القسم الأول

لم نقُل سوى شيئَين ضد التحليل النفسي: إنه يكسر كل إنتاجات الرغبة، وإنه يسحق كل تشكُّلات المنطوقات. وبذلك، فإنه يحطم التجميعة بوجهَيها، التجميعة الآلاتية للرغبة، والتجميعة الجماعية للتلفُّظ. الواقع أن التحليل النفسي يتحدث كثيرًا عن اللاوعي، بل إنه اكتشفه، لكن عمليًّا يجري ذلك دائمًا لاختزاله وتدميره وطرده كروح شريرة. يتم إدراك اللاوعي باعتباره سلبيًّا، إنه العدو. «Wo es war, soll Ich werden» عبثًا ما تمت ترجمة هذا على أنه: هناك حيث كان، هناك يجب أن أجيء كذات؛ فالأمر أسوأ (بما في ذلك كلمة «soll»، هذا «الواجب» الغريب «بالمعنى الأخلاقي»). وما يسميه التحليل النفسي إنتاج أو تشكُّل اللاوعي، هو إخفاقات، أو نزاعات، أو مصالحات، أو تلاعبات بالألفاظ. أما الرغبات فهناك منها أكثر مما يجب، بالنسبة للتحليل النفسي «المنحرف المتعدد الأشكال». سيجري تعليمكم النقص، والثقافة، والقانون. لا يتعلَّق الأمر بالنظرية، بل بالفن العملي الشهير للتحليل النفسي، فن التفسير. وحين ننتقل من التفسير إلى الدلالة، من البحث في المدلول إلى الاكتشاف الهائل للدال، لا يبدو أن الوضع يتغيَّر كثيرًا. ومن بين الصفحات الأشد غرابة لفرويد، هناك تلك المتعلقة ﺑ «مص القضيب fellatio»: كيف يمكن للقضيب أن يعادلَ ضرع بقرة، وأن يعادل ضرعُ بقرة ثديًا أموميًّا. إنها طريقة لإظهار أن مصَّ القضيب ليس رغبةً «حقيقية»، إنما يعني شيئًا آخر، يخفي شيئًا آخر. يجب دائمًا أن يُذكِّر شيء ما بشيء آخر، استعارة أو كناية. يصبح التحليل النفسي شيشيرونيا باطِّراد، وقد كان فرويد رومانيًّا على الدوام. من أجل تجديد التفرقة القديمة بين الرغبة الحقيقية وبين الرغبة الزائفة، يملك التحليل النفسي شبكةً محكمةً لهذا الغرض، ستكون المضامين الحقيقية للرغبة هي الدوافع الجزئية، أو الموضوعات الجزئية؛ أما التعبير الحقيقي عن الرغبة، فسوف يكون أوديب، أو الإخصاء، أو الموت، مرحلة لتشكيل بنية الكل. فور أن تُجمع الرغبة شيئًا، في علاقة مع خارج، في علاقة مع صيرورة، يتمُّ كسر التجميعة. هكذا يكون مص القضيب: دافع فموي لامتصاص الثدي + حادث بنيوي أوديبي. ونفس الشيء بالنسبة لبقية الأمور. قبل التحليل النفسي، عادةً ما كان الحديث يجري عن الهواجس المقرفة للعجائز، ومعه أصبح الحديث يجري عن النشاط الطفولي المنحرف.
نقول نحن على النقيض: اللاوعي، لا تملكونه، لا تملكونه مطلقًا؛ فليس «كان» يجب أن يجيء «الأنا» مكانه. يجب قلب الصيغة الفرويدية. اللاوعي، يجب أن تنتجوه. ليس أبدًا مسألة ذكريات مكبوتة، ولا حتى استيهامات؛ فالمرء لا يعيد إنتاج ذكريات الطفولة، بل ينتج، مع كُتل الطفولة الراهنة دومًا، كُتل الصيرورة-طفلًا. كل واحد يصنع أو يجمع، لا بالبيضة التي خرج منها، ولا بالوالدَين اللذَين يربطانه بها، ولا بالصور التي يستمدها منها، ولا ببنية التوالد، بل بقطعة المشيمة التي يخبئها، والمعاصرة له دائمًا، كمادة للتجريب. أنتجوا اللاوعي وليس هذا سهلًا، ولا في أي مكان، لا بزلَّة لسانٍ ولا بنكتة، ولا حتى بحلم. اللاوعي هو مادة يجب صنعها، جعلها تنساب، هو فضاء اجتماعي وسياسي يجب الاستيلاء عليه. لا وجود لذات للرغبة، مثلما لا وجود لموضوع. لا وجود لذات للنطق. التدفقات وحدها هي موضوعية الرغبة ذاتها. الرغبة هي نسق العلامات غير-الدالة التي ينتج بها المرء تدفقات اللاوعي داخل مجال اجتماعي. وما من تبرعمٍ للرغبة، في أي موضع كان سواء في عائلة صغيرة، أو في مدرسة الحي، لا يطرح للتساؤل البنيات القائمة. الرغبة ثوريةٌ لأنها تريد دومًا المزيد من الارتباطات والتجميعات، لكن التحليل النفسي يقطع ويعوق كل الارتباطات، كل التجميعات، إنه يكره الرغبة، يكره السياسة.
النقد الثاني، يتعلق بالطريقة التي يمنع بها التحليل النفسي تشكُّلَ المنطوقات. في مضمونها تكون التجميعات مأهولةً بالصيرورات والكثافات، بالانتقالات الكثيفة، بالكثرات أيًّا كانت (قطعان، حشود، فصائل، أجناس، تعدادات، قبائل …). وفي تعبيرها تتناول التجميعات أدوات أو ضمائر نكرة ليست غير محدَّدة مطلقًا (بطن «ما»، أناس «ما»، «شخص» يضرب طفلًا «ما» …) أفعالًا في المصدر ليست غير متمايزة، لكنها تشير إلى سيرورات (مشي marcher، قتل tuer، حب aimer …) أسماء علم ليست أشخاصًا بل أحداث (يمكن أن تكون مجموعات، حيوانات، كيانات، تفردات، جماعات، كل ما يُكتب بحرف كبير، هانس - ما - صيرورة - حصان). التجميع الآلاتي الجماعي هو إنتاج مادي للرغبة بقدر ما هو علة تعبيرية للمنطوق: تمفصل سيميوطيقي لسلاسل تعبيرات تكون مضامينها هي نسبيًّا الأقل تشكُّلًا. ليست مسألة تمثيل ذات؛ فليس ثمة ذاتٌ للتلفظ، بل برمجة تجميعة. ليست مسألة تشفير مفرط للمنطوقات، بل على العكس منعها من الانكفاء تحت طغيان كوكبات يطلق عليها أنها دالة. أمر غريب أن التحليل النفسي الذي يتباهى كثيرًا بالمنطق، لا يفهم شيئًا عن منطق أداة النكرة، والفعل في المصدر واسم العلَم. يريد التحليل النفسي بأي ثمنٍ أن يكون خلف ضمائر النكرة معرفًا خفيًّا، ضمير ملكية، ضميرًا شخصيًّا. حين يقول أطفال ميلاني كلاين «بطن ما»، أو «كيف يكبر الناس؟»، تفهم ميلاني كلاين «بطن أمي»، «هل سأكبر مثل أبي؟». وحين يقولون «هتلر ما» «تشرشل ما» ترى هنا ميلاني كلاين ضمير ملكية الأم السيئة أو الأب الجيد. يفهم العسكريون أو خبراء الأرصاد الجوية، أكثر من المحللين النفسيين، معنى اسم العلم حين يستفيدون منه في تحديد عملية استراتيجية أو سيرورة جغرافية: العملية تيفون Typhon يحدث ليونج أن يحكي أحد أحلامه لفرويد: حلم بمجموعة عظام، فأراد فرويد أن يستنتج أن يونج رغب في موت شخص ما، هو دون شك زوجته. «أكد له يونج مندهشًا أنه كانت توجد جماجم عديدة، وليس واحدة فقط.»١ وبنفس الطريقة، لم يُرِد فرويد أن توجد ستة أو سبعة ذئاب؛ فلن يكون هناك سوى ممثل واحد للأب. وما يفعله فرويد أيضًا مع هانس الصغير: لا يعير أيَّ اهتمام للتجميعة (المبنى - الشارع - المستودع المجاور - حصان عربة النقل - حصان يسقط - حصان يجلد بالسوط!) لا يعير أي اهتمام للوضع (تم حظر الشارع على الطفل … إلخ.) لا يعير أي اهتمام لمحاولة هانس الصغير (الصيرورة-حصانًا، حيث إن كل المنافذ الأخرى قد أغلقت، كتلة الطفولة، كتلة الصيرورة-حيوانًا لدى هانس، الفعل المصدري كمؤشر على صيرورة، خط الهروب أو حركة نزع التوطين). كل ما يهمُّ فرويد، أن يكون الحصان هو الأب، وانتهى الأمر. عمليًّا، في تجميعة معطاة، يكفي استخلاص شريحة منها، تجريد لحظة منها، لكسر مجموع الرغبة، والصيرورة الفعلية، واستبدالها بتشابهات مفرطة الخيالية (حصان - أبي) أو بتناظرات ذات علاقات مفرطة الرمزية (القفز = ممارسة الحب). لقد اختفى بالفعل كل الواقع - الرغبة ويحل محله شفرة، تشفير رمزي مفرط للمنطوقات، ذات مختلقة للنطق لا تترك أية فرصة للمرضى.
