القسم الثاني
إساءاتُ التفسير الثلاثة بصدد الرغبة هي: وضعها في علاقة مع
النقص أو القانون؛ في علاقة مع واقع طبيعي أو تلقائي؛ في علاقة مع
اللذة، أو بالأخص مع المهرجان. الرغبة دائمًا مجمعة
agencé، ومصنوعة آليًّا
machiné، فوق مستوى
محايثة أو تركيب، يجب بناؤه هو نفسه في نفس الوقت الذي تُجمع
فيه الرغبة وتَصنَعُ آليًّا. لا نود الاكتفاء بالقول بأن
الرغبة محددة تاريخيًّا؛ فالتحديد التاريخي يستدعي هيئةً بنيويةً
تلعب دور القانون، أو العلة، اللذَين ستولد منهما الرغبة.
بينما الرغبة هي العامل الفعلي، الذي يختلط في كل مرة
بمتغيرات تجميعة معينة. ليس النقص ولا الحرمان هو ما يبعث
الرغبة، والمرء لا يستشعر النقص إلا بالنسبة لتجميعة يجري
استبعاده منها، لكنه لا يرغب إلا كدالة لتجميعة يكون مندرجًا
فيها (حتى لو كانت جمعية لقطع الطريق، أو التمرد).
الآلة النزعة الآلاتية
machinisme، «الآلاتي
machinique»: ليس هذا
ميكانيكيًّا ولا عضويًّا. الميكانيكا هي نسق من الارتباطات
الأقرب أكثر فأكثر بين أطراف تعتمد على غيرها. أما الآلة فعلى
النقيض؛ فهي مجموع من «التجاورات» بين أطراف متنافرة ومستقلة
(التجاور الطوبولوجي هو ذاته مستقلٌّ عن المسافة أو التماس).
وما يعرف تجميعة آلاتية، هو إزاحة مركز ثقل فوق خط مجرد.
ومثلما في عروسة ماريونيت كلايست، فإن هذه الإزاحة هي التي
تولِّد الخطوط أو الحركات العينية. قد يجري الاعتراض بأن
الآلة، بهذا المعنى، تُحيلُ إلى وحدة عامل تشغيل، لكن هذا ليس
حقيقيًّا؛ فعامل التشغيل حاضر داخل الآلة «داخل مركز الثقل»، أو
بالأحرى مركز السرعة الذي يمر خلالها؛ لذا لا يجدي القول بأن
حركات معينة مستحيلة على الآلة؛ لأنها، على النقيض، حركات
تقوم بها تلك الآلة لأن إنسانًا يشكِّل قطعة منها. هكذا هي
الآلة التي يكون أحد تروسها راقصًا: لا يجب القول بأن الآلة
لا يمكنها القيام بتلك الحركة التي يمكن للإنسان وحده القيام
بها، بل على العكس، أن الإنسان لا يمكنه القيام بتلك الحركة
إلا بوصفه قطعة من تلك الآلة. الإيماءة القادمة من الشرق تفترض آلة آسيوية. الآلة
منظومة للتجاور إنسان - أداة - حيوان - شيء. ولها الأسبقية
عليهم؛ لأنها هي الخط المجرد الذي يخترقهم، ويجعلهم يعملون
معًا. تمتطي الآلة دائمًا صهوة عدة بنيات، مثلما في تكوينات
تينجلي Tinguely. الآلة، في
تطلبها لتنافر التجاورات، تتجاوز البنيات بشروطها الدنيا
للتجانس. هناك دائمًا آلة اجتماعية لها الأسبقية على البشر
والحيوانات الذين تدخلهم في «سلالتها
phylum».
يبيِّن تاريخُ التقنية أن الأداة لا قيمة لها، خارج التجميعة
الآلاتية المتغيرة التي تمنحها علاقة التجاور تلك مع الإنسان،
والحيوانات، والأشياء: كان لأسلحة المشاة الثقيلة [هوبليت
hoplites] عند الإغريق
وجود سابق على التجميعة الهوبليتية، لكنها لم تكن تستخدم
بنفس الطريقة على الإطلاق، وليس الركاب نفس الأداة حسب ما
إذا كان في علاقة مع آلة حرب بدوية، أم مأخوذًا على العكس
داخل الآلة الإقطاعية. الآلة هي التي تصنع الأداة، وليس العكس.
والخط التطوري الذي يمضي من الإنسان إلى الأداة ومن الأداة
إلى الآلة التقنية، هو خطٌّ خيالي تمامًا. الآلة اجتماعية في
معناها الأول، وهي أولية بالنسبة للبنيات التي تعبرها،
وللبشر الذين تستخدمهم، والأدوات التي تختارها والتقنيات
التي تطورها.
ونفس الشيء مع الكيان العضوي؛ فمثلما تفترض الميكانيكا
آلةً اجتماعية، يفترض الكيان العضوي هو ذاته جسدًا دون أعضاء، يتحدَّد
بخطوطه، ومحاوره، ودرجات ميله، بأداء آلاتي كامل مختلف
عن الوظائف العضوية، مثلما عن العلاقات الميكانيكية.
البيضة الكثيفة، التي ليست أمومية على الإطلاق، لكنها
معاصرة دومًا لتنظيمنا، كامنة تحت تطورنا. آلات مجردة أو
أجساد دون أعضاء، إنها الرغبة. هناك أنواع عديدة منها،
لكنها تتحدد بما يمر فوقها، داخلها متصلات الكثافات، كتل
الصيرورة، انبعاثات الجزيئات، اقترانات التدفقات.
هذه المتغيرات (أي متصلات
continuums؟ أي صيرورات،
أي جزيئات، أي تدفقات، أي أنماط للانبعاثات وللاقترانات؟) هي
التي تُحدِّد «أنظمة العلامات». ليس النظام هو الذي يحيل إلى
علامات، بل إن العلامة هي التي تحيل إلى ذلك النظام. من
المشكوك فيه تمامًا، من ثم، أن تكشف العلامة عن أولوية الدلالة
أو الدال. بل إن الدال بالأحرى هو ما يحيل إلى نظام خاص من
العلامات، ليس هو دون شك الأكثر أهمية ولا الأكثر انفتاحًا. لا
يمكن للسيميولوجيا أن تكون سوى دراسة للأنظمة، لاختلافاتها
وتحولاتها. لا تُحيل العلامة إلى شيء نوعي، بل إلى أنظمة
تدخل فيها متغيرات الرغبة.
فلنأخذ مثالَين من لا نهائية الأنظمة الممكنة. يمكن تصور
مركز باعتباره قوةً باطنية التولد، داخلية في الآلة، تتطور
بالإشعاع الدائري في كل الاتجاهات، وتأخذ كل شيء داخل
شبكتها، ميكانيكي يقفز باستمرار من نقطة إلى أخرى، ومن دائرة
إلى أخرى. هذا إذن تحدُّد نظامٍ لا تكف فيه «العلامة» عن
الإحالة إلى علامة، على كل دائرة ومن دائرة إلى أخرى، بحيث
يحيل مجموع العلامات هو ذاته إلى دالٍّ متحرك أو إلى مركز
دلالة؛ ولا يكف فيه التفسير، تعيين المدلول، عن إعادة توليد
دال، كأنما لإعادة شحن النسق والتغلب على فقدان الطاقة
[الإنتروبيا l’entropie].
