القسم الثاني

الوحدة الواقعية الدنيا، ليست هي الكلمة، ولا الفكرة، ولا المفهوم، ولا الدال، بل التجميعة  l’agencement. المنطوقات énoncés تُنتجها دائمًا تجميعة. والمنطوقات ليست علتها ذاتًا تقوم بدور ذات النطق، كما أنها لا ترتبط بذوات تُعتبر ذوات المنطوق. المنطوق هو نتاج تجميعة، جماعية دومًا، تدفع إلى العمل، داخلنا وخارجنا، تعدادات populations، وكثرات multiplicités، ومواطن، وصيرورات، ومنفعلات affects، وأحداثًا. اسم العلم لا يشير إلى ذات، بل إلى شيء يحدث، على الأقل بين حدَّين ليسا ذاتَين، بل فاعلَين، عنصرَين. أسماء العلم ليست أسماء أشخاص، بل أسماء شعوب وقبائل، حيوانات ونباتات، عمليات عسكرية أو أعاصير استوائية، جماعات، مجتمعات مجهولة، ومكاتب إنتاج. المؤلف هو ذاتٌ للنطق، لكن ليس الكاتب، الذي ليس مؤلفًا. الكاتب يخترع تجميعات بدءًا من تجميعات اخترعته، يجعل كثرة تمر داخل أخرى. الصعوبة هي جعل كل عناصر مجموعة غير متجانسة تتواطأ، جعلها تعمل معًا. ترتبط البنيات بشروط التجانس التي لا تنطبق على التجميعات. التجميعة، هي أداء مشترك، هي «التعاطف»، التكافل. صدقوا تعاطفي. ليس التعاطف إحساسًا غامضًا بالتقدير أو المشاركة الروحية، بل إنه على النقيض جهد أو تداخل الأجساد، كراهيةً أو حبًّا؛ لأن الكراهية أيضًا خليط، إنها جسد، لا يكون جيدًا إلا حين تختلط بما تكرهه. التعاطف هو أجساد تتحاب أو تكره بعضها، بتعدادات تتفاعل في كل مرة، في هذه الأجساد أو على هذه الأجساد. ويمكن أن تكون الأجساد فيزيائية، أو بيولوجية، أو نفسية أو اجتماعية، أو لفظية، ثمة دومًا أجساد أو مجموع أجساد. المؤلف، بوصفه ذاتًا للنطق، هو أولًا روح تارةً يتماهى مع شخصياته، أو يجعلنا نتماهى معها، أو مع الفكرة التي تحملها؛ وتارةً على العكس يدخل مسافة تتيح له ولنا الملاحظة والنقد والتمديد، لكن هذا ليس جيدًا. المؤلف يخلق عالمًا، لكن ليس ثمة عالم ينتظرنا ليخلق. لا تماهي ولا مسافة، لا قُرب ولا بعد؛ لأننا، في كل تلك الحالات، نضطر إلى الحديث باسم شيء، بدل شيء … وعلى النقيض، يجب الحديث مع، الكتابة مع. مع العالم، مع جزء من العالم، مع الناس. ليس محادثة على الإطلاق بل مؤامرة، صدمة حب أو كراهية. لا يوجد أي حكم في التعاطف، بل توافق بين أجساد من كل نوع. «كل التعاطفات السامية للروح التي لا تُحصى، من الكراهية الأشد مرارةً إلى الحب الأشد شغفًا.»١ هذا ما يعنيه التجميع؛ كون المرء في المنتصف: «الأمر الجوهري، هو أن أجعل نفسي غير مجدٍ على الإطلاق، أن يمتصَّني التيار العام، أن أصير سمكة من جديد، ولا ألعب دور الوحوش؛ قلت لنفسي إن الفائدة الوحيدة التي يمكن أن أستخلصها من فعل الكتابة، هي أن أرى بذلك اختفاء الزجاج الذي يفصلني عن العالم.»٢

يجب القول إن العالم ذاته هو الذي ينصب لنا فخَّي المسافة والتماهي. في العالم الكثير من العصابيين والمجانين الذين لا يفارقوننا، ما داموا لم يستطيعوا اختزالنا إلى حالتهم، ونقل سمهم إلينا، الهستيريين والنرجسيين بعدواهم الخبيثة. وهناك الكثير من الدكاترة والحكماء الذين يدعوننا إلى نظرة علمية معقمة، هم مجانين حقيقيون أيضًا، مصابون بجنون العظمة. لا بد من مقاومة الفخَّين، الفخ الذي تنصبه لنا مرآة العدوى والتماهي، والفخ الذي تدلنا عليه نظرة الفهم. لا يمكننا سوى التجميع بين التجميعات. ليس لدينا سوى التعاطف من أجل النضال، ومن أجل الكتابة، كما قال لورانس، لكن التعاطف، لا يعني شيئًا، إنه صراع جسد مع جسد، كراهية ما يهدِّد ويُعدي الحياة، ومحبة الموضع الذي تتكاثر فيه (لا خَلَف ولا سلالة، بل تكاثر …). لا، كما يقول لورانس، أنتم لستم الإسكيمو الصغير الذي يعبر، أصفر وملطخًا بالشحم، ولا يجب أن تحسبوا أنكم على شاكلته، لكن ربما تتعاملون معه، لديكم شيء تُجمعونه معه، صيرورة-إسكيمو لا يتمثَّل في لعب دور الإسكيمو، في تقليده أو التماهي معه، أو التشبه بالإسكيمو، بل في تجميع شيء بينه وبينكم؛ إذ لا يمكنكم الصيرورة إسكيمو إلا إذا صار الإسكيمو هو ذاته شيئًا آخر. والشيء نفسه مع المجانين، ومدمني المخدرات، ومدمني الكحول. ثمة اعتراض بتعاطفك البائس تستفيد من المجانين، تقوم بامتداح الجنون، ثم تتخلَّى عنهم، وتظلُّ على الضفة … ليس هذا صحيحًا؛ إذ نحاول أن ننتزع من الحب كلَّ تملك، وكل تماهٍ، حتى نصير قادرين على الحب. نحاول أن ننتزع من الجنون الحياةَ التي يتضمَّنها، بينما نكره المجانين الذين لا يتوقفون عن جعل هذه الحياة تموت، عن تحويلها ضد نفسها. نحاول أن ننتزع من الكحول الحياة التي يتضمنها، دون أن نشرب: مشهد السكر العظيم على الماء القُراح عند هنري ميلر. الاستغناء عن الكحول، وعن المخدرات، وعن الجنون، هذه هي الصيرورة، الصيرورة-رزينًا؛ من أجل حياة أثرى باطِّراد. هذا ما يعنيه التعاطف، التجميع، تهيئة الفراش، هي نقيض تأدية وظيفة، ألَّا يكون المرء بهلوان التماهيات، ولا الطبيب البارد للمسافات. يستلقي المرء في فراشه كما هيَّأه، ولن يأتي أحدٌ ليستلقي بجواره. كثير من الناس يودُّون أن يستلقي بجوارهم أحد، أم ضخمة للتماهي معها، أو الطبيب الاجتماعي للمسافات. نعم، فليتخلص المجانين، والعصابيون، ومدمنو الكحول والمخدرات، وذوو العدوى، كيفما استطاعوا، فتعاطفنا ذاته هو ألَّا يكون الأمر من شأننا. يجب أن يقطع كلُّ واحد طريقه. غير أن الأمر الصعب هو القدرة على ذلك.

قاعدة هذه المحادثات هي: كلما كانت الفقرة طويلة، كان من الملائم قراءتها بسرعة بالغة. ويجب أن تقوم التكرارات بوظيفة تسريعات. بعض الأمثلة ستتكرر باستمرار: الزنبور وزهرة الأوركيد، أو الحصان والركاب … وستكون ثمة أمثلة أخرى كثيرة لاقتراحها. غير أن العودة إلى نفس المثال يجب أن تُنتج إبطاء، حتى لو كان الثمن فتور القارئ. ريتورنيللو ritournelle [نغمة قرار/لازمة موسيقية]؟ كل الموسيقى وكل الكتابة تمر عبر هذا المسار. ستصبح المحادثة ذاتها ريتورنيللو.