يسلم المرء نفسه للتحليل النفسي؛ لأنه يعتقد أنه يتكلم ويقبل بأن يدفع مقابل هذا الاعتقاد، لكن ليست لديه أدنى فرصة للكلام. التحليل النفسي مصنوع برمته لمنع الناس من الكلام وتجريدهم من كل شروط النطق الحقيقي. كنا قد شكَّلنا مجموعة عمل صغيرة من أجل المهمة التالية: أن نقرأ تقارير التحليلات النفسية، خصوصًا للأطفال، ونلتزم بهذه التقارير ونصنع عمودَين، إلى اليسار ما قاله الطفل، حسب التقرير ذاته، وإلى اليمين ما فهمه المحلل النفسي واحتفظ به (المثال هو ما يحدث دائمًا في لعب الورق ذي «الاختيار الإجباري»). الأمر مرعب. النصان الرئيسيان بهذا الصدد هما هانس الصغير لفرويد، وريتشارد الصغير لميلاني كلاين. إنه إجبار لا يُصدَّق، مثل مباراة ملاكمة بين وزنَين غير متكافئَين تمامًا. دعابة ريتشارد، في البداية، وهو يتهكم على ميلاني كلاين؛ فكل تجميعات الرغبة هذه، من جانبه، تمر عبر نشاط رسم خرائط خلال الحرب، بتوزيع لأسماء الأعلام، بالمواطن وبحركات نزع التوطين، بعتبات وعبورات. وعديمة الإحساس وصماء، غير قابلة للنفاذ، ستكسر مدام «ك» قوة ريتشارد الصغير. وتكمن النغمة المميزة للكتاب في النص ذاته: «فسرت السيدة «ك». فسرت السيدة «ك» … فسرت السيدة «ك» …» يقال إن ذلك لم يعُد يوجد اليوم؛ فقد حلت الدلالة محل التفسير، حل الدال محل المدلول، حل صمت المحلل محل تعليقاته، انكشف الإخصاء أكثر يقينًا من أوديب، حلَّت الدالات البنيوية محل الصور التوليدية، حل اسم الأب محل أبي. ونحن لا نرى تغيرات عملية كبيرة. لا يمكن لمريض أن يغمغم «منابع [نهر] الرون bouches du Rhône» دون أن يتم تصحيحه «فم الأم bouche de la mère» ولا يمكن لآخر أن يقول «وددت لو أنضم لجماعة هيبي groupe hippie» دون أن يتم تهديده «لماذا تنطق مثل طرطرة كبيرة gros pipi?.» هذان المثالان يشكلان جزءًا من تحليلات تقوم على الدال الأسمى. ممَّ يمكن أن يتكوَّن التحليل، إن لم يكن من هذه الحيل التي لم يعُد المحلِّل فيها يحتاج حتى إلى الكلام؛ حيث يعرفها من يجري تحليله قدر ما يعرفها هو؟ من يجري تحليله يصبح إذن محلَّلًا، هذا مصطلح فكاهي بوجه خاص. عبثًا يقال لنا: إنكم لا تفهمون شيئًا، أوديب ليس الأب-الأم، إنه الرمزي، القانون، المنفذ إلى الثقافة، تأثير الدال، إنه تناهي الذات، إنه «نقص الوجود الذي تعنيه الحياة.» وإذا لم يكن أوديب فسوف يكون الإخصاء، ودوافع الموت المزعومة. المحللون النفسيون يعلِّمون الاستسلام اللانهائي، هم آخر الكهنة (لا، بل سيأتي آخرون بعدهم). لا يمكن القول بأنهم بالغو المرح، انظروا إلى نظرتهم الميتة، إلى أقفيتهم المتيبسة (لاكان وحده من حافظ على حس معين بالضحك، لكنه يعترف بأنه مجبر على الضحك وحيدًا تمامًا). لا مأخذ عليهم حين يقولون إنهم بحاجة إلى «تقاضي مقابل» لقاء تحملهم عبء ما يسمعونه، إلا أنهم تخلَّوا عن التمسك بأطروحة وجود دور رمزي ونزيه للنقود في التحليل النفسي. نفتح بشكل عشوائي مقالًا كيفما اتفق، لمحلل نفسي يمثل سلطة، مقالًا من صفحتَين: «تبعية الإنسان الطويلة، عجزه عن مساعدة نفسه بنفسه … الدونية الوراثية للكائن الإنساني … الجرح النرجسي الكامن في وجوده … الواقع المؤلم للوضع الإنساني … الذي ينطوي على عدم الاكتمال، والصراع … بؤسه الباطني، الذي يقوده حقًّا إلى أسمى الإنجازات.» لو أن كاهنًا تمسَّك بخطابٍ بهذه الوقاحة، وهذه الظلامية، لتم طرده من كنيسته منذ زمن طويل.

لكن، رغم ذلك، تغيرت أشياء كثيرة في التحليل النفسي؛ فإما أنه قد انغمر، قد انتشر في كل أنواع تقنيات العلاج، أو التكيف، أو حتى التسويق، التي جلب إليها ظلاله الخاصة ضمن توفيقية شاسعة، جلب إليها خطه الصغير ضمن التعددية النغمية للمجموعة؛ وإما أنه قد تصلَّب، داخل تنقية، داخل «عودة» متعجرفة إلى فرويد، في هارمونية مستوحدة، وتحديد نوعي ظافر لم يعُد يريد التحالف إلا مع اللغويات (حتى لو كان العكس غير صحيح)، لكن أيًّا كان اختلافهما الملحوظ، فإننا نعتقد أن هذَين الاتجاهَين المتعارضَين يشهدان على نفس التغيرات، على نفس التطور، الذي يستند على عدة نقاط.

(I) أولًا، أزاح التحليل النفسي محوره، من العائلة إلى الزواج. واستقر بين الأزواج، أو العشاق، أو الأصدقاء، أكثر مما بين الآباء والأطفال. كذلك يتم اقتياد الأطفال بواسطة الأطباء النفسيين، أكثر مما يجتذبهم الآباء. أو يتم تنظيم العلاقات بين الآباء والأطفال بواسطة الاستشارات الإذاعية. لقد أقال الاستيهام ذكرى الطفولة. هذه ملاحظة عملية، تخص تجنيد مَن يتلقون التحليل النفسي: هذا التجنيد يجري بصورة متناقصة وفق شجرة النسب العائلية، وبصورة متزايدة وفق شبكة الأصدقاء («أنت أيضًا، يجب أن تُخضع نفسك للتحليل …»). وكما يقول سيرج لوكلير، بدعابة ربما، «الآن توجد تحليلات تحل فيها شبكة الولاء للأريكة [أريكة التحليل النفسي] التي يتردد عليها الأصدقاء والعشاق محل علاقات الأبوة.»٢ ولا يخلو هذا من الأهمية بصدد شكل الاضطرابات ذاته؛ فقد تخلَّى العُصاب عن النماذج الوراثية (حتى لو كانت الوراثة تمر عبر «وسط» عائلي) ليتبع مخططات العدوى. اكتسب العصاب قوته الأشد رعبًا، قوة الانتشار المعدي: لن أفلتك ما لم تنضم إليَّ في هذه الحالة. سيعجب المرء بتكتُّم العصابيين القدامى، من النوع الهستيري أو الحواذي، الذين يتعاملون مع شأنهم إما بمفردهم تمامًا أو يفعلون ذلك داخل العائلة؛ فالنمط الاكتئابي الحديث، على النقيض، هو بنوعٍ خاص مصاص دماء أو سام. إنهم يتولَّون تحقيق نبوءة نيتشه: لا يطيقون أن توجد صحة «ما»، ولن يتوانوا عن جرنا إلى حبائلهم. ومع ذلك، فإن شفاءهم، سيعني أولًا تدمير إرادة التسميم هذه داخلهم، لكن كيف سيفعل ذلك المحللُ النفسي، الذي يتمتع على هذا النحو بتجنيد-ذاتي ضخم لعملائه؟ ربما جرى الاعتقاد بأن مايو ٦٨ قد وجه ضربة قاصمة للتحليل النفسي، وجعل أسلوب منطوقات التحليل النفسي، بالمعنى المحدَّد مضحكًا. لا، فقد عاد الكثير من الشباب إلى التحليل النفسي. بالضبط لأنه عرف كيف يتخلى عن نموذجه العائلي الذي فقد اعتباره، ليتخذ مسارًا أكثر إزعاجًا، مسار عدوى متناهية الصغر «سياسية» بدل النسب «الخاص» متناهي الكبر. لم يكن التحليل النفسي أبدًا بهذه الحيوية، سواء لأنه نجح في تخلُّل كل شيء، أو لأنه أقام على أسسٍ جديدة وضعه المتعالي، ونظامه النوعي.