سيكون لدينا مجموع من الكثافات والتدفقات يرسم «خريطة» خاصة:
في المركز المستبد أو
الرب بمعبده أو داره،
ووجهه كوجه معروض مرئي
من الأمام، ثقب أسود فوق جدار أبيض، ثم النظام الإشعاعي
للدوائر، ببيروقراطية كاملة تنظم العلاقات والانتقالات من
دائرة إلى الأخرى (القصر، الشارع، القرية، الريف، الدغل،
الحدود)؛ والدور الخاص للكاهن، الذي يعمل كمفسر أو كعراف؛ وخط
الهروب للنسق الذي يجب إعاقته، وطرده، ووسمه بعلامة سلبية،
واحتلاله بنوع من كبش الفداء، صورة معكوسة للمستبد، يكون
دورها أن تجرف دوريًّا كل ما يهدِّد أو يعرقل أداء الآلة. يبدو
أن خط الجاذبية متنقل، وأن المركز الذي يجتازه «الميكانيكي»
لا يكف عن القفز من نقطة إلى أخرى، من وجه الرب إلى كبش
الفداء الذي دون وجه، مرورًا بالكتبة، والكهنة والرعايا. ها هو
نسق يمكن تسميته دالًّا؛ لكنه دالة لنظام خاص من العلامات
بقدر ما يعبر عن حالة التدفقات والكثافات.
لنأخذ الآن نظامًا آخر. لن نعود نتصور تزامنًا من الدوائر في
اتساع لا متناهٍ، حول مركز، بحيث تحيل كلُّ علامة إلى علامات
أخرى، ويحيل مجموع العلامات إلى دال. نتصوَّر حزمة صغيرة من
العلامات، كتلة صغيرة من العلامات، تنساب فوق خط مستقيم لا
متناهٍ، وتُحدد فوقه تتابعًا من السيرورات، من الأجزاء
المتناهية، لكلٍّ منها بداية ونهاية. هذا شيء مختلف جدًّا، إنها
آلة أخرى تمامًا. فبدل قوة باطنية التولُّد تغمر الكل، يوجد حدث
خارجي حاسم، علاقة مع الخارج تُعبِّر عن نفسها كعاطفة وليس
كفكرة، كمجهود أو فعل وليس كتخيل. بدل مركز دلالة توجد نقطة
اكتساب للذاتية تقدم نقطة بدء الخط، وفي علاقة معها تتأسس
ذات للنطق، ثم ذات للمنطوق، ولو كان ذلك يعني أن يعيد المنطوقُ توليد
النطق من جديد. هذه آلية بالغة الاختلاف عن الآلية التي أعاد
بها المدلول إنتاج دال: هذه المرة، تشير نهاية سيرورة إلى
بداية أخرى، في تتابع خطي. بدل التقسيم الدائري للتزامن يحل
تقسيمٌ خطي للتتابع. لقد غيَّر الوجه أداءه بشكل فريد: لم يعد
الوجه المستبد مرئيًّا من الأمام، بل الوجه التسلطي الذي يشيح
ويظهر جانبيًّا. إنها إشاحة مزدوجة كما قال هولدرلين عن أوديب:
الرب، وقد صار
نقطة اكتساب للذاتية،
لا يكفُّ عن الإشاحة عن رعيته، الذي لا يكفُّ هو أيضًا عن الإشاحة
عن ربه. تصطف الوجوه،
وتُشيح، وتستدير جانبيًّا. هنا تحلُّ الخيانة محل الخداع كان
النظامُ الدال اقتصادًا للخداع، بما في ذلك وجه المستبد،
وعمليات الكاتب، وتفسيرات العراف، لكن الآن يأخذ التآمر معنى
الخيانة؛ إذ بإشاحتي عن الرب الذي يشيح عني، سأنجز المهمة الذاتية
للرب، وكذلك المهمة
الإلهية لذاتيتي. لقد حلَّ النبي، رجل الإشاحة المزدوجة، محل
الكاهن، المفسر أو العراف. وغير خط الهروب قيمته تمامًا؛ فبدل
أن يكون موسومًا بعلامة سلبية تشير إلى كبش الفداء، اتخذ خط
الهروب قيمة علامة إيجابية، واختلط بجاذبية أو سرعة الآلة،
لكنه ليس أقل انكسارًا، وتجزُّؤًا في تتابع من العمليات
المتناهية التي تسقط، كل مرة، في ثقب أسود. هنا إذن نظام آخر
للعلامات، مثل خرائطية مختلفة: نظام وجداني أو ذاتي، بالغ
الاختلاف عن النظام الدال.
إذا اكتفى المرء الآن بهذَين النظامَين، فإنه يتساءل إلى
ماذا يُحيلان. حسنًا، إنهما يحيلان إلى أي شيء، إلى حقب وبيئات
بالغة الاختلاف. يمكنهما أن يُحيلا إلى تشكيلات اجتماعية، إلى
أحداث تاريخية، لكن أيضًا إلى تشكلات مرضية، إلى أنماط
سيكولوجية، إلى أعمال فنية … إلخ. دون أن يكون ثمة مجال مطلقًا
لإجراء أدنى اختزال عليها. لتكن مثلًا تشكيلات اجتماعية معينة:
لنأخذ من جديد مصطلحَي روبير جولان Robert
Jaulin، العبراني والفرعون. يبدو لنا أن
الفرعون ينتمي إلى آلة دالة بصورة رفيعة، وإلى نظام استبدادي
ينظم الكثافات والتدفقات، وفق النمط الدائري الإشعاعي الذي
حاولنا تعريفه. أما العبراني على العكس فقد فقد المعبد،
وينطلق في خط هروب يضفي عليه أسمى قيمة إيجابية؛ لكنه يُجزئ
هذا الخط إلى سلسلة من «السيرورات» السلطوية المتناهية. إنه
تابوت العهد l’Arche الذي لم يعُد أكثر من
حزمة صغيرة من العلامات التي تمر فوق خط صحراوي، فيما بين الأرض والمياه، بدل أن
يكون المعبد المركزي
الثابت والحاضر في كل مكان في هارمونية العناصر. كبش الفداء
هو الذي يصبح الشكل الأشد كثافة — سنصبح نحن الكبش والحمل،
بعد أن أصبح الرب هو الحيوان المضحَّى به: «ليسقط علينا الشر
من جديد.» يتمسك موسى بالسيرورة، أو بالمطالبة المفرطة الثقل، التي يجب إعادة
اقتيادها وإعادة توزيعها في أجزاء متتالية، عقد-سيرورة
قابل دومًا للنقض. إنها الإشاحة المزدوجة الخطية التي تفرض
نفسها، مثل الشكل الجديد الذي يربط الرب بشعبه، الرب بنبيه
(وقد أوضح جيروم هذا بشأن يونس؛ وهذا هو أيضًا بالفعل ما
تعنيه علامة قابيل، وهذا ما ستكونه أيضًا علامة المسيح.)
العاطفة، اكتساب الذاتية.