عن الإمبيريقية. لماذا أكتب؟ لماذا كتبت عن النزعة الإمبيريقية، وعن هيوم بوجه خاص؟ لأن الإمبيريقية مثل الرواية الإنجليزية. لا يتعلق الأمر بعمل رواية فلسفية، ولا بوضع الفلسفة داخل رواية. يتعلق الأمر بممارسة الفلسفة كروائي، بأن يكون المرء روائيًّا داخل الفلسفة. عادةً ما يتم تعريف الإمبيريقية باعتبارها مذهبًا، وفقًا له «يأتي» المعقول من المحسوس، كل ما يتعلق بالفهم يأتي من الحواس، لكن هذه هي وجهة نظر تاريخ الفلسفة: فلديه موهبة خنق كلِّ حياة بالبحث عن مبدأ أول مجرد وطرحه. في كل مرة يؤمن فيها المرء بمبدأ أول عظيم، لا يعود قادرًا إلا على إنتاج ثنائيات ضخمة عقيمة. يستسلم الفلاسفة مرحبين بذلك، ويتناقشون بشأن ما الذي يجب أن يكون مبدأ أول (الوجود، الأنا، المحسوس؟ …)، لكن لا يستحق الأمر حقًّا عناء استحضار الثراء العيني للمحسوس، إن كان ذلك لجعله مبدأً مجردًا. وفي الحقيقة فإن المبدأ الأول هو دومًا قناع، صورةٌ بسيطة، ولا وجود له؛ إذ لا تبدأ الأشياء في الحركة والانتعاش إلا على مستوى المبدأ الثاني، أو الثالث، أو الرابع، ولا تعود هذه مبادئ. الأشياء لا تبدأ في الحياة إلا عند المنتصف. في هذا الصدد، ما الذي وجده الإمبيريقيون، لا في رءوسهم، بل في العالم، ويعد بمثابة اكتشاف حيوي، يقين من الحياة، يغير طريقة العيش إذا تمسك المرء به حقًّا؟ ليس على الإطلاق سؤال «هل يأتي المعقول من المحسوس؟» بل سؤال آخر تمامًا، هو سؤال العلاقات. العلاقات خارجية عن حدودها. «بيير أصغر من بول»، «القدح فوق الطاولة»: العلاقة ليست داخلية لا بالنسبة لأحد الحدَّين الذي سيصبح بالتالي ذاتًا، ولا بالنسبة لمجموع الاثنَين. وفضلًا عن ذلك، يمكن لعلاقة أن تتغير دون أن تتغير الحدود. يمكن الاعتراض بأن القدح قد يتعدَّل حين ينقل بعيدًا عن الطاولة، لكن هذا ليس صحيحًا؛ فالأفكار عن القدح وعن الطاولة لا تتعدل، وهما الحدَّان الحقيقيان للعلاقات. العلاقات في المنتصف، وتوجد بكونها كذلك. وخارجية العلاقات هذه ليست مبدأً، إنها احتجاج حيوي ضد المبادئ. وبالفعل، إذا كان المرء يرى فيها شيئًا يتخلَّل الحياة، لكنه منافٍ للفكر، فيجب إذن إجبارُ الفكر على التفكير فيها، وجعلها نقطة هذيان الفكر، تجريبًا يمارس العنف على الفكر. الإمبيريقيون ليسوا منظِّرين، إنهم تجريبيون: لا يفسرون مطلقًا، ليست لديهم مبادئ. إذا أخذ المرء خارجية العلاقات هذه باعتبارها خيطًا ناظمًا، أو خطًّا، لتفتح أمام أعيننا، قطعةً قطعة، عالم بالغ الغرابة، معطف مهرج أو رقع متباينة patchwork، مكوَّنة من امتلاءات وفراغات، من كتل وانقطاعات، من تجاذبات وتنافرات، من تلميحات وفظاظات، من اتصالات وانفصالات، من تراوحات وتضافرات، من عمليات جمع ليس مجموعها منجزًا أبدًا، وعمليات طرح ليس الباقي فيها ثابتًا أبدًا. يمكننا أن نرى جيدًا كيف ينتج عن هذا المبدأ الأول الزائف للإمبيريقية، لكن باعتباره حدودًا سلبية يجري دومًا دفعها إلى الوراء، قناعًا يوضع في البداية، وبالفعل إذا كانت العلاقات خارجية، ولا يمكن اختزالها إلى حدودها، فلا يمكن أن يكون الاختلاف بين المحسوس والمعقول، بين الخبرة والفكر، بين الأحاسيس والأفكار، بل فقط بين نوعَين من الأفكار، أو نوعَين من الخبرات، خبرات الحدود وخبرات العلاقات. وتداعي الأفكار الشهير لا يمكن اختزاله بالتأكيد إلى الابتذالات التي أبقاها منه تاريخ الفلسفة. عند هيوم هناك الأفكار، ثم العلاقات بين هذه الأفكار، وهي علاقات يمكن أن تتغيَّر دون أن تتغير الأفكار، ثم الظروف والأفعال والمشاعر التي تجعل هذه العلاقات تتغير. «تجميعة-هيوم» كاملة تتخذ أكثر الأشكال تنوعًا. حتى يصير المرء مالكًا لمدينة مهجورة، هل يجب أن يلمس بوابتها بيده، أم يكفيه أن يطلق رمحه عن بعد؟ لماذا في بعض الحالات، يتغلب ما هو أعلى على ما هو أسفل، وفي حالات أخرى يحدث العكس (الأرض تتغلب على السطح، لكن الرسم يتغلب على سطح القماش … إلخ)؟ جربوا: في كل مرةٍ تجميعة من الأفكار، ومن العلاقات، ومن الظروف: في كل مرة رواية حقيقية، يأخذ فيها المالك، اللصُّ، رجلُ الرمح، الرجل ذو اليد العارية، العامل، الرسام مكان المفاهيم.
جغرافيا العلاقات هذه هامة لا سيما وأن الفلسفة تاريخ الفلسفة، ترهقه مشكلة الوجود يكون  EST يجري النقاش حول الحكم على النسبة (السماء [تكون est] زرقاء) والحكم على الوجود (الرب موجود est)، أيهما يفترض الآخر، لكنه دومًا فعل الكينونة  être وسؤال المبدأ. الإنجليز والأمريكيون وحدهم هم من حرروا الارتباطات، وتأملوا في العلاقات. وذلك لأن لهم إزاء المنطق توجه بالغ الخصوصية؛ إذ لا يدركونه بوصفه شكلًا أصليًّا ينطوي على المبادئ الأولى، بل على العكس يقولون لنا: المنطق، إما ستجبرون على التخلِّي عنه، وإما ستضطرون إلى اختراع واحد! المنطق، هو بالضبط مثل الطريق الرئيسي، لا يوجد عند البداية، كما أنه ليس له نهاية، لا يمكن للمرء التوقف. بالضبط، لا يكفي عمل منطق للعلاقات، لا يكفي الاعتراف بحقوق الحكم على العلاقات باعتبارها مجالًا مستقلًّا، مختلفًا عن أحكام الوجود والنسبة. فلا شيء يمنع العلاقات كما يجري كشفها في حروف العطف (من ثَم، وإذن … إلخ) من أن تظل خاضعةً لفعل الكينونة. النحو برمته، والقياس المنطقي برمته، هما وسيلة للحفاظ على خضوع حروف العطف لفعل الكينونة، ولجعلها تدور حول فعل الكينونة. يجب الذهاب إلى مدًى أبعد؛ جعل الالتقاء مع العلاقات يخترق ويفسد كل شيء، ينسف الوجود، ويجعله ينقلب. يجب إحلال اﻟ و ET محل يكون  EST. أ و ب. اﻟ و ET ليست حتى علاقة أو ربط [حرف عطف] بوجه خاص، إنها ما يكمن تحت كل العلاقات، الطريق الذي تأخذه كل العلاقات، وما يعمل على تسريب العلاقات خارج حدودها، وخارج مجموع حدودها، وخارج كل ما يمكن أن يتحدد بوصفه فعل الكينونة، الواحد أو الكل. اﻟ و ET بوصفها وجودًا-خارجًا أو وجودًا-بين. ما زال يمكن للعلاقات أن تقوم بين حدودها، أو بين مجموعَين، من الواحد إلى الآخر، لكن اﻟ و ET تمنح اتجاهًا آخر للعلاقات، وتجعل كلًّا من الحدود والمجموعات تهرب، على خط الهروب الذي تخلقه بنشاط. التفكير بواسطة وET بدل التفكير في يكون  EST، من أجل يكون: لم يكن للإمبيريقية أبدًا سر آخر. جربوها، إنها فكر استثنائي تمامًا وهي مع ذلك الحياة. الإمبيريقيون يفكرون هكذا، هذا كلُّ ما في الأمر. وليست فكر محبٍّ للجمال، مثلما حين نقول «واحد أكثر»، «امرأة واحدة أكثر.» وليست فكرًا ديالكتيكيًّا، مثلما حين نقول «الواحد يعطي اثنَين، والاثنان سيعطيان ثلاثة.» ﻓ الكثير  Le multiple لم يعُد نعتًا adjectif ما زال خاضعًا ﻟ واحد ينقسم أو ﻟ وجود يحتويه. بل صار اسمًا substantif، كثرةً لا تكف عن أن تسكن كل شيء. كثرة ليست أبدًا في الحدود مهما كان عددها، ولا في مجموعها، ولا في الكلية. الكثرة تكون فقط في الو ET، التي ليست لها نفس طبيعة العناصر، ولا المجموعات ولا حتى علاقاتها. وإذا كان يمكنها أن تقوم بين عنصرَين فقط، فذلك لا يقلل من قدرتها على حرف الثنائية. ثمة رزانة، فقر، تقشُّف أساسيان في و. باستثناء سارتر الذي ظل واقعًا في فخاخ فعل الكينونة، كان أهم فلاسفة فرنسا هو جان فال Jean Wahl؛ إذ لم يجعلنا فقط نلتقي بالفكر الإنجليزي والأمريكي، بل عرف كيف يجعلنا نفكِّر بالفرنسية في أشياء بالغة الجدة، لكنه، وحده، دفع إلى أبعد مدًى فنَّ الو ذاك، ذلك التلعثم للغة في ذاتها، ذلك الاستخدام الأقلياتي للغة.