(II) لا يبدو لنا أن الطب النفسي في تاريخه قد تأسَّس حول مفهوم الجنون، بل على العكس، عند النقطة التي وجد فيها هذا المفهوم صعوبات في التطبيق. لقد اصطدم الطب النفسي بالفعل بمشكلة الهذيانات التي لا يصاحبها عجز ذهني. فمن جهة، هناك أناس يبدو أنهم مجانين، لكنهم ليسوا كذلك «حقًّا»؛ لأنهم يحتفظون بملكاتهم، وأولها ملكة حسن إدارة ثروتهم وممتلكاتهم (نظام ذهان التشكك، وهذيان التفسير … إلخ).٣ ومن جانبٍ آخر، هناك أناس هم مجانين «حقًّا»، ومع هذا لا يبدون كذلك، ويرتكبون فجأة فعلًا انفجاريًّا لم يجعلنا شيء نتوقعه؛ حريق، قتل … إلخ. (نظام الحواذ الأحادي، الهذيان العاطفي، أو هذيان المطالبة). وإذا كان لدى الطبيب النفسي شعورٌ بالذنب، فذلك منذ البداية؛ لأنه واقع في معضلة تفكيك مفهوم الجنون: فهو متهم بأنه يعالج كمجانين البعضَ ممن ليسوا كذلك بالضبط، وبأنه لا يرى في حينه جنون آخرين ليسوا مجانين فعليًّا. انزلق التحليل النفسي بين هذَين القطبَين، بقوله في آنٍ واحد بأننا كنا جميعًا مجانين دون أن نبدو كذلك، لكن أيضًا بأننا كنا نبدو مجانين دون أن نكون كذلك. «مرض نفسي للحياة اليومية» برمته. باختصار، فإن الطب النفسي يتأسس على إخفاق مفهوم الجنون، وعلى أن التحليل النفسي استطاع أن يرتبط به. من الصعب أن نضيف شيئًا إلى تحليلات فوكوه، ثم روبير كاستيل، حين يبينون كيف نشأ التحليل النفسي على أرضية الطب النفسي تلك؛٤ إذ باكتشافه بين هذَين القطبَين عالم العصابيين، مع تكامل الملكات الذهنية، وكذلك مع غياب الهذيان، استطاع التحليل النفسي في بداياته إنجاح عملية بالغة الأهمية، أن يدخل في إطار العلاقة التعاقدية-الليبرالية كل أنواع البشر الذين بدوا، حتى ذلك الحين، مستبعدين منها (كان «الجنون» يضع من يصيبهم خارج كل تعاقد ممكن). سيجعل التعاقد التحليلي النفسي بالمعنى المحدد، تدفق من الكلمات مقابل تدفق من النقود، من المحلل النفسي شخصًا قادرًا على الانغراس داخل كل مسام المجتمع التي تحتلها تلك الحالات غير المؤكدة، لكن بقدر ما وجد التحليل النفسي مداه يتسع، وكذلك بقدر ما عاد صوب الهذيانات المستترة تحت العصابات، يبدو أن رضاه عن العلاقة التعاقدية، حتى لو تم الحفاظ على مظهرها، أخذ يتناقص. كان التحليل النفسي قد حقق بالفعل ما كان يسبب قلق فرويد في نهاية حياته؛ فقد أصبح بلا نهاية، بلا نهاية دون جدال. وفي نفس الوقت، تولى وظيفة «جماهيرية»؛ لأن ما يحدِّد الوظيفة الجماهيرية، ليس بالضرورة طابعًا جماعيًّا، أو طبقيًّا أو لمجموعة؛ إنه الانتقال القانوني من التعاقد إلى التشريع. يبدو باطِّراد أن من يتلقى التحليل النفسي يكتسب ثباتًا تشريعيًّا لا يقبل التحول، لا يقبل النقض، بدل أن يدخل في علاقة تعاقدية مؤقتة. بالضبط، فإن التحليل النفسي، باستقراره بين القطبَين اللذَين وجد الطب النفسي حدوده بينهما، وبتوسيعه للمجال بين هذَين القطبَين، وبحفزه له، عمل على اختراع ثبات تشريعي للمرض العقلي، أو الاضطراب النفسي؛ لم يتوقف عن الاستمرار، والانتشار في شبكات. تم اقتراح طموح جديد علينا: التحليل النفسي هو مسألة حياة بأكملها.
وربما ترتبط أهمية مدرسة باريس الفرويدية بذلك، بأنها عبَّرت للمرة الأولى عن متطلبات نظام جديد للتحليل النفسي، لا نظريًّا فحسب، بل في تنظيمها التشريعي في أفعال تأسيسها؛ لأن ما تقترحه بوضوح، هو وضع تشريعي للتحليل النفسي، في مقابل العقد القديم؛ إنها بضربة واحدة تضع مخطط تحوُّل بيروقراطي، عبور من بيروقراطية الوجهاء (من النوع الاشتراكي-الراديكالي، الذي كان يلائم بدايات التحليل النفسي) إلى بيروقراطية جماهيرية بضربة واحدة، يكون المثل الأعلى هو إصدار حالات أوضاع تشريعية مثل شهادات المواطنة، وبطاقات الهُوية، في مقابل العقود المحدودة؛ يدَّعي التحليل النفسي انتماءه إلى روما، ويجعل نفسه شيشيرونيًّا، ويضع حدوده بين «l’Honestas» [الشريف] وبين «الوغد».٥ إذا كانت المدرسة الفرويدية قد أثارت الكثير من المشكلات في عالم التحليل النفسي؛ فليس ذلك فحسب دالة لرقيها النظري، ولا لممارستها، بل بسبب تخطيطها لتنظيم جديد صريح. قد تكون هيئات التحليل النفسي الأخرى قد حكمت على هذا المشروع بأنه غير مناسب، لكن ذلك لأنه قال الحقيقة بشأن حركة تخترق مجموع التحليل النفسي، وتُفضِّل المنظمات الأخرى غض الطرف عنها في صمت، تحت غطاء تيمة التعاقد. لن نأسف نحن على هذا الغطاء التعاقدي، المنافق منذ البداية. وفضلًا عن ذلك لا نقول إن التحليل النفسي يتعلق الآن بالجماهير، بل فقط إنه قد تولى وظيفة جماهيرية، سواء كانت شبحية، أو ضيقة، أو من أجل «نخبة». وإن هذا هو الجانب الثاني لتغيرها: ليس فقط كونها قد انتقلت من العائلة إلى الزواج، ومن الوالدية إلى التحالف، ومن النسب إلى العدوى، بل كذلك من العقد إلى الوضع التشريعي. يحدث أن تمنح سنوات التحليل النفسي التي لا تنتهي للعاملين الاجتماعيين «زيادات إضافية في الراتب»، فنرى التحليل النفسي يتغلغل في كل مكان داخل القطاع الاجتماعي.٦ ويبدو لنا هذا أكثر أهميةً من الممارسة والنظرية، اللتَين ظلَّتا دون تغييرٍ بوجه عام. من هنا قلب العلاقات بين الطب النفسي وبين التحليل النفسي، ومن هنا طموح التحليل النفسي لأن يصبح لغة رسمية، ومن هنا تحالفاته مع اللغويات (فليست لدينا علاقة تعاقدية مع اللغة).
(III) إلا أن النظرية ذاتها قد تغيرت، يبدو أنها قد تغيرت. تم الانتقال من المدلول إلى الدال: إذا لم يعُد المرء يبحث عن مدلول لأعراض تعتبر دالة، إذا كان المرء يبحث، على العكس، عن دال لأعراض لن تعود سوى تأثيرات له، إذا ترك التفسير مكانه للدلالة، فإن إزاحة جديدة تنتج. تكون للتحليل النفسي فعليًّا، مراجعه الخاصة، ولا يعود بحاجة إلى «مرجع» خارجي. كل ما يحدث داخل التحليل النفسي، داخل عيادة المحلل النفسي حقيقي. وما يحدث خارج ذلك، يكون مشتقًّا أو ثانويًّا. طريقة ممتازة للارتباط. لقد كفَّ التحليل النفسي عن كونه علمًا تجريبيًّا كي يستولي على حقوق نسق من البداهات. التحليل النفسي هو مرجع ذاته  INDEX SUI؛ ما من حقيقة أخرى سوى تلك التي تنتج من العملية التي تفترضها سلفًا، لقد أصبحت أريكة المحلل النفسي بئرًا لا يسبر غورها، لا متناهية عن حق. كفَّ التحليل النفسي عن ممارسة البحث، حيث إنه مؤسس للحقيقة. ومرة أخرى فإن سيرج لوكلير هو من يقول ذلك بأدق ما يكون: «يميل واقع المشهد البدائي إلى الكشف عن نفسه بصورة أشد تعينًا، من خلال عيادة التحليل أكثر مما يفعل ضمن إطار غرفة الأبوَين … أصبحت أريكة التحليل النفسي، الموقع الذي تجري فيه فعليًّا لعبة مواجهة الواقع.» أصبح المحلل النفسي مثل الصحفي: إنه يخلق الحدث. وعلى أية حال، يقدم التحليل النفسي عروضًا للخدمة؛ فطالما فسَّر، أو طالما يفسِّر (يبحث عن مدلول)، فإنه يقود الرغبات والمنطوقات إلى حالة منحرفة بالنسبة للنظام القائم، بالنسبة للدلالات السائدة، لكنه بالضبط يُمَوقعها داخل مسام هذا الجسم القائم السائد، كشيء قابل للترجمة والتبادل بفضل عقد. وحين يكشف الدال، فإنه يستحضر - نظامًا تحليليًّا نفسيًّا بالمعنى المحدد (النظام الرمزي في مقابل النظام المتخيل للمدلول)، لم يعُد بحاجة إلا إلى ذاته؛ لأنه وضع تشريعي أو بنيوي: إنه هو من يشكِّل جسمًا، مجموعًا مكتفيًا بذاته.
