القسم الأول
سواء كنا أفرادًا أو جماعات، فإننا مصنوعون من خطوط، وهذه
الخطوط ذات طبيعة بالغة التنوع. النوع الأول من الخط الذي
يكوِّننا انقسامي segmentaire،
ذو انقسامية segmentarité
صلبة (أو بالأحرى توجد بالفعل الكثير من الخطوط من هذا
النوع)؛ العائلة-المهنة؛ العمل-الإجازات؛ العائلة - ثم
المدرسة - ثم الجندية - ثم المصنع - ثم التقاعد. وفي كل مرة،
من قسم segment إلى آخر،
يقال لنا: أنت الآن لم تعد طفلًا. وفي المدرسة: هنا لم تعد
مثلما في العائلة؛ وفي الجندية: هنا لم يعد الأمر مثلما في
المدرسة … باختصار، كل أنواع الأقسام المحدَّدة جيدًا، في كل
أنواع الاتجاهات، تقطعنا في كل اتجاه، حزم من الخطوط المنقسمة. وفي نفس الوقت لدينا خطوط
انقسام أكثر مرونة، جزيئية على
نحو ما، ولا يعني الأمر أنها أكثر حميمية أو شخصية؛ لأنها
تخترق المجتمعات والمجموعات، مثلما تخترق الأفراد. ترسم
تعديلات صغيرة، وتصنع انعطافات، وتخطط سقطات أو اندفاعات،
لكنها رغم ذلك ليست أقل دقة، إذ توجه سيرورات غير قابلة
للانعكاس، لكنها بدل أن تكون خطوطًا مولارية منقسمة، فإنها
تدفقات جزيئية ذات عتبات أو كمات
quanta. يتم تخطي عتبة، لا تتطابق بالضرورة مع قسم
من خطوط أوضح. تحدث أشياء كثيرة على هذا
النوع الثاني من الخطوط، صيرورات، وصيرورات-متناهية الصغر،
ليس لها نفس إيقاع «تاريخنا»؛ لذا تكون التواريخ العائلية،
والتحديدات، والتذكرات مضنية، بينما تجري كل تغيراتنا
الحقيقية في مكان آخر، سياسة أخرى، زمن آخر، فردنة
individuation أخرى.
المهنة هي قسم صلب، لكن أيضًا ماذا يجري تحتها، أية ارتباطات،
وأية انجذابات وتنافرات لا تتطابق مع الأقسام، أية أشكال
جنون سرية، ورغم ذلك في علاقة مع السلطات العامة: مثلًا كون
المرء معلمًا، أو قاضيًا، أو محاميًا، أو محاسبًا، أو خادمة
منزل؟ وفي نفس الوقت أيضًا يوجد ما يشبه نوعًا ثالثًا من
الخط، بالغ الغرابة: كأن شيئًا ما قد جرفنا عبر أقسامنا،
وكذلك عبر عتباتنا، صوب وجهة غير معروفة، غير قابلة للتنبؤ،
وغير موجودة سلفًا. هذا الخط بسيط مجرد، إلا أنه أكثرها
تعقيدًا، أكثرها تعرجًا: إنه خط الجاذبية أو خط السرعة، خط
الهروب والميل الأكبر («الخط الذي يجب أن يصفه مركز الجاذبية
بالغ البساطة بالتأكيد، وهو، حسبما كان يعتقد، مستقيم في أغلب
الحالات … لكن من وجهة نظر أخرى، فإن بهذا الخط شيئًا مفرط
الغموض؛ لأنه، حسب اعتقاده، ليس سوى مسار روح الراقص …»).١ هذا الخط يبدو أنه ينبثق فيما بعد، أنه ينفصل عن
الخطَّين الآخرَين، لو نجح حقًّا في الانفصال؛ إذ ربما يوجد أناس
ليس لديهم هذا الخط، ليس لديهم سوى الخطَّين الآخرَين، أو ليس
لديهم سوى خطٍّ واحد، لا يحيون إلا على خط واحد. إلا أنه، من وجهة
أخرى، كان هذا الخط موجودًا طوال الوقت، رغم كونه نقيض
المصير: ليس عليه أن ينفصل عن الآخرين، بل سيكون الأول
بالأحرى، وسيكون الآخران مشتقَّين منه. وعلى أية حال فإن
الخطوط الثلاثة محايثة، مشتبكة ببعضها. لدينا من الخطوط
المتشابكة قدر ما في اليد. ونحن معقدون بطريقة مختلفة عن
اليد. وما نسميه بأسماء مختلفة — التحليل الفصامي، السياسة-المتناهية الصغر، التداولية،
البيانية، الريزوماتية،
الخرائطية — ليس له من غرض سوى دراسة هذه الخطوط، في الجماعات
أو الأفراد.
