تمهيد

أمَا رأيت الثريَّ؛ تنهب الأرضَ سيارتُه، كأنَّ السعد أقام من الأبَّهة والرواء هالةً بينه وبين سواه، وهناك في الزاوية يدبُّ المُعدم ويعتفي متأوهًا كأنَّه في تمرُّغه حشرة خبيثة تأنفُ الأرضُ مسَّها وتمقت انعكاس ظلِّها؟

أوَما رأيت الحسناءَ ترتدي الثِّياب الفاخرة على أحدث هندام، وفي عنقها ومعصمَيها جواهر تُوازي ثروةً وتُصوِّر نعيمًا؛ أمَا رأيتها تمرُّ رشيقةً مُعطَّرةً أمام امرأةٍ رثَّةِ الثوب تحمل طفلًا هو آية ذلِّها في الغد كما هي علَّة ذُلِّه اليوم، والذُّباب يأكل من مآقيها ووجنتَيها ما لا تستطيع إزالته لأنها فقيرة حتى من الماء الطهور؟

قد تُخفي مظاهر البؤس مالًا وعقارًا، وقد لا تكون دلائل العزِّ سوى فخفخةٍ واستهتارِ غرور. على أن المَشْهدَين يُمثِّلان من سلَّم الكفاف أعلى الدرجات وأدنى الدركات، وبينهما تتحاذى الرُّتب على اختلافها بما يلازم ذويها من عوزٍ منوَّع واحتياج لجوج.

إزاء هذين النقيضين حنَّ الشعوريون إلى أخوة الروح تبدو بين طبقات المجتمع، وعمد المفكرون إلى المقابلة والاستنتاج، وقام المحرومون يصرُّون صريرًا، وانبرى النظريون يعيِّنون حقوق الناس على الناس، ومثَّل الشاعر الحماسيُّ دوره فأرسل «هايني» زفراتٍ كأنَّها المتفجِّرات هولًا وتحريضًا؛ حيث هتف: «ملعون هو الإله، إله السُّعداء … ملعون هو الملك، ملك الأغنياء … وملعون هو الوطن المجازف بِبَنيه!»

وليس جميع هؤلاء ليُسلِّمون بأنَّ شكايتهم تُعارض نُظم الطبيعة، بل هم يتسلَّحون بالحجَّة والبرهان مشيرين إلى الشمس تسكب النُّور والحرارة على الأشرار والصالحين، ويستشهدون بالهواء يُسدي الحياة إلى الحيوان والإنسان ولا يكون على الجماد ضنينًا، ويدلُّون إلى الأرض تعتشُّ في حضنها المعادن وتكلأ المرعى لكل ذي نسمة يرتعي، ويومئون إلى منبسطات البحار تضمُّ مختلِف السمك والوحش المائي من كل فصيلة وحجم ولون، ويذكرون اللَّحد يحوي الموتى قاطبةً على نمطٍ واحدٍ ليدفع بهم إلى الانحلال فريسةً وإلى التحوُّل مادةً. فإذا أجزلت الطبيعة الهبات ودعت جميع بَنِيها إلى امتصاص ثديها المدرار، فأنَّى للكبرياء أن تخلق التمايز والتفاضل، وتجعل بين البشر فروقًا وسدودًا، فتشل عضوًا لتُقوِّيَ عضوًا، وتحرِم قومًا لتُمتِّع قومًا؟

هم يتساءلون عمَّا حلَّل هذا الجور المرهق، ويصيحون بقوَّة انفعالاتهم واحتياجاتهم: المسَاواة! إنما نطلب المسَاواة!

إن لم يتمرَّد العبيد بهذه الكلمة وبمعناها العصري، فإنما التوق المبهم إليها هو الذي اضطرهم إلى تكسير القيود، والخروج على سادتهم مرة بعد أخرى في تعاقب العصور القديمة، حتى باتت أثينا وروما من أولئك الثورات في خطرٍ عظيم.