نصادفُ مرة أخرى بالطبع مسألة السلطة، جهاز السلطة التحليلية النفسية، بنفس الظلال السابقة: حتى لو كانت هذه السلطة مقيدةً، وموضعية … إلخ. لا يمكن طرح هذا السؤال إلا على أساس ملاحظات عامة جدًّا: صحيح، كما يقول فوكوه، أن كل تشكُّل للسلطة بحاجة إلى معرفة لا تعتمد عليه، لكنها مع ذلك، لن تكون لها فاعلية بدونه. ويمكن لهذه المعرفة القابلة للاستخدام أن تتخذ شكلَين؛ إما صورةً شبه رسمية، كتلك التي تستقر داخل «المسام»، كي تسدَّ هذا الثقب أو ذاك في النظام القائم؛ وإما صورة رسمية، حين تؤسس بذاتها نظامًا رمزيًّا، يمنح السلطات القائمة بداهة معممة. فمثلًا، يبين مؤرخو العصر العتيق تكامل المدينة الإغريقية مع الهندسة الإقليدية. ليس الأمر أن المهندسين يملكون السلطة، بل لأن الهندسة الإقليدية تمثل المعرفة، أو الآلة المجردة، التي تحتاجها المدينة لتنظيمها للسلطة، للفضاء، وللزمن. ليس ثمة دولة لا تحتاج إلى صورة للفكر، تقوم لها بدور البداهة أو الآلة المجردة، وفي المقابل تمنحها هي قوة الأداء؛ ومن هنا عدم كفاية مفهوم الأيديولوجيا، الذي لا يضع في حسابه أبدًا هذه العلاقة. كان هذا هو الدور المؤسف للفلسفة الكلاسيكية، كما رأيناه، أن يزود على هذا النحو أجهزة السلطة، أو الكنيسة، أو الدولة، بالمعرفة التي تناسبها. فهل يمكن القول اليوم إن العلوم الإنسانية قد تولَّت هذا الدور ذاته، أن تزود بوسائلها الخاصة أجهزة السلطة الحديثة بآلة مجردة، مقابل أن تتلقى منها الدعم المرجو؟ لقد قدَّم التحليل النفسي عروضه إذن، أن يصير لغة ومعرفة رسميتَين كبيرتَين بدل الفلسفة، أن يقدم علم بداهة للإنسان بدل الرياضيات، أن يستحوذ على الشرف  l’Honestas وعلى وظيفة جماهيرية. من المشكوك به أن ينجح؛ فأجهزة السلطة مهتمة أكثر بالتحول صوب الفيزياء، أو البيولوجيا، أو المعلوماتية، لكنه سيكون قد فعل ما كان باستطاعته، لم يعُد يخدم النظام القائم، بطريقة شبه رسمية، بل يقترح نظامًا نوعيًّا ورمزيًّا، آلةً مجردة، لغة رسمية يحاول لحمها باللغويات بوجه عام، كي يتخذ وضع اللامتغير. إنه ينشغل باطِّراد ﺑ «الفكر» الخالص. تحليلٌ نفسي حي. تحليلٌ نفسي ميت، لأن فرصه ضئيلة في النجاح في طموحه؛ نظرًا لوجود الكثير جدًّا من المنافسين، ونظرًا لأنه، في هذه الأثناء، أخذت كل قوى الأقلية كل قوى الصيرورات، كل قوى اللغة، كل قوى الفن، في الهروب من ذلك الميدان، أخذت في الكلام، والتفكير، والحركة، والصيرورة على نحوٍ آخر. كل شيء يمر بعيدًا، بحيث لا يمكن للتحليل النفسي حتى اعتراضها، أو بحيث لا يعترضها التحليل النفسي إلا من أجل إيقافها. هنا بالفعل تكمن المهمة التي يطرحها على نفسه: التشفير المفرط للتجميعات من أجل إخضاع الرغبات لسلاسل دالة، والمنطوقات لدعاوى ذاتية، تجعلها تتوافق مع متطلبات النظام القائم. التغيرات الأربعة المتزايدة التي رأيناها لتوِّنا — المرور من العائلة إلى الشبكة، وحلول الوضع التشريعي محل العقد، واكتشاف نظام تحليلي نفسي بالمعنى المحدد، والتحالف مع اللغويات — تُحدد هذا الطموح للمشاركة في التحكُّم، في تجميعات الرغبة والنطق، أو حتى للفوز بمكان مسيطر داخل هذا التحكم.
نُسبت إلينا حماقاتٌ كثيرة فيما يتعلق بكتابنا ضد أوديب  I’Anti-Œdipe، فيما يتعلق بالآلات الراغبة، وما تعنيه تجميعة رغبة، والقوى التي تحشدها، والمخاطر التي تواجهها. لم تأتِ هذه الحماقات من جانبنا. قلنا إن الرغبة ليست مرتبطة أبدًا ﺑ «القانون»، ولا تتحدَّد بأي نقص جوهري؛ لأن تلك هي الفكرة الحقيقية للكاهن؛ القانون المؤسس في قلب الرغبة، الرغبة المؤسسة باعتبارها نقصًا، الإخصاء المقدس، الذات المنقسمة، دافع الموت، ثقافة الموت الغريبة. يكون الأمر على هذا النحو دون شكٍّ في كل مرة يتم فيها التفكير في الرغبة، باعتبارها جسرًا بين ذات وبين موضوع: لا يمكن إلا أن تكون ذاتُ الرغبة منفلقة، والموضوع، ضائعًا مقدمًا. ما حاولنا توضيحه، على العكس، هو كيف أن الرغبة تقع خارج هذه الإحداثيات الشخصانية والموضوعاتية. بدا لنا أن الرغبة سيرورة، وأنها تقوم ببسط مستوى اتساق  plan de consistance مجال محايثة، «جسدًا دون أعضاء»، كما قال آرتو، تسري فيه جزيئات وتدفقات تُفلت من الموضوعات وكذلك من الذوات … الرغبة إذن ليست داخلية في ذات، كما أنها لا تميل صوب موضوع: إنها بشكل قطعي محايثة لمستوًى لا تسبقه في الوجود، لمستوًى يجب بناؤه، تنبعث فيه الجزيئات، وتقترن فيه التدفقات. ما من رغبةٍ إلا بقدر ما يوجد بسط لمثل ذلك المجال، وانتشار لمثل تلك التدفقات، وانبعاتٌ لمثل تلك الجزيئات. وبما أن الرغبة بعيدةٌ عن افتراض ذات، فلا يمكن بلوغها إلا عند النقطة التي يكون فيها المرء محرومًا من القدرة على قول أنا. بما أن الرغبة بعيدة عن الميل صوب موضوع، فلا يمكن بلوغها إلا عند النقطة التي يكف فيها عن البحث عن، أو الإمساك بموضوع، مثلما يكف فيها عن الإمساك بذاته بوصفه ذاتًا. يمكن الاعتراض بأن تلك الرغبة غير محددة تمامًا، وأن النقص يخترقها بدرجة أكبر، لكن ما الذي يجعلكم تعتقدون أنكم بفقدان إحداثيات الموضوع والذات، سينقصكم شيء ما؟ ما الذي يدفعكم إلى الاعتقاد بأن أدوات وضمائر النكرة (un, on)، وضمائر الغائب (هو، هي)، والأفعال في صيغة المصدر غير محددة إلى أدنى درجة؟ يتضمن مستوى الاتساق أو المحايثة، الجسد دون أعضاء، فراغات وصحراوات، لكن هذه الفراغات والصحراوات تُشكِّل «تمامًا» جزءًا من الرغبة، وهي بعيدة عن أن تُجوف فيها نقصًا أيًّا كان. يا له من خلط غريب، خلط الفراغ بالنقص! إن ما ينقصنا حقًّا بوجه عام هو جزيء من الشرق، ذرة من الزن. الأنوركسيا [العزوف المرضي عن الطعام] ربما كانت أكثر ما جرى عنه أسوأ الكلام، تحت تأثير التحليل النفسي، بشكل ملحوظ؛ فالفراغ، الخاص بالجسد الأنوركسي دون أعضاء، لا علاقة له بالنقص، ويشكِّل جزءًا من تأسيس مجال الرغبة الذي تذرعه جزيئات وتدفقات. نود أن نعود قريبًا إلى هذا المثال، بالتفصيل، لكن الصحراء بالفعل هي جسد دون أعضاء لم يكن معاديًا أبدًا للأقوام التي تسكنه، لم يكن الفضاء معاديًا أبدًا للجزيئات التي تتحرَّك فيه.