في قصة قصيرة رائعة، يشرح فيتزجيرالد أن أي حياة تمضي دومًا
بإيقاعات متعددة، بسرعات متعددة.٢ ولما كان فيتزجيرالد هو نفسه دراما حية، ويعرف
الحياة بأنها سيرورة تقويض، فإن نصه قاتم، ولا يجعله هذا أقل
نموذجية؛ فكل عبارة فيه تلهم الحب. لم تبلغ عبقريته أبدًا قدر
ما بلغته وهو يتحدث عن فقدانه للعبقرية. من هنا يقول إنه كانت
توجد بالنسبة له في البداية أقسام كبرى: غني-فقير، شاب-عجوز، نجاح-فقدان للنجاح، صحة-مرض،
حب-نضوب للحب، إبداع-عقم، في علاقة مع أحداث اجتماعية (الأزمة الاقتصادية،
انهيار البورصة، صعود السينما التي تحل محل الرواية، تشكل
الفاشية، كل أنواع الأشياء التي يمكن القول إنها متنافرة، لكن
أقسامها تتجاوب وتُسارع بعضها.) ويسمِّيها فيتزجيرالد
انقطاعات coupures،
كل قسمٍ يحدد، أو يمكن أن يحدد انقطاعًا. هذا نمط من الخط، هو
الخط المنقسم، الذي يخصنا جميعًا في تاريخ بعينه، وفي مكان
بعينه. ولا يغير كثيرًا إن كان يمضي باتجاه الانحطاط أو
الارتقاء (وفق هذا النموذج لا تكون الحياة الناجحة هي
الأفضل، الحلم الأمريكي هو البدء ككنَّاس للشوارع لتصبح
مليارديرًا بقدر ما هو العكس، نفس الأقسام). ويقول فيتزجيرالد
شيئًا آخر، في نفس الوقت: هناك خطوط تصدُّع fêlure
لا تتطابق مع خطوط الانقطاعات الانقسامية الكبرى. هذه المرة
يمكن القول إن صحنًا يتصدَّع. لكن بالأحرى حين يمضي كل شيء على
ما يرام، أو يمضي كل شيء بصورة أفضل على الخط الآخر، يحدث
التصدُّع على هذا الخط الجديد، سريًّا، غير محسوس، محدِّدًا عتبة
لتضاؤل المقاومة، أو صعودًا العتبة التطلُّب: لا يعود المرء
يتحمل ما كان يتحمله من قبل، حتى بالأمس؛ لقد تغيَّر في داخلنا
توزيع الرغبات، تعدَّلت علاقاتنا بالسرعة والبطء، ينتابنا نمط
جديد من القلق، وأيضًا سكينةٌ جديدة. تغيرت التدفقات، وحين تكون
صحتك في أفضل حالاتها، وثروتك أكثر ضمانًا، وموهبتك أكثر
توكيدًا، يحدث الانكسار الضئيل الذي سيحرف الخط، أو العكس:
تبدأ الأمور في التحسُّن معك حين ينكسر كل شيء على الخط الآخر،
محدثًا ارتياحًا هائلًا. قد يكون تقدمًا ألَّا يعود المرء قادرًا على
تحمل شيء ما، لكن قد يكون أيضًا خوف عجوز، أو تطورًا لبارانويا
[لذهان هذياني] paranoïa. قد يكون تقديرًا سياسيًّا أو وجدانيًّا، صحيحًا تمامًا. المرء لا يتغير،
لا يشيخ بنفس الطريقة، من خطٍّ لآخر. إلا أن الخط المرن ليس
أكثر شخصية، أشدَّ حميمية؛ فالتصدعات-المتناهية الصغر
جماعية بدورها، بدرجة لا تقل عن الانقطاعات-المتناهية
الكبر، الشخصية. ثم يتحدث فيتزجيرالد أيضًا عن خط ثالث، يسمِّيه
القطيعة rupture.
