البيتُ الحرام

دارٌ عليها مِيسَمٌ١ من القِدمْ
حُجَّت على أول خُفٍّ وقدمْ
مَهدُ الهدى في الأولين رُكنُها
وحصنُه في الآخرين صحنُها
تلك جِباهُ الرُّسْل في ترابها
وخدُّ إبراهيمَ في مِحرابها
غنيةٌ عما كساها أسعدُ٢
في الدهر وهو بالثناءِ أسعدُ
وكم جلاها في اليماني المُسْبَلِ
من قَبِلتْ منه ومن لم تَقْبَلِ
لا تلمسنَّ وشْيَها ضريرا
رُب عَروسٍ تلعَنُ الحريرا

•••

تواضعتْ بين شِعاب الوادي
لم تتخذْ تبذُّخَ الأطوادِ
لم تُبْنَ بالصُّفَّاح والصَّوَّانِ٣
ولا علتْ تعالِيَ الإيوان
لا يدُ خُوفو٤ أرهقت فيها البشرْ
ولا سليمانُ لها الجنَّ حشرْ
بل صُنْعُ شيخٍ مُقبِلٍ مُزاولِ
أُعِينَ بابنٍ يافعٍ مُناولِ٥
قد رفعاها حجرًا فوق حجرْ
ووضعا فيها على اليُمن الحجْر٦
الله يُوحي والأمينُ يشهدُ
وتخشعُ الأرضُ ويعلو المعهدُ
حتى تجلَّتْ قبة الإيمان
ممدودةَ الظل على الزمان
وركنُها كأمسِ في أم القرى٧
تُطوَى القباب والقصورُ والقرى
دعائمٌ من خَشيةٍ وتقوى
على تطاول الزمان تقوى
وما بنى الحقُّ له الثبُوتُ
وما بنى الباطلُ عنكبوت
تقبَّل الله من الحواري٨
واختصَّ بالبيت وبالجوارِ
واختار من عباده قبيلا
للبيت يَهدونهمو السبيلا
أُولُو الإله الكرماءُ عهدا
النازلو البيت العتيقِ مهدا
الراضعو زمزمَ في الهواجِرِ
وهي تَدِرُّ من بَنانِ هاجَرِ٩
غُرَّةُ آبائهمُ الذبيحُ١٠
والأمهاتِ جُرهُمُ الصبيحُ١١
أبناءُ إسماعيلَ حول بَكَّهْ١٢
تضوَّعت منهم شِعابُ مكهْ
بيتهمو محبوكةٌ مفاخرُه
أوَّلُه نُبوَّةٌ وآخرُهْ

•••

انتشروا قبائلًا على الزمنْ
مِلْءَ الحِجاز والشآم واليَمَنْ
بَدْوٌ بكل نَشزٍ وقاعِ
وحَضَرٌ في عامر البقاعِ
تنقَّلَتْ فيهم دياناتُ الأوَلْ
تنقُّلَ الأيام فِيهم والدُّوَلْ
والدِّين بين القدماءِ عَدْوَى
يقطعُ أجوازَ القِفار عَدْوا
نارُ المَجوس وجدتْ مجازا
وابنُ سنانٍ١٣ أنقذَ الحِجازا
بقيةٌ تؤمنُ بالجليل
يتَّبعون مِلَّةَ الخليلِ
وعُصبةٌ على هُدى الأحبارِ
أهلُ كتابٍ يعبدون الباري
آلُ ابنِ عِمرانَ أو ابنِ مَريَما
فمن بهاتيك الشِّعاب خيَّما؟
وفِرقةٌ دَهريةٌ جُحَّادُ
عن كل دينٍ لهمو إلحادُ
وآخرون افتتنوا بالنار
أو سجدوا للكواكب المُنارِ
أو ألَّهوا ما نحتوا من الحجرْ
أو عبدوا ما استنبتوا من الشجرْ
وغيرُهم بالحيوانِ دانا
وقدَّسَ الأرواحَ والأبدانا
كلٌّ من الحيرةِ والضلالهْ
يعشو١٤ إلى القوة والجلالهْ
قد هجروا الشمسَ إلى الأياةِ١٥
وجاوزوا المُحيي إلى الحياة
وبلبلت ألسُنَهمْ أسماءُ
فكثُرتْ في حُبِّها الأسماءُ

