الفصل الأول

الطبقات الاجتماعية

أصل الخليقة في المثيولوجية الهندية أن بيضة الذَّهب الحاملة برهما كانت تطوف على وجه الغمر عندما انطلق منها الإله، فانفلقت قشرتُها فلقتين كوَّنت إحداهما السماء وكانت الأرضُ من الأخرى. ونشر برهما الأثير بين الأرض والسماء، ثُم خلق الكواكب والنبات والأشجار والحيوان فتهيَّأت الأرض لسكنى النوع البشري. إذ ذاك سحب من رأسه رجُلًا يُدعى برهمانا، وسلَّمه «الفيدا» أو كُتُب الهند المقدَّسة مستودع الحقيقة الخالدة. ومن برهمانا هذا ولد البراهمة الذين عهد إليهم في نشر الديانة وتعزيز أصولها. ثُم أخرج برهما من ذراعه اليمنى محاربًا يدافع عن الكاهن ويبقيه منيع الحوزة محميَّ الذمار، واستلَّ من فخذه رجُلًا ثالثًا هو الفلَّاح الذي يهيِّئ للجنديِّ وللكاهن الغذاء، والتاجر الذي يمهِّد أمامهما وسائل الحياة ويضمن لهما موارد الرِّزق والثروة، وأخيرًا انتزع من قدمه المقدَّسة رجُلًا رابعًا هو أبو الصنائع وزعيم طبقة العاملين للآخرين؛ ومن هذه المخلوقات الأربعة المخترجة من جسم برهما تسلسلت شعوب الهند بمراتبها الاجتماعية، تضاف إليها طبقة الأسافل المتشردين (وما هي إلا حثالة الطبقات الأخرى) المختلفة عن أبناء برهما بما توعزه من رعبٍ واحتقارٍ؛ لأنها خلاصة القبح والتعاسة.

لقد ارتفعت قيمة الفكر الهندي في هذا العصر ارتفاعًا كبيرًا بما يرمي إليه من حقيقة علمية فلسفية وراء أسلوبه الشعري ومظاهره الخيالية؛ ومغزى هذا الرمز إلى الخليقة أن البشرَ — وإن كانوا أبناء إله واحد، مخلوقين على صورة واحدة — يستمدُّون الحياة من أصل واحد، ويعجن جسمهم من طينة واحدة تتماثل بها احتياجاتهم ورغباتهم، إلا أنهم في الوقت نفسه أسرى التنوع تكييفًا، أسرى التنوع قهرًا؛ يقيِّدهم هذا التنوع الأوَّلي فيَحبُو كلَّ فرد وكلَّ طائفة منهم كفاءةً تختلف عن كفاءة الآخرين، ويُودِعُهم براعةً وحذقًا يتساويان قوَّةً عند الجميع وإن تميَّزا مظهرًا طبق العمل المطلوب.

وهل للاجتماع من انتظام لولا تنوُّع الطبقات وتنوُّع الكفاءات؟ وهل تبدو طلائع المدنية بلا تقسيم العمل طبقًا لقابلية أفراد وجماعات ينجحون في فنٍّ ويرسبون في فنٍّ آخر؟ وأنَّى لنا العلماء والفلاسفة والفنَّانون والأبطال والاختصاصيُّون في كل صنعة لولا التميُّز والاختلاف؟ فلو أبَدْنَا التنوع في أصوات الخليقة بحذف درجات السُّلَّم الموسيقي السبع أَبَدْنا فنَّ الموسيقى بحذافيره، وما بقي لحاسَّة سمعنا سوى نغمة تَطَّرد الاستمرار على وتيرة فردة. ولو لَاشَيْنا الألوان السبعة من التحليل الطيفي فقدَ الشعاع خواصَّه وانتهت بنا واحدية اللون إلى الظلام. ولكن في الظلام نفسه درجاتٌ لأنه محبوك الطرفين بالشروق والغروب. أليس أن الشفق غير الغلس، وأنَّ هذا وذاك غير انتصاف اللَّيل الأدهم؟

ليس أمامنا سوى الكثرة والتعدد عندما نفتح أنظارنا على الكون فنرى الكواكب متألقةً في فضاءٍ يحتويها، ونرى الماء واليابسة، والجبال والوهاد، والأشجار والصخور، والمروج المخصبات والصحاري القاحلات، فضلًا عن صنوف الحيوان، ثُم لا نلبث أن نردَّ جميع هذه المظاهر إلى أصول أو أنواع كبرى ثلاثة، هي: النوع الجمادي، والنوع النباتي، والنوع الحيواني الذي يتناهى ارتقاءً ودقةً في الإنسان المدرِك المرغَم على تمثيل دوره في مأساة الوجود؛ لأنه جزء من هذا الوجود، وتسري عليه جميع نواميسه إن راضيًا وإن كارهًا.

