عُمَر وخالد بن الوليد

والله ما أدرِي ولا تدري الزُّمَرْ
ما كان بين ابنِ الوليدِ وعُمر١
سيفُ الإلهِ سَلَّهُ النَّبيُّ
وَهَزَّهُ وَليُّه الحبيُّ
أُغمِد لا كلًّا٢ ولا مُقصِّرا
في حَرْب كِسَرى وقِتالِ قَيْصَرَا
تَوَجَّعَتْ لِعَزْلِه العُقاب٣
وحلَّ بالمبرَّأ العِقاب
ضغينةٌ٤ لم تدَعِ الإماما
حَتَّى رَمَى في يَدها الزِّماما
وزلَّة الكَبير أكبر الزَّلل
وَإن أُحيطت بالطِّلاءِ والعِلل
خاف الإمامُ أن يكون فِتنهْ
سياسةٌ عاليةٌ وفِطْنهْ
كم هاضتْ الممالك العظاما
مَخافَةً أن يَقْطعُوا النظاما
وكم مرجَّى السَّبقِ مات بالكمد
قَدْ وَقَف النَّاس لَهُ دُونَ الأمَدْ
أُعِيذُ مِنْ مَضلَّةِ الحقد عُمر
مثلُ الإمامِ بالمراشد ائتمرْ
لَعَلَّهُ أبْصَرَ وَجْهَ مَنْفَعهْ
أو خاف ضُرًّا فَرَأى أنْ يَدفعه
فالسيفُ لا تأمنُه أنْ يَنْقلِبْ
كم غَلَبَ الحقُّ بهِ وكم غُلِب
في طبْعِهِ الطيْرة والشُّرورُ
وَرَبُّه يومًا به مغرُورُ
وكَيْفَ غَدُرَ ابنُ الوليدِ كَيْفَا
الله أَوْفى وَأبرُّ سَيْفا

