتارةً تتضافر أو تتباعد. الرجل والمرأة هما تدفقات، كل
الصيرورات الموجودة في ممارسة الحب، كل أنواع الجنس، ن من
أنواع الجنس الموجودة في واحد وحيد أو في اثنين، والتي لا
علاقة لها بالإخصاء. على خطوط الهروب، لم يعُد يمكن أن يوجد
سوى شيء واحد، هو تجريب الحياة. لا يعرف المرء أبدًا مقدمًا،
لأنه لم يعد له مستقبل ولا ماضٍ. لم يعُد يمكن القول، «أنا،
هكذا أنا.» لم يعد ثمة استيهام، بل مجرد برامج للحياة،
تتعدَّل دومًا بقدر ما تأتي إلى الوجود، تتم خيانتها بقدر ما
يجري حفرها مثل ضفاف تتتالى أو قنوات تتوزع حتى ينساب دفق.
لم يعُد ثمة سوى استكشافات يجد فيها المرء دومًا في الغرب ما
حسبه في الشرق، أعضاء مقلوبة. كل خط ينطلق عليه شخص هو خط
رزانة. في مقابل النذالة المجتهدة، الدقيقة، المتصلة للكتَّاب
الفرنسيين. لم تعد هناك كشوف الحساب اللامتناهية من التفسيرات
التي تكون دومًا قذرةً بعض الشيء، بل سيرورات متناهية من
التجريب، بروتوكولات خبرة. قضى كلايست وكافكا وقتهما في صياغة
برامج للحياة: البرامج ليست بيانات، وأقل من ذلك استيهامات، بل
إنها وسائل لتحديد المواقع للقيام
بتجريب يتجاوز قدراتنا على التنبؤ (ونفس
الشيء مع ما نسميه الموسيقى ذات البرنامج). تكمن قوة كتب
كاستانييدا، أثناء تجريبه المبرمج على المخدرات، في أن
التفسيرات يجري تفكيكها في كل مرة، ويجري إلغاء الدال
الشهير. لا، الكلب الذي رأيتُه، الذي عدوتُ معه تحت تأثير
المخدرات، ليس أمي العاهرة … إنه عملية صيرورة-حيوان، لا
تريد أن تقول سوى ما يصيره، ويجعلني أصير معه. هنا تترابط
صيرورات أخرى، صيرورات-جزيئات يجري فيها الإمساك بالهواء،
بالصوت، بالماء في جزيئاتها في نفس الوقت الذي تقترن فيه
تدفقاتها مع دفقي. عالمٌ كامل من الإدراكات المتناهية الصغر
تقودنا إلى اللامحسوس. جربوا، لا تُفسروا أبدًا. برمجوا
لا تمارسوا الاستيهام أبدًا. هنري جيمس أحد أكثر من تغلغلوا في
الصيرورة-امرأة للكتابة، يخترع بطلة عاملة بريد، تنجرف في
تدفُّق تلغرافي تبدأ في السيطرة عليه بفضل «فن التفسير
العبقري» لديها (تقييم الراسلين، التلغرافات المجهولة الاسم
أو المشفَّرة)، لكن من شذرة إلى شذرة، ينبني تجريب حي يتهاوى
فيه التفسير، لا يعود فيه إدراك حسي ولا معرفة، لا سر ولا تخمين:
«انتهي بها الأمر بأن عرفت الكثير بحيث لم تعد قادرةً على
التفسير» لم تعُد توجد التباساتٌ تجعلها ترى بوضوح … لم يتبقَّ سوى ضوء ساطع. الأدب
الإنجليزي أو الأمريكي هو سيرورة تجريب. لقد قتلوا
التفسير.
الخطأ الأكبر، الخطأ الوحيد، سيكون الاعتقادَ بأن خط
الهروب يتمثَّل في الهروب من الحياة؛ الهروب في المتخيل، أو
في الفن، لكن الهروب على العكس، يعني إنتاج الواقعي، خلق
الحياة، العثور على سلاح. بوجهٍ عام، في نفس الحركة الزائفة
يتم اختزالُ الحياة إلى شيء شخصي، ويُفترض أن يجد العمل
غايته في ذاته، سواء كعمل كلي، أو كعمل في طريقه
للاكتمال، مما يعيدنا دومًا إلى كتابةٍ عن الكتابة؛ لهذا
السبب يزخر الأدب الفرنسي بالبيانات، والأيديولوجيات،
ونظريات الكتابة، كما يزخر بالنزاعات الشخصية، بتوضيحات
التوضيحات، بالمجاملات العصابية، بالمحاكمات النرجسية.
للكتاب وكرهم الشخصي القذر في الحياة، وفي نفس الوقت لهم
أرضهم، وطنهم الأكثر روحانية في العمل الذي يصنعونه. إنهم
قانعون بأن يتعفَّنوا شخصيًّا، حتى يصبح ما يكتبونه أشد
سموًّا ودلالة. الأدب الفرنسي عادةً ما يكون المديح الأشد
وقاحةً للعصاب. سيكون العمل بالأحرى أكثر دلالةً كلما أحال
إلى غمزة العين، وإلى السر الصغير في الحياة وبالعكس. يجب
الاستماع إلى النقاد المؤهلين وهم يتحدثون عن إخفاقات
كلايست، وأوجه عجز لورانس، وصبيانيات كافكا، وفتيات كارول
الصغيرات. إنه لأمر مقزز. ويجري الأمر دائمًا بأفضل
النوايا في العالم: فسيبدو العمل أعظمَ بكثيرٍ كلما جعل
المرء الحياة تبدو أشدَّ بؤسًا. وبذلك لا يخاطر المرء بأن
يرى قوةَ الحياة التي تتخلَّل عملًا ما؛ فقد سحقها مقدمًا.