هل من المدهش أن يأتينا ذلك من الإنجليزية أو الأمريكية؟ إنها لغة مهيمنة، إمبريالية، لكنها بالأحرى قابلة للأذى بفعل العمل الخفي للغات أو للهجات التي تنسفها من كل جانب، والتي تفرض عليها لعبة الإفسادات والتنويعات البالغة الاتساع. وأولئك الذين يناضلون من أجل فرنسية نقية، لا تكون ملوَّثة بعدوى الإنجليزية، يبدو لنا أنهم يطرحون مشكلة زائفة، لا قيمة لها إلا في نقاشات المثقفين. اللغة الأمريكية لا تؤسس زعمها الاستبدادي الرسمي، زعمها الأغلبياتي في الهيمنة، إلا على قابليتها المذهلة على الالتواء، على التكسر، وعلى وضع نفسها في الخدمة السرية للأقليات التي تشتغل عليها من الداخل، بشكل لا إرادي، وشبه رسمي، قارضة هذه الهيمنة أولًا بأول، وبقدر ما تتسع الوجه النقيض للسلطة. لقد اشتغلت على الإنجليزية على الدوام كلُّ تلك اللغات الأقلياتية، الأنجلو-غالية، والأنجلو-أيرلندية … إلخ، التي تمثل آلات حرب كثيرة ضد الإنجليزية وET عند سينج Synge التي تأخذ على عاتقها كل الارتباطات، وكل العلاقات و«الطريق» the way الطريق السريع، لتخط خط اللغة التي تتطور.٣ وتشتغل على الأمريكية إنجليزية السود، وكذلك إنجليزية صفراء، وحمراء، وإنجليزية مكسورة، كلٌّ منها مثل لغة يطلقها مسدس ألوان: الاستخدام البالغ الاختلاف لفعل الكينونة، الاستخدام المختلف لحروف العطف، الخط المتصل لو ET … وإذا كان العبيد بحاجة إلى امتلاك معرفة بالإنجليزية القياسية، فذلك للهروب، وتهريب اللغة ذاتها.٤ لا، لا يتعلق الأمر بعمل لهجات إقليمية ولا باستعادة العاميات، مثل الروائيين الفلاحين الذين يعدون عمومًا حراسًا للنظام القائم. الأمر يتعلق بجعل اللغة تتحرك، بكلمات رزينة باطِّراد وبتركيب جمل أرهف باطِّراد. لا يتعلَّق الأمر بالتحدث بلغة وكأن المرء أجنبي، بل بأن يكون أجنبيًّا في لغته ذاتها، بمعنى كون اللغة الأمريكية لغة السود حقًّا. لدى اللغة الأنجلو-أمريكية نزوع لذلك. يجب أن نُعارض بين الطريقة التي تُشكِّل بها الإنجليزية والألمانية الكلمات المركَّبة التي تتمتع هاتَين اللغتَين بثراء متكافئ فيها. إلا أن الألمانية يطاردها هاجس أولوية الوجود، الحنين إلى الوجود، وتجعل كل الارتباطات التي تستخدمها لصياغة كلمة مركبة تميل صوب الوجود: عقيدة الجروند  Grund، عقيدة الشجرة والجذر، وعقيدة الداخل. وعلى النقيض تصوغ الإنجليزية كلمات مركبة يكون رابطها الوحيد هو وET مضمرة، علاقة مع الخارج، عقيدة الطريق الذي لا يغوص أبدًا، الذي ليس له أساس، الذي ينساب على السطح، ريزومة. Blue-eyed boy: صبي، وأزرق وعينان — تجميعة. و… و… و، التلعثم. ليست الإمبيريقية شيئًا آخر. كل لغة كبرى تتمتع بالموهبة بدرجة أو بأخرى، يجب تحطيمها كل واحدة على طريقتها، من أجل إدخال هذه الو المبدعة، التي ستجعل اللغة تنساب، وتجعل منا هذا الأجنبي في لغتنا بقدر كونها لغتنا. اعثروا على الوسائل المناسبة للفرنسية، بقوة أقلياتها الخاصة، قوة الصيرورة-أقلياتيًّا (من المؤسف في هذا الصدد أن الكثير من الكتَّاب يلغون الترقيم الذي يعادل في الفرنسية حرف و). هذه هي الإمبيريقية، صرف syntaxe وتجريب، صرفية وتداولية، مسألة سرعة.
عن سبينوزا. لماذا الكتابة عن سبينوزا؟ هنا أيضًا يجب أن نأخذه من المنتصف، وليس من المبدأ الأول (جوهر واحد لكل المحمولات). الروح والجسد، لم يكن لدى أحدٍ شعورٌ بهذه الأصالة لحرف الوصل «و». كل فرد، روح وجسد، يملك لانهائيةً من الأجزاء تنتمي إليه في علاقة مركَّبة بقدر أو بآخر. وكذلك فإن كل فرد هو نفسه مكوَّن من أفراد من رتبة أدنى، ويدخل في تكوين أفراد من رتبة أعلى. وكل الأفراد في الطبيعة كأنهم على مستوى اتساق يشكلون هيئته الكلية، المتغيرة في كل لحظة. يؤثرون في بعضهم البعض، بقدر ما تُشكِّل العلاقةُ التي تؤسس كلًّا منهم درجة من القوة، من القدرة على التأثر بالانفعال. كل ما في الوجود ليس سوى التقاء، التقاء جيد أو سيئ. يأكل آدم التفاحة، الفاكهة المحرمة؟ إنها ظاهرة من نوع عسر الهضم، الفساد، التسمم: تفسد هذه الفاكهة المتعفنة علاقة آدم. يقوم آدم بالتقاء سيئ. ومن هنا قوة سؤال سبينوزا: ما الذي يقدر عليه جسدٌ ما؟ على أي انفعالات affects يكون قادرًا. الانفعالات هي صيرورات: تارةً تضعفنا بقدر ما تقلل من قدرتنا على الفعل، وتفسد علاقاتنا (الحزن)، وتارةً تجعلنا أقوى بقدر ما تزيد قوتنا وتجعلنا ندخل في فرد أرحب أو أرقى (البهجة). لا يكفُّ سبينوزا عن الاندهاش من الجسد. لا يندهش من امتلاك جسد، بل مما يقدر عليه الجسد. لا تُعرَّف الأجساد بجنسها أو بفصيلتها، بأعضائها ووظائفها، بل بما تقدر عليه، بالانفعالات affects التي تقدر عليها، في العاطفة كما في الفعل. لا تكون قد عرفتَ حيوانًا ما لم تكن قد وضعت قائمة انفعالاته. بهذا المعنى يوجد من الاختلاف بين حصان سباق وحصان حرث أكثر مما بين حصان حرث وثور. سيقول خلفٌ بعيدٌ لسبينوزا: انظروا إلى القُرادة، أعجبوا بهذا المخلوق؛ إذ إنها تتحدَّد بثلاثة انفعالات، هذا كل ما تقدر عليه كدالة للعلاقات التي تتكون منها، عالم ثلاثي الأقطاب وهذا كل ما هناك. يؤثِّر فيها الضوء، فتتسلَّق حتى طرف غصن. تؤثر فيها رائحة حيوان ثديي، فتترك نفسها تسقط فوقه. يضايقها الزغب، فتبحث عن مكان خالٍ من الزغب لتتسلل تحت الجلد، وتشرب الدم الساخن. عمياء وصمَّاء، ليس للقرادة سوى ثلاثة انفعالات في الغابة الشاسعة، ويمكنها أن تنام بقية الوقت لأعوام في انتظار اللقاء. ورغم ذلك يا لها من قوة! في نهاية المطاف، لدينا دائمًا الأعضاء والوظائف المناظرة للانفعالات التي نقدر عليها. البَدْء بحيوانات بسيطة، ليس لديها سوى عددٍ محدودٍ من الانفعالات، وليست في عالمنا، ولا في آخر، بل مع عالم مشترك عرفَت كيف تُشكِّله، وتقصُّه، وتخيطه: العنكبوت ونسيجه، القملة والجمجمة، القرادة وركنٌ من جلد الحيوان الثديي، هذه هي الحيوانات الفلسفية وليست بومة مينرفا. نسمِّي إشارةً ما يطلق انفعالًا، ما يؤثر على القدرة على الانفعال: نسيج العنكبوت يهتز، الجمجمة تتجعد، قليلٌ من الجلد يتعرى. ليس ثمة سوى بعض العلامات كالنجوم في ليل أسود هائل. صيرورة–عنكبوت، صيرورة–قملة، صيرورة–قرادة، حياة مجهولة، قوية، مظلمة، عنيدة.