نصنع لأنفسنا عن الصحراء صورة المستكشف الذي يُصيبه الظمأ، وعن الفراغ صورة أرض تنفتح، صور جنائزية لا تصلح إلا حيث لا يمكن لمستوى الاتساق المطابق للرغبة، أن يستقر، ولا تكون لديه شروط بناء نفسه، لكن على مستوى الاتساق فإن ندرة الجزيئات، وتباطؤ أو نضوب التدفقات، تشكِّل جزءًا من الرغبة، ومن الحياة الخالصة للرغبة، دون أن تشهد على أي نقص. وكما يقول لورانس، فإن العفَّة تدفق. هل مستوى الاتساق شيء غريب؟ يجب أن نقول في آنٍ واحد: أنتم تملكونه مسبقًا، أنتم لا تشعرون برغبة دون أن يكون موجودًا مسبقًا، دون أن يرتسم في نفس الوقت الذي ترتسم فيه رغبتكم، وأيضًا: أنتم لا تملكونه، ولا ترغبون ما لم تتوصلوا إلى بنائه، ما لم تعرفوا كيف تصنعونه، بأن تجدوا مواقعكم، وتجميعاتكم، وجزيئاتكم، وتدفقاتكم. يجب أن نقول في آنٍ واحد: إنه يصنع نفسه وحده تمامًا، لكن اعرفوا كيف ترونه، ويجب أن تصنعوه، اعرفوا كيف تصنعونه، كيف تتخذون الاتجاهات الصحيحة، على مسئوليتكم في مواجهة المجازفات والمخاطر. الرغبة: من، باستثناء الكهنة، سيود تسميتها «نقصًا»؟ لقد سماها نيتشه إرادة القوة. ويمكن تسميتها بشكل آخر. النعمة، مثلًا. فعل الرغبة ليس سهلًا على الإطلاق، لكن ذلك بالضبط لأنه يمنح بدل النقص، «فضيلة تمنح». إن من يربطون الرغبة بالنقص، الشرذمة الطويلة من المتغنين بالإخصاء، يشهدون حقًّا على ضغينة طويلة مثلما على سوء نية بلا نهاية. هل يعني هذا تنكرًا لبؤس أولئك الذين ينقصهم فعلًا شيء ما؟ لكن فضلًا عن أن التحليل النفسي لا يتحدث عن هؤلاء (فهو على العكس يضع تمييزًا، ويقول جهارًا إنه لا يهتم بالحرمانات الواقعية)، فإن أولئك الذين ينقصهم شيء واقعيًّا ليس لديهم أي مستوى اتساق ممكن، يتيح لهم أن يرغبوا. يتم منعهم من ذلك بألف طريقة. وفور أن يبنوا واحدًا، فإنهم لا ينقصهم شيء على هذا المستوى، الذي ينطلقون منه للغزو صوب ما ينقصهم في الخارج. النقص يحيل إلى إيجابية للرغبة، ولا تحيل الرغبة إلى سلبية للنقص. إن بناء مستوًى، حتى لو كان فرديًّا، هو سياسة، ويرتبط بالضرورة ﺑ «جماعة»، بتجميعات جماعية، بمجموع من الصيرورات الاجتماعية.
يجب التمييز بين مستويَين، بين نمطَين من المستويات. من جهة مستوًى يمكن تسميته مستوى التنظيم. ويخص في آنٍ واحد تطور الأشكال وتشكُّل الذوات. إنه أيضًا، بقدر ما نريد، بنيوي وتوليدي. وعلى أية حال، فإنه يتمتَّع ببعد إضافي، ببعد زائد، ببعد خفي؛ لأنه ليس معطًى لذاته، بل يجب دومًا استنتاجه، استدلاله، استقراؤه، انطلاقًا مما ينظِّمه. الأمر مثلما في الموسيقى حيث لا يكون مبدأ التأليف معطًى في علاقة محسوسة مباشرةً، مسموعة، مع ما يعطيه. إنه إذن، مستوى تعالٍ، نوع من التصميم، داخل روح الإنسان أو داخل روح إله، حتى حين نوليه حدًّا أقصى من المحايثة بطمره في أعماق الطبيعة، أو اللاوعي. مثل هذا المستوى هو مستوى القانون، بقدر ما ينظم ويطور الأشكال والأجناس والتيمات والموضوعات، ويحدِّد ويطور الذوات، والشخصيات، والسمات والمشاعر: إنه تناغم الأشكال، تربية الذوات.
ثم هناك مستوًى آخر تمامًا لا ينشغل بتلك الأشياء. هو مستوى الاتساق. لا يعرف هذا المستوى الآخر سوى علاقات الحركة والتوقف، علاقات السرعة والبطء، بين عناصر غير متشكلة، غير متشكلة نسبيًّا، جزيئات أو جسيمات تجرفها التدفقات. لا يعرف شيئًا عن الذوات، بل بالأحرى ما نسميه «هذيات» heccéités. فعليًّا، لا تتحقق كل فردنة individuation على طريقة ذات، أو حتى على طريقة شيء. ساعة، يوم، فصل، طقس، عام أو عدة أعوام — درجةٌ من الحرارة، كثافة، كثافاتٌ بالغة الاختلاف تتراكب — لها فردية مكتملة لا تختلط مع فردية شيءٍ أو ذات متشكِّلَين. «ما أفظع الساعة الخامسة مساءً!» ليست اللحظة، ولا الإيجاز ما يميز هذا النمط من الفردنة. الهذية يمكن أن تدوم قدرًا، وربما أكثر، من الزمن الضروري لنموِّ شكلٍ ولتطور ذات، لكنه ليس نفس النمط من الزمن: إنه زمن طاف، خطوط طافية لآيون Aiôn، في مقابل كرونوس Chronos.٧ الهذيات هي مجرد درجات من القوة تتركب معًا، تُناظرها قدرة على التأثير والتأثر، منفعلات موجبة أو سالبة، كثافات. في نزهتها، تمتد بطلة فيرجينيا وولف مثل نصل عبر كل الأشياء، ورغم ذلك تنظر من الخارج، ولديها انطباع أن من الخطر العيش ولو يومًا واحدًا («لن أعود أقول لنفسي أبدًا أنا هذا أو ذاك، هو هذا، هو ذاك …») لكن النزهة هي ذاتها هذية. الهذيات هي ما تعبر عنها أدوات وضمائر النكرة، لكنها ليست غير محددة، تعبر عنها أسماء الأعلام التي لا تشير إلى أشخاص، بل تحدد أحداثًا، تعبِّر عنها أفعال في صيغة المصدر ليست لا متمايزة، بل تشكِّل صيرورات أو سيرورات. الهذية هي التي تحتاج إلى هذا النوع من النطق. الهذية = الحدث. إنها مسألة حياة، أن تحيا بهذه الطريقة، وفق ذلك المستوى، أو بالأحرى على ذلك المستوى: «إنه خارجٌ عن القانون مثل الريح وبالغ السرية حول ما يفعله بالليل …» (شارلوت برونتي). من أين يأتي الكمال المطلق لهذه العبارة؟ أثارت مشاعر بيير شوفالييه هذه العبارة التي اكتشفها وتخترقه؛ هل ستكون قد تحركت مشاعره لو لم يكن هو ذاته هذية تخترق العبارة؟ لا يتحدَّد شيء، أو حيوان، أو شخص إلا بحركات وتوقفات، بسرعات وإبطاءات (خط الطول)، وبمنفعلات، بكثافات (خط العرض).٨ لم تعُد ثمة أشكال، بل علاقات سينمائية بين عناصر غير متشكلة؛ لم تعد ثمة ذوات، بل فردنات دينامية دون ذات، تشكل تجميعات جماعية. لا شيء يتطور، لكن الأشياء تصل متأخرة أو قبل موعدها، وتدخل في تجميعة طبقًا لتكوينات سرعتها. لا شيء يصبح ذاتيًّا، لكن الهذيات ترتسم طبقًا لتشكيلات القوى والمنفعلات اللاذاتية. خريطة السرعات والكثافات. لقد صادفنا بالفعل حكاية السرعات والإبطاءات هذه: وخاصيتها المشتركة هي أنها تنبت من المنتصف، أنها دائمًا في الما بين؛ تشترك في اللامحسوس، مثل البطء الهائل للمصارعين اليابانيين الضخام، وفجأة، إيماءة حاسمة من السرعة بحيث لا نكون قد رأيناها. السرعة ليست لها أية ميزة على البطء؛ الاثنان يعتصران الأعصاب، أو بالأحرى يدربانها ويمنحانها السيطرة. أنطوان. ماذا تعني فتاة شابة، أو مجموعة من الفتيات الشابات؟ يصفهن بروست باعتبارهنَّ علاقات متحركة من البطء والسرعة، ومن فردنات بالهذية، غير ذاتية.
إن هذا المستوى، الذي يتحدَّد فقط بخط الطول والعرض، هو الذي يتعارض مع مستوى التنظيم. إنه حقًّا مستوى محايثة؛ لأنه ليس له أيُّ بعدٍ إضافي بالنسبة لما يحدث فوقه: تتزايد أبعاده أو تتناقص مع ما يحدث، دون تهديد خاصية استوائه planitude (مستوًى له ن من الأبعاد). لم يعُد هذا مستوًى غائيًّا، ولا تصميمًا، بل مستوًى هندسيًّا، تخطيطًا مجردًا، مثل مقطع كل الأشكال أيًّا كانت، مهما كانت أبعادها: مستوًى في ذاته، أو مستوى الريزومة، أو مستوى السطح Planomène ou Rhizosphère, hypersphère. إنه مثل مستوًى ثابت، لكن «ثابت» لا تعني ساكنًا، بل تشير إلى الحالة المطلقة للحركة وكذلك للسكون، التي في علاقة معها تصبح كلُّ تغيرات السرعة النسبية قابلةً للإدراك هي ذاتها. ويتضمن هذا المستوى للمحايثة أو الاتساق ضبابات، وأوبئة، وفراغات، وقفزات، وسكونات، وتوقيفات، وتعجيلات. ولأن الإخفاق يشكِّل جزءًا من المستوى ذاته: يجب بالفعل إعادة تناول الأمر دائمًا، تناوله من المنتصف؛ لإعطاء العناصر علاقات جديدة للسرعة والبطء تجعلها تغير تجميعتها، تجعلها تقفز من تجميعة إلى الأخرى. ومن هنا كثرة المستويات فوق المستوى، والفراغات التي تشكِّل جزءًا من المستوى، مثل صمت يشكل جزءًا من المستوى الصوتي، دون أن نستطيع قول إن «ثمة شيء ناقص.» يتحدَّث بوليه Boulez عن «برمجة الآلة بحيث إنه في كل مرة يعاد فيها تشغيل شريط صوتي، تُعطي خصائص مختلفة للإيقاع.» ويتحدث كيج Cage عن ساعة ستعطي سرعات مختلفة. وقد دفع موسيقيون معاصرون معينون إلى أقصى حد الفكرة العملية لمستوى محايث لم يعُد له مبدأ تنظيم خفي، بل يجب فيه سماع السيرورة بنفس قدر سماع ما ينتج عنها، حيث لا يتم الاحتفاظ بالأشكال إلا من أجل تحرير تنويعات السرعة بين الجسيمات أو الجزيئات الصوتية، حيث لا يتم الاحتفاظ بالتيمات، والموتيفات، والذوات إلا من أجل تحرير منفعلات طافية. الطريقة الرائعة التي يعامل بها بوليه النغمة المميزة عند فاجنر. ولن يكفي هنا أن نعارض الشرقالغرب، مستوى المحايثة الذي يأتي من الشرق، ومستوى التنظيم المتعالي الذي كان دومًا داء الغرب: مثلًا الشعر أو الرسم الشرقيان، الفنون القتالية التي غالبًا ما تعمل جميعًا بواسطة الهذيات الخالصة، وتنبت من «المنتصف». ﻓ الغرب ذاته يتخلله هذا المستوى الهائل للمحايثة أو الاتساق، الذي يجرفُ الأشكالَ وينتزع منها مؤشرات السرعة، الذي يذوب الذوات ويستخلص منها هذيات لا يبقى سوى خطوط طول وخطوط عرض.