إنها نفس الضغينة، نفس مذاق الإخصاء، ما يحفز الدال
الكبير كغاية مقترحة للعمل، والمدلول المتخيل الصغير،
الاستيهام كوسيلة موحية بالحياة. شجب لورانس الأدب
الفرنسي لكونه ثقافيًّا وأيديولوجيًّا، ومثاليًّا بصورة لا
شفاء منها؛ لكونه نقديًّا بصورة جوهرية، نقدًا للحياة بدل
أن يكون خالقًا للحياة. النزعة القومية الفرنسية في
الآداب: يتخلَّل هذا الأدب هوسٌ فظيع بأن يحاكِم وأن يحاكَم:
ثمة أكثر مما يجب من الهستيريين بين أولئك الكتاب
وشخصياتهم. كراهية، ورغبة في كون المرء محبوبًا، لكن عجز
كبير عن الحب وعن الإعجاب. في
الحقيقة ليسَت غاية الكتابة في ذاتها، بالضبط لأن
الحياة ليست شيئًا شخصيًّا. أو بالأحرى فإن
هدف الكتابة، هو أن تحمل الحياة إلى حالة قوة غير شخصية.
وهي بذلك تتخلَّى عن كل موطن، عن كل غاية تكمن في ذاتها.
لماذا يكتب المرء؟ لأن الأمر لا يتعلَّق بالكتابة. ربما
تكون صحة الكاتب معتلة، وبنيته ضعيفة، لكنه رغمًا عن ذلك
نقيضُ العصابي: هو نوعٌ من الحي العظيم (على طريقة سبينوزا، أو
نيتشه أو لورانس)، على الأقل لأنه فقط أضعف من أن يتحمَّل
الحياة التي تتخلَّله أو المشاعر التي تمر خلاله. ليس
للكتابة وظيفةٌ أخرى: أن تكون تدفقًا يقترن بغيره من
التدفقات — كل الصيرورات — أقلية للعالم. التدفق هو شيء
كثيف، لحظي ومتحول، يقع بين الخلق وبين التدمير. وفقط حين
يصبح التدفق منزوع التوطين، فإنه يتمكَّن من تحقيق ارتباطه
بالتدفقات الأخرى، التي تنزع توطينَه بدورها، والعكس بالعكس.
في الصيرورة-حيوانًا، يقترن إنسان وحيوان لا يشبه أيهما
الآخر، ولا يقلد أيهما الآخر، ينزع كلٌّ منهما توطين
الآخر، دافعًا الخط إلى مدًى أبعد. نسق من التناوب
والتحولات من المنتصف. خط الهروب خلَّاق لتلك الصيرورات.
خطوط الهروب ليس لها موطن. والكتابة تُقيم الارتباط،
تحول التدفقات التي من خلالها تفلت الحياة من ضغينة
الأشخاص، والمجتمعات، والعصور. إن كلمات كيرواك تماثل في
تعقُّلها رسمًا يابانيًّا، خطًّا خالصًا تخطُّه يدٌ بلا دعم، ويخترق
العصور والممالك. تطلَّب الأمر مدمن كحول حقيقي لبلوغ ذاك
التعقُّل. أو العبارة — المرج، الخط — المرج لدى توماس
هاردي: ليس الأمر أن يكون المرجُ موضوع أو مادة الرواية،
لكن تدفقًا من الكتابة الحديثة يقترن بتدفق من المرج
الغابر. الصيرورةُ-مرجًا؛ أو كذلك الصيرورة-عشبًا لميلر،
ما يسميه هو صيرورته-صينًا. فيرجينيا وولف وموهبتها في
العبور من عصر إلى آخر، من مجال إلى آخر، من عنصر إلى آخر:
هل تطلَّب ذلك أنوركسيا فيرجينيا وولف [عزوفها عن الطعام]؟
لا يكتب المرء إلا بواسطة الحب؛ فكل كتابة هي رسالة حب:
واقع الأدب. لا يجب أن يموت المرء إلا بواسطة الحب، لا
موتًا تراجيديًّا. لا يجب أن يكتب المرء إلا بواسطة هذا
الموت، أو أن يتوقَّف عن الكتابة إلا بواسطة هذا الحب، أو
أن يواصل الكتابة، الأمرَين في ذات الوقت. ولا نعرف كتاب حب
أهم وأشد إيحاءً، وأعظم من The Underground
Ones لكيرواك. إنه لا
يسأل «ما الكتابة؟»؛ لأن لديه كل ضرورتھا، استحالة كل
خيار آخر التي تصنع الكتابة ذاتها، بشرط أن تكون الكتابة
بدورها صيرورةً أخرى بالنسبة له، أو تأتي من صيرورة أخرى.
الكتابة، الوسيلة إلى حياة أكثر من شخصية، بدل أن تكون
الحياة سرًّا تعيسًا من أجل كتابة لا تكون لها من غاية سوى
ذاتها. آهٍ، يا لبؤس المتخيل والرمزي! والواقع مؤجل دومًا إلى
الغد.