الفصل السادس عشر

النزوح من لندن

بوسعك هكذا أن تتفهم موجة الخوف الهادرة التي اجتاحت أكبر مدن العالم مع طلوع فجر يوم الاثنين؛ إذ تحوَّل تيار النازحين سريعًا إلى سيل جارف — وسط حالة من الاضطراب الشديد في كل الجهات المحيطة بمحطات السكة الحديدية — يتكدسون في صراع مرعب من أجل الانتقال عن طريق نهر «التيمز» ويهرولون عبر كل وسيلة انتقال متاحة نحو الشمال والشرق. وفي الساعة العاشرة، كان جهاز الشرطة — بل وهيئة السكة الحديدية مع انتصاف النهار — يفقدون تلاحمهم وتنظيمهم وكفاءتهم، والضعف والفتور يدبّ بين صفوفهم، حتى إنهم هرعوا أخيرًا مع الحشود النازحة.

كانت جميع خطوط السكة الحديدية شمال نهر «التيمز»، وسكان الجنوب الشرقي في شارع «كانون» قد تلقوا تحذيرًا في منتصف ليل الأحد، واكتظت القطارات بالركاب. كان الناس يتقاتلون بوحشية من أجل تأمين مكان للوقوف داخل العربات حتى في الساعة الثانية. وفي الثالثة كانوا يُداسون ويُسحقون في شارع «بيشوبسجيت» على بعد بضع مئات من الأمتار من محطة شارع «ليفربول»؛ كانت الأعيرة النارية تُطلَق والطعنات تُسدَّد، ورجال الشرطة الذين أُرسلوا لتوجيه حركة المرور — والذين تملَّكهم الإنهاك والحنق — يضربون أعناق الناس الذين استُدعوا هم للخدمة من أجل حمايتهم.

ومع تقدم النهار ورفض سائقي القطارات والمسئولين عن تغذيتها بالفحم العودة إلى لندن، دفعت وطأة الفرار الناس في حشود متزايدة العدد بعيدًا عن المحطات وعلى طول الطرق المؤدية شمالًا. في منتصف النهار شوهد أحد المريخيين في «بارنز»، وتحركت سحابة من البخار الأسود كانت تنخفض رويدًا رويدًا على طول وادي «التيمز» وعبر ضاحية «لامبيث» لتحول حركته البطيئة دون الفرار من فوق الجسور. مرت غيمة أخرى فوق منطقة «إيلينج»، وأحاطت بمجموعة صغيرة من الناجين فوق «كاسيل هيل»؛ كانوا أحياء لكنهم عاجزون عن الفرار.

بعد صراع عقيم من أجل ركوب قطار متجه نحو الشمال الغربي من محطة «تشوك فارم» — حيث شقت القاطرات التي أفرغت حمولتها في محطة البضائع طريقها بصعوبة وسط الحشود المتصايحة، وكافحت مجموعة من الرجال الشجعان من أجل منع الحشود من سحق السائق قبالة محرك القطار — خرج شقيقي إلى طريق «تشوك فارم» وتفادى في حركة سريعة سربًا مسرعًا من العربات، وحالفه الحظ في أن يكون في طليعة المشاركين في نهب أحد متاجر الدراجات. انثقب الإطار الأمامي للدراجة أثناء جرها عبر النافذة، لكنه مع هذا غادر المكان على عجل دون مزيد من الإصابات خلا جرح في معصمه. لم يكن بالإمكان اجتياز السفح المنحدر لتل «هافرستوك هيل» بسبب ذلك العدد الكبير من الخيول المطروحة أرضًا، وهو ما حدا بشقيقي أن يسلك طريق «بيلسايز».

وهكذا فر شقيقي من هياج الهلع، ودار حول طريق «إدجوير رود» حتى وصل إلى «إدجوير» نحو السابعة متعبًا ودون أن يتناول طعامًا، لكنه كان متقدمًا عن الحشد بكثير. مر عليه عدد من راكبي الدراجات وبعض راكبي الخيول وسيارتان. على بعد ميل من «إدجوير» انكسر إطار العجلة، ولم تعد الدراجة صالحة للركوب. تركها على جانب الطريق، وأخذ يسير بخطوات متثاقلة داخل البلدة. كانت هناك متاجر نصف مفتوحة في الشارع الرئيسي، واحتشد الناس فوق الرصيف وفي مداخل البنايات ونوافذها مذهولين يحدقون النظر في موكب اللاجئين الغريب الذي كان في بدايته. نجح شقيقي في الحصول على بعض الطعام من إحدى الحانات.