مستوى الاتساق، مستوى المحايثة، بهذه الطريقة بالفعل تصور سبينوزا المستوى ضد من يدعمون النظام والقانون، من الفلاسفة واللاهوتيين. وبهذه الطريقة بالفعل تصور ثالوث هولدرلين - كلايست - نيتشه الكتابة، الفن، وحتى السياسة الجديدة: لم يعُد تطورًا متناغمًا للشكل وتشكُّلًا جيد التنظيم للذات، مثلما أراده جوته، أو شيلر، أو هيجل، بل تتابعات من التخشُّبات والتسارعات المفرطة، من الترقبات والاندفاعات، من تعايشات السرعات المختلفة، من كتل الصيرورة، من القفزات فوق الفراغات، من إزاحات مركز الثقل على خطٍّ مجرد، اقترانات خطوط على مستوى محايثة، «سيرورة ساكنة» بسرعة مجنونة تُحرر جزيئات ومنفعلات. (سران لدى نيتشه: العود الأبدي باعتباره مستوًى ثابتًا يختار السرعات والإبطاءات المتغيرة دومًا لزرادشت؛ والقول المأثور، لا بوصفه كتابةً مجزأة، بل بوصفه تجميعة لا يمكن قراءتها مرتين، لا يمكن أن «تمر من جديد»، دون أن تتغير السرعات والإبطاءات بين عناصرها.) هذا كله، هذا المستوى كله هو الذي ليس له سوى اسم واحد؛ الرغبة، ولا علاقة له بالتأكيد بالنقص ولا «بالقانون». وكما يقول نيتشه، من ذا الذي سيودُّ أن يسمِّي هذا بالقانون؛ فالكلمة تُخلِّف مذاقًا أخلاقيًّا أكثر مما ينبغي؟
كنا نقول إذن شيئًا بسيطًا: الرغبة تخصُّ السرعات والإبطاءات بين جزيئات (خط الطول)، والمنفعلات والكثافات، والهذيات تحت درجات من القوة (خط العرض). مصاص دماء - ما - نوم - نهار - و- استيقاظ - ليل. هل تُدركون قدر بساطة الرغبة؟ النوم رغبة. التنزُّه رغبة. الاستماع إلى الموسيقى، أو عزف الموسيقى، أو الكتابة، هي رغبات. ربيعٌ ما، شتاء ما، هما رغبات. الشيخوخة أيضًا رغبة. والموت ذاته. الرغبة ليست بحاجةٍ أبدًا إلى تفسيرها، إنها هي ما يجرب. عندئذٍ تُثار ضدنا اعتراضات مثيرة للسخط. يقال لنا إننا نعود إلى عقيدة قديمة للرغبة، إلى مبدأ للرغبة، أو إلى مفهوم للمهرجان (ستصير الثورة مهرجانًا …). تتم معارضتنا بأولئك العاجزين عن النوم، سواء لأسباب داخلية، أو خارجية، وليس لديهم لا القدرة على النوم ولا الوقت له؛ أو بأولئك الذين ليس لديهم لا الوقت ولا الثقافة للاستماع إلى الموسيقى؛ ولا ملكة التنزُّه، ولا الدخول في حالة تخشب إلا في المستشفى؛ أو بأولئك المصابين بحالة شيخوخة، أو موت مرعبين، بكل مَن يعانون باختصار: أولئك ألا «ينقصهم» أي شيء؟ وفي المقام الأول، يُثار علينا الاعتراض بأننا بتخليصنا الرغبة من النقص ومن القانون، لم نعُد نستطيع سوى استحضار حالة طبيعة، رغبة ستكون واقعًا طبيعيًّا وتلقائيًّا. ونقول نحن على النقيض: لا وجود لرغبة إلا داخل تجميعة أو داخل آلة. لا يمكنكم إدراك أو تصور رغبة خارج تجميعة محدَّدة، فوق مستوًى لا يوجد مسبقًا، بل يجب بناؤه هو ذاته. الأمر المهم الوحيد هو أن يبني كل واحد، جماعةً كان أو فردًا، مستوى المحايثة الذي يسيِّر فوقه حياته ومشروعه. وخارج هذه الشروط، ينقصكم شيءٌ فعلًا، لكن تنقصكم على وجه الدقة الشروط التي تجعل الرغبة ممكنة. وتنظيمات الأشكال، وتشكلات الذوات (المستوى الآخر) «تنزع القوة» عن الرغبة: تُخضعها للقانون، وتُدخل فيها النقص. إذا أوثقتم أحدًا، وقلتم له «عبِّر عن نفسك، يا رفيق»، فإن أقصى ما يمكنه قوله إنه لا يريد أن يكون موثقًا. تلك، دون شك، هي التلقائية الوحيدة للرغبة: ألَّا تريد أن تكون مقموعة، مستغلة، مستعبدة، مقهورة، لكن لم تُصنع رغبة أبدًا بواسطة ضروب اللاإرادة. ألَّا يريد المرء أن يُستعبد هي قضية فارغة. وبالمقابل، تعبر كل تجميعة وتصنع رغبة ببناء المستوى الذي يجعلها ممكنة، وبجعلها ممكنةً، يفعلها. الرغبة ليست قاصرةً على المحظوظين؛ كما أنها ليست قاصرةً على نجاح ثورة بعد صنعها. إنها في ذاتها سيرورة ثورية محايثة. إنها بنائية، وليست تلقائية على الإطلاق. ولما كانت كل تجميعة جماعية، هي ذاتها جماعة، فمن الصحيح حقًّا أن كل رغبة هي مسألة شعب، مسألة جماهير، مسألة جزيئية.
إننا لا نؤمن حتى بغرائز داخلية قد تُلهم الرغبة؛ فمستوى المحايثة لا علاقة له بداخلية، إنه مثل الخارج الذي تأتي منه كل رغبة. وحين نسمع الحديث عن شيء مثير للسخرية مثل غريزة الموت المزعومة، يتولَّد لدينا انطباع بمسرح أشباح، إيروس وتاناتوس. نحتاج إلى أن نسأل: هل سيكون ثمة تجميعةٌ ملتويةٌ بما يكفي، فظيعة بما يكفي لأن يكون المنطوق «يحيا الموت» جزءًا منها على وجه الدقة، ولأن يكون الموت هو ذاته مرغوبًا؟ أم أن هذا نقيض تجميعة، انهيارها، إفلاسها؟ يجب وصف التجميعة التي تصبح فيها تلك الرغبة ممكنة، تحتشد وتعلن عن نفسها، لكننا لن نشير أبدًا إلى دوافع قد تحيل إلى ثوابت بنيوية، أو إلى متغيرات توليدية. فموية، شرجية، تناسلية … إلخ. بل نسأل في كل مرة في أية تجميعات تدخل هذه المكونات: لا نسأل عن أية دوافع تناظرها، ولا عن أية ذكريات أو تثبيتات تدين لها بتفوقها، ولا إلى أية حوادث تحيل، بل مع أية عناصر خارجية تتركب كي تصنع رغبة؛ كي تصنع الرغبة. الأمر هكذا بالفعل عند الطفل الذي يُميكِن رغبته مع الخارج، مع غزو الخارج، لا ضمن حالات داخلية، ولا تحت بنيات متعالية. مرة أخرى هانس الصغير: هناك الشارع، والحصان، وعربة الأمنيبوس، والأبوان، والبروفيسور فرويد شخصيًّا، و«التبول fait-pipi» الذي ليس عضوًا ولا وظيفة، بل أداء آلاتيًّا، قطعة من الآلة. هناك سرعات وإبطاءات، منفعلات وهذيات: حصان يوم الشارع. ليس ثمة سوى سياسات للتجميعات، حتى عند الطفل؛ بهذا المعنى كل شيء سياسي. ليس ثمة سوى برامج، أو بالأحرى رسوم بيانية، أو مستويات، وليس ذكريات ولا حتى استيهامات. ليس ثمة سوى صيرورات وكتل، كتل طفولة، كتل أنوثة، كتل حيوانية، كتل صيرورات راهنة، ولا شيء ذاكراتي، أو متخيل أو رمزي. لم تعد الرغبة رمزيةً أكثر من كونها مجازية، لم تعُد مدلولة أكثر من كونها دالة: إنها مصنوعة من خطوط مختلفة تتقاطع، وتتضافر، أو تعوق بعضها، وتشكِّل هذه التجميعة أو تلك على مستوى محايثة، لكن المستوى لا يوجد مسبقًا على هذه التجميعات التي تشكِّله، على هذه الخطوط المجردة التي ترسمه. ويمكننا دومًا أن نطلق عليه مستوى الطبيعة، لنشدد على محايثته، لكن التفرقة طبيعة-اصطناع هي التي لا تصلح هنا على الإطلاق. فما من رغبة لا تجعل مستويات عديدة تتواجد معًا، ويمكن القول إن بعضها طبيعية بالنسبة لأخرى، لكنها طبيعة يجب تشييدها بكل اصطناعات مستوى المحايثة. تتضمن تجميعة الإقطاع بين عناصرها «حصان - ركاب - رمح». والوضع الطبيعي للفارس، الطريقة الطبيعية للإمساك بالرمح تعتمد على تكافل جديد إنسان-حيوان يجعل من الركاب أكثر الأشياء طبيعية في العالم، ومن الحصان الشيء الأكثر اصطناعية. لا تنتج عن ذلك أشكال الرغبة؛ فقد كانت ترسم التجميعة بالفعل، ترسم منظومة العناصر التي تحتفظ بها التجميعة أو تخلقها، السيدة بنفس قدر الحصان، والفارس الذي ينام بنفس قدر السعي التائه بحثًا عن الكأس المقدسة  Graal.