يمكن القول إن شيئًا لم يتغير، ورغم ذلك تغير كل شيء. المؤكد
أن الأقسام الكبرى، التغيرات أو حتى الرحلات الكبرى، ليست هي
التي تصنع هذا الخط؛ كما لا تصنعه التحولات الأشد سريةً،
العتبات المتحركة والمنسابة، وإن كانت هذه الأخيرة تقترب منه.
يمكن القول بالأحرى إنه قد تم بلوغ عتبة «مطلقة». لم يعد ثمة
سر. صار المرء مثل كل الناس، لكنه بالضبط صنع من «كل الناس»
صيرورة. صار المرء لا محسوسًا خفيًّا. يكون المرء قد قام برحلة ساكنة غريبة. ورغم
اختلاف النبرة، يشبه الأمر إلى حد ما وصف كيركجارد لفارس
الإيمان، أنا لا أنظر إلا إلى
الحركات:٣ لم تعُد لدى الفارس أقسام الخضوع، لكن ليست لديه
كذلك مرونة شاعرٍ أو راقص، لا يجعل نفسه مرئيًّا، بل سيشبه
بالأحرى بورجوازيًّا، أو جابي ضرائب، أو صاحب دكان، إنه يرقص
بقدرٍ من الدقة بحيث يمكن القول إنه يمشي فحسب، أو حتى يظل
ساكنًا، إنه يختلط بالجدار، لكن الجدار قد صار حيًّا، إنه مرسوم
برمادي فوق رمادي، أو إنه مثل الفهد الوردي قد لوَّن العالم
بلونه، لقد اكتسب شيئًا منيعًا، ويعرف أن المرء وهو يحب، حتى
وهو يحب ومن أجل أن يحب، يجب أن يكتفي بذاته، وأن يتخلَّى عن
الحب وعن الأنا … (ومن الغريب أن لورانس قد كتب صفحات
مشابهة). لم يعُد سوى خطٍّ مجرد، حركة خالصة يصعب اكتشافها، إنه
لا يبدأ أبدًا، بل يأخذ الأشياء من المنتصف، إنه دائمًا في
الما بين - فيما بين خطَّين آخرَين؟ «أنا لا أنظر إلا إلى
الحركات.»
الخرائطية التي يقترحها اليوم ديليني
Deligny حين يتتبَّع
مسارات الأطفال المتوحدين: الخطوط المعتادة، وكذلك الخطوط
اللينة، حيث يصنع الطفلُ حلقة، أو يجد شيئًا، أو يصفِّق بيدَيه،
أو يدندن بريتورنيللو [لازمة موسيقية]، أو يعاود تتبع خطواته،
ثم «خطوط الشرود» المختلطة بالخطَّين الآخرَين.٤ كل هذه الخطوط متشابكة. يقوم ديليني بتحليل جغرافي، تحليل للخطوط يأخذ طريقه بعيدًا
عن التحليل النفسي،
ولا تخص الأطفال المتوحدين فقط، بل كل الأطفال، كل البالغين
(انظروا كيف يسير شخصٌ في الشارع، إن لم يكن مفرط التقيد
بانقساميته الصلبة، ولاحظوا أية ابتكارات صغيرة يدخلها في
سيره)، وليس السير وحده، بل الإيماءات والانفعالات، واللغة،
والأسلوب. يجب أولًا منح مكانة أكثر دقة للخطوط الثلاثة.