فلنفكر إذن في شيء مختلف تمامًا، في مجال مختلف تمامًا: كيف
يظهر، في القرن التاسع عشر، تمييز بين نمطَين كبيرَين من
الهذيان؟ من جهة، الهذيان الذهاني
Paranoïaque والتفسيري،
الذي ينطلق من قوة باطنية التوليد مثل مركز للدلالة، ويشع في
كل الاتجاهات، محيلًا دائمًا علامة إلى علامة أخرى، ومحيلًا
مجموع العلامات إلى دال مركزي (مستبد، قضيب، إخصاء، مع كل
القفزات، كل التحولات، من السيد الخاصي إلى الكبش المخصي.) ومن جهة
أخرى، شكل مختلف تمامًا من الهذيان، يُسمَّى الهذيان أحادي الهوس
monomaniaque، أو
الهذيان العاطفي وهذيان المطالبة: إنه فرصةٌ خارجية، نقطة
اكتساب للذاتية، يمكن أن تكون أي شيء، حزمة صغيرة من
العلامات الموضعية، تابوتًا، غمزة عين، صنمًا، ثيابًا داخلية،
حذاء، وجهًا يشيح - هذه النقطة لاكتساب الذاتية يتم ابتلاعها
فوق خط مستقيم، ستتم تجزئته في سيرورات متتالية، بفواصل
متغيرة. يقول الأطباء النفسيون إنه هذيانُ فعل، وليس هذيان
فكرة؛ هذيان عاطفة، وليس هذيانَ تخيل؛ يعتمد على «مسلَّمة» أو
صيغة موجزة، وليس جرثومةً في حالة تطور. وقد رأينا كيف أن
الطب النفسي في بداياته، وجد نفسه محصورًا بين هذَين النمطَين
من الهذيان، لم تكن مسألة علم تشخيص الأمراض، بل مادة جديدة
برمتها قادمة من الجانبَين، أو قابلة للرصد في تلك اللحظة،
تفيض عن نظام ما كان يُطلق عليه حتى ذلك الحين اسم «الجنون».
يبدأ مريضٌ بالهذيان العاطفي أو الذاتي سيرورة، تتميز بنقطة
اكتساب للفردية: هو يحبني،
«هو» أشار لي بعلامة؛ أؤسس نفسي بوصفي ذاتًا للنطق (تدفق
خيلاء، كثافة عالية)؛ أسقط ثانية في حالة ذات للمنطوق («هو
يخدعني»، «إنه خائن»، كثافة منخفضة). ثم تبدأ من جديد
«سيرورة» أخرى، بقدر ما ينغمر العاطفي في خط الهروب هذا الذي
يمضي من ثقب أسود إلى ثقب أسود. يتبع تريستان وإيزولده الخط
العاطفي للقارب الذي يأخذهما بعيدًا: تريستان، إيزولده،
إيزولده، تريستان … هنا يوجد نوعٌ من الإطناب، العاطفي أو
الذاتي، إطناب الصدى،
الشديد الاختلاف عن الإطناب
الدال، أو إطناب
التردد.
لا شكَّ أن تمييزاتنا مفرطة التعجل؛ إذ يجب أخذُ كل حالة
بعينها، والبحث في كل حالة عن الآلة الخاصة بها، أو «الجسد
دون أعضاء»؛ ثم البحث عما يحدث، الجزيئات والتدفقات، أي نظام
للعلامات. وحيث لا تكون الآلة ألية [ميكانيزما]، ولا يكون
الجسد كيانًا عضويًّا، هناك دائمًا ما تُجمع الرغبة، لكن ليس
بنفس الطريقة التي يُجمع بها مازوخي، أو مدمن مخدرات، أو مدمن
كحول، أو أنوركسي … إلخ. التكريم لفاني: حالة الأنوركسيا
[العزوف المرضي عن الطعام]. يتعلق الأمر بتدفقات غذائية،
لكنها مقترنة بتدفقات أخرى، تدفقات ثيابية على سبيل المثال
(الأناقة الأنوركسية بالمعنى المحدد، ثالوث فاني: فيرجينيا
وولف، مورناو Murnau، كاي
كيندال Kay Kendall). يُركِّب الأنوركسي لنفسه جسدًا دون أعضاء مع فراغات وامتلاءات. تناوب
الحشو والتفريغ: الالتهامات الأنوركسية، امتصاصات السوائل
الغازية. ولا يجب حتى الحديث عن تناوب؛ فالفراغ والامتلاء مثل
عتبتي كثافة، يتعلق الأمر دومًا بالطفو داخل جسد المرء ذاته.
لا يتعلق الأمر برفض للجسد، بل برفض للكيان العضوي، برفض لما
يجعل الكيان العضوي الجسد يتحمله. ليس نكوصًا على الإطلاق، بل
التفاف، جسد ملتفٌّ. الفراغ الأنوركسي لا علاقة له بالنقص،
إنه على النقيض طريقة للإفلات من القيد العضوي للنقص وللجوع،
في الساعة الميكانيكية للوجبات. ثمَّة مستوى تركيب كامل
للأنوركسي؛ حتى يجعل من نفسه جسدًا لا عضويًّا (مما لا يعني
القول بأنه لا جنسي: بل على العكس الصيرورة-امرأة لكل
أنوركسي). الأنوركسيا هي سياسة، سياسة متناهية الصغر:
الإفلات من معايير الاستهلاك، حتى لا يصبح هو ذاته موضوعًا
للاستهلاك. إنها احتجاج أنثوي، لامرأة تريد امتلاك أداء
وظيفي لجسدها، وليس مجرد وظائف عضوية واجتماعية تؤدي بها إلى
التبعية. ستدير الاستهلاك ضد نفسه: غالبًا ما ستكون عارضة أزياء
— غالبًا ما ستكون طاهية، طاهية متجولة، ستجعل الآخرين يأكلون،
أو ستحب أن تكون على المائدة دون أن تأكل، أو ستُضاعف امتصاصَ
أشياء صغيرة، مواد صغيرة. طاهية-عارضة أزياء، هذا مزيج لا
يمكن أن يوجد إلا داخل تلك التجميعة، ذلك النظام، أو سينحل
داخل تجميعات أخرى. وهدفها، هو أن تنتزع من الغذاء جزيئات،
جزيئات بالغة الضآلة يمكنها بها أن تصنع فراغَها وكذلك
امتلاءها، وفق ما إذا كانت تبعثها أم تتلقَّاها. الأنوركسي شخص
مشبوب العاطفة: إنه يحيا بطرق عديدة الخيانة أو الإشاحة
المزدوجة. يخونُ الجوع، لأن الجوع يخونه. بجعله عبدًا للكيان
العضوي؛ يخونُ العائلة لأن العائلة تخونه بجعله عبدًا للوجبات
العائلية ولسياسة كاملة للعائلة وللاستهلاك (ليُحل محلَّه
استهلاكًا غير متقطع، لكنه مُحيد ومُعقَّم)؛ وأخيرًا يخونُ
الغذاء، لأن الغذاء خائن بطبعه (فكرة الأنوركسي، أن الغذاء
مليء باليرقات والسموم، بالديدان والبكتيريا، غير نقي من
الناحية الجوهرية، ومن هنا ضرورة اختيار واستخراج جزيئات
منه، أو إعادة بصقه). أنا أتضوَّر جوعًا، تقول وهي تنقضُّ على
علبتي «زبادي تخسيس». خداعُ-الجوع، خداع-العائلة، خداع-الغذاء. باختصار، فإن الأنوركسيا
هي حكاية سياسة: أن يكون
المرء ملتفًّا بالنسبة للكيان العضوي، بالنسبة للعائلة أو
لمجتمع الاستهلاك. توجد سياسةٌ منذ أن يوجد متصل كثافات
(الفراغ والامتلاء الأنوركسيين)، بعث أو التقاط جزيئات أغذية
(تأسيس جسد دون أعضاء، مقابل الحمية أو النظام العضوي)، وفي
المقام الأول اقتران التدفقات (يدخل التدفق الغذائي في علاقة
مع تدفق ثيابي، وتدفق لغوي، وتدفق جنساني: صيرورة-امرأة
جزيئية كاملة لدى الأنوركسي، رجلًا كان أم امرأة). هذا ما
نسميه نظام علامات. ولا يتعلق الأمر، بالدرجة الأولى، بأشياء
جزئية. حقيقي أن الطب النفسي — أو التحليل النفسي — لا يفهمان؛
لأنهما يختزلان كل شيء إلى شفرة عصبية-عضوية، أو رمزية
(«النقص، النقص …»). ومن هنا ينشأ السؤال الآخر: لماذا تقترب
التجميعة الأنوركسية كثيرًا من الانحراف عن طريقها، من أن
تُصبح قاتلة؟ ما الأخطار التي لا تكفُّ عن ملامستها، والتي تقع
فيها؟ هذا سؤال يجب تناوله بطريقة مختلفة عن التحليل النفسي:
يجب البحث عما هي الأخطار التي تنشأ في منتصف تجريب واقعي، لا عن النقص الذي
يتصدر تفسيرًا مقامًا-سلفًا. الناس دائمًا في منتصف مشروع ما،
لا يمكن فيه تحديد شيء على أنه الأصل. دائمًا أشياء تتقاطع،
وليس أبدًا أشياء تختزل بعضها. يتعلق الأمر بخرائطية، وليس
أبدًا برمزية.