وكما أن الحياة الجمادية في دورها الهيولي كتلة عظمى لم يُنمِّقها التكييف صورًا وأشكالًا، كذلك البشر في همجيَّتهم كلٌّ متماثلٌ لا تُنظِّمهم المراتب ولا كبير منهم ولا صغير؛ وهذا شأن بعض القبائل المتوحشة في أفريقيا وبين هنود أمريكا إلى أيامنا؛ هم يعيشون جماعات صغيرة ولا شاغل لهم غير ما يشغل الحيوان الأعجم. إلا أن لكثير من فصائل الحيوان فروقًا اجتماعية؛ فعندها الملكية المطلقة، والأرستقراطية، وثوروية تتطلَّع إلى الهدم، وغيرها يطلب المساواة، وبالجملة فإن قضيتها الاجتماعية تكاد تشبه مثيلتها عند النوع البشري. وقد تسهل مراقبة هذه الفروق بين حيوان المنازل، كالنمل — مثلًا — الذي يَظهر عنده تقسيم العمل ظهورًا تامًّا؛ فمن أعضائه العامل المنتج، ومنها المحارب المدافع، ومنها العبد الرقيق، وبعض العشائر تغزو بعضها فتقهرها وتستعبدها، إنمَّا تعاملها برفقٍ ولين.

•••

ابتدأ دور تكوين الشعوب بانتشارها قبائلَ يتقارب منها الجوار بتقارب الأصل، ولكل قبيلة وسائلها الحيوية في موارد موطنها الطبيعية، التي هي بدورها ربَّت في أعضاء القبيلة ذكاءً ومهارةً موافقَين لاستخدامها؛ فاصطنعوا لأنفسهم تلك الأدوات الحجرية والفخارية، واخترعوا القوس والنشاب، وآلات حرث الأرض وطريقة فلاحتها، واكتشفوا النار ووسيلة إضرامها، وكانوا يشتركون في استعمال هذه الأدوات والآلات عند الحاجة لأنها مِلْك الجميع الذي كان يعمل له كل فرد تحت مراقبة زعماء أكْفَاء، ويُضْمَنُ له مقابل تعبه السكن والقُوت والكساء في حالتها الأولى؛ فينجلي من هذا أن الاشتراكية سبقت كلَّ نظام آخر في حياة البشر. ومع أن هذه الاشتراكية مشوبة بخلل كثير إلا أنها حسنة بالنظر إلى زمنها، ولأنها أول خطوة في عالم النظام والتدريب. وقد لاحت فيها أول بارقة من بوارق النبوغ الذي سيكشف أسرار الطبيعة ويتغلب على عناصرها في العصور التاليات.

تطوَّرت حياة القبائل قليلًا ونمت مدارك الأفراد فيها؛ فاتَّجهت تدريجيًّا نحو غاية واحدة وهم لا يعلمون. فتلك التي قطنت المروج اقتنت الغنم والخيل بعد تأنيسها، ونظَّمت القطعان للانتفاع بخيراتها من حليب وما يتأتَّى منه في حياتها، ومن جلد وصوف بعد أن تَنفُق، فتوفر لديها من ذلك ثروة طائلة. فطمعت في توسيع فلاحتها طلبًا لثروة أعظم، وكان ذلك سببًا لاختلاف القبائل فيما بينها على مسألة الحدود؛ فقامت المناوشات والمعارك، وانتصر هذا واندحر ذاك، فشعر الغالب لأول مرة بنشوة «السيادة»، ونُهِبت القبيلة المغلوبة وضُمَّ أعضاؤها إلى القبيلة الغالبة. إلا أنهم كانوا يُحسون بفرق بين الجماعتين، وبكآبة مقابلة لنشوة «السائد»، ولم تكن تلك سوى كآبة «المسود»؛ وهذا منشأ الأوتوقراطية والرِّق.

وجرى مثل ذلك تقريبًا في الأودية المخصبة؛ حيث عُنيت القبائل بزراعة صنوف النبات والأشجار. والخوفُ من غارات القبائل المجاورة دفعهم إلى انتخاب زعماء حربيِّين يهيِّئون خطوط الدفاع إزاء هجمات العدو، فارتفع هؤلاء الزعماء — مع الوقت — إلى درجة سادة يسيِّرون الفلَّاحين ويتقاضونهم بدل الأرض التي يستغلُّونها، ويفرضون عليهم الضرائب، إلى أن أَنشَئُوا الرِّق في أملاكهم من سلائب العدو وغنائم الحروب.