ظل شقيقي بعض الوقت في «إدجوير» لا يعرف خطوته التالية. زاد عدد النازحين، وبدت لدى الكثيرين منهم — مثل شقيقي — رغبة في التسكع في المكان. لم ترد أي أخبار جديدة عن الغزاة المريخيين.

في ذلك الوقت كان الطريق مزدحمًا، لكنه لم يكن بعد مكتظًّا. كان معظم اللاجئين في تلك الساعة يركبون دراجات، ولكن سرعان ما ظهرت سيارات وعربات تجرها الخيول تشق الطريق مسرعة وقد تجمع الغبار في سحب كثيفة على طول الطريق إلى «سانت ألبانز».

ربما تكون فكرة ضبابية تتعلق بالذهاب إلى «تشلمسفورد» — حيث يعيش بعض أصدقاء شقيقي — هي التي دفعته لأن يسلك زقاقًا هادئًا يتجه ناحية الشرق. عندها قابل درَجًا مخصصًا لعبور أحد السياجات، فعبره، وتتبع ممرًّا للمشاة يتجه نحو الشمال الشرقي. مر بجانب العديد من بيوت المزارع وبعض الأماكن التي لم يكن يعرف أسماءها. رأى بضعة لاجئين إلى أن التقى مصادفة — في ممر عشبي يتجه نحو «هاي بارنيت» — بسيدتين أصبحتا فيما بعد رفيقتيه في الطريق. التقى بهما في الوقت المناسب تمامًا لإنقاذهما.

سمع صراخهما، وعندما ركض نحو مفترق الطريق رأى رجلين يبذلان قصارى جهديهما من أجل سحبهما خارج العربة التي كانتا تقودانها، بينما ثالث يمسك في صعوبة رأس الحصان المذعور الذي كان يجر العربة. كانت إحدى السيدتين — قصيرة القامة ترتدي ملابس بيضاء اللون — تصرخ، بينما جرحت الأخرى — هيفاء القامة سمراء البشرة — الرجل الذي كان يمسك بذراعها باستخدام سوط كانت تحمله في يدها الثانية.

على الفور استوعب شقيقي الموقف، فصاح، وهرع نحو مكان القتال. توقف أحد الرجال، واستدار نحوه، ولما أدرك شقيقي من تعبيرات وجهه العدائية أنه لا مفر من القتال، ولما كان ملاكمًا متمرسًا، فقد توجه نحوه في الحال وطرحه أرضًا بجانب عجلة العربة.

لم تكن هناك فرصة للتحلي بشهامة الملاكمين، فركله شقيقي ركلة أعجزته عن الحركة، ثم أمسك بتلابيب الرجل الذي كان يجذب ذراع السيدة الهيفاء. سمع قعقعة الحوافر، وتلقى ضربة بالسوط على وجهه، وسدد له غريم ثالث ضربة بين عينيه، بينما أفلت الرجلُ الذي كان يمسك به شقيقي نفسه وفر عبر الزقاق في الاتجاه الذي جاء منه.

وفي شيء من الذهول، وجد نفسه في مواجهة الرجل الذي كان يمسك برأس الحصان، وأدرك أن العربة ترتد منه إلى الوراء عبر الزقاق، تترنح من جانب إلى آخر والسيدتان بداخلها تنظران إلى الخلف. حاول الرجل الذي يتقدمه — وكان فظًّا ضخم الجثة — أن يشتبك معه، لكنه أوقفه بضربة في وجهه. ولما أدرك الرجل أنه أصبح وحيدًا، تفادى المواجهة، وأطلق ساقيه للريح عبر الزقاق خلف العربة، يتبعه ضخم الجثة بمسافة قصيرة، والفارّ — الذي استدار حينها — خلفهما على مسافة بعيدة.