بالنسبة للخطوط المولارية ذات الانقسامية الصلبة، يمكن أن
نشير إلى عدد معين من الخصائص التي توضح تجميعتها، أو
بالأحرى أداءها داخل التجميعات التي تُشكل جزءًا منها (ولا
توجد تجميعات لا تشملها). ها هي تقريبًا خصائص النوع الأول من
الخط.
- أولًا: تعتمد الأقسام على آلات مزدوجة binaires، بالغة التنوع عند الحاجة. آلات مزدوجة للطبقات الاجتماعية، وللجنسَين: رجل-امرأة، وللعمر: طفل-بالغ، وللأجناس: أبيض-أسود، والقطاعات: عام-خاص، ولاكتسابات الذاتية subjectivations: يخصنا-لا يخصنا. هذه الآلات المزدوجة معقدة لا سيما أنها تتقاطع، أو تتصادم مع بعضها، أو تتواجه، وتقطعنا نحن أيضًا في جميع أنواع الاتجاهات. وليست ثنائية باختصار، بل إنها بالأحرى ذات انقسام ثنائي dichotomiques: فهي تستطيع العمل بشكل تعاقبي (إذا لم تكن أ ولا ب فأنت إذن س؛ لقد تغيرت الثنائية، ولم تعد تخص عناصر متزامنة يتم الاختيار من بينها، بل اختيارات متعاقبة: إذا لم تكن لا أبيض ولا أسود، فأنت هجين؛ وإذا لم تكن لا رجلًا ولا امرأة، فأنت مخنث. وفي كل مرة ستنتج آلة العناصر المزدوجة اختيارات مزدوجة بين العناصر التي لم تدخل في التقطيع الأول).
- ثانيًا: تتضمَّن الأقسام أيضًا ترتيبات dispositifs السلطة، البالغة التنوع فيما بينها، ويحدد كلٌّ منها شفرة وموطن القسم المناظر. هذه الترتيبات هي التي حللها فوكوه بشكل بالغ العمق، رافضًا أن يرى فيها الانبعاثات البسيطة لجهاز دولة موجود مسبقًا. وكل ترتيبة سلطة هي مركَّب شفرة-موطن (لا تقترب من موطني، فأنا من يحكم هنا …). ينهار مسيو دو شارلوس عند مدام فردوران؛ لأنه قد جازف بنفسه خارج موطنه ولم تعُد شفرته تعمل. انقسامية المكاتب المتجاورة عند كافكا. وباكتشاف هذه الانقسامية وذلك التنافر للسلطات الحديثة استطاع فوكوه أن يُحدث قطيعةً مع التجريدات الجوفاء للدولة و«القانون»، وأن يجدِّد كل معطيات التحليل السياسي. ولا يعني هذا أن جهاز الدولة ليس له معنًى؛ فله هو ذاته وظيفة بالغة الخصوصية؛ من حيث إنه يشفِّر تشفيرًا مفرطًا كل الأقسام، تلك التي يأخذها على عاتقه في هذه اللحظة أو تلك، وكذلك تلك التي يتركها خارجه. أو بالأحرى فإن جهاز الدولة هو تجميعة عينية تحقق آلة التشفير المفرط لمجتمع ما؛ ومن ثم فهذه الآلة بدورها ليست الدولة ذاتها بل هي الآلة المجردة التي تنظم المنطوقات السائدة والنظام القائم لمجتمع ما، الأنساق اللغوية والمعارف السائدة، الأفعال والمشاعر الممتثلة الأقسام التي تسود على غيرها. تضمن الآلة المجردة للتشفير المفرط تجانس الأقسام المختلفة، وقابليتها للتحويل، وقابليتها