حين يقول سبينوزا: المدهش، هو الجسد … نحن لا نعرف بعدُ ما يقدر عليه جسدٌ ما … فإنه لا يريد أن يجعل من الجسد نموذجًا، ومن الروح مجرد تابع للجسد؛ فمشروعه أشد رهافة. إنه يريد أن يهدم التفوق الزائف للروح على الجسد. هناك الروح والجسد، وكلاهما يعبران عن نفس الشيء: المحمول [الصفة] لجسد هو أيضًا المعبر عنه للروح (السرعة على سبيل المثال). مثلما لا تعرفون ما يقدر عليه جسدٌ ما، مثلما يوجد في الجسد الكثير من الأشياء التي لا تعرفونها، التي تتجاوز معرفتكم، يوجد في الروح الكثير من الأشياء التي تتجاوز وعيكم. ها هو السؤال: ما الذي يقدر عليه جسدٌ ما؟ ما الانفعالات التي تقدرون عليها؟ جربوا، لكن يلزم الكثير من التبصر؛ من أجل التجريب. إننا نحيا بالأحرى في عالمٍ كريه، ليس للناس فيه فحسب، بل كذلك للسلطات القائمة مصلحة في أن تنقل إلينا انفعالات حزينة. الحزن، الانفعالات الحزينة هي كل ما يقلِّل من قدرتنا على الفعل. السلطات القائمة تحتاج إلى أحزاننا لتجعلنا عبيدًا. المستبد، الكاهن، سارقو الأرواح، يحتاجون إلى إقناعنا بأن الحياة قاسية وثقيلة. السلطات تحتاج إلى قمعنا أقل مما تحتاج إلى جعلنا مكروبين، أو، كما يقول فيريليو، إلى إدارة وتنظيم مخاوفنا الصغيرة الحميمة. العويل الكوني الطويل من الحياة: الافتقاد إلى الوجود الذي تعنيه الحياة … عبثًا نقول «فلنرقص»، فلسنا مرحين. عبثًا نقول «ما أتعس الموت!»؛ فقد كان يجب أن نعرف كيف نحيا ليكون لدينا ما نفقده. المرضى، مرضى الروح ومرضى الجسد، لن يفارقونا، مصاصو الدماء، ما لم ينقلوا إلينا عصابهم وكربهم، إخصاءهم الأثير، ضغينتهم ضد الحياة، عدواهم الدنسة. الأمر كله مسألة دم. ليس من السهل أن يكون المرء إنسانًا حرًّا: أن يهرب من الطاعون، وينظم الالتقاءات، ويزيد من القدرة على الفعل، وينفعل بالبهجة، ويضاعف الانفعالات التي تعبر عن، أو تتضمن، الحد الأقصى من التوكيد. جعل الجسد قوةً لا تُختزل إلى الكيان العضوي، جعل الفكر قوةً لا تُختزل إلى الوعي. إن المبدأ الأول الشهير لدى سبينوزا (جوهر واحد لكل المحمولات) يعتمد على هذه التجميعة، وليس العكس. ثمة تجميعة-سبينوزا: روح وجسد، ارتباطات، التقاءات، قدرة على الانفعال، انفعالات تُفعم هذه القدرة، حزن وبهجة تشرط تلك الانفعالات. الفلسفة تصير هنا فنًّا لأداء، تجميعة. سبينوزا، رجل الالتقاءات والصيرورة، الفيلسوف على طريقة القرادة، سبينوزا اللامحسوس، في المنتصف دائمًا، دومًا في هروب حتى لو لم يكن يتحرك كثيرًا، هروب بالنسبة للطائفة اليهودية، هروب بالنسبة للسلطات، هروب بالنسبة للمرضى والمسمومين. قد يكون هو ذاته مريضًا، وقد يموت؛ إنه يعرف أن الموت ليس الهدف ولا النهاية، لكنه يتعلق على النقيض بتمرير حياته إلى شخص آخر. ما يقوله لورانس عن ويتمان، إلى أي حدٍّ يليق بسبينوزا، إنه حياته المتواصلة: الروح والجسد الروح ليست فوق ولا في الداخل، إنها «مع»، إنها على الطريق، معرضة لكل الاتصالات، وكل الالتقاءات، في صحبة مَن يسيرون على نفس الطريق، «الإحساس معهم، التقاط ذبذبة روحهم ولحمهم أثناء العبور»، هذا نقيض أخلاقٍ للخلاص، تعليم الروح أن تحيا حياتها، لا أن تنقذها.
عن الرواقيين، لمَ الكتابة عنهم؟ لم يسبق أبدًا أن عرض أحدٌ عالمًا أشد إظلامًا وأشد اهتياجًا: الأجساد … لكن الكيفيات [الخصائص] أيضًا أجساد، الأنفاس والأرواح أجساد، الأفعال والمشاعر هي ذاتها أجساد. كل شيء خليط من الأجساد، والأجساد تخترق بعضها، وتدفع بعضها، وتسمم بعضها، وتقتحم بعضها، وتتراجع عن بعضها، تدعم بعضها أو تُدمِّر بعضها، مثلما تخترق النارُ الحديد وتجعله يحمر، مثلما يلتهم الآكل فريسته، مثلما يلجُ المحب في محبوبه. «ثمة لحم في الخبز وخبز في الأعشاب، هذه الأجساد وغيرها كثير تدخل في كل الأجساد، عبر مسالك خفية، وتتبخَّر معًا …» وجبة تييست Thyeste٥ المفزعة، غشيان المحارم والالتهامات، الأمراض التي تتطوَّر في جنوبنا، الأجساد الكثيرة التي تنبت داخل جسدنا. من ذا الذي سيقول إن أي خليط جيد أو سيئ، ما دام كل شيء جيدًا من وجهة نظر الكل الذي يتعاطف، كل شيء خطير من وجهة نظر الأجزاء التي تلتقي وتخترق بعضها؟ أي حب ليس حب الأخ أو الأخت، وأية مأدبة ليست أكلًا للحوم البشر؟ لكن انظروا كيف أنه، من كل هذه الصراعات جسدًا لجسد، يتصاعد نوعٌ من البخار اللاجسماني لا يعود يتمثَّل في خصائص، لا في أفعال ولا في مشاعر، في علل تفعل فعلها في بعضها البعض، بل في نتائج هذه الأفعال وهذه المشاعر، في تأثيرات تنتج عن كل هذه العلل مجتمعة، أحداث لا جسمانية خالصة لا تتأثر، على سطح الأشياء، أفعال مصدرية خالصة infinitifs لا يمكن حتى القول بأنها موجودة، بل تُشارك بالأحرى في وجود خارجي يحيط بما هو موجود: «الاحمرار rougir»، «الاخضرار verdoyer»، «القطع couper»، «الموت mourir»، «الحب aimer» [جميعها في صيغة مصدر الفعل] … مثل هذا الحدث، مثل هذا الفعل في صيغة المصدر هو أيضًا ما تعبر عنه قضية أو صفة حالة للأشياء. وتكمن قوة الرواقيين في أنهم مرروا خطًّا فاصلًا، لم يعد بين المحسوس والمعقول، ولا بين الروح والجسد، بل هناك حيث لم يره أحد: بين العمق الفيزيقي وبين السطح الميتافيزيقي. بين الأشياء وبين الأحداث. بين حالات الأشياء أو الأخلاط، والعلل، الأرواح والأجساد، الأفعال والمشاعر، الخصائص والجواهر، من جهة، ومن الجهة الأخرى، الأحداث أو التأثيرات اللاجسمانية التي لا تتأثر، ولا تقبل التوصيف، الأفعال المصدرية التي تنتج من تلك الأخلاط، التي تنتسب إلى هذه الحالات للأشياء، التي تعبر عن نفسها في قضايا. إنها طريقة جديدة للإطاحة بفعل يكون  EST: لم تعُد الصفة [المحمول] خاصية تُنسب إلى ذات بواسطة الصيغة الدلالية «يكون»، إنها فعل أيًّا كان في صيغة المصدر يخرج من حالة للأشياء ويحلِّق فوقها. الأفعال المصدرية هي صيرورات غير محدودة. فعل الكينونة etre له، مثل نقيصة أصلية، خاصية أن يُحيل إلى أنا، ممكنة على الأقل، تُشفِّره تشفيرًا مفرطًا وتضعه في صيغة دلالة ضمير المتكلم، لكن الأفعال المصدرية-الصيرورات ليست ذاتًا: إنها تُحيل فقط إلى «هو  Il» للحدث (تُمطر il pleut)، وتُسند هي ذاتها إلى حالات أشياء هي أخلاط أو مجموعات، تجميعات، حتى في أعلى نقاط تفرُّدها. هو - مشي - صوب، البدو - وصول، اﻟ - شاب - الجندي - هروب، الطالب - في - اللغات - الفصامي - سد - الآذان، الزنبور - التقاء - زهرة الأوركيد. البرقية سرعة في الحدث، وليست اقتصادًا في الوسائل. والقضايا الحقيقية هي إعلانات صغيرة. كذلك أيضًا الوحدات الأولية للرواية، للحدث. الروايات الحقيقية تعمل بنكرات [لامُعرَّفات] ليست غير محددة، بأفعال مصدرية ليست غير متمايزة، بأسماء أعلام ليست أشخاصًا: «الجندي الشاب» الذي يقفز أو يهرب، ويرى نفسه يقفز ويهرب في كتاب ستيفن كرين «طالب اللغات الشاب» عند وولفسون …
