الفصل العاشر

وسط العاصفة

تبعد «ليذرهيد» مسافة اثني عشر ميلًا عن تل «مايبري». ملأت رائحة التبن الهواء عبر المروج الخصبة فيما وراء «بيرفورد»، وكانت السياجات النباتية على كلا الجانبين جذابة بهيجة بما فيها من أزهار كثيرة. توقف إطلاق النيران الذي اندلع عندما كنا نقود العربة نحو سفح تل «مايبري» فجأة مثلما بدأ، تاركًا الليل ساكنًا وهادئًا تمامًا. وصلنا لندن نحو الساعة التاسعة دون أن يصيبنا مكروه، ونال الجواد قسطًا من الراحة مدة ساعة بينما تناولت العشاء مع أبناء عمي وأوصيتهم خيرًا بزوجتي.

كانت زوجتي صامتة على نحو غريب أثناء رحلتنا إلى «ليذرهيد»، وبدت قلقة مما ينتابها من هواجس. تحدثت إليها بغية طمأنتها قائلًا إن المريخيين لن يبرحوا الحفرة بسبب أوزانهم الثقيلة، وعلى أسوأ تقدير سوف يزحفون بعيدًا عن الحفرة بمسافة قصيرة، لكنها لم تجبني إلا بكلمات معدودة. وأظن أنه لولا وعدي الذي قطعته لمالك الحانة، لكانت أصرَّت على بقائي في «ليذرهيد» تلك الليلة. ويا ليتني كنت قد بقيت! أذكر أن وجهها كان شاحبًا تمامًا وكلانا يودع الآخر.

من جانبي كنت أشعر بانفعال شديد طوال اليوم. سار في عروقي شعور أشبه ما يكون بحماسة الحرب التي تجتاح المجتمعات المتقدمة من حين لآخر، وفي داخلي لم أكن مستاءً تمامًا من اضطراري للعودة إلى «مايبري» تلك الليلة. بل إني خشيت أن يكون ذلك السيل من الطلقات النارية التي سمعتها قد أباد الغزاة القادمين من المريخ. أفضل تعبير عن حالتي هو أنني كنت أرغب في الاشتراك في تلك الحرب.

كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة عندما هممت بالعودة. كان الليل حالك السواد على نحو غير متوقع؛ فخروجي من الرواق المضيء في منزل ابن عمي جعل الجو يبدو لي مظلمًا حقًّا، وكان الليل حارًّا عزَّ هواؤه تمامًا مثلما كان النهار. في السماء كانت السحب تجري مسرعة مع أنه لم تكن هناك نسمة هواء تحرك الشجيرات من حولي. أضاء خادم أبناء عمي مصباحين. ومن حسن الحظ أني كنت أحفظ الطريق جيدًا. وقفت زوجتي في ضوء مدخل المنزل، وظلت تراقبني حتى قفزتُ إلى داخل العربة. عندها استدارت فجأة ودلفت إلى المنزل تاركة أبناء عمي يتمنون لي حظًّا موفقًا.

انقبض صدري قليلًا كأن عدْوَى خوف زوجتي قد انتقلت إليّ، لكن سرعان ما تحولت أفكاري إلى المريخيين. في ذلك الوقت كنت أجهل تمامًا المسار الذي اتخذه القتال الذي اندلع تلك الليلة. بل إني لم أكن أعرف الملابسات التي أثارت هذا القتال. وبينما كنت أمر على «أوكهام» (لأنني عدت من هذا الطريق، وليس من طريق «سيند» و«أولد ووكينج»)، رأيت في الأفق الغربي وهجًا أحمر قانيًا كان يملأ السماء ببطء كلما اقتربت. اختلطت سحب العاصفة الرعدية الوشيكة بكتل من الدخان الأسود والأحمر.

كان شارع «ريبلي» خاليًا، وباستثناء نافذة أو اثنتين مضيئتين، لم تُبْد المدينة أثرًا للحياة، لكني نجوت بشق الأنفس من حادث في زاوية الطريق إلى «بيرفورد» حيث كان مجموعة من الأشخاص يقفون وظهورهم إليّ. لم يقل أحدهم شيئًا أثناء مروري بجوارهم. لا أعرف ما لديهم من أخبار عما كان يحدث فيما وراء التل، ولا أعرف هل كان سكان المنازل الساكنة التي مررت بها في طريقي نائمين في أمان، أم أنهم هجروها وتركوها خاوية على عروشها، أم كانوا منزعجين يراقبون أهوال تلك الليلة.

