القسم الثاني
لكن داخل المجالات الاجتماعية العينية في هذه اللحظة أو
تلك، تجب دراسة الحركات المقارَنة لنزع التوطين، لمتصلات
الكثافة وتزاوجات التدفقات التي تشكلها. ونأخذ كأمثلة، زهاء
القرن الحادي عشر: حركة هروب كتل النقود؛ نزع التوطين الكبير
لجماهير الفلاحين، تحت ضغط الغزوات الأخيرة، والمطالب
المتزايدة للسادة الإقطاعيين؛ نزع توطين جماهير النبلاء،
الذي يتخذ أشكالًا بالغة التنوع، مثل الحملات الصليبية،
والإقامة في المدن، والأنماط الجديدة لاستغلال الأرض (الإيجار
أو العمل المأجور)؛ الأشكال الجديدة للمدن التي تصبح
توزيعاتُها أقلَّ إقليميةً باطِّراد؛ نزع توطين الكنيسة، بنزع ملكية أراضيها ﺑ
«سلام الرب»، بتنظيمها للحملات الصليبية؛ نزع توطين المرأة
بالحب الفروسي، ثم بحب البلاط. ويمكن للحملات الصليبية (بما
في ذلك الحملات الصليبية للأطفال) أن تظهر باعتبارها عتبةً
لتزاوج كل تلك الحركات. ويمكن القول بمعنًى معين بأن ما هو
أولي في مجتمع ما هي الخطوط، حركات الهروب؛ لأن هذه الأخيرة،
بعيدًا عن أن تكون هروبًا خارج ما هو اجتماعي بعيدًا عن أن تكون
طوباوية أو حتى أيديولوجية، فإنها مؤسسةٌ للمجال الاجتماعي،
الذي ترسم له الميل أو الحدود، كل الصيرورة. يمكن التعرُّف
بسرعة على ماركسي عند قوله إن أي مجتمع يتناقض مع نفسه،
يتحدَّد بتناقضاته، وخصوصًا التناقضات الطبقية. لكننا نقول
بالأحرى إنه، داخل أي مجتمع، يهرب كلُّ شيء، وإن أي مجتمع
يتحدد بخطوط هروبه التي تؤثر على كتل من كل نوع (مرة أخرى
فإن «الكتلة» هي مقولة جزيئية). أي مجتمع، وكذلك أي تجميعة
جماعية، يتحدَّد أولًا بنقاط نزع التوطين فيه، بتدفقات نزع
التوطين فيه. ومغامرات التاريخ الجغرافية الكبرى هي مغامرات
خطوط الهروب، أي مسيرات طويلة، على الأقدام، على الخيول، أو
على قارب: مسيرة العبرانيين في الصحراء، مسيرة جينسيريك
Genséric الوندال عابرًا
البحر المتوسط، مسيرة البدو عبر السهب، المسيرة الطويلة
للصينيين، إننا نبدع دائمًا فوق خط هروب، ليس في الحقيقة
لأننا نتخيَّل أو نحلم، بل على العكس لأننا نتتبع فوقه الواقعي،
ولأننا نشكل فوقه مستوى اتساق؛ أن نهرب لكن أثناء هروبنا أن
نبحث عن سلاح.
هذه الأوَّلية لخطوط الهروب، لا يجب فهمها كتسلسل زمني،
كذلك لا يجب فهمها بمعنى عمومية أبدية. إنها بالأحرى حقيقة
وحق ما هو في غير أوانه
l’intempestif: زمن غير
موقع، هذية مثل ريح تهب، مثل منتصف ليل، مثل منتصف نهار؛ لأن
إعادات التوطين تجري في نفس الوقت: نقدية، فوق مدارات جديدة،
وريفية، فوق أنماط جديدة من الاستغلال، وحضرية فوق وظائف
جديدة … إلخ. وبقدر ما يجري تراكمٌ لكل إعادات التوطين هذه،
تنشأ إذن «طبقة» تستفيد من ذلك بوجه خاص، وتكون قادرةً على
إحداث تجانس فيما بينها، وعلى تشفير كل الأقسام تشفيرًا مفرطًا.