بين الاثنتَين، بين حالات الأشياء الفيزيقية في العمق وبين الأحداث الميتافيزيقية على السطح، ثمة تكامل صارم. كيف لا يتفعَّل حدثٌ في الأجساد، ما دام يعتمد على حالة وخليط من الأشياء بوصفها علله، ما دام ناتجًا عن الأجساد، عن الأنفاس والخصائص التي تتداخل في بعضها، هنا والآن؟ لكن أيضًا كيف يمكن للحدث أن يُستنفد بواسطة تفعيله effectuation، ما دام بوصفه تأثيرًا، يختلف في الطبيعة عن علته، ما دام يعمل هو ذاته بوصفه علة زائفة تحلق فوق الأجساد، تجوب وترسم سطحًا، وتكون موضوعًا لتفعيل مضاد أو لحقيقة أبدية؟ الحدث هو دومًا نتاج لأجساد تتصادم فيما بينها، تقطع بعضها أو تخترق بعضها، اللحم والسيف، لكن هذا التأثير ذاته ليس من نوع الأجساد، إنها معركة لا تتأثر، غير جسمانية، لا تقبل النفاذ، تُطلُّ على تحققها الذاتي وتسيطر على تفعيلها. لم نكفَّ أبدًا عن التساؤل: أين هي المعركة؟ أين الحدث؟ فيم يتمثَّل حدث ما؟ يطرح كل واحد هذا السؤال في عجلة، «أين يكمن الاستيلاء على الباستيل؟»، كل حدث هو ضباب من القطرات. إذا كانت الأفعال المصدرية «موت mourir»، «حب aimer»، «حركة bouger»، «ابتسام sourir» … إلخ. هي أحداث، فذلك لأن فيها جزءًا لا يكفي اكتمالها لتحققه، صيرورة في ذاتها، لا تكفُّ عن انتظارنا وفي نفس الوقت عن أن تسبقنا بوصفها ضميرًا ثالثًا للفعل المصدري، ضميرًا رابعًا مفردًا. نعم، الموت يتولد داخل أجسادنا، ينتج داخل أجسادنا، لكنه يحدث من الخارج، لاجسمانيًّا بصورة متفردة، ويذوب فوقنا مثل المعركة التي تحلق فوق المتحاربين، ومثل الطائر الذي يحلِّق فوق المعركة. الحب في عمق الأجساد، لكنه أيضًا فوق هذا السطح اللاجسماني الذي يجعله يحدث؛ لذا، فاعلين أو منفعلين، حين نفعل أو نتلقَّى الفعل، يجب علينا دومًا أن نكون جديرين بما يحدث لنا. هذه بلا شك، هي الأخلاق الرواقية: ألَّا نكون أدنى من مستوى الحدث، أن نصير أبناء أحداثنا الخاصة. الجرح هو شيء أتلقاه في جسدي، في موضع بعينه، في لحظة بعينها، لكن ثمة أيضًا حقيقة أبدية للجرح بوصفه حدثًا لا يتأثر، لا جسمانيًّا. «جرحي وجد قبلي، لقد وُلدت كي أجسِّده.»٦ حب المصير Amor fati، أن نرغب في الحدث، لم يكن يعني أبدًا أن نستسلم، ولا أن نجعل من أنفسنا مهرجين أو بهلوانات، بل أن نستخلص من أفعالنا ومشاعرنا هذا الوميض السطحي، أن نقوم بتفعيل مضاد للحدث، أن نُصاحب هذا التأثير دون جسد، هذا الجزء الذي يتجاوز الاكتمال، الجزء البتول. حب للحياة يمكنه أن يقول نعم للموت. هذا هو المسلك الرواقي بمعنى الكلمة. أو حتى مسلك لويس كارول: إنه مبهور بالصبية التي تعمل على جسدها الكثير من الأشياء في العمق، لكن تحلق فوقه أيضًا الكثير من الأحداث التي لا وزن لها. نحن نحيا بين خطرَين: التأوُّه الأبدي لأجسادنا، التي تجد دائمًا جسدًا حادًّا يقطعها، جسدًا بالغ الضخامة يخترقها ويخنقها، جسدًا لا يستساغ يسمِّمها، قطعة أثاث تصطدم بها، ميكروبًا يصيبها بدمل، لكن هناك أيضًا بهلوانية أولئك الذين يقلدون حدثًا خالصًا ويحولونه إلى استيهام، ويتغنون بالكرب والتناهي والإخصاء. يجب أن ننجح في أن «نقيم بين الناس وأعمالهم وجودَهم قبل المرارة». بين صيحات الألم الفيزيقي وأناشيد المعاناة الميتافيزيقية، كيف يقتفي المرء طريقه الرواقي الضيق، الذي يتمثَّل في أن يكون جديرًا بما يحدث، أن يستخلص شيئًا مرحًا ومحبًّا مما يحدث، وميضًا، لقاءً، حدثًا، سرعةً، صيرورة؟ «سأستبدل ميلي إلى الموت، الذي كان إفلاسًا للإرادة، برغبة في الموت تكون تمجيدًا للإرادة.» سأستبدل رغبتي المقرفة في أن أكون محبوبًا بقوة المحبة: لا الإرادة العبثية في محبة أي شيء وأي شخص، ولا التماهي مع الكون، بل استخلاص الحدث الخالص الذي يوحدني مع من أحبهم، الذين لا ينتظرونني أكثر مما أنتظرهم؛ لأن الحدث وحده ينتظرنا، Eventum tantum. عمل حدث، مهما كان صغيرًا، الشيء الأشد رهافةً في العالم، هو نقيض عمل دراما، أو حكاية. محبة مَن يكونون كما يلي حين يدخلون حجرةً، لا يكونون أشخاصًا، أو شخصيات، أو ذوات، بل تحولًا في الجو، تغيرًا في ظلال اللون، جزيئًا لا محسوسًا، جمعًا مترويًا، ضبابًا أو سحابة من القطرات. يكون كل شيء قد تغير في الحقيقة. الأحداث الكبرى، أيضًا، لا تُصنع بطريقة أخرى: المعركة، الثورة، الحياة، الموت … الكيانات الحقيقية هي أحداث، وليست مفاهيم. والتفكير على أساس الحدث ليس سهلًا. ويزداد صعوبة بقدر ما يصير الفكر ذاته حدثًا. ليس سوى الرواقيين والإنجليز من فكروا على هذا النحو. كيان = حدث، إنه رعب، لكن أيضًا الكثير من البهجة. الصيرورة-كيانًا، فعلًا مصدريًّا، كما تحدَّث عن ذلك لوفكرافت، الحكاية المفزعة والمضيئة لكارتر: الصيرورة-حيوانًا، الصيرورة-جزيئيًّا، الصيرورة-لامحسوسًا.
من الصعب جدًّا الحديث عن العلم الراهن، عما يفعله العلماء، بقدر ما يفهمه المرء. يتولد لدى المرء الانطباع بأن المثل الأعلى للعلم لم يعُد على الإطلاق بديهياتيا [أكسيوماتيا axiomatique] أو بنيويًّا. كانت البديهياتية تعني فصل بنية تجعل العناصر المتغيرة التي تنطبق عليها متجانسة أو متماثلة. كانت عملية إعادة تشفير، إعادة ترتيب للعلوم؛ لأن العلم لم يكفَّ أبدًا عن الهذيان، عن تمرير تدفقات من المعرفة والأشياء منزوعة الشفرة تمامًا وفق خطوط هروب تمضي دائمًا إلى مدًى أبعد. ثمة، إذن، سياسة برمتها تتطلَّب أن تكون هذه الخطوط مسدودة، وأن يتم إقرار نظام. فكروا مثلًا في الدور الذي لعبه لوي دو بروجلي Louis de Broglie في الفيزياء، لمنع نزعة اللاحتمية من المضي أبعد مما ينبغي؛ لتهدئة جنون الجزيئات: إعادة إرساء كاملة للنظام. واليوم يبدو بالأحرى أن هذيان العلم يشهد إعادة إحياء. وليس الأمر مجرد السباق نحو الجزيئات المتعذرة المنال؛ فالعلم يصبح أكثر فأكثر حدثيًّا événementielle [متمحورًا حول الحدث] بدل أن يكون بنيويًّا. إنه يرسم خطوطًا ومسارات، ويقوم بقفزات، بدل أن يقيم بديهيات. وإحدى علامات ذلك اختفاء المخططات الشجرية لصالح الحركات الريزومية. يهتم العلماء أكثر فأكثر بالأحداث الفريدة، ذات الطبيعة اللاجسمية، التي تتفعَّل داخل الأجساد، في حالات الأجساد في تجميعات متنافرة تمامًا فيما بينها (ومن هنا الدعوة إلى ما بين-التخصصية). يختلف هذا كثيرًا عن بنية بأية عناصر أيًّا كانت، إنه حدث بأجساد متنافرة، حدث من قبيل ذلك الذي يتقاطع مع بنيات مختلفة ومنظومات محددة. لم يعُد بنية تُؤطر مجالات متماثلة، بل حدثًا يخترق مجالات لا تقبل الاختزال. على سبيل المثال الحدث «الكارثة» كما درسه الرياضي رينيه توم René Thom. أو حدث الانتشار، «ينتشر se propager»، الذي يتفعَّل داخل جِل، لكن أيضًا في وباء، أو في خبر. أو كذلك حدث تغيير الموقع الذي يمكن أن يؤثر على مسار سيارة تاكسي داخل مدينة، أو مسار ذبابة داخل سرب: هذه ليست بديهية [أكسيوم]، بل حدثًا يمتد بين منظومات مشروطة. لم نعُد نفصل بنيةً مشتركةً بعناصر كيفما كانت، بل نعرض حدثًا، نقوم بتفعيل مضاد لحدث يقطع أجسادًا مختلفة، ويتفعَّل داخل بنيات متنوعة. ثمة هنا ما يشبه الأفعال في صيغة المصدر، خطوط صيرورة، خطوط تمر بين المجالات، وتقفز من مجال إلى الآخر فترات انتقال. سيكون العلم أكثرَ فأكثر مثل العشب، في المنتصف، بين الأشياء وضمن الأشياء الأخرى، يرافق هروبها (وصحيح أن أجهزة السلطة ستطالب أكثر فأكثر بإعادة فرض النظام، بإعادة تشفير العلم).