•••

مكةُ دارُ المُلكِ والبيتُ الملِكْ
تُمسي الوفود١٦ في سُراها تهتلِكْ
واتفقوا في الحب والتَّجِلَّهْ
على اختلاف مذهبٍ ومِلَّهْ
يجمعُهمْ من كل سهلٍ وجبلْ
ضوابحَ١٧ الخيل روازحَ١٨ الإبل
يَسْدِنُ١٩ ساداتُهمُ قبابَه
ويحجُبُ الصِّيدُ السُّراةُ بابَه
وهاشِمُ السُّحْبُ سُقاةُ الوفد
الغامرون غيرهم بالرَّفد٢٠
دارٌ لأقوامٍ مُجاورينا
ومَنسَكٌ٢١ طُهْرٌ لآخرينا
ومَوسِمُ السَّوْمِ٢٢ والاكتسابِ
ونَدْوَةُ النداءِ بالأنسابِ
ومِنْبَرٌ حَفَّتْ به القبائلُ
إيادُ٢٣ من أعواده ووائلُ
قِسْ في النُّهى قُسًّا٢٤ إلى سُقراطِ
يتَّزِن القيراطُ بالقيراطِ
كان مَسيحيًّا وكان فاضلا
وكان عن حقيقةٍ مُناضلا
مُحمدٌ من ناقلي عِظاتِهْ
والصاحب الصِّدِّيقُ من رُواتِهْ
وحَرَمُ الآدابِ والأخلاقِ
وكيف لا وهو حمَى الخلَّاقِ
لا يُنطَقُ الهُجْرُ به والإفكُ
ولا يَحلُّ للدماء سَفْكُ
ومَعبدٌ مُشترَكٌ مُشاعُ٢٥
كلُ العبادات به مَشاعُ
أعجبُ منه لم يرَ الأنامُ
يُعبدُ فيه اللهُ والأصنامُ
فالبيتُ خالي الجنباتِ عاطلُ
يجاورُ الحقَّ عليه الباطلُ
يُحَجُّ للبِرِّ وللخِلالِ
وتارةً لله ذي الجلالِ
كلُّ فريقٍ حول ما أحبَّا
وكل قوم يعبدون رَبَّا
تسمُّحٌ للعرب القُرومِ
لم يُلفَ في الفرس ولا في الرومِ
سُقراطُ لو جاورهُمْ مُعافَى
لم يَذقِ السجنَ ولا الزُّعافا
١  جمال.
٢  من كسا الكعبة الوصائل والمُلاء، وإنه أول من كساها.
٣  الحجارة العظيمة.
٤  فرعون مشهور.
٥  هما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
٦  الحجر الأسود.
٧  مكة.
٨  إبراهيم عليه السلام.
٩  زوجة إبراهيم عليهما السلام.
١٠  إسماعيل.
١١  جد حي من العرب البائدة.
١٢  بطن مكة.
١٣  في ابن الأثير أنَّ نارا ظهرت ببلاد العرب في الجاهلية فكانت فتنة لهم وكادوا يتمجَّسون، فأطفأها خالد بن سنان العبسي.
١٤  يجيء إلى.
١٥  الشعاع.
١٦  مسيرها بالليل إلى البيت.
١٧  أي تُسمع أنفاسها من شدة العدو.
١٨  أي منطرحة إبلهم إعياء.
١٩  يخدم.
٢٠  الرفد: العطاء.
٢١  متعبد.
٢٢  المساومة.
٢٣  إياد ووائل قبيلتان.
٢٤  عربي خطيب حكيم.
٢٥  المُشاعُ والمشاع واحد، وهو غير مقسوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