وعند الحد الأقصى، سيتوجب تمييز حركات الجماهير، من كل نوع، مع
معاملات سرعتها المناظرة، واستقرارات الطبقات، مع أقسامها
الموزَّعة داخل إعادة توطين المجموع، يعمل نفس الشيء بوصفه
جمهورًا، وبوصفه طبقة، لكن فوق خطَّين مختلفَين متشابكَين، بخطوط
[كونتور] لا تتطابق. يمكننا إذن أن نفهم بشكلٍ أفضل لماذا
نقول تارةً إن هناك على الأقل ثلاثة خطوط مختلفة، وتارةً
اثنَين فقط، وتارةً لا يوجد سوى خطٍّ واحد، بالغ التشوُّش. تارة
ثلاثة خطوط بالفعل؛ لأن خط الهروب أو الانقطاع يزاوج كل حركات
نزع التوطين، يسارع كماتها، وينتزع منها جسيمات متسارعة تدخل
في تجاورٍ مع بعضها البعض، ويجرفها فوق مستوى اتساق أو آلة
متحولة، ثم هناك خطٌّ ثانٍ جزيئي، لا تعدو فوقه عمليات نزع
التوطين أن تكون نسبية، تعوضها دائمًا إعادات توطين تفرض
عليها الكثير من الأنشوطات، والانعطافات، من التوازن أو
الاستقرار، وأخيرًا هناك الخط المولاري ذو الأقسام المحدَّدة جيدًا؛ حيث تتراكم إعادات
التوطين لتؤسس مستوى تنظيم، وتنتقل إلى آلة تشفير مفرط. ثلاثة خطوط، سيكون أحدها مثل
الخط
البدوي، والآخر مهاجر، والآخر مستقر (والمهاجر ليس على
الإطلاق مثل البدوي). أو ربما لا يوجد سوى خطَّين؛ لأن الخط
الجزيئي قد يبدو فقط كخط متذبذب بين الحدَّين المتطرفَين، تارةً
يجرفه تزاوج تدفقات نزع التوطين، وتارةً يرتبط بتراكم إعادات
التوطين (تارة يجعل المهاجر من نفسه حليفًا للبدوي، وتارة
مرتزقًا أو متحدًا مع إمبراطورية القوط الشرقيين والقوط
الغربيين). أو لا يكون هناك سوى خطٍّ واحد، خط الهروب الأول، خط
الحافة أو الحدود، يصبح نسبيًّا على الخط الثاني، ويسلم نفسه
للتوقف أو القطع على الثالث. وحتى حينئذٍ قد يكون مريحًا تقديم
الخط باعتباره وليد انفجار الخطَّين الآخرَين. ليس ثمَّة ما هو
أعقد من الخط أو الخطوط: هذا ما يتحدث عنه ملفيل، موحدًا
الزوارق في انقساميتها المنظَّمة، والقبطان أهاب في صيرورته-حيوانًا وجزيئيًّا، والحوت
الأبيض في هروبه المجنون. لنعُد إلى
أنظمة العلامات التي تحدثنا عنها فيما سبق: كيف يكون خط
الهروب مسدودًا في النظام الاستبدادي، وموسومًا بعلامة سلبية،
وكيف يجد في نظام العبرانيين قيمةً إيجابية، لكن نسبية،
ومقطعة إلى سيرورات متتابعة … كانت هاتان حالتَين موجزتَين جدًّا
فحسب، وهناك الكثير من الحالات الأخرى التي تمثل في كل مرة
الأمر الجوهري في السياسة. السياسة هي تجريب نشط؛ لأن المرء لا
يعرف مقدمًا ما الطريق الذي سيتخذه خطٌّ ما. يقول المحاسب ارسموا
خطًّا لكن في الحقيقة يمكن للمرء أن يرسمه في أي مكان.
هناك الكثير من الأخطار، لكل واحد من الخطوط الثلاثة
أخطاره. وخطر الانقسامية الصلبة أو خطر خط الانقطاع يظهر في
كل مكان؛ لأن هذا الخط لا يتعلق فقط بعلاقاتنا بالدولة، بل
بكل أدوات السلطة التي تعمل على أجسادنا، بكل الآلات
المزدوجة التي تقطعنا، بكل الآلات المجردة التي تشفِّرنا
تشفيرًا مفرطًا؛ يتعلق بطريقتنا في الإدراك، والفعل والإحساس
ونظم علاماتنا. صحيح أن الدول القومية تتذبذب بين قطبَين:
ليبرالي لا تكون فيه الدولة سوى جهازٍ يوجه تفعيل
l’effectuation الآلة
المجردة؛ وشمولي، تأخذ فيه الدولة على عاتقها الآلة المجردة،
وتميل إلى الاختلاط معها، لكن الأقسام التي تخترقنا والتي
نمر من خلالها، تتميز على كل حال، بصلابة تطمئننا، بينما تجعل
منا المخلوقات الأشد إثارة للخوف، وكذلك الأشد قسوة، والأشد
مرارة. والخطر من الانتشار، ومن البداهة بحيث إننا يجب
بالأحرى أن نتساءل فيمَ نحتاج مثل تلك الانقسامية رغم ذلك.