الدعابة humour الإنجليزية، الدعابة اليهودية، الدعابة الرواقية، دعابة الزنِّ،٧ يا له من خط متعرج غريب! أما مُطلق المفارقة [المتهكم] L’ironiste فهو من يتناقش حول المبادئ، إنه يبحث عن مبدأ أولي، أكثر أولية من ذلك الذي كنا نعتقده أوليًّا؛ ويجد علة أكثر أولية من سواها. لا يكفُّ عن الصعود والهبوط؛ لذا يتقدَّم عن طريق الأسئلة، إنه رجل المحادثة، رجل الحوار، له دومًا نبرةٌ معينة، هي دائمًا نبرة الدال. الدعابة هي النقيض بالضبط؛ المبادئ لا تهم كثيرًا، يأخذ المرء كل شيء حرفيًّا، ويتوقع منك العواقب (وهذا هو السبب في أن الدعابة لا تمر عبر التلاعبات بالألفاظ، عبر الجناسات التي تنتمي إلى الدال، والتي هي مثل مبدأ داخل المبدأ). الدعابة، هي فن العواقب أو التأثيرات: أوافق، أوافق على كل شيء، فهل تعطونني هذا؟ سترون ما يترتب عليه. الدعابة خائنة، إنها الخيانة. الدعابة بلا نبرة لا محسوسة تمامًا، وتجعل شيئًا يمر. إنها دائمًا في المنتصف، على الطريق. لا تصعد ولا تعاود الصعود أبدًا، إنها على السطح، تأثيرات السطح، الدعابة هي فن الأحداث الخالصة. وفنون الزن، رمي الرمح، والبستنة أو تناول الشاي، هي تدريباتٌ لجعل الحدث ينبثق ويلتمع فوق سطح خالص. الدعابة اليهودية ضد المفارقة الإغريقية، دعابة-أيوب ضد مفارقة-أوديب، دعابة الجزر [البريطانية] ضد مفارقة القارة [الأوروبية]؛ الدعابة الرواقية ضد المفارقة الأفلاطونية، دعابة الزن ضد المفارقة البوذية؛ الدعابة المازوخية ضد المفارقة السادية؛ دعابة بروست ضد مفارقة جيد … إلخ. كل قدر المفارقة مرتبط بالتمثيل، المفارقة تؤكد فردنة l’individuation ما هو ممثل أو إضفاء الذاتية على المُمَثَّل. وبالفعل، تتمثل المفارقة الكلاسيكية في إظهار أن أعم ما في التمثيل يختلط مع الفردية المتطرفة لما هو ممثَّل، والذي يقوم له بدور المبدأ (المفارقة الكلاسيكية تجد ذروتها في التوكيد اللاهوتي الذي وفقه يكون «الكلُّ بالنسبة للممكن» هو في نفس الوقت واقع الرب بوصفه كائنًا متفردًا). وتكشف المفارقة الرومانسية، من جانبها، ذاتية مبدأ كل تمثيلٍ ممكن ليست هذه مشكلات الدعابة التي لم تتوقف أبدًا عن تفكيك ألعاب المبادئ، أو العلل لصالح التأثيرات، وألعاب التمثيل لصالح الحدث، وألعاب الإفراد أو إضفاء الذاتية لصالح الكثرات. ثمة في المفارقة ادِّعاء لا يُطاق؛ هو ادِّعاء الانتساب إلى جنس أرقى، وتشكيل ملكية الأسياد (يقول هذا نص شهير لرينان دون مفارقة؛ لأن المفارقة تتوقَّف سريعًا فور أن تتحدث عن نفسها). الدعابة على النقيض تنادي بأقلية، بصيرورة-أقلياتية: هي ما تجعل اللغة تتلعثم، وتفرض عليها استخدامًا أقلياتيًّا أو تؤسس ثنائية لغوية كاملة داخل نفس اللغة. وبالضبط، لا يتعلق الأمر بالتلاعب بالألفاظ (ليس ثمة تلاعب واحد بالألفاظ عند لويس كارول)، بل بأحداث اللغة، اللغة الأقلياتية التي صارت هي ذاتها خالق الأحداث. أم هل يمكن أن توجد تلاعبات بالألفاظ «غير محددة»، ستكون بمثابة صيرورة بدل الاكتمال؟
ما هي التجميعة agencement؟ إنها كثرةٌ mutiplicité تتكوَّن من الكثير من الأطراف المتنافرة، وتقيم روابط، علاقات فيما بينها، عبر العصور، والجنس، والمجالات، طبائع مختلفة؛ لذلك فإن الوحدة للتجميعة هي الأداء المشترك، إنها تكافل، «تعاطف». المهم ليس أبدًا الأنساب، بل التحالفات والامتزاجات؛ ليس الوراثات أو السلالات بل العدوى، الأوبئة، الريح. السحرة يعرفون ذلك جيدًا. الحيوان يُعرَّف بجنسه أو فصيلته، بأعضائه ووظائفه، أقل مما يُعرف بالتجميعات التي يدخل فيها. فلنفترض تجميعةً من نمط إنسان – حيوان – شيء مصنوع: إنسان - حصان - ركاب. أوضح خبراء التكنولوجيا أن الركاب أتاح وحدةً حربية جديدة، بمنحه للفارس اتزانًا جانبيًّا؛ إذ يمكن تثبيت الحربة تحت ذراع واحدة، فتستفيد من كل اندفاع الحصان، وتعمل مثل نقطة هي ذاتها ثابتة يجرفها الركض. «استبدل الركاب طاقة الإنسان بقوة الحيوان.» هذا تكافل جديد إنسان-حيوان، تجميعة حرب جديدة، تتحدَّد بدرجة قوتها أو «حريتها»، بمنفعلاتها affects، بسريان منفعلاتها: أي ما يقدر عليه مجموع من الأجساد. يدخل الإنسان والحيوان في علاقة جديدة، لا يكون تغير أحدهما أقل من الآخر، وتمتلئ ساحة المعركة بنمط جديد من المنفعلات. ومع ذلك لن يعتقد أحدٌ أن اختراع الركاب كافٍ لذلك، فلا تكون التجميعة أبدًا تكنولوجية، بل على النقيض. الأدوات دائمًا ما تفترض سلفًا آلة، والآلة دائمًا اجتماعية قبل أن تكون تقنية. هناك دومًا آلة اجتماعية تختار أو تُعين العناصر التقنية المستخدمة. تظل الأداة هامشية أو قليلة الاستخدام، طالما لم توجد الآلة الاجتماعية أو التجميعة الجماعية القادرة على إدخالها في «سلالتها phylum». وفي حالة الركاب، فإن منح الأرض، المرتبط بالنسبة للمستفيد بأن يخدم على صهوة حصان، هو الذي سيفرض الفروسية الجديدة ويدخل الأداة في التجميعة المعقدة: الإقطاعية. (وقبلها، إما أن الركاب كان مستخدمًا بالفعل، لكن بطريقة أخرى في سياق تجميعة مختلفة تمامًا، تجميعة البدو على سبيل المثال، وإما أنه كان معروفًا، لكنه ليس مستخدمًا أو ليس مستخدمًا إلا بطريقة محدودة جدًّا، مثلما في معركة أدرنة٨  Andrinople)٩ تُزاوج الآلة الإقطاعية من جديد بين علاقات مع الأرض، ومع الحرب، ومع الحيوان، وأيضًا مع الثقافة والألعاب (مباريات الفروسية)، ومع النساء (الحب الفروسي): تدخل كل أنواع التدفقات في ارتباط. كيف نرفض تسمية التجميعة بالاسم الذي تستحقه، «الرغبة»؟ هنا تصبح الرغبة إقطاعية. هنا مثلما في كل مكان آخر، فإن مجموع المنفَعَلات التي تتحول، وتسري داخل تجميعة من التكافل تتحدد بالأداء المشترك لأجزائها المتنافرة.