نقول إنه توجد تجميعة للرغبة في كل مرة تنتج فوق مجال محايثة أو مستوى اتساق، متصلات كثافات، واقترانات تدفقات، وانبعاثات جزيئات بسرعات متفاوتة. يتحدَّث جاتاري عن تجميعة-شومان. فما هي هذه التجميعة الموسيقية التي تتحدَّد باسم علَم؟ ما هي أبعاد مثل تلك التجميعة؟ هناك العلاقة مع كلارا، امرأة - طفل - عازف كمان، خط كلارا. وهناك الآلة اليدوية الصغيرة التي يصنعها شومان لربط الإصبع الوسطى، وضمان استقلال الإصبع الرابعة. وهناك الريتورنيللو [نغمة القرار]، نغمات الريتورنيللو الصغيرة التي تطارد شومان، وتتخلل كل عمله، مثل العديد من كتل الطفولة، مشروعٌ كامل منسق من الالتفاف، والتعقُّل، وإفقار التيمة أو الشكل. وهناك أيضًا هذا الاستخدام للبيانو، هذه الحركة لنزع التوطين التي تجرف الريتورنيللو («نبتت لطفل أجنحة») على خط نغمي، في تجميعة بوليفونية أصيلة قادرة على إنتاج علاقات دينامية، ومنفعلاتية للسرعة أو للبطء، للتقدم أو للتأخر، بالغة التعقيد، بدءًا من شكل بسيط أو مبسط؛ من حيث تكوينه الداخلي. وهناك الإنترمتزو l’intermezzo [الفاصل]، أو أنه لا يوجد بالأحرى سوى إنترمتزي intermezzi [فواصل] عند شومان، تجعل الموسيقى تمر في المنتصف، وتمنع المستوى الصوتي من الانكفاء تحت قانون للتنظيم أو للتطور.٩ كل هذا يقترن في التجميعة المؤسسة للرغبة. الرغبة ذاتها هي ما يمر ويتحرك. لا حاجة لأن تكون شومان. استمع إلى شومان. وبالعكس ما الذي يجري حتى تترنح كل التجميعة: الآلة اليدوية الصغيرة تؤدِّي إلى شلل الإصبع، ثم إلى الصيرورة-مجنونًا لشومان … إننا نقول فحسب إن الرغبة لا تنفصم عن مستوى اتساق يجب في كل مرة إنشاؤه قطعةً قطعة، وعن تجميعات فوق هذا المستوى، ومتصلات، وتمفصلات، وانبعاثات. دون نقص، لكن بالتأكيد ليس دون مخاطرة ولا خطر. يقول فيليكس إن الرغبة هي ريتورنيللو. لكن الأمر معقد جدًّا بالفعل: لأن الريتورنيللو هو نوع من الموطنية الصوتية، الطفل الذي يطمئن نفسه حين يخاف في الظلام، «آهٍ، هل سأقول لكم ماما [ماما، زمانها جاية …]» (ولقد أساء التحليل النفسي بشدة فهم التعبير الشهير «فورت-دا Fort-Da» حين رأى فيه تعارضًا من نمط فونولوجي بدل أن يجد فيه الريتورنيللو)، لكن كذلك فإن كل حركة نزع التوطين هي التي تستحوذ على شكل وعلى ذات تستخلص منهما سرعات متباينة وانفعالات طافية، ثم تبدأ الموسيقى. ما يهم في الرغبة، ليس البديل الزائف قانون-تلقائية، طبيعة-اصطناع، إنه التفاعل المتبادل للموطنيات، وعمليات إعادة التوطين وحركات نزع التوطين.
عند حديثنا عن الرغبة، لم نكن نفكر في اللذة ومهرجاناتها. اللذة مستحبة بالتأكيد، وبالتأكيد نميل صوبها بكل قوانا، لكنها حتى في شكلها الأكثر جاذبية أو الأكثر ضرورية، تأتي بالأحرى لقطع سيرورة الرغبة بوصفها تأسيسًا لمجال محايثة. ما من شيء أكثر دلالة من فكرة لذة-إفراغ؛ بعد حصولنا على اللذة، سيتاح لنا قليل من الهدوء على الأقل قبل أن تولد الرغبة من جديد: هناك الكثير من الكراهية، أو الخوف بصدد الرغبة، في عقيدة اللذة. اللذة هي تحديد المنفعل، الانفعال تجاه شخص أو ذات، إنها الوسيلة الوحيدة المتاحة لشخص كي «يجد نفسه» في سيرورة الرغبة التي تتجاوزه، واللذات حتى أكثرها اصطناعية، أو أشدها بعثًا للدوار، لا يمكنها أن تكون سوى إعادة توطين. وإذا لم تكن اللذة معيار الرغبة، فليس ذلك راجعًا إلى نقصٍ داخلي سيكون ملؤه مستحيلًا، بل على العكس بفضل إيجابيتها، أي بفضل مستوى الاتساق الذي ترسمه خلال سيرورتها. إنه نفس الخطأ ذلك الذي يربط الرغبة ﺑ قانون النقص وﺑ معيار اللذة. حين يواصل المرء ربط الرغبة باللذة، بلذة يجب الحصول عليها، فإنه يتبين في نفس اللحظة أن شيئًا ما ينقصه بصورة جوهرية. إلى حد أننا، كي نكسر هذه التحالفات الجاهزة بين الرغبة – اللذة – النقص، نكون مجبرين على الانعطاف خلال اصطناعات غريبة، مع الكثير من الالتباس. والمثال على ذلك، هو حب البلاط، الذي هو تجميعة للرغبة مرتبطة في النهاية بالإقطاع. إن تحديد تاريخ تجميعة، لا يعني صنع التاريخ، بل إعطاءها إحداثياتها للتعبير والمضمون، أسماء الأعلام، صيغ المصدر؛ الصيرورات، الأدوات، الهذيات. (أم أن هذا هو صنع التاريخ؟) من المعروف جيدًا أن حب البلاط يتضمَّن اختبارات تُبعد اللذة، أو على الأقل تُبعد انتهاء الجماع. هذه بالتأكيد ليست وسيلةً للحرمان. إنها تأسيس مجالٍ للمحايثة، حيث تبني الرغبة مستواها الخاص، ولا ينقصها شيء، بنفس القدر الذي تسمح به بأن يقطعها إفراغ سيشهد بأنها أثقل من أن تحتمل. حب البلاط له عدوان يختلطان: التعالي الديني للنقص، والقطع اللَّذِّي الذي يقحم اللذة باعتبارها إفراغًا. إنه السيرورة المحايثة للرغبة التي تمتلئ بذاتها، إنه متصل الكثافات، اقتران التدفقات، الذي يحل محل كلٍّ من السلطة-القانون، والانقطاع-اللذة. سيرورة الرغبة تُسمَّى «متعة»، لا نقصًا ولا طلبًا. كل شيء مسموح، باستثناء ما قد يأتي ليقطع السيرورة المكتملة للرغبة، التجميعة. لا يجب القول إن الأمر يتعلق بالطبيعة؛ إذ يجب على العكس، الكثير من الاصطناع من أجل تحاشي النقص الداخلي، والمتعالي الأرقى والخارج الظاهري. هل هذا زهد، ولمَ لا؟ كان الزهد دومًا شرط الرغبة، وليس انضباطها أو حظرها. دائمًا ما تجدون زهدًا إذا فكرتم في الرغبة. لقد توجَّب «تاريخيًّا» أن يكون مجال محايثة معين ممكنًا في لحظة معينة، وفي مكان معين. لم يصبح الحب الفروسي بالمعنى المحدَّد ممكنًا إلا عندما اتحد تدفقان، الحربي والشبقي، بمعنى أن تمنح البسالةُ الحقَّ في الحب. إلا أن حب البلاط تطلب عتبة جديدة أصبحت فيها البسالة هي ذاتها داخلية في الحب، وأصبح الحب يتضمن الاختبار.١٠ سيقال نفس الشيء، في شروط أخرى، عن التجميعة المازوخية: فتنظيم الإهانات والآلام يبدو هنا كوسيلة لتجنب القلق، والتوصل بذلك إلى لذة يُفترض أنها محظورة، أقل مما يبدو كعملية ملتوية بوجه خاص، لتأسيس جسد دون أعضاء وتطوير سيرورة متصلة للرغبة ستقطعها اللذة، على العكس.