وحتى لو كانت لدينا القدرة على نسفها، فهل سنستطيع التوصل
إلى ذلك دون أن ندمِّر أنفسنا، حيث إنها تشكل جزءًا من شروط
الحياة، بما في ذلك كياننا العضوي وعقلنا ذاته؟ إن التعقُّل
الذي يجب علينا التعامل به مع هذا الخط، والاحتياطات التي
يجب اتخاذها لتليينه، ووقفه، وتحويله، ونسفه، تشهد على جهد
طويل لا يتم القيام به ضد الدولة وسلطاتها فحسب، بل على
أنفسنا مباشرةً.
لا سيَّما وأن الخط الثاني له هو ذاته مخاطره. لا يكفي
بالتأكيد بلوغ أو رسم خط جزيئي، أو الانسياق فوق خط لين. فهنا
أيضًا، يتعلق الأمر بكل شيء، إدراكنا أفعالنا ومشاعرنا، نظم
علاماتنا. لكننا يمكننا ليس فقط أن نصادفَ على خط لين نفس
المخاطر التي نصادفها على خط صلب: أن تكون أوديبات مجتمعية
صغيرة قد أخذت مكان أوديب العائلي، أن تكون علاقات قوة
متحركة قد حلَّت محل أدوات السلطة، أن تكون التصدُّعات قد قامت
مقام الممارسات العنصرية. بل إن هناك ما هو أسوأ أن تكون
الخطوط اللينة هي ذاتها التي تُنتج أو تواجه أخطارها الخاصة،
عتبة تم تجاوزها بسرعة مفرطة، كثافة أصبحت خطيرةً لأن المرء
لم يستطع تحمُّلها. لم تتخذوا ما يكفي من الاحتياطات. هذه ظاهرة
«الثقب الأسود»: يتسارع خط لين داخل ثقب أسود لا يستطيع
الخروج منه. يتحدث جاتاري عن فاشيات متناهية الصغر توجد
داخل مجال اجتماعي، دون أن تكون متمركزة بالضرورة داخل جهاز
دولة بعينه. لقد تركنا وراءنا ضفاف الانقسامية الصلبة، لكننا
دخلنا داخل نظام لا يقل تنظيمًا، ينغرس فيه كل واحد داخل ثقبه
الأسود، ويصبح خطرًا داخل هذا الثقب، متمتعًا بثقة في حالته،
ودوره ومهمته، مما يعد أكثر إثارة للقلق من يقينيات الخط
الأول: أشباه ستالين في الجماعات الصغيرة، ومنفذو العدالة في
الأحياء، والفاشيات المتناهية الصغر في العصابات … لقد
نسبوا إلينا أننا نقول إن الفصامي بالنسبة لنا هو الثوري
الحق. لكننا نعتقد بالأحرى أن الفصام هو سقوط سيرورة جزيئية
في ثقب أسود. لقد بعث فينا الهامشيون الخوف دائمًا، وبعض
الرعب. فليسوا خفيين بما يكفي.
[ملاحظة لجيل دولوز. إنهم يخيفونني، على أية حال. هناك
حديث جزيئي للجنون «في الجسم الحي in
vivo»، أو لمدمن المخدرات، أو للجانح، لا
يساوي أكثر من الخطابات الكبرى للطبيب النفسي «في المختبر
in vitro». هناك من
التوكيد الذاتي عند الأول قدر ما هناك من اليقين عند الثاني.
ليس الهامشيون من يبدعون الخطوط، بل يستقرون فوق هذه الخطوط،
ويجعلونها ملكًا لهم، والأمر على ما يرام حين يتحلَّون بذلك
التواضع الغريب لأصحاب الخط، بتعقل المجرب، لكنها كارثة حين
ينزلقون داخل ثقب أسود، لا يعود يخرج منه سوى الحديث الفاشي
المتناهي الصغر، لتبعيتهم وتخبطهم: «نحن الطليعة»، «نحن
الهامشيون …»]
بل يحدث حتى أن يتغذى الخطان على بعضهما، وأن يدخل تنظيم
انقسامية تزداد صلابة، على مستوى المجموعات المولارية الكبرى،
في نفس الحلقة مع إدارة المخاوف الصغيرة والثقوب السوداء؛ حيث
ينغمس كل واحد في الشبكة المولارية. ويرسم بول فيريليو
Paul Virilio لوحة
الدولة العالمية كما ترتسم خطوطها العريضة اليوم: دولة السلم
المطلق المخيفة أكثر من دولة الحرب الشاملة، لكونها حققت
تماهيها الكامل مع الآلة المجردة، وحيث يتصل التوازن بين
مناطق النفوذ وبين الأقسام الكبرى ﺑ «خاصية شعرية سرية»؛
حيث لا تعود المدينة المضيئة والجيدة التقسيم تُؤوي سوى سكان
كهوف ليليين، كل منهم غائص في ثقبه الأسود، «مستنقع اجتماعي»
يكمل بالضبط «المجتمع البديهي والمفرط التنظيم.»