من شارع «ريبلي» إلى أن وصلت «بيرفورد» كنت أمر بوادي «واي»، وكان الوهج الأحمر محجوبًا عني. لكن ما إن صعدت التل الصغير الذي يلي كنيسة «بيرفورد»، حتى ظهر الوهج مرة أخرى، واهتزت الأشجار من حولي مع أول إنذار للعاصفة التي كانت تدنو مني. ثم سمعت رنين جرس منتصف الليل من كنيسة «بيرفورد» خلفي، وبعدها ظهر خيال تل «مايبري» حيث قمم أشجاره وأسقف منازله سوداء محددة المعالم وسط الحمرة.

وبينما كنت أبصر ذلك، أضاء وهج أخضر متوقد الطريق من حولي وأظهر الأشجار البعيدة باتجاه «أديلستون». شعرت بانجذاب الزمام بقوة. ورأيت أن السحب الجارية قد اخترقها خيط من النيران الخضراء أضاءها فجأة، ثم سقط في الحقل إلى يساري. كان ذلك هو النجم الساقط الثالث!

على مقربة منه، وبلون بنفسجي واضح على النقيض، تراقص البرق الأول للعاصفة الوشيكة، وانطلق الرعد كالصاروخ في السماء. جمح الجواد وفر بأقصى سرعته.

تحركنا على طول منحدر متوسط الانحدار باتجاه سفح تل «مايبري». ما إن بدأ البرق حتى استمر في صورة ومضات متلاحقة سريعة لم أرها من قبل قط. كان صوت هزيم الرعد — الذي يدوي مرة تلو الأخرى مصحوبًا بصوت فرقعة غريب — أقرب لصوت آلة كهربائية عملاقة أكثر منه لأصداء الصوت المألوفة للانفجارات. كان الضوء المتلألئ قويًّا مربكًا، وتساقط المطر على وجهي فجأة أثناء نزولي التل.

في البداية لم أشاهد شيئًا سوى الطريق أمامي، وفجأة جذب اهتمامي شيء كان يتحرك بسرعة متجهًا نحو قاعدة المنحدر المقابل لتل «مايبري». في البداية ظننته السقف المبتل لأحد المنازل، لكن وهجًا بعد وهج أوضح أنه يتحرك حركة دائرية سريعة. كانت الرؤية صعبة … مرت دقيقة من الظلام المربك، وبعدها — وسط وميض أشبه بضوء النهار — صارت الكتل الحمراء لدار الأيتام القريبة من قمة التل، وقمم أشجار الصنوبر الخضراء، وذلك الشيء المريب كلها واضحة ومحددة وبراقة.

ذلك «الشيء» الذي رأيته! كيف لي أن أصفه؟ حامل ضخم ثلاثي القوائم أكثر ارتفاعًا من العديد من المنازل، يخطو خطوات واسعة فوق أشجار الصنوبر الصغيرة ويسحقها أثناء ذلك؛ محرك متحرك من معدن متلألئ يخطو خطوات واسعة الآن عبر المرج، وحبال واضحة من الفولاذ تتدلى منه، ويمتزج الضجيج الذي يُحدثه أثناء مروره مع هزيم الرعد. مع اندلاع إحدى الومضات، ظهر ذلك الشيء بوضوح يتمايل في اتجاه واحد وقدماه في الهواء ليختفي ثم يكاد يعاود الظهور في الحال مع الومضة التالية، وقد اقترب نحو مائة متر. أيمكنك أن تتخيل كرسيًّا ثلاثي القوائم يتمايل ويتحرك مسرعًا فوق الأرض؟ كان هذا هو الانطباع الذي وصلني من خلال تلك الومضات اللحظية. لكن بدلًا من الكرسي ثلاثي القوائم، تخيل أنه هيكل ضخم لآلة تنتصب على حامل ثلاثي القوائم.

