الفصل الثاني

الأرستقراطية

لو كان هذا البحث تاريخيًّا لكنتُ بدأته بالكلام على الملكية أرستقراطية الأرستقراطية على نوع ما، أو أفضلية الأفضلية، لا سيما الملكية التيوقراطية أي المستمدة سلطتها من الله؛ فاستنجدتُ بالأساطير التي هي سجلُّ الانتقال من واقع مجهول مأثور إلى واقع مزعوم منشور يقبله من أهل السذاجة من قبل واقتنع، ويكتفي الآخرون بالتمويه والمحاباة. استنجدت بها لطلب جرثومة تلك الأُسر الشاهانية الجُلَّى، فماشَيتها في نشأتها التدريجية سائدةً على العائلة، فالقبيلة، فالمجتمع، فالأمة بالقوة البدنية أو الفكرية، أو التدبيرية، حتى يمدَّها متلاحقُ الظفر بمطامع تتعدَّى أفرادها العصاميين إلى سلالة المستقبل.

أما والناموس الكوني ناموس بقاء الأفضل، يستخدم ولا يُستخدم في ضمانة الأفضلية لتلك السلالة، فلا بدَّ من صيانتها دون منافسة المزاحمين، ولا بدَّ أن تُملأ قبل الرِّماء الكنائن، ومن ثَمَّ التذرُّع بأقوى البواعث النفسية من عاطفة دينية وخشية ما وراء المنظور؛ من ثَمَّ استجارة الملك بالدين والدين بالملك لتبادل المنفعة، فيصبح الحاكم حاميَ حمى العقائد ورافع منار الفضائل، ويصبح الكاهن حامل لواء السلطة الفردية وأول شاهد بأنَّها آتية من الله. ولا يطول حتى تستهويَ البدعةُ ملفِّقيها. وهل من عجب ما دام الاستهواء الذَّاتي شرطًا أساسيًّا للاستهواء الغيريِّ؟ فلا يستفز الخطيب حماسةً إلا عند تحمُّسه، ولا يُحدث الكاتب تأثيرًا إلا بعامل تأثُّره. ومن ذا ينفي أن انجذاب الشهداء واستهواءهم الذَّاتي في مصرع العذاب بين الضواري الممزقة لحمانهم، واقتحامهم الموت بصبر الأمل وثقة الشجاعة؛ إنما كان أعظم نصير للمسيحية على الوثنية وأسمع داعٍ إلى الانسلاك فيها؟

هكذا صار الفراعنة مع الزمن — على نحو ما وجد الفتحُ الإسباني بعدئذٍ زعماء القبائل في أمريكا الجنوبية — أبناء الشمس المنيرة. وهكذا صار زعماء الجرمان صنيعة فخذ «تهور» إله الحرب، فغدوا أحفاد «أودين» الإله الإسكندنافي الميثولوجي واهب البسالة وعلَّة المعلولات. وهكذا صار المهرجاه ثمرة تقمُّص من تقمُّصات ڤيشنو الأقنوم الثاني من الثالوث الهندي، فضلًا عن أن جماعةً من ملوك اليونان واللاتين وأبطالهم جاءوا من تزاوج البشر والآلهة عند مرور هؤلاء على الأرض. وصار من الملوك من إذا رُؤي صُعق رائيه كأنَّ جلاله جلال المولى في عليقة موسى. وأوتيَ آخرون علمًا وحكمةً خارقَين كملوك فرنسا وإنجلترا يشفون الصرع والشلل وداء الخنازير وغيرها بمجرد اللَّمس الكريم. وظلَّت القرون الوسطى — بعد الأولى — ترى هالة الألوهية حول الملكية، وتحسب حبل سلطانها مشدودًا بمتكأ العرش الصمداني.