اعتقدنا أن هذا الاستطراد عن الأنوركسيا سيجعل الأمور
أوضح. وربما لا يجب، على النقيض، مضاعفة الأمثلة؛ لأن هناك
عددًا لا نهائيًّا منها، يشير في اتجاهات متعارضة. ونتيجة لذلك،
ستكتسب الأنوركسيا أهمية متزايدة. في المقام الأول، يجب أن
نميز في نظام علامات الآلة المجردة
التي تُحدِّده، والتجميعات العينية التي يدخل
فيها: هكذا الأمر في آلة اكتساب الذاتية،
والتجميعات التي تُحققها، في تاريخ العبرانيين، لكن كذلك في
مجرى هذيان عاطفي، في بناء عمل … إلخ. وبين هذه التجميعات،
التي تعمل في بيئات بالغة الاختلاف، وفي فترات بالغة
الاختلاف، لن يكون ثمة أي تبعية سببية، بل تفريعات متبادلة،
«تجاورات» مستقلة عن المسافة أو عن القرب الفضائي-الزمني.
سيتم تناول المستوى ذاته المرة بعد المرة على مستويات بالغة
الاختلاف، حسب ما إذا كانت الأشياء تجري فوق جسد«ي»، فوق
جسد اجتماعي، جسد جغرافي (لكن جسدي هو أيضًا جغرافيا، أو شعب،
أو شعوب). ليس الأمر أن ينتج كل واحد شذرةً من التاريخ
الكوني؛ بل إننا دائمًا في منطقة كثافة أو تدفق، مشتركة مع
مشروعنا، ومع مشروع عالمي بعيد جدًّا، ومع بيئات جغرافية نائية
جدًّا. ومن هنا أحد أسرار الهذيان إنه يطارد أقاليم معينة من
التاريخ ليست منتقاةً اعتباطيًّا، ليس الهذيان شخصيًّا أو عائليًّا،
إنه تاريخيٌّ-عالميٌّ («أنا حيوان، أنا زنجي … حلمت بحملات
صليبية، ببعثات استكشافات لا علاقة لنا بها، بجمهوريات بلا
تاريخ، بحروب دينية مخنوقة، بثورة في العادات، بإزاحات لأعراق
وقارات»). وتطارد أقاليم التاريخ الهذيانات والأعمال، دون أن
يستطيع أحد إقامة علاقات سببية أو رمزية. يمكن أن توجد صحراء
لجسد موسوس بالمرض، وسهوب لجسد أنوركسي، وعاصمة لجسد ذهاني:
ليسَت هذه استعارات بين مجتمعات وكيانات عضوية، بل مجموعات من
الأعضاء تتحقق داخل شعب، أو مجتمع، أو بيئة، أو «أنا». نفس
الآلة المجردة داخل تجميعات بالغة الاختلاف. لا يكف المرء عن
إعادة صنع التاريخ، لكن على العكس، لا يكفُّ التاريخ عن كونه
يصنع بواسطة كل واحد منا، على جسده ذاته. أي شخص مشهور كنتَ
تود أن تكون، وفي أية حقبة كنت تود أن تحيا؟ وإذا كنتَ نباتًا،
أو منظرًا طبيعيًّا؟ لكنك كل هذا بالفعل، أنت تخطئ فقط في
الإجابات. أنت دائمًا تجميعة لآلة مجردة، تتحقق في مكان آخر
في تجميعات أخرى. أنت دائمًا في منتصف شيء ما، نبات، أو
حيوان، أو منظر طبيعي. يعرف المرء أقاربه وأشباهه، ولا يعرف
أبدًا جيرانه الذين يمكن أن يكونوا من كوكب آخر، الذين هم
دائمًا من كوكب آخر. وما يهم هم الجيران فحسب. التاريخ مدخل
إلى الهذيان، لكن في المقابل فإن الهذيان هو المدخل الوحيد
إلى التاريخ.
وفي المقام الثاني، هناك عددٌ لا متناهٍ من أنظمة العلامات.
وقد احتفظنا باثنَين، محدودَين جدًّا:
نظام دال، يُفترض أن يتحقق في تجميعة
استبدادية إمبراطورية، وأيضًا، في ظل ظروف أخرى، في تجميعة
ذهانية تفسيرية، و
نظام
ذاتي، يفترض أن يتحقق في تجميعة سلطوية
تعاقدية، وأيضًا في تجميعة أحادية الجنون عاطفية أو
مطالباتية، لكن هناك أنظمة أخرى عديدة، على مستوى الآلات
المجردة وكذلك على مستوى تجميعاتها. وقد رسمت الأنوركسيا
ذاتها الخطوط العامة لنظام آخر لم نختزله إلى هذا المخطط
إلَّا من أجل التبسيط. أنظمة العلامات لا تُحصى سيميوطيقات
متعددة ﻟﻠ «بدائيين»، سيميوطيقات للبدو (وبدو الصحراء ليسوا
هم نفس بدو السهوب، كما أن رحلة العبرانيين بدورها شيء آخر)،
سيميوطيقا للحضَر (وكم من التوليفات الحضرية، والحضرية-البدوية). ولا تتمتع الدلالة والدال
بأي امتياز؛ ففي نفس الوقت تجب دراسة كل أنظمة العلامات الخالصة، من وجهة نظر
الآلات المجردة التي تجعلها هذه الأنظمة تعمل، وكذلك كل
التجميعات العينية، من وجهة نظر الأخلاط التي تُنجزها.
السيميوطيقا العينية هي مزيج، خليط من أنظمة علامات متعددة.