١
وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأنه يكفي أن نأخذ في النهاية خط
الهروب أو القطيعة؛ إذ يجب أولًا رسمه، معرفة أين وكيف نرسمه.
ثم إن له هو ذاته خطره، الذي ربما كان الأسوأ. ليس الأمر
فحسب أن خطوط الهروب، ذات الميل الأكبر، تخاطر بأن تصبح
مسدودة، منقسمة، منجذبة داخل ثقوب سوداء، لكنها تحمل علاوة
على ذلك خطرًا خاصًّا: أن تتحول إلى خطوط إبطال، خطوط تدمير،
لغيرها من الخطوط ولذاتها. شغف الإبطال. وحتى الموسيقى،
لماذا تمنح كل هذا التوق إلى الموت؟ صرخة موت ماري
Marie، الممتدَّة طوليًّا
على سطح المياه، وصرخة موت لولو
Lulu الرأسية والسماوية.
هل كل الموسيقى بين هاتَين الصرختَين؟ كيف يحدث أن كل الأمثلة
التي أعطيناها لخطوط الهروب، حتى عند الكتَّاب الذين نحبهم،
تنتهي نهاية سيئة؟ وخطوط الهروب تنتهي نهاية سيئة، ليس لأنها
خيالية، لكن بالضبط لأنها واقعية وبكل واقعيتها. تنتهي نهاية
سيئة، ليس فقط لأن الخطَّين الآخرَين يُعيقانها، بل من تلقاء
ذاتها، بسبب خطر تخفيه. كلايست وحلف انتحاره، هولدرلين وجنونه،
فيتزجيرالد وانهياره، فيرجينيا وولف واختفاؤها. يمكننا تخيُّل أن
تكون بعض هذه الميتات مسالمة وحتى سعيدة، هذية موت لا يعود
موت شخص، بل استخلاص حدث خالص، في حينه، وعلى مستواه، لكن ألا
يمكن لمستوى المحايثة، مستوى الاتساق، أن يجلب لنا سوى موت
وقور نسبيًّا وغير مرير؟ لم يُصنع المستوى من أجل هذا. حتى لو
كان كل خلق ينتهي بإبطاله الذي يعمل عليه منذ البداية، حتى
لو كانت كل الموسيقى هي سعي إلى الصمت فلا يمكن الحكم عليهما
وفق نهايتهما، ولا وفق هدفهما المفترض؛ لأنهما يتجاوزانهما من
جميع الجوانب. حين ينتهيان بالموت، فذلك دالة لخطر يخصهما،
وليس لمصير سيكون مصيرهما. هذا ما نريد قوله: لماذا، فوق
خطوط الهروب بوصفها واقعية، تتكرَّر «استعارة» الحرب باستمرار،
حتى على أكثر المستويات شخصيةً أكثرها فردية؟ هولدرلين وساحة
المعركة هيبريون Hypérion.
كلايست، وفي كل مكان في عمله فكرة آلة حرب ضد أجهزة الدولة، لكن
أيضًا في حياته ذاتها فكرة حرب يجب شنها، يجب أن تقوده إلى
الانتحار. فيتزجيرالد: «انتابني الشعور بأنني واقف عند الغسق
فوق ميدان رماية مهجور …» النقد
والعيادة: الحياة، والعمل، هما نفس الشيء حين
يكونان قد اقترنا بخط الهروب الذي يجعلهما قطعًا في آلة حرب
واحدة. لزمن طويل، في هذه الشروط، كفَّت الحياة عن أن تكون
شخصية، وكفَّ العمل عن أن يكون أدبيًّا، أو نصيًّا.
من المؤكد أن الحرب ليست استعارةً. ونفترض مع فيليكس أن
آلة الحرب لها طبيعة وأصل مختلفان تمامًا عن جهاز الدولة.