•••

عَجبْتُ مِمَّن ملكَ الزمانا
ودانَ بعد فارس الرُّومانا
ومن قَنَاه كل يوم في ظَفَرْ
وخيْلُهُ من سفَرٍ إلى سفرْ
تتَّكلُ الطيرُ على بنُوده
ويَنْزلُ النَّصْرُ على جُنُوده
تهَيَّب الْبَحْرَ وخافَ حَرْبَه
وحَرَّمَ المُجاهدِين قُربَه
ظل الولاةُ يَبْسطُون الرَّاحا
فلا يُلَبِّي لهمُوا اقْتراحا
كم حسَّنُوا النَّفَعَ وقبَّحَ الضَّرر
خوفًا على جُنُودِه من الغَرَرَ٥
وقال، لم يَأذَنْ ولم يُسلِّمِ:
لا أشتري الرُّومَ بنفسِ مُسلمِ
كان الإمام وهو للعدل علمْ
لم يُنصفِ الرُّومَ وللبحر ظلم
كم جرَّ نفع المسلِمين الرُّومُ
والبحرُ عزٌّ أبدًا مرُوم
يَنْهَضُ بالملك العظيم فاتِحُه
لأنَّهُ مِنَ الثرى مفاتِحُه
فَيْروزُ منْهُ يَبْرَأ النَّصارَى
ومِثلُهُ إلى الْجَحِيمِ صَارَا
لا دِين للْبَاغِي وإن تَدَيَّنا
كَفَى بِقَتْلِ النَّفْس ظُلْمًا بَيِّنَا
١  ابن الوليد: هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أسلم سنة سبع للهجرة، وهو أحد الذين انتهى إليهم الشرف في الجاهلية من قريش. كانت إليه القبَّة والأعنَّة؛ فأما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش. وأما الأعنة فإنهم كانوا على خيل قريش في الحرب، كان أحد الأبطال الذين حاربوا أهل الردة. اشترك في فتح العراق وفي فتوح الشام، كان قائدًا عامًّا للجيوش الإسلامية في الشام، في أواخر خلافة أبي بكر الصديق، فبينا كان المسلمون في ذلك اليوم المشهود — يوم اليرموك — في أشد حالات الحرب، واشتداد الطعن والضرب جاء البريد من المدينة ينعي أبا بكر ويُخبر باستخلاف عمر بن الخطاب، ومعه أمر بعزل خالد بن الوليد وتعيين أبي عبيدة بن الجراح أميرًا عامًّا للجيش مكانه. وفي رواية أخرى أن البريد جاءهم وهم على حصار دمشق، وروى الطبري أن أبا عبيدة كتم عن خالد خبر عزله ريثما فتح دمشق وكتب لأهلها عهدا فأمضاه له، وحضر خالد بن الوليد بعد إمارته هذه معظم فتوح الشام متطوعًا، وكان المسلمون يستمدون رأيه في الحروب ويقدمونه على أمرائهم ساعة الحاجة، وكان أبو عبيدة يوليه الجيوش للفتح، فلما فتح في إمارة أبي عبيدة قنسرين التابعة لولاية حلب وانتهى الخبر بذلك إلى عمر قال: أمَّر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني.
أما سبب عزله فأمران؛ الأمر الأول: ما كان في نفس عمر بن الخطاب عليه منذ قتل مالك بن نويرة في حرب الردة؛ كان مالك بن نويرة رجلًا متحيرًا يقدم للردة قدمًا ويؤخر أخرى، قدم بالصدقات على أبي بكر رؤساء تميم كلهم كالزبرقان وصفوان بن صفوان، ووكيع بن مالك وغيرهم، إلا مالك بن نويرة بقي مترددًا، فقصد خالد بن الوليد البطاح وبث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام، وأن يأتوه بكل من لم يُجب، وكان قد أوصاهم أبو بكر «أن يؤذِّنوا إذا نزلوا منزلًا فإن أذَّن القوم فكفُّوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم»، فكان بين الذين جاءت بهم الخيل مالك بن نويرة في نفر من ثعلبة بن يربوع، فأمر بهم خالد فحُبسوا في ليلة باردة، ثم أمر مناديًا فنادى: دافئوا أسراكم، وهي في لغة كنانة القتل، فظن القوم أنه أراد القتل — ولم يُرد إلا الدفء — فقتلوهم، وقُتل معهم مالك بن نويرة، قتله ضرار بن الأزور، وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك، فلما انتهى الأمر إلى أبي بكر وعمر رغب عمر إلى أبي بكر ثم ألح أن يستدعي خالدًا ويقتص منه، فقال أبو بكر: يا عمر تأوَّل خالدٌ فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين، فلما رجع خالد ودخل على أبي بكر وأخبره بجلية الخبر واعتذر إليه قبِل عذره. ولكن عمر أهانه وأسمعه كلامًا أليمًا.
الأمر الثاني — وهو الأهم — إقبال جند المسلمين على خالد بن الوليد، وحبهم له، واستماتتهم بين يديه في كل مشاهدِه في العراق والشام؛ لشجاعته، وحزمه، وتوفيقه في الحروب، وانتصاره على الأعداء. عرف هذا عمر بن الخطاب فوقع في نفسه شيء منه، وخشي من إقبال الناس عليه، عرف أن في نفس خالد من جهته ما في نفسه من جهة خالد، منذ قرَّعه ذلك التقريع الشديد عقب حادث مالك بن نويرة، فبادر إلى عزله قبل أن يصل خبر توليه منصب الخلافة إلى المسلمين، وخالد أمير على جيش عظيم منهم، وقد جهر عمر بهذه الحقيقة، فقد روى أنه استدعاه بعد عزله إلى المدينة، فعاتبه خالد، فقال له عمر: ما عزلتك لريبة فيك ولكن افتتن بك الناس، فخفت أن تفتتن بالناس.
٢  الكَلُّ من السيوف: الذي لا يقطع.
٣  العقاب: قيل الراية، وقيل العلم الضخم، وقيل الحرب، وكلٌّ يصلح أن يكون مرادًا في هذا المقام.
٤  الضغينة: الحفيظة أو الحقد.
٥  الغرر: الخطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