هي التي دمدمتْ في نفوس عشرين ألفًا من العبيد أن يفزعوا إلى الإسبارطيِّين يوم احتلُّوا جانبًا من بلاد الإغريق في الحرب البيلوبونزية؛ طمعًا في الحصول، إن لم يكن على تحريرٍ تام فَعَلَى تحسين مبين.

هي التي نفثت العصيان في قلوب عبيد مناجم اللوريوم وقوَّت سواعدهم للفتك بحرَّاسهم والمسيطرين عليهم، فاستولوا على حصن سونيوم وأنزلوا في أتيكا الجميلة خرابًا ودمارًا.

بإلهامها انقلب إسبارطقس التراقي زعيمًا لإخوانه العبيد في روما، فحارب على رأسهم جيوش الدولة النظامية يقودها الكبراء والنُّبلاء، ولم يكفَّ عن النضال إلا بسقوطه صريعًا بطعنة أرسلتها يد كراسس، أحد أعضاء الحكومة الثلاثية العليا. ثُم أيُّ قوَّة أقامت دولة المماليك في مصر إن لم يكن التطلُّع إلى المساواة؟!

لأجلها شبَّت الثورة الفرنساوية، وانبرت تعلن للإنسان حقوقه المدنية المرتكزة على الحقوق الطبيعية، فأثبتت في مطلع بيانها بندًا أول يشاركها اليوم فيه العالم المتمدِّن، وهو أن «الناس يولدون ويظلُّون متساوين أحرارًا إزاء القانون». فحذفت بهذا البند نظام الإقطاع القائم على تفاوت الحقوق والواجبات.

وباسمها اعتصمت المرأة فنهضت من تحت قدم السيد الساحقة ووقفت عالية الجبين إزاء مسالك الحياة وأعمالها. وفي سبيلها وضع ماركس كتابه الشهير صارخًا «اتحدوا يا عمَّال العالم!» فتبارى الزُّعماء في تكوين الأحزاب، وسنِّ القوانين، ونشر اللوائح، وإقامة المؤتمرات الثلاثة لاتحاد العمَّال الدولي. وهي هي التي هزَّت الروسيا من أقصاها إلى أقصاها، وأضرمت تحت سمائها شعلة الثورة المدْلهمَّة.

اذكرْها يتزاحم حولك جمهورُ دعاتها وكهنتها: ماركس، ولاسال، وإنجلس، وبرودن، وباكونين، وكروبتكن، وعشرات غيرهم يدحضون مذهب دارون وهوبس القائل بتنازع البقاء بمذهب التضامن والتعاون البادي بين جميع الموجودات.

بل اذكرها يضج حولك هتاف الشعوب، وصراخ المراتب الاجتماعية، وأنين المحتاجين والمتوجِّعين. هؤلاء لا يفقهون معناها تمامًا ويزعمون أنَّها مشاركة الغنيِّ بغناه، والوجيه بوجاهته، والمُنْعِم بنعمته. وحسبهم أنَّها تخفي عنهم شبح غدٍ غدَّار لا يضمن لهم ولذويهم الغذاء. أو يرون فيها انفراجًا معتدلًا لضيقهم، كذلك العامل الإنجليزيُّ القائل: «أتريد أن تعرف ما هي المساواة؟ عشر شلنات في النهار يا سيِّدي.»

تكاد تكون المشاكل الدولية ألاعيب إذا ما قوبلت بالمشاكل الاقتصادية التي يسمُّونها اجتماعية. ومشكلة «المساواة» هي الآن أم المشاكل، واسمها يطنُّ من كل صوب.

وإنها مع الحرية والإخاء لتهز نفسي، وقد لمستْها منذ أن كان لي نفس تتحرَّك. غير أنِّي وصلت إلى نقطة أودُّ عندها تحليل كل شعور وكل تأثير.

ما هي المساواة، وأين هي، وهل هي ممكنة؟ هذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية دون اندفاع ولا تحيُّز، بل بإخلاص من شكلت من جميع قواها النفسية والإدراكية محكمة «محلِّفين» يستعرضون خلاصة ما تقوله الطبيعة والعلم والتاريخ، ليثبتوا حُكمًا يرونه صادقًا عادلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