كل السيميوطيقات العينية سيميوطيقات الزنجي الصغير، أو ساكن
جزيرة جاوا. يحتار العبرانيون بين سيميوطيقا بدوية، يغيِّرونها
بعمق، وبين سيميوطيقا إمبراطورية يحلمون باستعادتها على أسس
جديدة، بإعادة بناء المعبد. ليس ثمة حالةٌ عاطفيةٌ خالصة، في
الهذيان، إذ يرتبط بها دومًا عنصر ذهاني (وقد أصر كليرامبو
Clérambault، الطبيب
النفسي الذي ميز بأفضل ما يمكن بين شكلَي الهذيان، على
اختلاطهما). وإذا وضعنا في الاعتبار تفصيلة، من قبيل وظيفة-الوجه في سيميوطيقات التصوير،
لرأينا جيدًا كيف تنتج الخلطات:
لقد أظهر جان باريس
Jean
Paris أن الوجه الإمبراطوري البيزنطي،
المنظور إليه من الأمام، كان بالأحرى يخرج العمق خارج اللوحة،
بين اللوحة وبين المشاهد؛ بينما سيدرج أسلوب الكواتروتشينتو
Quattrocento العمق
بإعطائه الوجه درجة من الجانبية أو حتى الإشاحة، لكن لوحةً
مثل
مناشدة لتيبيريوس l’Appel à
Tibériade للفنان دوتشيو
Duccio تصنع خليطًا ما
زال فيه أحد الحواريين يشهد على الوجه البيزنطي، بينما يدخل
الآخر مع المسيح في علاقة عاطفية بالمعنى المحدد.
١ فما القول في تجميعاتٍ ضخمةٍ مثل «الرأسمالية» أو
«الاشتراكية»؟ إن اقتصاد كلٍّ منهما، وتمويلهما، هو ما يقيم
تفاعلًا بين أنماط شديدة الاختلاف من أنظمة العلامات والآلات
المجردة. أما التحليل النفسي فغير قادر من جانبه على تحليل
أنظمة العلامات؛ لأنه هو ذاته خليطٌ يعمل في آنٍ واحد عن طريق
الدلالة وعن طريق اكتساب الذاتية، دون أن يتبين الطابع
المركب لمسيرته (إذ تتقدم عملياته عن طريق التدليل
الاستبدادي اللامتناهي، بينما تكون تنظيماته عاطفية، تقيم
سلسلةً لا محدودة من السيرورات الخطية، يلعب فيها المحلل
النفسي في كل مرة، هو نفسه أو آخر جديد، دور «نقطة اكتساب
الذاتية»، مع إشاحة الوجوه: يكون التحليل النفسي لا متناهيًا
بشكل مزدوج). يجب إذن على سيميوطيقا عامة أن يكون لها مكوِّن
أول،
توليدي؛ لكن الأمر
سيتعلق فقط بتوضيح كيف ستشغل تجميعةٌ عينية الكثيرَ من أنظمة
العلامات الخالصة، أو الكثير من الآلات المجردة، وتجعلها تعمل
داخل تروس بعضها البعض. المكون الثاني سيكون
تحويليًّا، لكن الأمر سيتعلق، إذن،
بإظهار كيف يمكن لنظام علامات خالص أن يترجم نفسه داخل آخر،
بأية تحويلات، وأية رواسب غير قابلة للاستيعاب، وأية تغييرات
وابتكارات. ستكون وجهة النظر الثانية هذه أعمق؛ لأنها ستبين
ليس فقط كيف تمتزج السيميوطيقات، بل كيف تنفصل سيميوطيقات
جديدة وتنشأ، أو كيف يمكن للآلات المجردة أن تكون هي ذاتها
قادرةً على التحولات، لتلهم تجميعات جديدة.
وفي المقام الثالث، لا يختلط نظام علامات أبدًا باللغة ولا
بنسق لغوي؛ إذ يمكن دائمًا أن يحدِّد المرءُ وظائفَ عضوية مجردة
تفترضُ [مسبقًا] اللغة (إبلاغ، تعبير، دلالة، تفعيل … إلخ).
كما يمكنه حتى أن يتصور، على طريقة سوسير وبالأخص على طريقة
تشومسكي، آلةً مجردة لا تفترض [مسبقًا] معرفة أي شيء عن النسق
اللغوي: يمكن التسليم بتجانس وثبات، سواء كانت الثوابت تُدرك
باعتبارها بنيوية أو «توليدية» (تشفير وراثي). ويمكن لمثل
تلك الآلة أن تضم الأنظمة التركيبية
syntaxiques أو حتى
السيمانطيقية، وستضع جانبًا داخل نوعٍ من المستودع المسمَّى
«تداولية» المتغيرات والتجميعات البالغة التنوع التي تعمل
داخل نفس النسق اللغوي. ولن نعيب على مثل تلك الآلة كونَها
مجردةً، بل على العكس كونها ليست مجردةً بما يكفي. فليست
الوظائف العضوية للغة، ولا حتى «أورجانون» للنسق اللغوي، ما
يحدِّد أنظمة العلامات. على النقيض، فإن أنظمة العلامات
(تداولية) هي التي تُثبت تجميعات النطق الجماعية داخل نسق
لغوي كتدفق للتعبير، فيما تُثبت التجميعات الآلاتية للرغبة
داخل تدفقات المضمون؛ بحيث إن أي نسق لغوي هو تدفق متنافر في
ذاته، بقدر ما هو في علاقة افتراض مسبق متبادل مع تدفقات
متنافرة، فيما بينها ومع النسق اللغوي. الآلة المجردة ليست
لغوية أبدًا، لكنها تُشكل اقترانات، وانبعاثات، واستمرارات
للتدفقات متنوعة تمامًا.
ليس ثمة وظائف للغة ولا لعضوٍ أو مدوَّنة
corpus للنسق اللغوي، بل
أداءات آلاتية مع تجميعات جماعية. الأدب، قضية شعب، لماذا يمكن لكافكا،
الأشد عزلة، أن يقول هذا؟ التداولية مدعوةٌ لأن تأخذ على
عاتقها اللغويات برمتها. ماذا يفعل رولان بارت، في تطوره
الخاص المتعلق بالسيميوطيقا؟ إنه ينطلق من مفهوم ﻟ «الدال»،
ليصبح «عاطفيًّا» باطِّراد، ثم يبدو أنه يطور نظامًا مفتوحًا
وسريًّا في نفس الوقت، أكثر جماعيةً بقدر ما يخصه هو: تحت مظاهر
معجم شخصي، تزدهر شبكة تركيبية، وتحت هذه الشبكة، تداولية
لجسيمات وتدفقات، مثل خرائطية قابلة للقلب، قابلة للتعديل،
قابلة للتلوين بكل أنواع الطرق. عمل كتاب يتوجَّب تلوينه عقليًّا،
ربما كان هذا ما وجده بارت بالفعل عند لويولا
Loyola: الزهد اللغوي.