للترجمة، وتنظم الانتقالات من بعضها إلى البعض الآخر، والقوة السائدة التي يجري ذلك في ظلها. وهي لا تعتمد على الدولة، لكن فاعليتها تعتمد على الدولة مثلما تعتمد على التجميعة التي تحققها داخل مجال اجتماعي (مثلًا الأقسام النقدية المختلفة، فالأنواع المختلفة من النقود لها قواعد لقابلية التحويل، فيما بينها ومع الممتلكات، وتحيل إلى بنك مركزي كجهاز دولة). وقد قامت الهندسة الإغريقية بوظيفة آلة مجردة نظمت الفضاء الاجتماعي، في ظل شروط التجميعة العينية لسلطة المدينة. ويجب أن نسأل اليوم ما هي الآلات المجردة للتشفير المفرط، التي يجري تطبيقها كدالة لأشكال الدولة الحديثة. ويمكن حتى تصور «معارف savoirs» تقدم عروضًا لخدمة الدولة، مقترحة نفسها لتحقيقها، وزاعمةً أنها تقدم أفضل الآلات لأداء مهام وأهداف الدولة: المعلوماتية اليوم؟ لكن أيضًا العلوم الإنسانية؟ ليس ثمة علوم للدولة، بل هناك آلات مجردة لها علاقات اعتماد متبادل مع الدولة؛ ولذا يجب التمييز، على خط الانقسام الصلب، بين ترتيبات السلطة التي تُشفِّر الأقسام المختلفة، وبين الآلة المجردة التي تشفِّرها تشفيرًا مفرطًا وتنظم علاقاتها، وبين جهاز الدولة الذي يحقق هذه الآلة.
- ثالثًا: وأخيرًا، فإن كل الانقسامية الصلبة، كل خطوط الانقسامية الصلبة تُغلِّف مستوًى معينًا، يتعلق في آنٍ واحد بالأشكال وتطورها، بالذوات وتشكلها. هو مستوى التنظيم، الذي يمتلك دائمًا بعدًا إضافيًّا (التشفير المفرط). لم تتوقف تربية الذات وإضفاء التناغم على الأشكال عن مطاردة ثقافتنا، عن إلهام الانقسامات، والتخطيطات، والآلات الثنائية التي تقطعها، والآلات المجردة التي تعيد قطعها. وكما تقول بييريت فليتيو Pierrette Fleutiaux، حينما يبدأ خط محيط [كونتور] contour في الارتجاف، حين يتذبذب قسم، يتم استدعاء المنظار المرعب لقطعه، الليزر، الذي يعيد فرض النظام على الأشكال، ويعيد الذوات إلى مكانها.٥
أما بالنسبة للنمط الآخر من الخطوط، فإن الوضع يبدو مختلفًا
تمامًا؛ فالأقسامُ هنا ليست هي نفسها، تتقدم بعتبات، وتشكل
صيرورات، كتل صيرورة، وتحدد متصلات من الكثافة، وتزاوجات من
التدفقات. ليست الآلات المجردة هي ذاتها، متحولةً ومفرطة
التشفير، تحدِّد التحولات عند كل عتبة وكل تزاوج. ليس المستوى
هو ذاته، مستوى الاتساق أو
المحايثة الذي ينتزع من الأشكال جُسيمات لم
يعد بينها سوى علاقات سرعة أو بطء، ومن الذوات مُنفَعَلات لا
تعود تنفذ سوى فردنات
individuations بواسطة «الهذية heccéité». لا تعود
الآلات المزدوجة تشتبك مع هذا الواقعي، لا لأن القسم السائد
سيتغير (طبقة اجتماعية معينة، جنس معين …)، ولا أيضًا لأن