كذلك عند مصبِّ الأنهار؛ فإن القرصان استوطنوا الشواطئ ليسهِّلوا العلاقات بين الفلاحين وقبائل الجبال، ولمَّا تبيَّنوا رعب الفلاحين ورغبتهم في صدِّ الغارات عن حياتهم الهادئة نظَّموا قوة حربية، وانقضُّوا كالصاعقة على الضُّعفاء فسادوهم، وانقلب الأحرار عبيدًا.

تمَّ ما يشبه هذا بين القبائل القديمة يقودها جماعاتٍ وأفرادًا ذلك الشعورُ العريق في قلب الإنسان، وهو الطمع في السيادة والسعي إلى التفوق. وسرعان ما عثروا على عماد السيادة وهو الملك، أو رأس المال كما يسمُّونه بلغة هذا العصر. وهذا الملك لم يكن ليتأتَّى إلا من الذكاء والمهارة، أو الامتياز بصفة أو كفاءة خاصة؛ فأخذوا يمتلكون الأراضيَ ويحشدون الثروة من المواد المنظور إليها كثروة في ذلك الحين. وكان ذلك الفصل الأول من تاريخ الاقتصاد البشري الدائر كله حول ذلك المحور الرهيب الذي يدعى المُلك. فالحصول على الملك والاحتفاظ به من جهة، والرغبة في نزعه من جهة أخرى سبَّبت هذا العراك المالي والاجتماعي الذي لا ينتهي؛ فكوَّن الأرستقراطية والعبودية، وسبَّب المجازر والفظائع، ولأجله شبَّت الحروب، ونشبت الثورات، ودُكَّت الحصون ودُمِّرت أجمل آثار العمران، وتشكلت الأحزاب العديدة؛ فهذه ديمقراطية، وهذه جمهورية، وتلك اشتراكية، وغيرها فوضوية. ومنها القائل بتمتُّع الفرد بأملاكه، ومنها المرتئي جَعْل الملك مشاعًا للجميع، ومنها الضاحك من كل حزب بتفجُّر القنابل وهدم الصُّروح وإزهاق الأرواح. وقد أدَّى التزاحم والتقاتل إلى انتشار الأقوام، فسعَوا في الأرض يروِّجون تجارتهم ويكثرون أرباحهم ليحفظوا لهم المكانة والوجاهة في جماعتهم. وتوطَّد نظام الوراثة لأن السيد العظيم كان يشرك أولاده في إدارة الأملاك؛ فيتمرَّن عادةً الولد البكر على فنِّ الإدارة والحكم، وينتهي إليه حقُّ الإرث الأكبر.

•••

وبَدَهِيٌّ أن الأب كان يعامل أفراد عيلته كمعاملة زعيمه له، فإنْ ظلمه ظلمهم، وإن أنصفه كان لهم منصفًا. وكذا تكوَّنت الأرستقراطية في داخل الأسرة في حين كانت تتكوَّن في الجماعة أو في الدولة؛ فكانت الأرستقراطية أو الأشراف يشمل عميد الأسرة ووالديه، ويليهم أعضاء الأسرة الآخرون، وتلي هذه درجة الخدم أحرارًا وعبيدًا. فهاك بلاد اليونان مثلًا في زمنها الأقدم، أي العهد الملكي المطلق؛ حيث تجد طبقة مؤلَّفة من جميع رؤساء الأُسر، وهم في الغالب نبلاء كالملك نفسه، وينتسبون للآلهة مثله، ويحملون لقب «ملك»؛ لذلك يذكر هوميرس ملوكًا كثيرين في مدينة واحدة، يجتمعون لدى الملك ليُسدُوا إليه النُّصح في شئون الدولة أو ليسنُّوا له إرادتهم. وكانت الطبقة الثانية من ذوي القربى لأولئك الزعماء، وهم أرستقراطيون ولادةً وحقوقًا، يملكون الأراضيَ أحرارًا أو يتمتعون بنتاج أراضي الأسرة المشتركة. وإن لم يكونوا يحضرون اجتماع الملوك فإنهم كانوا أعضاء جمعية أبناء الوطن العمومية. وخضوعهم الوحيد في امتثالهم لكبير الأسرة بينا هذا لم يكن ليَمْتثل لغير الملك. وتُؤلَّف الطبقة الثالثة من خدم البيت المنقسمين إلى عبيد وإلى معتوقين، وعدد هذه الطبقة قليل لأن العمل اليدوي لم يكن محتقرًا، ولم يكن أبناء «الملوك» ليترفَّعوا عن فلاحة الأرض ورعي المواشي. وكان هناك طبقة أخرى تحوي من لم يكن يخصُّ أسرةً كبرى من أهل الصنائع الدنيا والعمَّال والشحاذين وقطَّاع الطُّرق وأمثالهم.