يبدو أنه «يشرح نفسه بنفسه»، وهو يصنع في الحقيقة تداولية
للنسق اللغوي. وقد كتب فيليكس جاتاري نصًّا عن المبادئ
اللغوية التالية، التي تعيد على طريقتها تناول أطروحات معينة
لفاينرايش Weinreich وقبل كل
شيء للابوف Labov؛ أولًا:
التداولية هي الأمر الجوهري؛ لأنها السياسة الحقيقية،
السياسة-المتناهية الصغر للغة؛ ثانيًا: ليس هناك كليات ولا
ثوابت للنسق اللغوي، ولا «كفاءة» مختلفة عن «الأداءات»،
ثالثًا: ليس هناك آلة مجردة داخلية في النسق اللغوي، بل آلات
مجردة تعطي لنسق لغوي تجميعةً جماعيةً معينة للنطق (ليس ثمة
«ذاتٌ» للنطق)، في نفس الوقت الذي تعطي فيه للمضمون تجميعةً
آلاتيةً معينة للرغبة (ليس ثمة دال للرغبة)؛ رابعًا: هناك إذن
أنساق لغوية متعددة داخل أي نسق لغوي، كما توجد في نفس الوقت
كل أنواع التدفقات داخل المضامين المنبعثة، والمترافقة،
والمتواصلة. ليست المسألة «ثنائية لغوية»، «تعددية لغوية»،
المسألة أن كل نسق لغوي ثنائي اللغة تمامًا في ذاته، متعدد
اللغة في ذاته، بحيث يمكن أن يتلعثم المرء في لغته ذاتها، أن
يصبح أجنبيًّا في لغته ذاتها، أي أن يدفع دائمًا إلى مدًى أبعد
نقاط نزع توطين التجميعات. أي نسق لغوي تخترقه خطوط هروب
تجرفُ معجمه وتركيبه. ووفرة المعجم وثراء التركيب ليسا سوى
وسائل في خدمة خط يحكم على نفسه، على النقيض، على أساس تعقُّله،
واقتضابه، وحتى تجريده: خط التفافي غير مرتكز يحدِّد تعرجات
جملة أو نص ما، يخترقُ كلَّ الإطنابات ويُفجِّر أشكال الأسلوب.
إنه الخط التداولي، للتثاقل أو التسارع، الذي يتحكَّم فقره
المثالي في ثراء الخطوط الأخرى.
ليس ثمَّة وظائف للغة، بل أنظمة علامات تقرن في آنٍ واحد
بين تدفقات التعبير وتدفقات المضمون، وتحدِّد فوق هذه
الأخيرة تجميعات رغبة، وفوق تلك الأولى تجميعات نطق
كلتاهما متداخلة مع الأخرى. ليست اللغة أبدًا التدفق
الوحيد للتعبير، وتدفق التعبير ليس وحيدًا أبدًا، بل دائمًا
في علاقة مع تدفقات مضمون يُحدِّدها نظام العلامات. وحين
يأخذ المرء اللغة وحدها تمامًا، فإنه لا يقوم بتجريد
حقيقي، بل يحرم نفسه على العكس من الشروط التي يمكن أن
تجعل بالإمكان تحديد آلة مجردة. وحين يأخذ المرء تدفق
كتابة وحده تمامًا، لا يمكنه سوى الاستدارة حول ذاته،
السقوط في ثقب أسود لا يعود فيه المرء يسمع إلى ما لا
نهاية، سوى صدى السؤال «ما الكتابة؟ ما الكتابة؟»، دون أن
ينتج عن ذلك شيء أبدًا. إن ما يكتشفه لابوف في نسقٍ لغوي
بوصفه تغيرًا محايثًا، وغير قابل للاختزال إلى البنية
مثلما هو غير قابل للاختزال إلى التطور، يبدو لنا أنه
يحيل من جديد إلى حالات اقتران تدفقات، في المضمون وفي التعبير.
٢ حين تأخذ كلمة معنًى آخر، أو حتى تدخل في
تركيب آخر، يمكن للمرء أن يتأكد من أنه قد عبر تدفقًا آخر
أو أنه قد دخل في نظام علامات آخر (مثلًا المعنى الجنسي
الذي يمكن أن تأخذه كلمةٌ قادمة من مكان آخر، أو العكس).
لا يتعلق الأمر أبدًا باستعارة، فليس ثمة استعارة، بل
مجرد ترافقات. شعر فرانسوا فيون
François
Villon: اقتران كلمات بثلاثة تدفقات؛
السرقة والمثلية الجنسية والقمار.
٣ أما المحاولة الاستثنائية للويس وولفسون
«طالب اللغويات الشاب الفصامي» فيصعب اختزالها إلى
الاعتبارات التحليلية النفسية واللغوية المألوفة؛
فالطريقة التي يترجم بها
بأقصى
سرعة لغته الأم إلى مزيج من اللغات
الأخرى — هذه الطريقة لا للخروج من اللغة الأم؛ لأنه
يحتفظ بمعناها وصوتها، بل لجعلها تهرب أو لنزع توطينها — لا تنفصل بشكل حاسم عن التدفق
الغذائي الأنوركسي، عن
الطريقة التي ينتزع بها من هذا التدفق جسيمات، ويركبها
بأقصى سرعة، ويزاوجها مع الجسيمات اللفظية المنتزعة من
اللغة الأم
٤ بث جسيمات لفظية تدخل في «التجاور» مع
جسيمات غذائية … إلخ.
إن ما يمكن أن يحدد تداوليةً للنسق اللغوي، بالنسبة لجوانبه
التركيبية أو الدلالية، لن يكون إذن على الإطلاق علاقته
بتحديدات السيكولوجيا أو الموقف، بتحديدات الظروف أو النوايا،
بل بالأحرى حقيقة أنه يبلغ أقصى تجريد داخل نظام مكونات
آلاتية. يمكن القول بأن أنظمة العلامات تُحيل في نفس الآن
إلى نسقَين من الإحداثيات؛ فإما أن التجميعات التي تُحددها
يتم ردها إلى مكون أساسي كتنظيم للسلطة، مع نظام قائم
ودلالات سائدة (من قبيل الدلالة الاستبدادية ذات النطق
العاطفية … إلخ)؛ وإما أنها ستقع في قبضة الحركة التي تجمع
دائمًا إلى مدًى أبعد بين خطوط هروبها، وتجعلها تكتشف تداعيات
أو توجهات جديدة، لتحفر دائمًا لغة أخرى داخل اللغة. إما أن
الآلة المجردة ستكون تشفيرية مفرطة، ستشفِّر بصورة مفرطة كلَّ
تجميعة بدال، بذات … إلخ؛ وإما أنها ستصبح متحولة، تحولية،
وتكتشف تحت كل تجميعة النقطة التي تفك التنظيم الأساسي،
وتجعل التجميعة تنساب داخل أخرى. إما أن يرتبط كل شيء ﺑ
مستوى تنظيم وتطور
بنيوي أو توليدي، بشكل أو ذات؛ وإما أن ينطلق كلُّ شيء على
مستوى اتساق لا يملك
سوى سرعات تفاضلية أو هذيات
heccéités. وفقًا لنسق
إحداثيات، يمكن دومًا القول بأن اللغة الأمريكية تُلوِّث اليوم
كل اللغات، إمبريالية، لكن وفق نسق المرجعية الآخر، فإن
اللغة الأنجلو-أمريكية هي التي تجد نفسها ملوثة بأشد
الأنظمة تنوعًا، الإنجليزية-الزنجية، الإنجليزية الصفراء،
أو الحمراء، أو البيضاء، والتي تهرب من كل جانب، نيويورك،
المدينة دون لغة. ومن أجل وضع هذه البدائل في الاعتبار، يجب
إدخال مكون ثالث لم يعُد توليديًّا وتحويليًّا فقط، بل بيانيًّا أو تداوليًّا. يجب، داخل كل
نظام وداخل كل تجميعة، اكتشافُ القيمة النوعية لخطوط الهروب
الموجودة: كيف أنها هنا موسومة بعلامة سلبية، وكيف أنها هنالك
تكتسب قيمة إيجابية، لكن يتم تقطيعها، وتبادلها في عمليات
متتابعة، كيف أنها في مكان آخر تسقط في ثقوب سوداء، وكيف أنها
في مكان آخر أيضًا تدخل في خدمة آلة حرب، أو كيف أنها تحفز
عملًا فنيًّا؟ كيف أنها بكونها كل هذا في آنٍ واحد تصنع في كل
لحظة المنحنى البياني، الخرائطية لما هو محتجز، مفرط التشفير،
أو على العكس متحول، على طريق التحرر، أو في طريقه لرسم هذا
الجزء أو ذاك من أجل مستوى اتساق؟ تتمثل النزعة البيانية في
دفع اللغة حتى ذلك المستوى الذي لا يعود فيه التغير
«المحايث» يعتمد على بنية أو تطور، بل على اقتران التدفقات
المتحولة، على تركيباتها للسرعة، وتوليفاتها للجسيمات (إلى
الحد الذي تبلغ فيه الجسيمات الغذائية، والجنسية، واللفظية … إلخ، منطقة التجاور أو اللاتمايز:
الآلة المجردة).
