في الثانية الأخيرة!

ظل «عثمان» يتحسَّس طريقه في الصالة … باحثًا عن جهاز التليفون، الذي تصوَّر أنه لا بد أن يكون قريبًا … فعادة ما تُوضَع أجهزة التليفونات في الصالة … واستطاع في النهاية أن يجد الجهاز … وأسرع إليه مُحاذرًا … ورفع السماعة، وفي نفسه هاجس خفي أنه لن يستطيع الاتصال … وهذا ما حدث … فلم تكن في التليفون أية حياة … كان صامتًا … ساكنًا … كأنه قطعة من البلاستيك على شكل تليفون ممَّا يلعب به الأطفال.

وقف مكانه لحظات … أدرك أنه في مأزقٍ حقيقي … وأطلق شعاع الضوء على ساعته … كان قد بقي على موعده في «برايتون» نحو ٤٥ دقيقة … وقرر أن يغامر بمحاولة الوصول … وهكذا أسرع يقفز من النافذة إلى الخارج، ثم أخذ يجرى مُخترقًا الحقول، بدلًا من الطريق المُمهَّد، حتى لا يستغرق وقتًا طويلًا … كان الظلام حالكًا … والمطر ينهمر بشدة … ولكن ذلك لم يمنعه من الجري … يقوم ويقع … ويقوم ويقع … ولكنه في الاتجاه إلى الطريق الرئيسي.

بعد عشر دقائق تقريبًا، كان قد وصل إلى الطريق العام … ووقف لاهث الأنفاس ينتظر سيارة تُقِلُّه إلى «برايتون» … هل يقف له شخص ذو قلبٍ رحيم كما فعل مع السيدة العجوز … ولكن الدقائق مضت سريعًا دون أن تظهر سيارة واحدة … وأحس بمياه المطر تتسلَّل من ثيابه إلى عظامه … وبدأ يُحس بالبرد والتعب … وظهرت سيارة قادمة … وأسرع يقف في عرض الطريق، مُعرِّضًا حياته للخطر، ولكن لم يكن هناك حلٌّ آخر.

اضطر قائد السيارة أن يتمهَّل … ثم يتوقف … كانت سيارة تاكسي بها زبون واحد … فتح السائق زجاج النافذة فصاح «عثمان»: برايتون لو سمحت! إنني في أشد العجلة!

تحدث السائق مع الراكب … ثم فتح له الباب الجانبي … وقفز «عثمان» إلى السيارة في المقعد الخلفي بجوار الراكب … ففي إنجلترا لا يسمحون لأحد بالجلوس بجوار السائق.

قال عثمان: أشكرك يا سيدي لأنك سمحت بأخذي معك.

رد الراكب باقتضاب: لا بأس.

قال «عثمان»: إنني يجب أن أصل إلى «برايتون» بأسرع ما يمكن. هز الراكب رأسه ولم يجب … فأدرك «عثمان» أنه لا يريد أن يُجاذبه أطراف الحديث … فاستند إلى المقعد … وترك جسده المشدود يسترخي … وبدأ ذهنه المكدود يُعاود تحليل الموقف.

نظر إلى ساعته … بقي ٣٥ دقيقة على موعد «مايكل راف» … وأخذ يسأل نفسه … حتى لو وصلت في الموعد فماذا يُمكنني أن أفعل … ليس معي النقود … ولا جواز السفر … وهل يُصدِّق «مايكل راف» ما حدث؟ وبفرض أنه صدَّق … هل سيقبل أيَّةَ مساومة؟

لم يكن هناك ما يُمكن عمله، قبل الوصول إلى «برايتون» … وهكذا اضطجع في كُرسيه … وقرر أن يسترخي تمامًا … وأن يُريح نفسه استعدادًا للساعات القادمة …

استغرق في نصف إغماضة … وأحس بالراحة … ومضت الدقائق ثقيلة … وبين فينةٍ وأُخرى كان ينظر إلى ساعته … وعندما ظهرت «برايتون» بأنوارها في غلالة الضباب والمطر … كان قد بَقِي على موعده مع «مايكل راف» نحو عشر دقائق …

وصل إلى أقرب موقف للعربات … وقفز «عثمان» من التاكسي، بعد أن منح السائق بقشيشًا سخيًّا … وشكر الراكب الذي لم يَرُد تقريبًا … ثم انطلق إلى أقرب سيارة تاكسي وقفز إلى داخلها صائحًا بالسائق: فندق القرصان … أسرع من فضلك.