بعدها وعلى حين غرة بدأت الأشجار في غابة الصنوبر أمامي يتباعد بعضها عن بعض كسيقان الخيزران الجاف عندما يتحرك بشر بينها؛ كانت الأشجار تنكسر وتُدفع بعيدًا، ثم ظهر ثلاثي قوائم ضخم ثانٍ مندفعًا — مثلما بدا لي — باتجاهي، وكأني كنت أعدو بسرعة كي ألتقيه! عندما رأيت ذلك الوحش الثاني، لم يعد لدي مثقال ذرة من شجاعة. لم أتوقف لألقي نظرة ثانية، وإنما سحبت رأس الجواد بقوة إلى اليمين وبسرعة مالت العربة فوق الحصان، وتحطم عمودا السرج محدثين صوتًا عاليًا، وطُرحت أنا جانبًا لأسقط بكل ثقلي في بركة مياه ضحلة.

زحفت خارج البركة على الفور، وجثمت على الأرض بينما لا تزال قدماي في الماء أسفل أجمة من الأشجار. رقد الحصان بلا حراك (إذ انكسر عنق الحيوان المسكين!) وعلى ضوء البرق رأيت الهيكل الأسود للعربة المقلوبة وظل العجلة التي ما زالت تدور ببطء. وفي لحظة أخرى خطت الآلة الضخمة خطوات واسعة بجواري، وشقت طريقها صعودًا على التل باتجاه «بيرفورد».

عندما رأيت ذلك الشيء من قريب، كان منظره غريبًا حقًّا، فلم يكن مجرد آلة معدومة الحس تتحرك. كانت آلة ذات خطوة مدوية رنانة، ومجسات لامعة طويلة مرنة (يقبض أحدها على شجرة صنوبر صغيرة) تتأرجح وتقعقع حول هيكلها الغريب. اختار ثلاثي القوائم طريقه وهو يخطو خطواته الواسعة إلى الأمام، وتحركت القلنسوة النحاسية التي تعلوه للأمام والخلف بما يوحي حتمًا بوجود رأس أسفل تلك القلنسوة. وخلف الجسم الرئيسي كانت توجد كتلة ضخمة من معدن أبيض تشبه سلة صيد سمك عملاقة، وانبعثت هبَّات من الدخان الأخضر من مفاصل الأطراف مع مرور ذلك الوحش بجواري. وفي لحظة اختفى.

كان هذا كل ما رأيته حينئذ؛ وجميعه لم يكن واضحًا بسبب ضوء البرق الذي كان يومض على نحو متقطع تتبعه الظلال السوداء القاتمة.

أثناء مرور ثلاثي القوائم، أصدر صوتًا جذلًا عاليًا غطَّى على صوت الرعد «ألوو! ألوو!» وفي دقيقة أخرى كان مع رفيقه على بعد نصف ميل ينحني فوق شيء ما في الحقل. كنت على يقين أن ذلك الشيء في الحقل كان الأسطوانة الثالثة من الأسطوانات العشر التي أطلقوها علينا من المريخ.

جلست برهة في مياه المطر وفي الظلام أشاهد — على الضوء المتقطع — تلك الكائنات المعدنية المخيفة وهي تتحرك من بعيد فوق قمم سياج الأشجار. تساقط مطر خفيف، ومع تساقطه وانقطاعه، زاد غموض ملامحهم ثم اتضحت مرة أخرى. وبين الحين والحين كان البرق يتوقف فيبتلعهم ظلام الليل.

أغرقتني مياه الأمطار من فوقي ومياه البركة من تحتي. مر بعض الوقت قبل أن تمكنني دهشتي البالغة من أن أبذل جهدًا في الانتقال إلى مكان أكثر جفافًا أو التفكير في الخطر الوشيك الذي يحيق بي.

على مسافة ليست بعيدة عني رأيت كوخًا خشبيًّا صغيرًا من حجرة واحدة تحيط به رقعة مزروعة بثمار البطاطس. استطعت النهوض أخيرًا، وفررت من المكان جاثمًا على الأرض مستغلًّا أي شيء أختفي خلفه. قرعت الباب، لكن لم يكن صوت طرقاتي ليَسمَعه أهل المكان (إن كان به أحد)، وبعد فترة توقفت، ونجحت — بمساعدة خندق طوال الجزء الأكبر من الطريق — في التقدم تجاه «مايبري» شيئًا فشيئًا من دون أن تلاحظني تلك الآلات المتوحشة في غابة الصنوبر.