حتى اليوم وقد استوضح التمحيص من خفايا التُّرَّهات والتقاليد الذميمة شيئًا كثيرًا، واتبع فن النقد الدماء الملكية في رحلاتها المتعرِّجة خلال الأنساب الجمَّة لتنتهيَ حتمًا إلى المصبِّ المقصود؛ كأنَّها الرجل المستقيم لا يمنعه اعوجاج المحيط عن الاهتداء إلى الصراط السوي. اليوم وقد ناوش استقلال الشعب أثرة الفرد وتغلَّب عليها بالنُّظم الدستورية، فأبقى للفرد السلطة النظرية واجهةَ تزويقٍ لبنيان فيه تتصرَّف الأمة بشئونها الإدارية والقضائية والسياسية. اليوم وقد قضت الحرب على البقية المتمهلة من الحكم المطلق بقضائها على قيصرية ألمانيا والنمسا والروسيا، بعد أن قضت الثورة العثمانية على الاستئثار الحميدي. اليوم ما زالت الجماعات تتهيَّب مظاهر الأبهة الملوكية؛ لأن الاستهواء الحسي الوقتي يُضاف إلى الاستهواء الوراثي المتراكم الذي يتناول المرء كائنةً حريته الشخصية ما كانت، ويعدُّه للتأثر والاستسلام كما تتأثر القنبرة بضياء المرآة الساطعة فتجمد أو تستسلم.

أقول الجماعات وأعني الأفراد كذلك؛ أعني أقوى الأفراد شوكةً وأبقاهم أثرًا، تنكسر شوكة الملوك ويظل صوتهم مسموعًا ويُعفِّي أثر القياصرة وهم أبدًا خالدون، فڤولتر — أحد مهيِّئي الثورة الفرنساوية والهاتف باحترام الفكر وتقديس الحرية الفردية — يراسل رهطًا من ملوك أوروبا ويقبل صداقتهم. ولا بأس بهذا، إنما الشيء الفري أنه يختم رسائله بوضع احترامه وتعلُّقه وولائه «تحت أقدامهم». وقاسم أمين المصلح الجريء يطمع في تقديم كتابه «تحرير المرأة» إلى سمو عباس الثاني. ورابندرناث تاغور الهندي نبيُّ وحدة الوجود المثبت في قصائده أنشودة الحياة مترددةً من كوكب إلى كوكب، ومن ذرَّة إلى ذرَّة، يحمل لقب «سير» أنعم به عليه جلالة ملك إنجلترا. وما هم جميعًا في ذلك إلا من بني الإنسان!

•••

ولو كان هذا البحث تاريخيًّا لدرستُ أحوال بلادٍ لا أرستقراطية فيها، كاليونان الحديثة ورومانيا وصربيا، وأحوال بلادٍ أخرى كانت فيها فألغتها مثل نروج والبرازيل، ولألمعتُ إلى السلطنة العثمانية والسلطنة المصرية حيث — عدا العائلة المالكة — لا أرستقراطية سوى أرستقراطية اللقب العرضي المنوط بالفرد دون ذُريته. نعم، إن رشاش الباشوية يصل إلى الأنجال فينقلب بيكوية، ولكنه ينتهي عندهم ويفنى فيهم ولا ينتقل منه إلى أبنائهم شيء؛ فحفيد الباشا أفندي مجرَّد، إلا أن الأفندي الذي لا تحصي شجرةُ عائلته بيكًا واحدًا يستطيع هو — ومن دونه — أن يصير باشا إذا رمقته الأحوال بنظرة الرِّضَى.