[ملاحظة من جيل دولوز: أقول لنفسي إن هذا ما أردتُ عمله
حين اشتغلت على كتَّاب مثل زاخر مازوخ، أو بروست، أو لويس
كارول. ما كان يهمني، أو كان ينبغي أن يهمني، لم يكن التحليل
النفسي أو الطب النفسي، ولا اللغويات، بل أنظمة العلامات لهذا
المؤلف أو ذاك. ولم يصبح هذا واضحًا لنا إلا حين تدخَّل
فيليكس، وكتبنا كتابًا عن كافكا. إن مثلي الأعلى حين أكتب عن
مؤلف ما سيكون ألَّا أكتب أي شيء يمكن أن يسبب له الحزن، أو
يجعله يبكي في قبره، إذا كان ميتًا: التفكير في المؤلف الذي
يكتب المرء عنه. التفكير فيه بقوة تبلغ حدَّ ألا يعود موضوعًا،
وحدَّ ألا يعود باستطاعة المرء أن يتماهى معه. تجنَّب الخزيَ
المزدوج للحكيم وللقريب. أن أنقل إلى مؤلف ما قليلًا من هذه
البهجة. من هذه القوة، من هذه الحياة العاطفية والسياسية، التي
عرف كيف يمنحها، كيف يخترعها؟ لا بد أن الكثير من الكتَّاب
الموتى قد بكوا مما كُتب عنهم. وآمل أن يكون كافكا قد ابتهج
من الكتاب الذي كتبناه عنه، وأن يكون هذا هو السبب في أن هذا
الكتاب لم يبهج أحدًا.]
يجب أن يمتزج
النقد
والعيادة بالمعنى الدقيق، لكن النقد سيكون
مثل مخطط مستوى الاتساق لعمل ما، غربال سيستخلص الجسيمات
المنبعثة أو الملتقطة، التدفقات المتزاوجة، الصيرورات
المتفاعلة؛ أما العيادة، وفقًا لمعناها الدقيق، فستكون مخطط
الخطوط فوق المستوى، أو الطريقة التي ترسم بها هذه الخطوط
المستوى، أيها مسدودةٌ أو مغلقة، أيها تعبر فراغات، أيها تتصل،
وبالدرجة الأولى خط أكبر انحدار، كيف يجذب الخطوط الأخرى،
وصوب أية وجهة. عيادة دون تحليل نفسي ولا تفسير، ونقد دون
لغويات ولا دلالة. النقد، فن الاقترانات، مثلما أن العيادة،
فن الانحرافات. سيتعلق الأمر فقط بمعرفة ما يلي:
- أولًا: وظيفة اسم العَلَم (اسم العلم، هنا،
لا يشير بالضبط إلى شخص بوصفه مؤلفًا أو
ذاتًا للنطق، بل يشير إلى تجميعة أو
تجميعات؛ اسم العلم يُحدث فردنة
individuation
بواسطة «الهذية
heccéité»،
وليس أبدًا بواسطة الذاتية). تحدِّد
شارلوت برونتي حالة رياح أكثر مما تحدد
شخصًا، وتحدد فيرجينيا وولف حالة مجالات،
وأعمار، وجنسَين. قد يحدث أن تكون تجميعة
ما موجودةً منذ زمن طويل، قبل أن تتلقَّى
اسم العلم لها الذي يمنحها اتساقًا خاصًّا
كأنها قد انفصلت بذلك عن نظام أعمَّ
لتكتسب نوعًا من الاستقلال الذاتي: مثلما
في حالة «السادية»، و«المازوخية». لماذا
يعزل اسم العلم تجميعة ما في لحظة
معينة؟ لماذا يجعلها نظام علامات خاص،
وفقًا لمكون تحويلي؟ لماذا لا توجد
أيضًا «نيتشوية»، و«بروستية»،
و«كافكاوية»، و«سبينوزية»، وفق عيادة
معممة، أي سيميولوجيا لأنظمة العلامات،
مضادة للطب النفسي، ومضادة للتحليل
النفسي، ومضادة للفلسفة؟ وماذا سيصبح
نظام علامات، معزول، ومعين، داخل التيار
العيادي الذي يجرُّه؟ الأمر المذهل في
الطب، هو إمكان استخدام اسم علمٍ لطبيب
للإشارة إلى مجموع من الأعراض:
باركينسون
Parkinson،
روجيه
Roger … هنا يصير اسم العلم اسم علم أو يجد
وظيفته. ما حدث هو أن الطبيب قد صنع
تجميعًا جديدًا، فردنةً جديدة للأعراض،
هذية جديدة، قد فك ارتباط أنظمة ظلت
مختلطة حتى ذلك الحين، قد أعاد توحيد
تتابعات أنظمة ظلت منفصلة حتى ذلك الحين.٥ لكن ما الفرق بين الطبيب
والمريض؟ المريض أيضًا هو مَن يعطي اسم
العلم الخاص به. هذه فكرة نيتشه: الكاتب،
الفنان بوصفه الطبيب-المريض لحضارةٍ ما.
كلما صنعت بدرجة أكبر نظام علاماتك
الخاص، أصبحت بدرجة أقل شخصًا أو
ذاتًا، وصرت بدرجة أكبر «تجمعًا»
يلتقي مع تجمعات أخرى، ويقترن ويتقاطع
مع تجمعات أخرى، منشطًا ومبتكرًا، ودافعًا
صوب المستقبل، ومحدثًا فردنات لا
شخصية.