تقدمت للأمام مختفيًا خلف الأشجار نحو منزلي، وكنت وقتها مبتلًّا أرتجف. سرت بين الأشجار محاولًا الوصول إلى الرصيف. كان الجو حالك الظلمة في الغابة، إذ صار البرق يحدث على فترات متباعدة، وأصبح المطر الذي كان ينهمر بغزارة يتساقط صفوفًا عبر الفجوات بين أوراق الأشجار الكثيفة.

لو أني أدركت جيدًا ما تعنيه كل تلك الأشياء التي رأيتها، لكنت استدرت على الفور عبر «بايفليت» إلى شارع «تشوبهام»، وعدت للحاق بزوجتي في «ليذرهيد». لكن غرابة الأشياء من حولي تلك الليلة وحالتي الجسدية المزرية منعاني، إذ كنت مصابًا بالكدمات ومتعبًا ومبتلًّا من رأسي حتى أخمص قدمي وكأن العاصفة أصمَّتني وأعمتني.

خُيِّل إلي أنه من الصواب أن أتقدم نحو منزلي، وكان ذلك محركًا لي. ترنحت وسط الأشجار، وسقطت في حفرة وأصيبت ركبتي بكدمة إثر اصطدامها بلوح خشبي، وأخيرًا خضت في ماء الممر الضيق القادم من «كوليدج آرمز». أقول خضت لأن مياه العاصفة كانت تدفع الرمال نحو أسفل التل في سيل موحل. وهناك في الظلام اصطدم بي رجل مما جعلني أترنح إلى الوراء.

صرخ الرجل صرخة مفزعة، وتحرك بسرعة جانبًا، ثم اندفع إلى الأمام قبل أن أستعيد توازني بما يكفي لأن أتحدث إليه. كان أثر العاصفة قويًّا جدًّا في ذلك المكان، حتى إني بذلت جهدًا مضنيًا كي أشق طريقي صعودًا إلى التل. سرت بجوار السور على اليسار، وتقدمت في طريقي بمحاذاة السياجات.

بالقرب من القمة تعثرت في شيء ناعم، وعلى ضوء إحدى ومضات البرق رأيت بين قدميَّ كومة من الجوخ الأسود وزوجًا من الأحذية. وقبل أن أميز بوضوح كيف يرقد الرجل، انقضت ومضة الضوء. وقفت بجواره منتظرًا الومضة الثانية. وعندما حدثت، رأيت رجلًا قوي البنيان يرتدي ملابس زهيدة وإن لم تكن رثَّة؛ رأسه محنٍ أسفل جسده، ويرقد منكمشًا على نفسه بجوار السور وكأنه قد قُذِف نحوه بعنف.

عندما تغلبت على الاشمئزاز الذي عادة ما يصيب المرء عندما يلمس جثة للمرة الأولى، توقفت وقلبته لأتحقق من نبضه. كان ميتًا، ومن الواضح أن عنقه كان مكسورًا. نهضت واقفًا. كان الرجل هو مالك حانة «سبوتيد دوج» الذي أخذت عربته.

خطوت فوقه بحذر، وواصلت السير صعودًا إلى التل. مررت بقسم الشرطة ومبنى «كوليدج آرمز» متجهًا إلى منزلي. لم يكن ثمة شيء مشتعل على جانب التل بالرغم من أن وهجًا أحمر ودخانًا أحمر متموجًا كانا لا يزالان ينبعثان من المرعى وسط الأمطار الغزيرة. كانت المنازل من حولي — على مدى رؤيتي على نور الومضات — بحالة سليمة بوجه عام. وبجوار «كوليدج آرمز» كانت هناك كومة سوداء تقبع في الطريق.

على طول الطريق باتجاه جسر «مايبري»، سمعت أصواتًا ووقع أقدام، لكن لم تكن لدي الشجاعة لأن أصيح أو أذهب إليها. فتحت باب المنزل، ودخلت، ثم أغلقته وأوصدته بالمزلاج، وسرت مترنحًا إلى قاعدة الدَّرَج، ثم جلست. كان خيالي مشغولًا عن آخره بتلك الوحوش المعدنية التي كانت تذرع المكان ذرعًا، وبتلك الجثة المهشمة بجوار السور.

جثمت على الأرض عند قاعدة الدَّرَج وظهري إلى الحائط أرتجف ارتجافًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