امتزاجات من نمط الثنائية الجنسية، أو اختلاط الطبقات ستفرض
نفسها، بل على العكس لأن الخطوط الجزيئية تعمل على تمرير
تدفقات من نزع التوطين، بين الأقسام، لا تعود تنتمي إلى هذا
أو ذاك، بل تشكل الصيرورة اللامتناظرة للاثنَين، جنسانية
جزيئية لا تعود جنسانية رجل أو امرأة، جماهير جزيئية لا يعود
لها خط محيط [كونتور] طبقة، أجناسًا جزيئية مثل الخطوط الصغيرة
التي لم تعد تستجيب للتعارضات المولارية الكبرى. لا يتعلق
الأمر بالتأكيد بمركَّب من الاثنين، بمركب من ١ ومن ٢، بل بثالث
يأتي دومًا من مكان آخر، ويُفسد ازدواجية الاثنين، لا يعود
يندرج في تعارضهما بل في تكاملهما. لا يتعلق الأمر بإضافة قسم
جديد إلى الأقسام السابقة على الخط (جنس ثالث، طبقة ثالثة،
مرحلة عمرية ثالثة)، بل برسم خط آخر في منتصف الخط الانقسامي،
في منتصف الأقسام، يحملها وفق سرعات وإبطاءات متغيرة في حركة
هروب أو تدفق. وحتى نواصل الحديث بمصطلحات الجغرافيا: لنفترض
أن انقسامية معينة تقام بين الغرب والشرق متعارضة داخل آلة مزدوجة، ومرتبة داخل
أجهزة الدولة، ومشفرة تشفيرًا مفرطًا كمخطط لنظام عالمي. عندها
يحدث «عدم الاستقرار» من الشمال إلى الجنوب، كما يقول جيسكار ديستان بسوداوية،
وينحفر مجرى ماء، حتى لو كان مجرى ماء قليل العمق، يعرض كل شيء
للخطر ويحول مجرى مستوى التنظيم. كورسيكي هنا، وفلسطيني هناك،
خاطفٌ طائرة، انتفاضة قبلية، حركة نسوية، نصير بيئة أخضر، منشق
روسي، سيوجد دومًا من ينتفض في الجنوب. تخيلوا الإغريق
والطرواديين كقسمَين متعارضَين، وجهًا لوجه، لكن ها هنَّ
الأمازونيات يصلن، يبدأْنَ بدحر الطرواديين، بحيث يصيح الإغريق
«الأمازونيات معنا»، لكنهن ينقلبن ضد الإغريق، يهاجمنهم من
الخلف بعنف سيل. هكذا تبدأ بنتيسيليا كلايست. الانقطاعات
الكبرى، التعارضات الكبرى قابلة للتفاوض دائمًا، لكن ليست
التصدعات الصغيرة، الانقطاعات اللامحسوسة، التي تأتي من
الجنوب. نقول لأنفسنا «جنوب» دون أن نعلق عليه أهمية. نتحدث
عن الجنوب، لنحدِّد اتجاهًا لم يعُد اتجاه الخط ذي الأقسام، لكن
لكل واحد جنوبه، الذي لا يهم أين يتخذ موقعه، أي خط ميله أو
هروبه. الأمم، والطبقات، والجنسان لها جنوبها. جودار: ما يهم
ليس فقط المعسكرَين المتعارضَين على الخط الكبير الذي يتواجهان
فوقه، ما يهم، هو أيضًا الحدود، التي عندها يمرُّ ويسير كل شيء
فوق خط جزيئي متكسر — متجه إلى مكان آخر. وكان مايو ٦٨
انفجار ذاك الخط الجزيئي، اندفاع الأمازونيات، الحدود التي
رسمت خطها غير المتوقع، حاملةً الأقسام مثل كتل منتزعة لم تعد
تتعرَّف على بعضها.