أولًا داخل تجميعة، هناك ما يشبه وجهَين أو رأسَين على الأقل. هناك حالات الأشياء، حالات الأجساد (الأجساد تخترق بعضها، تختلط مع بعضها، تنقل المنفعلات إلى بعضها)؛ لكن هناك أيضًا منطوقات  énoncés، أنظمة منطوقات: تنظِّم العلامات نفسها بطريقة جديدة، تظهر صياغات جديدة، أسلوب جديد للتعبير عن إيماءاتٍ جديدة (الشعارات التي تُفردن الفارس، صيغ القسم، نسق «التصريحات»، حتى نسق الحب … إلخ.) المنطوقات ليست أيديولوجيا؛ فليس ثمة أيديولوجيا، المنطوقات هي أجزاء وتروس في التجميعة، لا تقلُّ عن حالات الأشياء. ليس ثمة بنية تحتية ولا بنية فوقية في التجميعة؛ فتدفق النقود يتضمن في ذاته من المنطوقات قدر ما يمكن أن يتضمَّن تدفق الكلام من النقود. ولا تكتفي المنطوقات بوصف حالات الأشياء المناظرة: إنها بالأحرى مثل صياغتَين غير متوازيتَين، صياغة التعبير وصياغة المحتوى، بحيث لا يفعل المرء أبدًا ما يقوله، ولا يقول أبدًا ما يفعله، لكنه مع ذلك لا يكذب، لا يخدع ولا ينخدع، بل يجمع فحسب علامات وأجسادًا بوصفها أجزاءً متنافرة من نفس الآلة. وتأتي الوحدة الوحيدة من أن دالةً واحدةً ووحيدة، «عنصرًا دلاليًّا fonctif» واحدًا ووحيدًا، هو التعبير عن المنطوق وصفة حالة الأشياء: حدثٌ يتمدد أو يتقلص، صيرورة في صيغة المصدر. هل تعني خلق حالة إقطاعية féodaliser؟ بصورة لا فكاك منها تكون التجميعة في آنٍ واحد تجميعة آلاتية machinique للتفعيل وتجميعةً جماعية للنطق. في النطق، في إنتاج المنطوقات، ليس ثمة ذاتٌ، بل دومًا فاعلين جماعيين؛ وفيما يتحدث عنه المنطوق، لن نجد أشياء، بل حالات آلاتية. إنها مثل متغيرات الدالة التي لا تكفُّ عن إقامة تقاطعات بين قيمها أو بين أقسامها segments. لم يبين أحدٌ أفضل من كافكا هذَين الوجهَين المتكاملَين لكل تجميعة. وإذا كان ثمة عالم كافكاوي، فليس بالتأكيد عالم الغريب والعبثي، بل عالم تتواجد فيه الصياغة القانونية الأشد تطرفًا للمنطوقات (الأسئلة والأجوبة، الدفوع، المرافعات، الحيثيات، نتائج التحقيقات، الحكم) مع الصياغات الآلاتية الأشد كثافةً، مع إضفاء الآلاتية على حالات الأشياء والأجساد (الآلة-القارب، الآلة-الفندق، الآلة-السيرك، الآلة-القصر، الآلة-المحاكمة). دالة-ك واحدة ووحيدة، بفاعليها الجماعيين ومشاعرها الجسدية، الرغبة.
ثم هناك محور آخر يجب أن تُقسم وفقًا له التجميعات. هذه المرة، وفقًا للحركات التي تُنشطها، وتُثبتها أو تجتاحها، التي تُثبت أو تجتاح الرغبة بحالات أشيائها ومنطوقاتها. ما من تجميعة دون موطن، وموطنية، وإعادة-توطين تتضمن كل أنواع التحايلات، لكن أيضًا ما من تجميعة دون نقطة نزع توطين، دون خط هروب، يقودها إلى إبداعات جديدة، أو صوب الموت؟ لنحتفظ بنفس المثال، الإقطاعية. مواطن إقطاعية، أو بالأحرى إعادة-توطين، حيث إن الأمر يتعلق بتوزيع جديد للأرض، وبنسقٍ كامل من توزيع الإقطاعات الثانوي؛ والفارس ألَّا يمضي إلى حد إعادة توطين نفسه فوق سرجه ذي الركاب، ويمكنه النوم فوق ظهر حصانه، لكن في نفس الوقت، إما عند البداية، أو عند النهاية، توجد حركة هائلة من نزع التوطين: نزع توطين الإمبراطورية، وفي المقام الأول الكنيسة التي تجري مصادرة أملاكها العقارية لمنحها للفرسان، وتجد هذه الحركة متنفَّسًا لها في الحروب الصليبية، التي مع ذلك تُحدث بدورها إعادة-توطين للإمبراطورية وللكنيسة (الأرض الروحية، قبر المسيح، التجارة الجديدة)؛ ولم يكن الفارس أبدًا قابلًا للانفصال عن مسار تيهه الذي تلفحه الرياح، ولا عن نزع توطينه على ظهر الحصان، والعبودية ذاتها لا تقبل الانفصال عن موطنيتها الإقطاعية، ولا أيضًا عن كل ضروب نزع التوطين قبل الرأسمالية التي تخترقها بالفعل.١٠ تتواجد الحركتان معًا في تجميعة، لكنهما لا تتعادلان، لا تُعوض إحداهما الأخرى، لا تتناظران. يمكن أن نقول عن الأرض، أو بالأحرى عن إعادة التوطين الاصطناعية التي تجري على الدوام، إنها تمنح هذا الجوهر أو ذاك للمحتوى، هذه الشفرة أو تلك للمنطوقات، هذا الحد المعين للصيرورة، هذا التفعيل المعين للحدث، هذه الصيغة الدلالية للزمن (الحاضر، الماضي، المستقبل)، لكن عن نزع التوطين المتزامن، لكن من وجهات نظر أخرى، يمكن القول إنه يؤثر في الأرض بدرجة لا تقلُّ عن ذلك؛ فهو يحرِّر مادة خالصة، يفك الشفرات، يقود التعبيرات والمضامين، حالات الأشياء والمنطوقات، على خط هروب متعرج، منكسر، يرفع الزمن إلى صيغة المصدر، يُطلق صيرورةً لم يعد لها حد؛ لأن كل حد هو وقفة يجب القفز عليها. دائمًا عبارة بلانشو الجميلة، أطلقوا «الجزء من الحدث الذي لا يستطيع اكتماله أن يحققه»؛ موت خالص أو ابتسام أو قتال أو كراهية، أو حب أو مُضي أو إبداع … أهي عودة إلى الثنائية؟ لا؛ فالحركتان مشتبكتان الواحدة بالأخرى، والتجميعة تشكلهما كلتيهما، وكل شيء يمر بين الاثنتَين هنا أيضًا، ثمة دالَّة-ك، محور آخر رسمه كافكا، في الحركة المزدوجة للموطنيات ولنزع التوطين.

هناك بالتأكيد مسألة تاريخية خاصة بالتجميعة: تلك العناصر المتنافرة المأخوذة داخل الدالة، الظروف التي تكون مأخوذة فيها، مجموع العلاقات التي توحد في تلك اللحظة الإنسان، والحيوان، والأدوات، والوسط. إلا أن الإنسان لا يكفُّ عن الصيرورة-حيوانًا، عن الصيرورة-أداة، عن الصيرورة-وسطًا، وفقًا لمسألة أخرى في هذه التجميعات ذاتها؛ إذ لا يصير الإنسان حيوانًا إلا إذا صار الحيوان، من جانبه، صوتًا، أو لونًا، أو خطًّا. هذه كتلة صيرورة غير متناظرة دومًا. ليست المسألة أن الحدَّين يُستبدلان أحدهما بالآخر؛ إذ لا يُستبدل أحدهما بالآخر مطلقًا، بل إن أحدهما لا يصير الآخر إلَّا إذا صار الآخر شيئًا آخر بدوره، وإذا انمحت الحدود. حين تصبح الابتسامة دون قطة، كما يقول لويس كارول، يمكن للإنسان فعليًّا أن يصير قطة، في اللحظة التي يبتسم فيها. ليس الإنسان هو من يغنِّي أو يرسم، الإنسان هو من يصير حيوانًا، لكن بالضبط في نفس الوقت الذي يصير فيه الحيوان موسيقى، أو لونًا خالصًا، أو خطًّا بسيطًا بصورة مدهشة؛ طيور موتسارت، الإنسان هو من يصير طائرًا؛ لأن الطائر يصبح موسيقى. ويصير بحَّار ملفيل نورسًا، حين يصير النورس هو ذاته بياضًا استثنائيًّا، تذبذبًا خالصًا للأبيض (وتشكِّل الصيرورة-حوتًا للقبطان أهاب كتلة مع الصيرورة-بياضًا لموبي ديك، جدارًا أبيض خالصًا). فهل هذا إذن ما يعنيه الرسم، أو تأليف الموسيقى، أو الكتابة؟ الأمر كله مسألة خط؛ فلا يوجد اختلافٌ كبير بين الرسم والموسيقى والكتابة. تتمايزُ هذه الأنشطة عن بعضها بجواهر، وشفرات، وموطنيات كلٍّ منها، لكن ليس بالخط المجرد الذي ترسمه، والذي يمر فيما بينها ويحملها إلى مصير مشترك. حين يمكننا التوصل إلى رسم الخط، يمكننا القول «إنها لفلسفة». ليس ذلك على الإطلاق لأن الفلسفة ستكون مبدأً نهائيًّا، جذرًا أخيرًا سيشمل حقيقة المجالات الأخرى، والأمر على النقيض فليست حتى حكمة شعبية. وهذا لأن الفلسفة تولد أو تُنتج من الخارج بواسطة الرسام، والموسيقي، والكاتب، كلما أدَّى الخط النغمي إلى الصوت، أو أدَّى الخط المرسوم الخالص إلى اللون، أو أدَّى الخط المكتوب إلى الصوت المنطوق. ما من حاجةٍ مطلقًا إلى الفلسفة؛ فهي تنتج بالضرورة حيث يدفع كل نشاط خط نزع توطينه. الخروج من الفلسفة، فعل أي شيءٍ كان، من أجل القدرة على إنتاجها من الخارج. كان الفلاسفة دائمًا شيئًا آخر، وُلدوا من شيءٍ آخر.