وإذنْ لكنتُ أقابل بين الألقاب الوراثية في الشرق والغرب وأستفهم عن اصطلاحات أحار في تفسيرها. منها أن البرنسس بتريسيا أوف كونوت ابنة عم جورج الخامس، وابنة أخ إدورد السابع، وحفيدة فكتوريا الملكة والإمبراطورة — تزوَّجت في العام الماضي بسماح الملك، ابن لورد بسيط أهَّلته لها شجاعةٌ أبداها خلال الحرب، وتبادُل عاطفة الحب التي تسوِّي بين الدرجات وتمحو فروقها فتُشرِّف كلَّ ما لمسته بأناملها الخفية. فتنازلت البرنسس عن لقبها ومرتبتها، وأصبحت بكل بساطة «لايدي رامساي» تدخل في الاحتفالات الرسمية وراء جميع البرنسسات والدوقات والمركيزات والكونتسات، إلى آخر ما هنالك من طغمات الألقاب، في دور لقب «اللادي» الضئيل الذي تحمله، بعد أن كان لها في هذه المواقف أقرب مكان في جوار الملكة. يُخيَّل إليَّ أن هذا يُنافي المعقول في أمَّة يجوز أن تحكمها النساء، وقد فعلن؛ إذ كان المنتظَر أن امرأةً كالبرنسس باتريسيا إن لم تعطٍ زوجها لقبًا كلقبها، فهي تحفظ اللقب لنفسها — على الأقل — كما بقيت جدتها ملكة إنجلترا في حين أن قرينها لم يكن إلا برنسًا ألمانيًّا فقط.

وبخلاف ذلك هنا في مصر؛ حيث لا تكون ولاية العهد والحكم إلا للذكور، فإن البنات الحاملات لقب برنسسات إذا هنَّ تزوَّجن برجل ليس بذي لقب لا يفقدن لقبهنَّ العائلي، ولا يفتأن يحملنه وينادَين به. ينادَين به ليس تزلُّفًا أو مجاملةً، بل هو حق لهنَّ مدوَّن في كتاب الألقاب الرسمية، معترَف بإمارتهنَّ من البلاط السلطاني.

ولَربما هبطتُ دركة أخرى لأرسل نظرة في الألقاب اللبنانية المدهشة بإباحيتها؛ ففي جميع البلدان الكبيرة والصغيرة يرث لقبَ الشرف الابنُ البكر، ولأعضاء العائلة المالكة لقب برنس وبرنسس على شريطة أن يكونوا أبناء ملك أو أحفاده مباشرةً من جهة الذكور. أما في لبنان حيث انقرض الحكم الوراثي منذ عشرات الأعوام، فأبناء المير أو الأمير يولدون أمراء، وأبناء الشيخ مشايخ كلهم، لا يتملَّص من هذا المقدور فردٌ أحد. فلو نفَّذنا هنا القانون الساريَ في جميع البلدان وأجرينا التصفية اللازمة لهذه الشيوعية المطلقة، فأيُّ رياضي ينبئنا كم شيخ وكم مير يبقى من عملية الطرح الباهظة؟ لو اقتصر اللقب على ابن الحاكم الأصلي وحفيده، وظلَّ فيما بعدُ متتابعًا بالوراثة إلى البكر من الذكور، فكم ملقَّب يا تُرى يُفلت من عجاجة المعمعة اللقبية؟ ومما يلفت أن زوجة المير اللبناني كانت تُعرف أيام حكمه ﺑ «الست»، وما زالت بطاقة الزيارة لها على هذا النص بالعربية والفرنجية «مدام الأمير كذا كذا». ولكن يظهر أن «ارتقاء» بعض الأهالي في بيروت ولبنان وفي المهجر آل إلى كرمٍ حاتميٍّ بالألقاب، فصارت كل سيدة «أميرة» قبل زواجها وبعده! وفي هذه الحال الأخيرة يُضاف اسم عائلة زوجها إلى اسم عائلتها! كل هذا والبرنسس باتريسيا حفيدة أعظم إمبراطورية وأعظم دولة عرفها التاريخ إلى الآن، تحمل لقب لايدي رامساي.