سيعود أصل آلة الحرب إلى الرعاة البدو، ضد المستقرين
الإمبراطوريين؛ وتتضمَّن تنظيمًا حسابيًّا في فضاء مفتوح يتوزع
فيه البشر والحيوانات، في مقابل التنظيم الهندسي للدولة التي
تُقسم فضاء مغلقًا (وحتى حين ترتبط آلة الحرب بهندسة، فإنها
هندسة بالغة الاختلاف عن هندسة الدولة، نوع من الهندسة
الأرشميدية، هندسة «مشكلات»، وليست هندسة «نظريات» مثل هندسة
إقليدس). وبالعكس لا ترتكز سلطة الدولة على آلة حرب، بل على
تشغيل الآلات المزدوجة التي تخترقنا والآلة المجردة التي
تشفِّرنا تشفيرًا مفرطًا: «شُرطة» كاملة. آلة الحرب، على العكس،
تخترقها الصيرورات-حيوانات والصيرورات-امرأة، والصيرورات-غير محسوس للمحارب (قارن السر
باعتباره اختراع آلة الحرب،
في مقابل «دعاية» المستبد أو رجل الدولة). وطالما أصر
دوميزيل
Dumézil على هذا
الوضع الشاذ للمحارب في علاقته بالدولة؛ ويبين لوك دو أوش
Luc de Heusch كيف أن
آلة الحرب تأتي من الخارج، وتنقض على دولة متطورة بالفعل لم
تكن تتضمَّنها.
٢ ويشرح بيير كلاستر
Pierre
Clastres، في مقال أخير، كيف كانت
وظيفة الحرب في الجماعات البدائية، هي تحاشي تشكُّل جهاز دولة.
٣ يمكن القول إن جهاز الدولة وآلة الحرب لا
ينتميان إلى نفس الخطوط، لا ينبنيان فوق نفس الخطوط: فبينما
ينتمي جهاز الدولة إلى خطوط الانقسامية الصلبة، بل ويشرطها
بقدر ما يُنجز تشفيرها المفرط، تتبع آلة الحرب خطوطَ الهروب ذات
الميل الأكبر، قادمةً من أعماق السهوب أو من الصحراء، وتغرس
نفسها في الإمبراطورية. جنكيز خان وإمبراطور الصين. التنظيم
العسكري هو تنظيم هروب، حتى ذلك الذي أعطاه موسى لشعبه، ليس
لمجرد أنه يتمثَّل في الهروب من شيء ما، ولا في جعل العدو يهرب؛
بل لأنه يرسم أينما مر، خط هروب أو نزع توطين يشكِّل شيئًا
واحدًا مع سياسته الخاصة، واستراتيجيته الخاصة. في ظل هذه
الظروف، ستكون إحدى أكبر المشاكل التي ستُطرح على الدول إدماج
آلة الحرب تحت شكل جيش مؤسسي، وجعلها جزءًا من شرطتها العامة
(ربما كان تيمورلنك المثال الأكثر إدهاشًا لذلك التحول). لا
يكون الجيش أبدًا سوى حل وسط. قد يحدث أن تصبح آلة الحرب مرتزقة،
أو تترك نفسها لتتملكها الدولة بقدر ما تهزم هي الدولة، لكن
سيكون ثمة دومًا توتُّر بين جهاز الدولة بمتطلباته في الحفاظ
على نفسه، وبين آلة الحرب في سعيها لتدمير الدولة ورعايا
الدولة، وحتى لتدمير ذاتها أو لحل نفسها على طول خط الهروب.