وتعيَّنت مع الزمن الفروق الاجتماعية واكتسبت كلٌّ من الطبقات صفاتٍ تُنسب إليها وعيوبًا خاصَّةً بها. وتجبَّرت الطبقات العليا في سماواتها الوهمية وحسبت نفسها من طينة مختلفة عن طينة الآخرين، لها من ألقابها وثروتها وامتيازاتها ما يفتح لها أبواب الألوهية على مصراعيها. ونما الإدراك ونور الشخصية في الطبقات الأخرى شيئًا فشيئًا حتى وصلنا إلى حيث نحن اليوم؛ إذ لا بدَّ بين البشر من تبادل المنفعة والتضحية، فإذا انتفع قوم دون أن يُضحُّوا شيئًا كانوا مغتصبين ظالمين، وإذا كانوا كثيري التفادي قليلي الانتفاع كانوا مظلومين مهضومي الحقوق. ولئن كمنت المصلحة الذاتية وراء جميع الأعمال فهذه المصلحة — أو الأنانية — موجودة في جميع أجزاء الكون كأنها عنصر جوهري لحفظ الوجود.

إن النوع البشري وإن امتاز عن الطبيعة المحسوسة بطبيعته الإدراكية والأخلاقية والروحية، فهو يظلُّ مربوطًا بها بجسمه واحتياجاته المادية، خاضعًا لجميع نُظمها، وفي ميوله ميول وحشها؛ فهذا قرد، وذاك ثعلب، وذلك عقرب، والآخر ثعبان، وأما التنوع بين الطبقات، وبين الأفراد، وبين مظاهر الطبيعة فأصليُّ، ولولاه لَمَا كانت الخليقة. وأُرجِّح أن أفلاطون يوم كتب «جمهوريته» ضرب صفحًا عن هذه الحقيقة التي لا أدري كيف استطاع إغفالها.

لقد طال تأمُّل روسو في حالة البداوة الأولى، وقام هو وأتباعه ينادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء المفقود، وترتع في بحبوحة السلام والحرية. وقد نسوا أن الهمجي مستعبَد بجهله الفادح وأن له من الخرافات سجنًا لعقله، ومن الأوهام حجابًا لروحه؛ فهو وإن كان حرًّا حرية نسبية من حيث علاقته بأمثاله وبقناعته — التي لا يمكن أن تدوم أكثر من زمن ما — فهو أسير أحط أنواع العبودية وأخطرها. وهيهات الرجوع إلى الماضي! إذ إن عودة النظام الشمسي المندفع بسياراته وأقماره نحو النجمة الكبرى من كوكبة الشلياق؛ قلت إن عودته إلى حيث كان منذ مائة ألف سنة توازي في نظام الكون تجريد النوع البشري مما اكتسبه بالألم والخبرة والبطش خلال تحدُّر الدهور.

خلفنا قوة نجهلها وتتجاهلنا، هي قوة الحركة الدائمة في جميع مناطق الحياة، تدفع بنا أبدًا إلى الأمام فنسمِّي سيرنا ارتقاءً. وقد يكون الارتقاءُ المزعوم تقهقرًا في نقطٍ شتى على أن ما لا مهرب منه هو السَّير المرغم، هو التحرك المتواصل، هو الاستطراد الذي لا راحة منه أمام القبر ولا وراءه.

يتعذَّر علينا فهم ما هو «الوراء» وما هو «الأمام» في معاني المكان والزمان والذهن، ورغم ذلك يمكن القول إن اتجاه التاريخ البشري بمعنى التقدُّم والتحسُّن وإن كثرت حركاته الرجعية واللولبية. «إلى الأمام ولو على الجثث!» ليست كلمة حماسة شعرية قالها غوتي الألماني فحسب، وإنما هي صوت الخليقة القاهر، هي صوت توالي الأشياء وتناسخ الموجودات، هي انبثاق الحركات من الحركات، والذراري من الذراري، والأنظمة من الأنظمة.

لا بدَّ من تنوُّع الصور وتعدُّد الطبقات. فلولا التنوُّع والتعدد ما كانت المدنية ولا كان الوجود الحسي، ولو لم يكن للفروق من فضل سوى شحذ العزائم وإرهاف القوى والتسابق إلى الأولوية، لكفى لنقبلها محاولين عبورها بما أوتينا من عزم وكفاءة. والفوز للأصلح دوامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