•••

يرى بعضهم الملكية وأرستقراطية الحسب متلازمتَين؛ إذا وُجدت الواحدة قامت إلى جانبها الأخرى. وفي هذا القول صواب وخطأ؛ أمَّا الصواب ففي احتياج الملكية إلى أرستقراطية تتَّكل عليها، وأمَّا الخطأ فلأنَّ الأرستقراطية في غنًى عن الملكية تستطيع أن توجد وتنمو بدونها؛ لذلك نرى الأرستقراطية في تعريف أرسطو أقلية من ذوي الأهلية والفضل يسودون في جمهورية فيديرون منها الشئون، وينفِّذون القوانين الموضوعة بأمانة ودقَّة. ويقومون بعبء الحكم حبًّا بالمصلحة العامة والخير العام. ويضارعه تعريف شيشيرون في كتابه عن الجمهورية حيث يسمي الأرستقراطيين optimates وهي الترجمة اللاتينية الحرفية لكلمة Aristoi اليونانية، أي الأفضلين أو الأماثل. فمعنى الأرستقراطية الأصلي إذنْ هو حكم الأفضلين، أو حكم الأفضل.

طبعي أن يؤلِّف المرء لنفسه جماعةً تتفق مصالحها مع مصالحه بقدر الإمكان، ويثق من مساعدتها عند الخطر المداهم. والملكية تتبع هذا النظام الطبيعي؛ إذ لا شيء ألزم للسلطة الوراثية من الارتباط بذوي الشرف الوراثي، وتتوقع أن تبقى لها عواطف الشكر والولاء في أسرة أغدقت عليها هي وأسلافها الألقاب والخيرات، ولكن طالما ضلَّ هذا الأمل، ولئن وُجد يومًا من يُدعى هندنبورج وغيره من كبار الضباط والقُوَّاد الذين ظلوا يُسمُّون غليوم الثاني «ملكي وإمبراطوري» بعد محنته، وتطوَّعوا في تقديم نفوسهم عنه للمحاكمة الدولية؛ ففي التاريخ شواهد أخرى هي عبرة للمعتبر، كمعاملة أشراف إنجلترا للملك غليوم أوف أورنج وجورج الأول، ومثلها معاملة أشراف الملكية الفرنساوية لنابليون الأول، ونابليون الثالث، ولويس فيليب، وما كان بعد ذلك من سعي أشراف الإمبراطورية النابليونية (أي الأرستقراطية التي خلقها نابليون) لإرجاع البوربون وإجلاسهم على عرش فرنسا!

في البشر استعداد كبير لنكران الجميل والتملُّص من قيوده، والإيقاع بصاحب الفضل عليهم عند قضاء المصلحة. ورغم ذلك ما فتئ الملوك يوجِدون الأرستقراطية اللقبية جزاءَ خدمة جليلة وأملًا في ولاء مقيم. وإن لم يسلم ملوك الفكر من التقرُّب فليس من يتقن فنون التزلُّف ويبرع فيها كأُولي العز التالد. فهذا الشريف الذي يزن نبرات صوته، ويعدُّ خطواته، ويقيس إشاراته مع الخلق ومع نفسه تراه يتوق إلى خدمة الملك سرًّا وعلانية. وإذا أسعده الحظ بمحاذاة سيده في احتفال رسمي هرع يغسل يديه، ويقبِّل أنامله إن لم يمرِّغ جبهته عند موطئ قدميه، وقدَّم له أطباق الطعام، وملأ كأسه خمرًا أو ماءً، وحمل أوامره إلى الآخرين؛ فهو بالاختصار يمثِّل دور «جرسون» قهوة أو مطعم، وهو بذلك فخور.