فجأة تعثر شقيقي وسقط أرضًا، بينما تقدم مطارده القريب منه دون تردد. هب واقفًا ليجد نفسه مرة أخرى في مواجهة خصمين. ربما كانت فرصته في النجاة ضئيلة لولا أن المرأة الهيفاء أوقفت العربة ببسالة، وعادت لتمد يد العون له. يبدو أنها كانت تحمل مسدسًا طوال كل هذا الوقت، لكنه كان أسفل المقعد عندما تعرضت هي ومرافقتها للهجوم. أطلقت النار على بعد ستة أمتار، وتمكنت بشق النفس ألا تصيب شقيقي. فرَّ اللص الأقل شجاعة، وتبعه رفيقه وهو يلعن جبنه. توقفا في الزقاق على مرأى من شقيقي حيث كان الرجل الثالث يرقد بلا حراك.

قالت هيفاء القوام: «خذ هذا!» وأعطت المسدس لشقيقي.

قال شقيقي وهو يمسح الدم عن شفته المشقوقة: «عودي إلى العربة.»

استدارت دون أن تنبس بكلمة — إذ كان كلاهما يلهثان — وعادا إلى حيث كانت السيدة ذات الملابس البيضاء تبذل جهدًا كبيرًا كي تسيطر على الحصان المذعور.

من الواضح أن اللصوص نالوا كفايتهم؛ فعندما نظر شقيقي ثانية رآهم يتقهقرون.

قال شقيقي: «سأجلس هنا إذا سمحتِ لي.» وصعد إلى المقعد الأمامي الخالي. نظرت المرأة خلفها في قلق.

قالت: «أعطني الزمام.» وضربت جانب الحصان بالسوط. وبعد دقيقة اجتازوا منعطفًا في الطريق جعل الرجال الثلاثة يختفون عن نظر شقيقي.

وهكذا وعلى نحو مفاجئ تمامًا وجد شقيقي نفسه — بأنفاسه المتقطعة وفمه المجروح وفكه المرضوض ومفاصل أصابعه الملطخة دمًا — يقود العربة في طريق غير معروف مع هاتين السيدتين.

علم بعدها أنهما زوجة جرّاح يعيش في «ستانمور» وشقيقته الصغرى، وأنه قد قدِم في الساعات الأخيرة من الليل من علاج حالة خطيرة في ضاحية «بينَر»، وأنه سمع في إحدى محطات القطار في طريقه عن تقدم المريخيين. أسرع الرجل إلى البيت، وأيقظ السيدتين — إذ كانت الخادمة قد تركتهم قبل يومين — وحزم بعض الأغراض، ووضع مسدسه أسفل المقعد — من حسن حظ شقيقي — وأمرهما بأن تقودا العربة إلى «إدجوير» وكان ينوي استقلال القطار من هناك. تخلَّف عنهما بغية إخبار الجيران. قال إنه سيلحق بهما نحو الرابعة والنصف صباحًا، والآن أصبحت الساعة التاسعة ولم ترياه بعد. لم تستطيعا التوقف في «إدجوير» بسبب التكدس المروري المتزايد في المكان، ولذا سلكتا هذا الزقاق الجانبي.

تلك هي القصة التي روتها السيدتان على مسامع شقيقي عندما توقفوا مجددًا بالقرب من منطقة «نيو بارنيت». وعدهما بالبقاء معهما على الأقل حتى تحددا خطوتهما التالية، أو حتى يظهر الرجل المفقود، وادَّعى أنه بارع في استخدام المسدس — الذي لم يكن مألوفًا له — بغرض طمأنتهما.

أعدّوا ما يشبه المخيم بجانب الطريق، وبدا الرضا على الحصان داخل سياج الشجيرات. أخبرهما شقيقي عن فراره من لندن، وكل ما يعرفه عن هؤلاء المريخيين وعن أسلحتهم. ارتفعت الشمس في السماء، وبعد فترة توقفوا عن الكلام، وحل محله حالة من الترقب المشوب بالقلق. مر العديد من عابري السبيل، وجمع شقيقي ما استطاع من أخبار. كان كل ردٍّ منقوص يحصل عليه يعمق لديه الشعور بفداحة الكارثة التي نزلت ببني البشر، ويعمق قناعته بضرورة مواصلة رحلة الفرار هذه في الحال، وهو ما أشار به عليهما.

قالت هيفاء القوام: «لدينا مال.» ثم انتابها شعور بالتردد.

التقت عيناها بعيني شقيقي، وحينها تخلَّت عن ترددها.

قال شقيقي: «وأنا أيضًا.»