يمكن لومنا على أننا لم نخرج من الثنائية بنوعَين من الخطوط،
المختلفة التقطيع، والتصميم، والميكنة، لكن ما يعرف الثنائية،
ليس عدد الحدود كما أن المرء لا يخرج من الثنائية بإضافة
حدود أخرى (). لا يخرج المرء فعليًّا من الثنائيات إلا
بزحزحتها كأنها ثقل، وحين يجد بين الحدود، سواء كانت اثنين
أو أكثر، مضيقًا ضيقًا مثل حافة أو حدود ستحيل المجموع إلى
كثرة mutiplicité، بصرف النظر
عن عدد الأجزاء. وما نسميه تجميعة، هو بالضبط كثرة. إلا أن
التجميعة أيًّا كانت تضم بالضرورة خطوط انقسامية صلبة ومزدوجة،
بدرجة لا تقلُّ عن الخطوط الجزيئية، أو خطوط الحافة، أو
الهروب، أو الميل. إن أدوات السلطة لا تبدو لنا بالضبط مؤسسة
للتجميعات، لكنها تشكل جزءًا منها في بعد يمكن لكل التجميعة
أن تنهار فوقه، أو تنطوي على نفسها، لكن بالضبط، بقدر ما
تنتمي الثنائيات إلى هذا البعد، لا يشكل بعدٌ آخر للتجميعة
ثنائيةً مع هذا الأخير. فما من ثنائية بين الآلات المجردة
التي تُحدث التشفير المفرط، وبين الآلات المجردة للتحول:
فهذه الأخيرة تجد نفسها منقسمة، ومنظمة، ومشفرة تشفيرًا مفرطًا
بواسطة الأخرى، في نفس الوقت الذي تلغِّمها فيه، وتعمل كلتاهما
داخل بعضهما في قلب التجميعة. وبنفس الطريقة، لا توجد ثنائية
بين مستويَي التنظيم المتعالي والاتساق المحايث؛ فمن أشكال
وذوات المستوى الأول لا يتوقف الثاني عن انتزاع الجسيمات
التي لا تعود بينها سوى علاقات السرعة والبطء، وعلى مستوى
المحايثة أيضًا يقوم المستوى الآخر، ويعمل فيه ليعيق الحركات،
ويثبت المنفعلات وينظم الأشكال والذوات. وتفترض مؤشرات
السرعة أشكالًا تذيبها، بنفس قدر ما تفترض التنظيمات المواد
المندمجة التي تنظمها. لا نتحدث إذن عن ثنائية بين نوعَين من
«الأشياء»، بل عن كثرة من الأبعاد، من الخطوط والاتجاهات في
قلب تجميعة ما. وعن سؤال كيف يمكن للرغبة أن ترغب في قمعها
الذاتي، كيف يمكنها أن ترغب في استعبادها، نُجيب بأن القوى
التي تسحق الرغبة، أو التي تخضعها، تشكِّل بالفعل جزءًا من
تجميعات الرغبة ذاتها؛ يكفي أن تتبعَ الرغبةُ هذا الخط بعينه،
لتجد نفسها، مثل زورق، في قبضة هذه الريح بعينها. لا توجد رغبة
في الثورة أكثر مما توجد رغبة في السلطة، رغبة في القمع، أو
رغبة في الخضوع للقمع، لكن الثورة، والقمع، والسلطة … إلخ، هي
خطوط مكونة فعلية لتجميعة معطاة. وليس الأمر أن هذه الخطوط
موجودة مسبقًا؛ فهي ترتسم، تتشكَّل، محايثة لبعضها البعض، متشابكة
في بعضها البعض، في نفس الوقت الذي تتكون فيه تجميعة الرغبة،
بآلاتها المتشابكة، ومستوياتها المتقاطعة. لا نعرف مقدمًا أيها
سيعمل كخط ميل، ولا شكل ذلك الذي سيأتي ليعيقه. يصدق هذا،
مثلًا، على تجميعة موسيقية بشفراتها ومواطنها، بإكراهاتها
وأجهزة سلطتها، بمقاييسها المنقسمة ثنائيًّا، بأشكالها النغمية
والهارمونية، التي تتطور، بمستوى تنظيمها المتعالي، لكن أيضًا
بمحولاتها للسرعة بين الجزيئات الصوتية، ﺑ «زمنها غير
الموقع»، بتوالداتها وتلاشياتها بصيروراتها-طفلًا، صيروراتها-امرأة، حيوانًا، بمستوى
اتساقها المحايث. دور سلطة الكنيسة
لزمن طويل في التجميعات الموسيقية، وما نجح الموسيقيون في
تمريره داخل ذلك، أو في المنتصف. يصدق هذا على كل
تجميعة.