الأرستقراطية ضرورية لمنفعة الأمة. آه! إنِّي أسمع زئيركم يا دعاة المساواة، وأرى ازوراركم أيها الأساتذة الديمقراطيون. إنها ضرورية للاحتفاظ بصفاتٍ هي جزء من ثروة الأمة، لأن لكل طبقةٍ قوةً حيوية اؤتُمنت عليها. لست قائلة باحتكار القوى والكفاءات في بيئة دون بيئة، ولا أنا قائلة بذكاء ابن الذكي، وبفضل ابن الفاضل، وبأن ابن النصَّاب لا بدَّ أن يُعدَم شنقًا. ربما كان سر الوراثة أكثر الأسرار الطبيعية تنبيهًا لحبِّ البحث فيَّ. ما أضمن تأثير الوراثة المباشرة من جهة، وما ألغاه من جهة أخرى! تقولون إنه لغو بتغلُّب الوراثة المتقطعة، أو الرجعى، أو الوراثة البعيدة على الوراثة القريبة! قولوا ما شئتم وأنا أُبقي على اعتقادي حتى يتغلَّب عليه اعتقاد خير منه؛ وهو أن المواهب تظلُّ متدفقة في ذلك التيار الرائع تيار الحياة الذي يخترق الأكوان، ويلقي نثراتٍ منه أتمَّ بهاءً وسناءً في أفرادٍ دون أفراد بصرف النظر عن صيغة نعتهم الاجتماعي. غير أني أقول كذلك إنه إذا كان للتربية الشخصية والبيتية تأثير — ويتعذَّر نفي هذا؛ إذ نسدُّ بنفيه باب التقدم والتحسن — فكيف بالتربية الوراثية الطويلة؟! لهذه القاعدة شواذُّها أيضًا، ومن الأرستقراطيين من هم دون الخاملين ذلًّا ومهانةً. ولكن هذا الشذوذ يُثبت القاعدة التي هي أن رفيع الحسب يكون عادةً مباهيًا باسمه يطمع في صونه ناصعًا ألمعيًّا، ويرغب في عظائم الأمور لأنه مسوقٌ أبدًا بكبرياء المولد. زد على ذلك أنه يشِبُّ على تربية حسنة، وذوق مصفًّى، ومعاملة جميلة، وتدبير مرضي، وعلم كثير، وعادات نبيلة، وميول سامية؛ جميع هذه الصفات يقتبسها عن محيطه الممتاز بعد أن تكون الوراثة المباشرة وغير المباشرة أثَّرت فيه تأثيرها؛ فيبتدئ حياته على استعداد تام. أكاد أقول إنه يبتدئها حيث ينهيها مَن لا اسم له، وتمهِّد له الحياة سبلًا لا تُفتح للوضيع، فكأنَّ خدمة المصلحة العامة وخدمة الإنسانية أيسر له منها لغيره. له أولوية الشهرة وشهادة المجد يظل بها مكرَّمًا معزَّزًا أينما ذهب، بينما الآخر يُضحَّى غالبًا لأنه مجهول لا يعرفه أحد؛ فيصرف قواه ونشاطه في إقناع الناس بوجودهما عنده، وتتابُع الخيبة والفشل قد يملأ قلبه مرارةً ويفسد خلقه فيتحدَّر من يأس إلى يأس، ومن انكسار إلى انكسار حتى يَهْويَ في لُجَّة الارتياب من مقدرته وكفاءته؛ فيُلقي السلاح، ويطوي اللواء، ويسلِّم تسليم المغلوب عندما ينطلق الأرستقراطي في سبيل السعي والمجد. وادخار هذه الشخصيات الموهوبة بحكم الوراثة إنما هو في مصلحة الشعب والإنسانية بلا جدال.