الكتابة بالغة البساطة؛ إما أنها طريقة لإعادة توطين المرء لنفسه، للتوافق مع شفرة للمنطوقات السائدة، مع موطن لحالات الأشياء القائمة: ليس فحسب بالنسبة للمدارس وللمؤلفين، بل بالنسبة لكل المحترفين لكتابة حتى لو كانت غير أدبية؛ وإما أنها على العكس صيرورةٌ، الصيرورة شيئًا آخر بخلاف الكاتب، بما أن ما يصيره المرء، في نفس الآن، يصير شيئًا آخر غير الكتابة. لا تمر كل صيرورة عبر الكتابة، لكن كل ما يصير هو موضوعٌ للكتابة، أو الرسم، أو الموسيقى. كلُّ ما يصير هو خطٌّ خالص، يكفُّ عن تمثيل أي شيء كان. يُقال أحيانًا إن الرواية قد بلغت اكتمالها حين أخذت كشخصيةٍ بطلًا-مضادًّا، كائنًا عبثيًّا، غريبًا ومشوَّشًا، لا يكفُّ عن الخطأ، أصم وأعمى، لكن هذا جوهر الرواية: من بيكيت إلى كريتيان دو ترواي Chrétien de Troyes، من لورانس إلى لانسلوت، مرورًا بكل الرواية الإنجليزية والأمريكية. لم يتوقف كريتيان دو ترواي عن رسم خط الفرسان الجوالين، الذين ينامون على ظهر حصانهم، مرتكزين على رمحهم وركابهم، والذين لم يعودوا يعرفون اسمهم ولا وجهتهم، ولا يكفُّون عن السير في خط متعرج، ويركبون أول عربة تأتي، حتى لو كانت ستسيء إلى سمعتهم. ذروة نزع توطين الفارس. أحيانًا في عجلة محمومة على الخط المجرد الذي يحملهم، وأحيانًا داخل الثقب الأسود للتخشُّب الذي يجتاحهم. إنها الريح، حتى ريح الفناء الخلفي، التي تُسرع بنا تارةً وتجعلنا ساكنين تارة. فارس نوم على سرجه  UN CHEVALIER DORMIR SUR SA MONTURE. أنا راعي بقر وحيد بائس. ليس للكتابة هدفٌ آخر: الريح، حتى حين لا نتحرك، «مفاتيح في الريح لتجعل روحي تهرب وتزود أفكاري بتيار من الفناء الخلفي.» أن نستخلص من الحياة ما يمكن إنقاذه، ما ينقذ نفسه وحده بفعل القوة والعناد، أن نستخلص من الحدث ما لا يستنفده التفعيل، أن نستخلص من الصيرورة ما يترك نفسه يتحدَّد في حدٍّ. إيكولوجيا غريبة: رسم خط للكتابة، أو للموسيقى، أو للتصوير. إنها شرائط تهزها الريح. يمر بعض الهواء. يرسم المرء خطًّا، يكون أقوى كلما كان مجردًا، إذا كان رزينًا تمامًا ودون أشكال. الكتابة مصنوعة من التهيج المحرك، ومن التخشُّب: كلايست. صحيح أن المرء لا يكتب إلا من أجل الأميين، من أجل مَن لا يقرءون، أو على الأقل من أجل من لن يقرءوك. يكتب المرء دومًا من أجل الحيوانات، مثل هوفمانشتال الذي قال إنه يحس بفأرٍ في حلقه، وهذا الفأر يبرز أسنانه «أعراس أو مشاركة ضد الطبيعة» تكافل، التفاف. المرء لا يخاطب سوى الحيوان داخل الإنسان. ولا يعني هذا أن يكتب المرء عن كلبه، أو عن قطته، أو عن حصانه، أو عن حيوانه الأثير. ولا يعني هذا جعل الحيوانات تتكلم. بل يعني أن يكتب كما يرسم الفأر خطًّا، أو كما يلوي ذيله، كما يطلق الطائر صوتًا، كما يتحرَّك قطٌّ، أو ينام بعمق. الصيرورة-حيوانًا، بشرط أن يصير الحيوان الفأر أو الحصان، أو الطائر، أو القط، أن يصير هو ذاته شيئًا آخر، كتلةً، خطًّا، صوتًا، لون الرمل، خطًّا مجردًا؛ لأن كل ما يتغيَّر يمرُّ بهذا الخط التجميعة. أن يكون المرء قملة بحر، تارةً تقفز فترى كل الشاطئ، وتارةً تظل تدفن أنفها في حبة رمل وحيدة. هل تعرفون فحسب أي حيوان أنتم في طريقكم لأن تصيروه، وبالأخص ذلك الذي يصير في داخلكم، الشيء أو الكيان عند لوفكرافت، ما لا يقبل التسمية، «الوحش المثقَّف»، الأقل ثقافةً بقدر ما يكتب بحوافره، بعينه الميتة، بقرون استشعاره وفكَّيه، بغياب وجهه، قطيع كامل في داخلكم يبحث عن ماذا، عن ريحٍ ساحرة؟
١  Lawrence, Etudes sur la littérature classique américaine, éd. du Seuil،
(راجع كل الفصل عن ويتمان الذي يعارض التعاطف مع التماهي.)
٢  Miller, Sexus, éd. Buchet-Chastel, p. 29.
٣  Cf. les remarques de François Regnault, en préface à la traduction du “Baladin du monde occidental”, éd. Le Graphe.
٤  Cf. le livre de Dillard sur le Black English. et sur les problèmes de langues en Afrique du Sud, Breytenbach, Feu froid, éd. Bourgois.
٥  تييست Thyeste: بطل إغريقي، ابن بيلوبس وهيبوداميا. اختلف مع أخيه التوءم أتريه على عرش ميسينا، فأغوى تييست زوجة أخيه. وانتقم أتريه بأن ذبح أبناء تييست وأطعمه إياهم. اغتصب تييست أخته بيلوبيا لتلد له ابنًا يقتل أخيه (م).
٦  Joe Bousquet, Traduit du silence, éd. Gallimard Les Capitales, Cercle du livre. Et les pages admirable.
والصفحات المثيرة للإعجاب لبلانشو حول الحدث، خصوصًا في: l’Espace litteraire, éd. Gallimard.
٧  الزن: طائفة بوذية صوفية منبثقة عن الشان الصيني، أدخلها إلى اليابان الراهب إيساي، عام ١١٩٢م. تعاليمها لا تعترف بسلطة النصوص، ولا تبجل سوى شخص بوذا التاريخي.
٨    Andrinople: أدرنة: مدينة على الحدود التركية مع بلغاريا واليونان. أسسها الإمبراطور هادريان عام ١٢٥م. وفي موقعة أدرنة عام ٣٧٨م، قُتل الإمبراطور فالنس على يد القوط في أول انتصار للبرابرة على الدولة الرومانية. نهبها البلغار عدة مرات في القرنَين التاسع والعاشر، ثم نهبها الصليبيون في القرن الثاني عشر. استولى عليها السلطان مراد الأول عام ١٣٦١م، وجعلها عاصمة الإمبراطورية العثمانية حتى ١٤٥٨م. أُعيدت إلى اليونان عام ١٩٢٠م، ثم إلى تركيا عام ١٩٢٣م.
٩  Cf. l’étude de L. White jr. sur l’étrier et la féodalité, Technologie médiévale et transformations sociales, éd. Mouton.
١٠  Sur tous ces problèmes, M. Dobb, Etudes sur le développement du capitalisme, éd. Maspero, ch. I et II.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