- ثانيًا: لا يتحدد نظام علامات ما بواسطة
اللغويات، مثلما لا يتحدد بواسطة التحليل
النفسي. على العكس فإنه هو ما سيحدد
تجميعة معينة للنطق داخل تدفقات
التعبير، وتجميعةً معينة للرغبة داخل
تدفقات المضمون. ولا نقصد بالمضمون فحسب
ما يتحدث عنه مؤلف ما،
sujets
[موضوعاته/ذواته]، بالمعنى المزدوج
للتيمات التي يتناولها، وللشخوص التي
يعرضها أمامنا، بل بالأحرى كل حالات
الرغبة الداخلية والخارجية بالنسبة
للعمل، والتي تتشكَّل معه، في «تجاور». لا
تأخذوا أبدًا تدفقًا قائمًا بذاته؛
فالتفرقة مضمونٌ-تعبيرٌ هي ذاتها بالغة
النسبية بحيث يحدث أن يمر تدفق للمضمون
داخل التعبير، بقدر ما يدخل في تجميعة
للنطق في علاقة مع تدفقات أخرى. كل تجميعة
جماعية؛ حيث إنها مصنوعة من تدفقات
عديدة تجرف الأشخاص والأشياء، ولا تنقسم
أو تتجمع من جديد إلا في كثرات؛ فمثلًا
عند زاخر مازوخ، يتم التعبير عن تدفق
الألم والإذلال في تجميعة تعاقدية، عقود
مازوخ، لكن هذه العقود هي أيضًا مضامين
بالنسبة لتعبير المرأة التسلطية أو
الاستبدادية. في كل مرة، علينا أن نسأل مع
ماذا يرتبط تدفق الكتابة؟ هكذا الأمر مع
رسالة الحب بوصفها تجميعة نطق: رسالة
الحب بالغة الأهمية، وقد حاولنا أن
نصفها ونبين كيف كانت تعمل، وفي ارتباط
مع ماذا، في حالة كافكا ستكون المهمة
الأولى هي دراسة أنظمة العلامات التي
يستخدمها مؤلفٌ ما، وأنواع الخلطات التي
يُشغِّلها (المكون
التوليدي). وإذا بقينا مع
الحالتَين الكبيرتَين الموجزتَين اللتَين
ميزناهما، النظام الدال الاستبدادي
والنظام العاطفي الذاتي، كيف تتركبان عند
كافكا، القلعة بوصفها مركزًا استبداديًّا
مشعًّا، لكن أيضًا بوصفها تتابعًا من
السيرورات المتناهية
داخل سلسلة من الأجزاء المتجاورة. ثم
كيف تتركبان بطريقة مختلفة عند بروست: في
علاقة مع شارلوس، نواة مجرة تتضمن
دواماتها منطوقات ومضامين؛ في علاقة مع
ألبرتين، التي تمر على النقيض من خلال
سلسلة من السيرورات الخطية المتناهية،
سيرورات النوم، سيرورات الغيرة، سيرورات
السجن. قلة من المؤلفين هم من استطاعوا
مثل بروست تشغيل حشد من أنظمة العلامات؛
من أجل تأليف عملهم. علاوة على ذلك فإنه
في كل مرة تتولَّد فيها أنظمة جديدة،
يصبح فيها ما كان تعبيرًا في المرات
السابقة مضمونًا بالنسبة لأشكال التعبير
الجديدة؛ يحفر استخدام جديد للنسق
اللغوي داخل اللغة نسقًا لغويًّا جديدًا
(المكون
التحويلي).
- ثالثًا: لكن الأمر الجوهري، أخيرًا، هو الطريقة
التي تنتظم بها كل أنظمة العلامات هذه
وفق خط ميل، متغير مع كل مؤلف، وترسم
مستوى اتساق أو تكوين، يميز ذلك العمل أو
ذلك المجموع من الأعمال: ليس مستوًى داخل
الذهن، بل مستوًى واقعي محايث لم يكن له
وجود مسبق، يقطع كل الخطوط، تقاطع لكل
الأنظمة (المكون
البياني): موجة
فيرجينيا وولف، المجال الفائق
للوفكرافت، نسيج
عنكبوت بروست، برنامج
كلايست، دالة-ك لكافكا، المجال
الريزومي … هنالك لا يعود
ثمة أيُّ تمييزٍ قابل للتحديد بين المضمون
وبين التعبير؛ لا نعود قادرين على معرفة
إن كان ذلك تدفقًا من الكلمات أم من
الكحول؛ لفرط ما نثمل على الماء القراح،
وكذلك لفرط ما نتحدث ﺑ «مواد أكثر
مباشرةً، وأكثر سيولة، وأكثر حرقة من
الكلمات»؛ لا نعود نستطيع معرفة إن كان
ذلك تدفقًا غذائيًّا أم لفظيًّا، لفرط كون
الأنوركسيا نظامًا للعلامات، وكون
العلامات نظامًا للسعرات الحرارية (عدوان
لفظي حين يكسر شخصٌ ما الصمت، مبكرًا جدًّا
في الصباح؛ النظام الغذائي لنيتشه، أو
لبروست، أو لكافكا، هو أيضًا كتابة، وهم
يفهمونها هكذا؛ الأكل-الكلام، الكتابة-الحب، لن تمسك أبدًا بتدفق قائم بذاته
تمامًا.) لم تعد هناك جُسيمات من جانب،
وسينتاجمات [تراكيب تعبيرية] من جانب
آخر، ليس ثمَّة سوى جزيئات particles
تدخل في تجاورٍ مع بعضها البعض، وفق
مستوى محايثة. «طرأت لي فكرة»، تقول
فيرجينيا وولف، «أن ما أود أن أفعله الآن
هو أن أشبِّع كل ذرة.» وهنالك أيضًا لم تعد
ثمة أشكالٌ تنتظم كدالة لبنية، ولا تتطور
كدالة لتولُّد؛ كما لا توجد ذوات أو
أشخاص، أو خصائص تترك نفسها لتتحدد، أو
تتشكل أو تتطور. لم تعد ثمة سوى جسيماتٍ،
جزيئات تتحدد فقط بعلاقات الحركة
والسكون، علاقات السرعة والبطء، علاقات
تكوينات السرعات التفاضلية (وليست
السرعة هي ما يكسب بالضرورة، وليس البطء
بالضرورة هو الأقل سرعة). لم يعُد ثمة
سوى هذيات، فردنات دقيقة ودون ذات، تتحدد
فقط بمنفعلات أو قوًى (وليس الأقوى هو ما
يكسب بالضرورة، فليس هو الأغنى
بالمنفعلات). المهم بالنسبة لنا في
كافكا، هو بالضبط الطريقة التي بها عبر
كل أنظمة العلامات التي يستخدمها أو
يتوقعها (الرأسمالية، البيروقراطية،
الفاشية، الستالينية، كل «القوى
الشيطانية للمستقبل»)، يجعلها تهرب أو
تصطفُّ فوق مستوى اتساق يشبه المجال
المحايث للرغبة، غير مكتمل دومًا، لكنه
لا يعاني النقص أبدًا، ولا يشرع، ولا
يشكِّل ذواتٍ. الأدب؟ لكن ها هو كافكا يضع
الأدب في علاقة مباشرة مع آلة أقلية،
تجميعة جماعية جديدة للنطق بالنسبة للغة
الألمانية (كانت تجميعة الأقليات داخل
الإمبراطورية النمساوية بالفعل، بصورة
أخرى، فكرة مازوخ). ها هو كلايست يضع
الأدب في علاقةٍ مباشرةٍ مع آلة حرب.
باختصار، يجب أن يتبع النقد-العيادة
خط أكبر ميلٍ في عمل ما، في نفس الوقت
الذي يبلغ فيه مستوى اتساقه. أقامت
ناتالي ساروت Nathalie
Sarraute تفرقةً
بالغة الأهمية حين وضعت في مقابل تنظيم
الأشكال وتطوير الشخصيات أو الأشخاص، هذا
المستوى المختلف تمامًا الذي تعبره
جسيماتُ مادة مجهولة، «مثل قطرات الزئبق،
تميل دون انقطاع، إلى التجمع من جديد
والامتزاج في كتلة مشتركة، عبر الأغلفة
التي تفصلها»:٦ تجميعة جماعية للنطق،
ريتورنيللو منزوع التوطين، مستوى اتساق
الرغبة، حيث يبلغ اسم العلَم أسمى فردية
له بفقدانه كلَّ شخصية-الصيرورة لا
محسوسًا، جوزفين
الصبية.