هو في مصلحة العموم لا سيما إذا كانت المرتبة شبيهة بالأرستقراطية الإنجليزية التي لها بين أرستقراطيات أوروبا مكانة فريدة. هذه بيئة تكوَّنت ببطءٍ متناهٍ لتعادُل السائد والمسود حضارةً في تاريخ هاتيك البلاد. فاندغم النورمانديون بالسكسون على ممر الدهور فتألفت أفضلية ما زالت بتساهلها ورشدها تحفظ امتيازاتها في هذا الجيل العصيب؛ لأنها وهي من أكثر الأرستقراطيات محافظة على تقاليدها التي منها تفرُّد الابن البكر بحقوق الوراثة، فهي في الوقت نفسه حكيمة تعيش في أراضيها على مقربة من الفلاحين بعيدة عن التبذير والاستهتار، تتعاطى الصناعة والتجارة وغير ذلك من الأعمال، وتفتح بابها لكل ذي أهلية ومعرفة وثروة أو خدمة جليلة. وهي ذات أثر في معظم شئون الدولة تقبل الإصلاح، وتنبِّه إلى التعديل الضروري. وقد جاهدت مع الشعب لحمل الملكية على احترام القانون، وتحرير الكاثوليك، ومنح أيرلندا المساواة السياسية، وإعطاء اليهود حقوقهم المدنية والسياسية، وإنشاء النظام النيابي وما نحوها؛ فهي قليلة الأذى، قليلة الظُّلم، وهي مستودع صفات وعادات مستحسنة؛ لذلك ستبقى زمنًا آخر لأنها قريبة إلى نظام الطبيعة.

•••

أظنُّ أن ذكر نظام الطبيعة — بعد هذه المرافعة الطويلة في تأييد الأرستقراطية — يشفع بي لدى السادة الديمقراطيين ويُفرج من عبوسهم في النظر إليَّ. لا أقول إن الإشراف أو التفاضل ضروري في الطبيعة فحسب، بل أقول إنه من الطبيعة ولا يمكن حذفه؛ لأنه — كالانخفاض — جزءٌ من أجزاء الوجود. لاشِه تُلاشِ ضدَّه، وبملاشاة الضدَّين يَمَّحِي كل شيء. الإشراف والانخفاض من الوجود نفسه؛ إذ ليس سطح الأرض كله بالمنبسط، ولا النجوم كلها من قدر واحد. والذين يطلبون المساواة مسستشهدين بالشمس تسكب نورها على الصالحين والطالحين، وبالماء تَسبَح فيه جميع الأسماك على الإطلاق، ينسون أن الأسماك من طبيعتها التنوع حجمًا وصفةً؛ فمنها المصفرُّ ومنها القاتم، ومنها السردين ومنها الحيتان. وينسون أن العبرة ليست بالنور الذي تُرسله الشمس، بل بالغاية المتنافرة التي يرمي إليها هذا وذاك، وبكيفية الاستفادة من النور والظلام لبلوغها. فكما أن سطح الأرض ينبسط هنا مروجًا وسهولًا، ويهبط هناك منحدرات وأودية، ويتشامخ هنالك جبالًا وقممًا، كذلك للطَّبيعة البشرية سهول وأودية وقمم.

وهاك استدراكًا يُنِيلُني حظوةً في عيون جهابذة الديمقراطية، ويصح أن يكون متنًا لكل بحث في تاريخ الاجتماع؛ وهو أن الأرستقراطية التي احتكرها ذوو الألقاب لبيئتهم ليست إلا جزءًا من الأرستقراطية التامة المتشكِّلة من أرستقراطية الفضل (وهي التي يعنيها أرسطو وشيشرون) وأرستقراطية الحسب، وأرستقراطية العقار، وأرستقراطية المال، وأرستقراطية النبوغ. ومن المفكرين — مثل شوبنهور الفيلسوف الألماني — من لا يعترف بغير الأرستقراطية الأخيرة؛ إذ يرى الناس اثنين: عبقريًّا وخاملًا، وبينهما هُوَّة يستحيل عبورها؛ لأن الطبيعة الخاملة لا تتحول طبيعةً عبقريةً. وللعبقري كل الفضل في نظره لأنه هو مبدع كل جميل وعظيم. ولكنْ إذا صحَّت نظرية شوبنهور من حيث إرجاع الإبداع إلى العبقرية، فهذا لا ينفي أن للدرجات الأخرى فضلًا متساويًا مع استعدادها في تطوُّر العمران. البذرة تُلقَى وهي أصل الشجرة، ولكنَّ النمو يتطَّلب عناصر أخرى. الشرارة أصل النار، ولكنْ لا بدَّ من موادَّ يتسع بها اللهيب وينتشر. والغريب هو شعور أهل الألقاب والجاه بضُئُولة ما لديهم فيسعون للحصول على الأرستقراطيات الأخرى، وإن لم ينالوها تظاهروا بحيازها. مثال ذلك رغبة الملوك والعظماء في الاشتهار بالعلوم والفنون وضروب الإنشاء. ومن لا يذكر ما جرى للويس الرابع عشر مع بوالو النَّقاد الفرنسوي الذي عرض عليه الملك يومًا قصيدةً من نظْمِه كأنه يلتمس مصادقته واستحسانه ليفاخر بهما أمام الأعوان، فكان جواب بوالو: «مولاي قادر على كل شيء؛ أراد نظْمَ أبيات سقيمة فنجح كلَّ النجاح.» وقد يخلط الناس فيحسبون أن من توفرت له أرستقراطية توفر له غيرها. كقول الشاعر عن أرستقراطية المال:

فهي الكلام لمن أراد فصاحةً
وهي السلاح لمن أراد قتالًا

نقبل هذه النظرية من شاعر فقير بلا ريب؛ لأن الواقع أن المال يبالغ في إظهار العيِّ، ويزيد الجبان خوفًا وجُبنًا. ولا يكون «الكلام» إلا لمن فُطِر على الفصاحة، ولا «السلاح» إلا في يد الفارس المقدام. ولا هو الارتقاء إلا لمن خلق ليرتقيَ متسلِّقًا جبال الصعوبة فيصل إلى ذروة التفوق. أما القول بالحظ والنصيب فصائبٌ إلى حدٍّ ما. بَيْدَ أنه من دلائل العجز أن يظل المرء مكتوف اليدين في انتظار «الظروف» ليتحرك. «الظروف» تخلق الشخصيَّات الضرورية لها، وتكوِّن الأرستقراطيات الفردية والقومية المطلوبة، وتنبِّه النبوغ وتُعزِّزه. ولكنها في الغالب تختار ممثِّليها وأبطالها بين العاملين المتحفزين لا بين الكسالى الخاملين. وإن اختارت خاملًا سهوًا بدَّد عطاياها هباءً، وظل الحظ فيه على نحو قول العامة «رمح يغرز في النخالة.»

قال شاعر عربي آخر:

كلُّ من سار على الدَّرب وصل

وهذا الآخر يشفع في نظريته أنها منظومة. كلَّا، لا يصل كل من سار على الدرب؛ لأن المدعُوِّين كثير، أما المختارون فقليل. ويقال إن فضل المجاهدين في انخذالهم أعظم، ولا بأس بنشر هذه الكلمة للتشجيع لا سيما وأن نتيجة الجهاد لا تُعرف قبل البلوغ إليها. ولكننا نعلم أن الحياة لا تُكرم وتُكبر إلا من كافح فغلب. أما الآخرون الذين يُنهكهم الجهاد فيقعون صرعى في طول السُّبل وعرضها، فتلقي عليهم نظرة الإشفاق ثُم تنساهم؛ لأن وقت البطولة ضيِّق لا يسع التحسُّر على الفريسة والضحية. وستظل الأرستقراطية — أرستقراطية الجماعة وأرستقراطية الفرد — ما دامت الطبيعة، ولو تحوَّلت منها الأنواع وتغيَّرت المظاهر وتعدَّدت الأسماء. سيظل التفوق موجودًا ما بقي بين البشر جماعات وأفراد يسيرون بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود فيتجلون على طور القدرة والمجد فوق صياح الصائحين وتجديف المجدِّفين. سيوجد أبدًا هؤلاء، ومنهم من ينعكس خيال أرستقراطيتهم في الأجيال الآتية ويمتد حتى أطراف الدهور القصية، مهما تقلَّبت الثورات والنُّظم والعمرانات. هذا إذا كانت الأرستقراطية من الطراز «الأصلح» وهو الطراز الذي قرَّرت له الطبيعة الفوز أولًا وآخرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