إذا لم يكن هناك تاريخٌ من وجهة نظر البدو، رغم أن كل شيء يمرُّ
عبرهم، إلى حد كونهم مثل «الشيء في ذاته
noumènes» أو ما لا يقبل
المعرفة في التاريخ؛ فذلك لأنهم لا ينفصلون عن مهمة الإبطال
تلك التي تجعل الإمبراطوريات البدوية تتلاشى كأنما من تلقاء
ذاتها، في نفس الوقت الذي إما أن تتدمر فيه آلة الحرب، أو تمر
لتصبح في خدمة الدولة. باختصار، يتحوَّل خط الهروب إلى خط
إبطال، تدمير للخطوط الأخرى ولنفسه، في كل مرة ترسمه فيها
آلة حرب. وهذا هو الخطر الخاص لهذا النمط من الخط، الذي
يختلط بالأخطار السابقة لكنه لا يمتزج معها إلى حد أنه، في
كل مرة يتحول فيها خط هروب إلى خط موت، لا نستدعي دافعًا
داخليًّا من قبيل «غريزة الموت»، بل نستدعي تجميعةً أخرى للرغبة
تستخدم آلة موضوعية أو خارجية قابلة للتعريف. ليس أمرًا
استعاريًّا إذن أنه في كل مرة يدمر فيها أحد الآخرين ويدمر
نفسه، يكون قد ابتكر فوق خط هروبه آلة الحرب الخاصة به: آلة
الحرب الزوجية عند ستريندبرج، آلة الحرب الكحولية عند
فيتزجيرالد … ويرتكز كل عمل كلايست على الملاحظة التالية: لم
تعد هناك آلة حرب على نطاق واسع مثل آلة حرب الأمازونيات، لم
تعُد آلة الحرب سوى حلمٍ يتلاشى هو ذاته ويفسح المجال للجيوش
القومية (أمير هومبورج)؛ كيف يمكن للمرء أن يعيد ابتكار آلة
حرب من نمط جديد (مايكل كولهاس
Michael
Kohlhaas)، كيف يمكنه أن يرسم خط الهروب
رغم معرفته جيدًا أنه يقوده إلى الإبطال (حلف انتحار)؟ شن
حربه الخاصة؟ كيف يمكنه إفساد هذا الفخ الأخير؟
لا تقوم الاختلافات بين ما هو فردي وما هو اجتماعي؛ لأننا
لا نرى أية ثنائية بين هذَين النمطَين من المشكلات: لا توجد ذاتٌ
للنطق، لكن كل اسم علم جماعي، وكل تجميعة جماعية بالفعل، كذلك
لا تقوم الاختلافات بين ما هو طبيعي وما هو اصطناعي، فكلا
الاثنَين ينتميان إلى الآلة ويتبادلان داخلها فيما بينهما. ولا
بين ما هو تلقائي وما هو منظم؛ لأن السؤال الوحيد يتعلق
بأنماط التنظيم. ولا بين ما هو انقسامي وما هو متمركز، ما دامت
المركزية هي ذاتها تنظيمًا يرتكز على شكل انقسامية صلبة. تقوم
الاختلافات الفعلية بين الخطوط، رغم كونها جميعًا محايثة
بعضها للبعض الآخر، ومشتبكة بعضها في البعض الآخر؛ لذا فإن
سؤال التحليل الفصامي أو البراجماتيات، السياسة المتناهية
الصغر ذاتها، لا يتمثل أبدًا في التفسير، بل فقط في السؤال: ما
هي خطوطك، فردًا أو جماعة، وما هي الأخطار فوق كل واحد منها؟ أولًا: ما هي أقسامك الصلبة،
آلاتك المزدوجة وآلاتك للتشفير
المفرط؟ لأن هذه ذاتها ليست معطاة جاهزة، لسنا منقسمين فقط
بآلات مزدوجة للطبقة، وللجنس، أو العمر: وهناك أخرى لا نتوقف
عن زحزحتها، عن ابتكارها دون أن ندري. وما الأخطار إذا جعلنا
هذه الأقسام تنفجر أسرع مما ينبغي؟ ألن يموت الكيانُ العضوي
ذاته، هو الذي يملك أيضًا آلاته المزدوجة، حتى في أعصابه ومخِّه؟
ثانيًا: ما هي خطوطك اللينة ما هي تدفقاتك وعتباتك؟ ما هي
منظومتك لنزع التوطينات النسبية، ولإعادات التوطين المناظرة؟
وتوزيع الثقوب السوداء: ما هي الثقوب السوداء لكل واحد منا؛
حيث يكمن وحش أو تتغذَّى الفاشية المتناهية الصغر؟ ثالثًا:
ما هي خطوط هروبك؛ حيث تتزاوج التدفقات، حيث تبلغ العتبات
نقطة التجاور والقطيعة؟ هل لا تزال تقبل الحياة فوقها، أم
أنها واقعة بالفعل داخل آلة تدمير، وتدمير ذاتي يمكن أن تعيد
تأسيس فاشية مولارية؟ قد يحدث أن تُختزل تجميعة ما للرغبة
وللنطق إلى خطوطها الأكثر صلابة، إلى ترتيباتها للسلطة. هناك
تجميعات ليس لها سوى هذه الخطوط، لكنَّ أخطارًا أخرى تتربَّص بكل