انطلق السائق على الفور … وكانت الشوارع خالية من المارة … نصف مُظلمة … وانحرف السائق يمينًا، وسار بجوار سورٍ مُتصل من الأشجار … ثم دار في ميدان صغير، وعاد يسير خارج حدود المساكن … حتى وصل إلى شِبه غابةٍ صغيرة، فدخل في أحد الممرَّات ثم انطلق … وفي نهاية الممر كان فندق القرصان … مبنى قديم، عليه شعار القراصنة … ولافتة مُضاءة بضوء مُغبش … وقفز «عثمان» من التاكسي وأعطى السائق أجرَهُ … ثم انطلق إلى باب الفندق …

فجأة أحسَّ بشيءٍ ما … شيء يُنذر بالخطر … خُيل إليه أنه شاهَدَ شخصًا يتحرَّك في الظلام، منتقلًا من جوار إحدى الأشجار، إلى شجرةٍ أخرى … جرى من دائرة الضوء وانحرف بجوار سيارة واقفة … ونظر إلى ساعته على الضوء الخفيف … كانت الساعة الحادية عشرة إلا دقيقة واحدة … وفي هذه اللحظة، ظهرت سيارة مُتجهة إلى الفندق … توقفت … ونظر «عثمان» إلى القادم … وكانت مفاجأة كاملة … كان «مايكل راف» ينزل من السيارة وبيده حقيبة صغيرة … واستدار ليصعد سُلم الفندق … عندما سمع «عثمان» بأُذُنيه المُدَرَّبتَين، صوتًا نافذًا مكتومًا، أدرك أنه صوت رصاصةٍ صدرت من مُسدَّس كاتم للصوت … وترنح «مايكل راف» وحاول أن يستنِد إلى أحد الأعمدة، ولكن رصاصة أخرى انطلقت.

لم يُضِع «عثمان» ثانيةً واحدة … فقد انطلق كالسهم إلى حيث كان «مايكل» يسقط، وانتزع منه الحقيبة، ثم قفز كالبهلوان من فوق السُّلَّم، إلى حديقة الفندق.

ساعده لونه الأسمر، وثيابه الداكنة اللون، وسرعة حركته المفاجئة، أن ينجو من الطلقات التي انهمرت بعد ذلك في اتجاهه.

لم يتوقَّف ثانية واحدة … جرى إلى الجانب المُظلم من الفندق ودار دورةً واسعة … وفجأة، وسط الأشجار، وجد نفسه يتعثَّر ويسقط في حفرة مُوحلة … وأحس بألمٍ فظيع في رُكبته … وأنه غير قادر على الحركة …

جلس، والحقيبة في يدِه، يسترد أنفاسه … لم يُصدِّق كل ما حدث … كيف استطاع أن يصِل في الموعد المناسب قبل أن تستولي عصابة سادة العالم على الشريط؟ … ولكن هل الشريط في الحقيبة؟ في الأغلب أن يكون فيها … المهم الآن هو كيف يخرج من هذا المكان … وظل في مكانه بضع دقائق … ثم حاول الوقوف … ولكن مرةً أخرى أحس بالألم، ولكنه تحامل على نفسه، وزحف خارجًا من الحُفرة … كان الظلام كثيفًا وقد خفَّ نزول المطر … ولكن الضباب كان يُغلِّف كل شيء … لم يكن يستطيع حتى أن يرى أبعدَ من مترٍ واحد من مكانه.

ظل سائرًا حتى اقترب من سور حديقة الفندق، وأمسكه بيده، وأخذ يسير بجواره … وفجأة، وجد نور سيارةٍ يقتحم الضباب، ويكاد يكشف مكانه، فألقى بنفسه بجوار السور، وسمع صوتَ بابِ السيارة يُفتح ثم يُغلق … وسمع شخصين يقتربان من المكان المُختبئ فيه وكان أحدهما يقول في صوتٍ غاضب: كيف حدث هذا؟!

ردَّ عليه الثاني قائلًا: ليس هذا وقت الحساب … المهم أن نعثر عليه!

الأول: إنه قطعة من الظلام.

الثاني: إن المكان مُحاصَر برجالنا.

ورأى «عثمان» أنوار الكشافات الضخمة، فوق السور المُغطَّى بأغصان الشجر، فانكمش في مكانه … لو سقط عليه ضوءُ واحدٍ من الكشافَين، فسيكون هدفًا سهلًا لرصاصة واحدة.

اقترب الرجلان تمامًا من مكانه … حتى إنه كان يستطيع الاستماع إلى صوت تنفُّسهما الثقيل.

قال أحدهما: اذهب أنت يمينًا وسأذهب أنا يسارًا … وسنلتقي عند السيارة.

شاهد «عثمان» ضوء الكشاف فوق السور … ثم الضوء وهو يعبُر السور إلى ساحة الحديقة … وبدأ الرجلان يبتعِدان … ولم يُضيع «عثمان» هذه الفرصة التي قد لا تحدُث إلا مرة واحدة … تحامل على نفسه ووقف … وشاهد نور الكشافَين على بُعد عدة أمتار منه … فانتظر قليلًا حتى ابتعد الرجلان بضعة أمتارٍ أخرى، ثم استجمع كلَّ قوَّته وقفز فوق السور … وكَمَنَ في مكانه لحظات، ثم انطلق مُرتعدًا إلى السيارة الواقفة … كان كل أمَلِه أن يجد المفاتيح فيها … وظل يقترِب ويقترب … ومدَّ يده وجذب باب السيارة … فوجده مفتوحًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