لا نعتقد عمومًا أن الجنسانية sexualité لها دور بنية تحتية في تجميعات الرغبة، ولا أنها تُشكِّل طاقة قادرة على التحويل، أو التحييد أو التسامي. لا يمكن التفكير في الجنسانية إلا باعتبارها تدفقًا بين تدفُّقات أخرى، تدخل في اقترانات مع تدفقات أخرى، وتبعث جزيئات تدخل هي ذاتها في ظل هذه العلاقة أو تلك للسرعة والبطء في تجاور مع جزيئات أخرى. لا يمكن توصيفُ أي تجميعة وفق تدفق حصري. يا لها من فكرة تعيسة عن الحب؛ جعله علاقةً بين شخصَين! يجب التغلب على رتابتها عند الحاجة بإضافة أشخاص إضافيين آخرين. ولا يكون الأمر أفضل حين يفكر المرء في مغادرة مجال الأشخاص، ويختزل الجنسانية في بناء آلات صغيرة منحرفة أو سادية تحصر الجنسانية في مسرح أوهام: ينبعث من هذا كله شيء قذر أو عفن، مفرط العاطفية في الحقيقة، ومفرط النرجسية، مثلما حين يأخذ تدفق في الدوران حول نفسه، ويأسن. لهذه الأسباب توجَّب علينا التخلي عن كلمة فيليكس الجميلة «الآلات الراغبة». سؤال الجنسانية هو: مع ماذا غيرها تدخل في تجاور كي تشكِّل هذه الهذية أو تلك، علاقات الحركة والسكون الخاصة تلك؟ ستظل بالأحرى جنسانية، جنسانية خالصة وبسيطة، بعيدة عن كل تسامٍ مثالي الطابع، طالما اقترنت مع تدفقات أخرى ستصبح بالأحرى جنسانية لذاتها، ابتكارية، مفتونة، دون استيهام يدور في حلقة مفرغة ولا إضفاء للمثالية يقفز في الهواء: ليس سوى المستمني من يصنع استيهامات. والتحليل النفسي هو بالضبط استمناء، نزعة نرجسية معممة، ومنظمة، ومُشفَّرة. لا تترك الجنسانية نفسها للتسامي، ولا الاستيهام؛ لأن أمرها يجري في مكان آخر، في التجاور والاقتران الواقعيين مع تدفقات أخرى، تجعلها تنضب أو تتسارع — كل شيء يعتمد على اللحظة، وعلى التجميعة. ولا يجري هذا التجاور أو الاقتران من إحدى «الذاتَين» إلى الأخرى؛ ففي كل واحدة من الاثنتَين تقترن تدفقاتٌ عديدة، لتشكِّل كتلة صيرورة تحملهما كليهما، صيرورة-موسيقى لدى كلارا، وصيرورة-امرأة أو طفل لدى شومان. ليس الرجل والمرأة بوصفهما كيانَين جنسيَّين، محصورَين داخل جهاز ثنائي، بل صيرورة جزيئية، مولد امرأة جزيئية داخل الموسيقى، مولد صوتية جزيئية داخل امرأة. «تتغير العلاقات بين زوجَين حقيقيَّين بعمق عبر السنين، عادةً دون أن يدركا شيئًا عن ذلك؛ ولو كان كل تغير عناءً، حتى لو سبب بهجة معينة … مع كل تغير يظهر كائن جديد، يستقر إيقاع جديد … والجنس هو شيء متغير، تارةً حي، وتارة ساكن، تارةً ملتهب، وتارة ميت …»١١ إننا مركبون من خطوط متباينة في كل لحظة، قابلة لتوافق بأشكال مختلفة، من حزم من الخطوط، خطوط طول وخطوط عرض، خطوط مدارية، وخطوط زوال … إلخ. ليس هناك تدفق-أحادي. وتحليل اللاوعي يجب أن يكون جغرافيًّا بدل أن يكون تاريخًا. أية خطوط تبدو مغلقة، متكلسة، مسورة، مسدودة، واقعة في ثقب أسود، أو ناضبة، وأية خطوط غيرها نشطة أو حية يفلت من خلالها شيء ويحملنا؟ هانس الصغير من جديد كيف تم قطع خط المبنى، والجيران عنه؟ كيف تطورت الشجرة الأوديبية؟ ما الدور الذي لعبته تفريعة البروفيسور فرويد؟ لماذا اضطر الطفل إلى اللجوء فوق خط الصيرورة-حصانًا … إلخ؟ لم يتوقف التحليل النفسي عن مطاردة دروب أبوية وعائلية، ولا يجب لومه على أنه اختار تفريعة بدل أخرى، بل على أنه جعل تلك التفريعة مسدودةً، على أنه اخترع شروط نطقٍ سحقت مقدمًا المنطوقات الجديدة التي كان يثيرها رغم ذلك. يجب أن نبلغ النقطة التي نستطيع عندها القول: أبوك، أمك، جدتك، كل شيء جيد، حتى اسم الأب، كلُّ مدخل جيد، من اللحظة التي تكون عندها المخارج متعدِّدة، لكن التحليل النفسي صنع كل شيء، باستثناء المخارج. «خطوط سككنا الحديدية يمكنها أن تقودنا إلى أي مكان على الإطلاق. وإذا صادفنا أحيانًا تفريعة سكك حديد عتيقة من زمن جدَّتي، حسن جدًّا، سنأخذها لنرى إلى أين تقودنا. واعتقادي أننا في عام أو آخر، سينتهي بنا الأمر بأن نهبط المسيسيبي في قارب، لقد تمنيت ذلك منذ زمن بعيد. أمامنا الكثير من الطرق، تملأ زمن حياة كاملة أود أن أكرسها لتحقيق رحلتنا.»١٢
١  E. A. Bennett, Ce que Jung a vraiment dit, éd. Stock, p. 80.
٢  Serge Leclaire, Démasquer le réel, éd. du Seuil, p. 35.
٣  راجع الحالة الشهيرة للرئيس شريبير، والحكم الذي يمنحه حقوقه. [الإشارة إلى مقال فرويد، «ملاحظات تحليلية-نفسية عن تقرير أوتوبيوجرافي لحالة بارانويا»].
٤  Cf. Robert Castel, Le Psychanalysme, éd. de Minuit.
٥  Cf. un curieux texte de J. A. Miller, in “Ornicar” no. 1.
٦  Jacques Donzelot, La Police des familles (ed. de Minuit.)، يبين أن التحليل النفسي نشأ عن العلاقة الخاصة، وربما اخترق القطاع «الاجتماعي» في وقتٍ أسبق كثيرًا عما هو معتقد.
٧  يمثِّل كرونوس حاضر الأجساد والعلل، بينما يمثل آيون الزمن الذي يحصد الأحداث والتأثيرات السطحية، الصيرورات. لكرونوس زمن واحد، هو «الحاضر الحي»، فيما يملك آيون زمنَين، الماضي والمستقبل. مما يعني أنه لا جسماني، ولا محدود، وقابل للانقسام إلى ما لا نهاية.
٨  L’heccéité - وكذلك خط الطول، وخط العرض، هي مقولات بالغة الجمال من العصر الوسيط، دفع لاهوتيون، وفلاسفة، وفيزيائيون تحليلها إلى أبعد مدًى. ونحن ندين لهم بكل شيء في هذا الصدد، فيما نستخدم هذه المقولات بمعنًى مختلف.
[هامش المترجم للطبعة الإنجليزية: hecceity هو اصطلاح من الفلسفة الاسكولائية: يترجم أحيانًا باعتباره thisness. وقد اقترح البروفيسور دولوز الهامش التالي كتوضيح للمصطلح: «Haeceitas» هو مصطلح كثير الاستخدام في مدرسة دونس سكوتوس (دون سكوت)، ليُشير إلى فردنة الكائنات. ويستخدمه دولوز بمعنًى أشد خصوصية: بمعنى فردنة ليست فردنةً لموضوع، ولا لشخص، بل بالأحرى لحدث (ريح، نهر، يوم أو حتى ساعة من اليوم). وأطروحة دولوز هي أن كل فردنة هي في الحقيقة من هذا النمط. وهذه هي الأطروحة التي جرى تطويرها في ألف مسطح مع فيليكس جاتاري.]
٩  Cf. l’article de Roland Barthes sur Schumann, Rasch, in “Langue, discours, société”, éd. du Seuil, p. 218 sq.
١٠  René Nelli, dans L’Erotique des troubadours (10/18)،
يحلل بطريقة جيدة جدًّا هذا المستوى للمحايثة لحب البلاط، بقدر ما يطعن في الانقطاعات التي تدخلها فيه اللذة، وفي تجميعة مختلفة تمامًا، يجد المرء منطوقات وتقنيات مشابهة في الطاوية؛ من أجل إقامة مستوى محايثة للرغبة.
(cf. Van Gulik, La Vie sexuelle dans la Chine ancienne, éd. Gallimard, et les commentaires de J.-F. Lyotard, Economie libidinale, éd. de Minuit).
١١  Lawrence, Eros et les chiens, éd. Bourgois, p. 290.
١٢  Bradbury, Les Machines à bonheur, éd. Denoël, p. 66.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