ما يجب مقارنته في كل حالة هي حركات نزع التوطين وسيرورات
إعادة التوطين التي تظهر في تجميعة ما، لكن ماذا تعني هذه
الكلمات التي اخترعها فيليكس ليجعلها معاملات
coefficients متغيرة؟
يمكننا الرجوع إلى الأشياء المألوفة لتطور الإنسانية:
الإنسان، منزوع التوطين.
حين يقال لنا إن شبيه الإنسان قد انتزع من الأرض قوائمه
الأمامية، وإن اليد كانت أولًا مرتبطة بالحركة، ثم بالإمساك،
فهذه عتبات أو كمات لنزع التوطين، لكن في كل مرة مع إعادة توطين مكملة: اليد المرتبطة
بالحركة بوصفها قائمةً منزوعة
التوطين تتم إعادةُ توطينها فوق الأغصان التي تستخدمها للمرور
من شجرة إلى أخرى؛ اليد الممسكة بوصفها تحركًا منزوع التوطين
تتم إعادة توطينها فوق العناصر المنتزعة، المستعارة،
المسماة أدوات، التي سيشهرها أو يقذفها. إلا أن الأداة
«العصا» هي ذاتها غصن منزوع التوطين؛ وتتضمن الابتكارات
الكبرى للإنسان عبورًا إلى السهوب بوصفها غابةً منزوعة
التوطين؛ وفي نفس الوقت يعيد الإنسان توطين نفسه فوق السهوب.
يقال عن الثدي إنه غدة إرضاع منزوعة الموطن، بفعل القامة
الرأسية؛ وإن الفم خطم منزوع التوطين، بفعل انقلاب الغدد
اللعابية إلى الخارج (الشفاه)، لكن تجري إعادة توطين
مناظرة للشفاه فوق الثدي وبالعكس؛ بحيث تخترق الأجسادَ
والأوساطَ سرعاتُ نزع توطين بالغة الاختلاف، سرعاتٌ تفاضلية،
تشكل مكملاتها متصلات كثافة، لكنها أيضًا ستفسح المجال
لسيرورات إعادة توطين. وعند الحد الأقصى فإن الأرض ذاتها، هي
المنزوعة التوطين («الصحراء تتسع …»)، والبدوي، رجل الأرض،
رجل نزع التوطين، رغم أنه هو أيضًا ذلك الذي لا يتحرك، الذي
يظل متشبثًا بالمنتصف، صحراء كان أو سهوبًا.
١
Kleist, Du theatre de
marionettes.
٢
Fitzgerald,
La
Felure,
ed. Gallimard.
٣
Kierkgaard,
Crainte
et tremblement,
ed. Aubier،
(والطريقة التي بها، كدالة للحركة، يرسم كيركجارد مخطط سلسلة من السيناريوهات التي تنتمي فعلًا إلى السينما.)
(والطريقة التي بها، كدالة للحركة، يرسم كيركجارد مخطط سلسلة من السيناريوهات التي تنتمي فعلًا إلى السينما.)
٤
Fernand Deligny,
Cahiers
de l’immuable,
ed. Recherches.
٥
Pierrette
Fleutiaux,
Histoire du gouffre
et de la
lunette,
ed. Julliard.