واحد منها، أخطارًا أكثر ليونةً وأكثر لزوجة، يكون كل واحد هو
وحده الحكم فيها، ما دام لم يفت الأوان. وسؤال «كيف يمكن
للرغبة أن ترغب في قمعها ذاته؟» لا يطرح صعوبة نظرية حقيقية،
لكنه يطرح الكثير من الصعوبات العملية في كل مرة. ثمة رغبة
فور أن توجد آلة أو «جسد دون أعضاء»، لكن ثمة أجساد دون أعضاء
مثل الأغلفة الفارغة المتصلبة؛ لأن مكوناتها العضوية قد
نُسفت بسرعة مفرطة وبقوة مفرطة، «جرعة زائدة
overdose». ثمة أجساد دون
أعضاء، سرطانية، فاشية، في ثقوب سوداء أو آلات إبطال. كيف
يمكن للرغبة أن تتغلب على كل هذا بإدارة مستوى الرغبة
والاتساق لها، الذي يواجه في كل مرة هذه المخاطر؟
ما من وصفة عامة. لقد انتهينا من كل المفاهيم التعميمية؛
فالمفاهيم ذاتها هي هذيات، أحداث. ما يهم في مفاهيم مثل
الرغبة، أو الآلة، أو التجميعة، أنها لا تكتسب قيمتها إلا من
خلال متغيراتها، من خلال الحد الأقصى من المتغيرات التي
تُتيحها. لا ندافع عن مفاهيم ضخمة مثل أسنان مجوفة، القانون،
السيد، المتمرد. لسنا هنا من أجل إحصاء موتى وضحايا التاريخ،
وشهداء الجولاج؛ لنستنتج أن: «الثورة مستحيلة، لكننا، نحن
المفكرين، يجب أن نفكر في المستحيل، حيث إن المستحيل لا يوجد
إلا من خلال فكرنا!» يبدو لنا أنه ما كان ليوجد أبدًا أدنى
جولاج، لو كان الضحايا قد تبنوا الخطاب الذي يتبناه اليوم من
يبكون عليهم. كان سيتوجب على الضحايا أن يفكروا وأن يحيوا
بطريقة مختلفة تمامًا، حتى يعطوا مادة لأولئك الذين يبكون
باسمهم، ويفكرون باسمهم، ويعطون دروسًا باسمهم. قوة الحياة
لديهم هي ما دفعتهم، وليس مرارتهم، تعقلهم، وليس طموحهم؛
عزوفهم المرضي عن الطعام [أنوركسياهم] وليس شهيتهم الضخمة،
كما كان يمكن أن يقول زولا. لقد أردنا أن نكتب كتابًا عن
الحياة، لا عن المحاسبة، ولا عن المحاكمة، حتى لو كانت محاكمة
الشعب أو الفكر الخالص. لم يكن سؤال الثورة أبدًا هو: عفوية
طوباوية أم تنظيم دولة. حين يشجب المرء نموذج جهاز الدولة،
أو تنظيم الحزب الذي يتخذ نموذجًا له الاستيلاء على هذا
الجهاز، فإنه لا يسقط رغم ذلك في البديل المبتذل: إما أن
يستدعي حالة طبيعية، دينامية عفوية، أو يصير المفكر المستنير
المزعوم لثورة مستحيلة، يستمد لذة كبيرة من كونها مستحيلة.
كانت المسألة دومًا تنظيمية، ليست أيديولوجية على الإطلاق: هل
هناك إمكانية لتنظيم لا يتخذ نموذجًا له جهاز الدولة، حتى من
أجل التجسيد المسبق للدولة المستقبلية؟ ربما آلة حرب، بخطوط
هروبها؟ وضع آلة الحرب في مقابل جهاز الدولة: في كل تجميعة،
ولو كانت موسيقية، ولو كانت أدبية، يجب تقدير درجة التجاور
مع هذا القطب أو ذاك، لكن كيف تصبح آلة حرب في أي مجال حديثة،
وكيف تتجنب أخطارها الفاشية الخاصة في مواجهة الأخطار
الشمولية للدولة، أخطار تدميرها الخاصة في مواجهة الحفاظ على
الدولة؟ الأمر، على نحو معين، بالغ البساطة، يجري كل يوم، من
تلقاء ذاته. سيكون الخطأ أن نقول: هناك دولةٌ ذات طابع كلي،
مسيطرة على خططها وتنصب فخاخها، ثم هناك قوة مقاومة ستتبنى
شكل الدولة، حتى لو نتج عن ذلك أن تخوننا، أو ستسقط في
النضالات الجزئية أو العفوية، حتى لو نتج عن ذلك أن تختنق أو
تُهزم في كل مرة. الدولة الأشد مركزية ليست مسيطرة على خططها
على الإطلاق؛ فهي أيضًا تجرب، تقوم بعمليات حقن، لا تستطيع
التنبؤ بأي شيء: يعلن اقتصاديو الدولة أنهم غير قادرين على
التنبُّؤ بزيادة كتلة نقدية. السياسة الأمريكية مجبرة على
العمل بحقن إمبيريقية، وليس على الإطلاق ببرامج يقينية.
يا لها من لعبة حزينة ومزيفة يلعبها أولئك الذين يتحدثون عن
سيد في منتهى الدهاء!
حتى يقدموا لأنفسهم صورة المفكرين الصارمين، غير القابلين
للفساد، و«المتشائمين». فوق الخطوط المختلفة للتجميعات المركبة
تُجري السلطات القائمة تجريباتها، لكن فوقها ينهض أيضًا
مجربون من نوع آخر، يحبطون التوقعات، ويرسمون خطوط هروب نشطة،
ويسعون إلى مزاوجة هذه الخطوط، يزيدون من سرعتهم أو يبطئونها،
يخلقون مستوى الاتساق قطعة قطعة، بآلة حرب ستقيس في كل خطوة
المخاطر التي تصادفها.
إن ما يميز وضعنا هو في آنٍ واحد أبعد من، وأدنى من،
الدولة. أبعد من الدول القومية، فتطور السوق العالمية،
وقوة الشركات المتعددة الجنسية، ومخطط تنظيم «كوكبي»،
وامتداد الرأسمالية إلى كل الجسد الاجتماعي، تشكل آلة
مجردة ضخمة تشفِّر تشفيرًا مفرطًا التدفقات النقدية
والصناعية والتكنولوجية. وفي نفس الوقت تصبح وسائلُ
الاستغلال، والسيطرة، والمراقبة أكثر رهافةً وانتشارًا
باطِّراد، جزيئية على نحو من الأنحاء (فعمال البلدان
الغنية يشاركون بالضرورة في نهب العالم الثالث، والرجال
يشاركون في الاستغلال المفرط للنساء … إلخ.) لكن الآلة
المجردة باختلالاتها، ليست معصومة أكثر من الدول القومية
التي لا تتمكن من تنظيمها فوق موطنها ذاته، ومن موطن إلى
آخر. لم تعُد الدولة تستحوذ على وسائل سياسية، أو مؤسسية،
أو حتى مالية تُتيح لها كبح التداعيات الاجتماعية للآلة،
ومن المشكوك فيه أن تستطيع الارتكاز إلى الأبد على
الأشكال العتيقة، مثل الشرطة والجيوش والبيروقراطيات حتى
النقابية منها والتجهيزات الجماعية، المدارس والعائلات.
وتجري انهياراتٌ أرضية هائلة أدنى من الدولة، متتبعة خطوط
ميل أو هروب تؤثر بشكل أساسي على: أولًا: تقسيم المواطن؛
ثانيًا: آليات الإخضاع الاقتصادي (السمات الجديدة
للبطالة، للتضخم …)؛ ثالثًا: الأطر التنظيمية الأساسية
(أزمة المدرسة، والنقابات المهنية، والجيش، والنساء …)؛
رابعًا: طبيعة المطالب التي تصبح كيفية بقدر ما هي كمية
(«نوعية الحياة» بدل «مستوى المعيشة»). كل هذا يؤسس ما
يمكن تسميته
الحق في
الرغبة. ليس من المدهش أن تنبثق من جديد
كل أنواع القضايا الأقلياتية واللغوية والعرقية،
والإقليمية والجنسية والشبابية، ليس فقط باعتبارها عتيقة،
بل في أشكال ثورية راهنة تطرح للتساؤل، بطريقة محايثة
تمامًا، الاقتصاد الكوكبي للآلة، وتجميعات الدول القومية.
بدل الرهان على الاستحالة الأبدية للثورة، وعلى العودة
الفاشية لآلة حرب بوجه عام. لماذا لا نفكر أن
نمطًا جديدًا من الثورة في طريقه لأن يصبح
ممكنًا، وأن كل أنواع الآلات المتحولة،
الحية، تشن حروبًا، وتتضافر، لترسم مستوى اتساق ينسف مستوى
تنظيم
العالم والدول.
٤ لأن العالم ودوله مرة أخرى، ليسوا مسيطرين
على خطتهم، بقدر ما أن الثوريين ليسوا محكومًا عليهم
بتشويه خطتهم. يجري لعب كل شيء في مباريات غير مؤكَّدة،
«وجهًا لوجه، ظهرًا لظهر، ظهرًا لوجه …». وسؤال مستقبل
الثورة هو سؤال سيئ؛ لأننا بقدر ما نطرحه يوجد الكثير من
الناس الذين لن يصبحوا ثوريين، وهو مطروح بالضبط لهذا
الغرض، لمنع سؤال الصيرورة-ثوريين للناس، على كل
المستويات، وفي كل مكان.