أوضحت أن لديهما ثلاثين جنيهًا ذهبية وورقة نقدية فئة خمسة جنيهات، وقالت إن باستطاعتهم استقلال قطار من «سانت ألبانز» أو «نيو بارنيت». ظن شقيقي أنه لا جدوى من ذلك بعدما رأى من استماتة أهل لندن على الاحتشاد في القطارات، واقترح عليهما عبور مقاطعة «إسكس» باتجاه مدينة «هاريتش»، ثم الفرار من البلدة بأسرها.

لم تكن السيدة إلفنستون — ذات الملابس البيضاء — لتستمع إلى أي تعليل، وظلت تصر على انتظار «جورج»، لكن شقيقة زوجها كانت هادئة ورابطة الجأش إلى حد يدعو للدهشة، وأخيرًا وافقتا على اقتراح شقيقي. ولأنهم عقدوا العزم على أن يسلكوا طريق «جريت نورث رود»، فقد تقدموا نحو «بارنيت» وشقيقي يقود الجواد ليحافظ عليه قدر المستطاع. مع ارتفاع الشمس في كبد السماء اشتد قيظ النهار كثيرًا، وازداد لهب الرمال الكثيفة الضاربة إلى البياض وبريقها، حتى إنهم اضطروا إلى التمهل كثيرًا في سيرهم. كانت سياجات الشجيرات رمادية اللون من أثر الغبار. ومع تقدمهم نحو «بارنيت» كان صوت دمدمة صاخبة يزداد وضوحًا.

بدءوا يلتقون أناسًا أكثر؛ في الأغلب كانوا يحدقون فيهم يغمغمون بأسئلة مبهمة يتملكهم الإنهاك والكلل وفي هيئاتهم رثاثة. مر بجوارهم رجل يسير على قدميه مرتديًا ثياب النوم وعيناه تنظران إلى الأرض. سمعوا صوته، وعندما التفتوا إليه، رأوا إحدى يديه متشبثة بشعره والأخرى تضرب أشياء غير مرئية. عندما انتهت نوبة غضبه، واصل طريقه دون أن ينظر وراءه ثانية.

بينما كان شقيقي والسيدتان يتقدمون نحو مفترق الطرق المؤدي إلى جنوب «بارنيت» شاهدوا امرأة تقترب من الطريق عبر بعض الحقول على يسارهم وهي تحمل طفلًا ويرافقها آخران، ثم مر رجل يرتدي ملابس سوداء متسخة يحمل عصا غليظة في يد وحقيبة سفر صغيرة في اليد الأخرى. وبعدها وعند منعطف الزقاق — من بين المنازل التي تحميه عند نقطة التقائه بالطريق الرئيسي — ظهرت عربة صغيرة يجرها حصان أسود يتصبب عرقًا ويقودها شاب شاحب الوجه يرتدي قبعة مستديرة رمادية اللون من أثر الغبار. كانت هناك ثلاث فتيات — يعملن في مصانع «إيست إند» — وطفلان صغيران مكدَّسين داخل العربة.

سأل السائق بوجهه الشاحب وعينيه اللتين تشعان خوفًا: «هل يقودنا هذا الطريق إلى «إدجوير»؟» وعندما أخبره شقيقي أنه بوسعه الوصول إلى هناك إذا انعطف يسارًا، ضرب الرجل بسوطه في الحال دون أن يوجه كلمة شكر لشقيقي.

لاحظ شقيقي ضبابًا أو دخانًا رماديًّا باهتًا يرتفع من بين المنازل أمامهم يحجب الواجهة البيضاء لصف من المنازل على الجانب الآخر من الطريق. وفجأة صرخت السيدة إلفنستون عندما رأت عددًا من ألسنة اللهب الأحمر الدخاني يتحرك بسرعة فوق المنازل أمامهم قبالة السماء الزرقاء الساخنة. تبددت الضوضاء الصاخبة إلى مزيج متداخل لأصوات عديدة ما بين قعقعة العجلات وصرير العربات وضربات حوافر الخيول. انعطف الزقاق بحدة فجأة على بعد أقل من خمسين مترًا من المفترق.

صاحت السيدة إلفنستون: «يا إلهي! ما هذا الذي تقودنا نحوه؟»

توقف شقيقي.

كان الطريق الرئيسي يشهد سيلًا فائرًا من الناس؛ إعصارًا من البشر يهرعون نحو الشمال وكل واحد يحاول التقدم على الآخر. غيمة كبيرة من الغبار — بيضاء براقة في وهج الشمس — جعلت كل شيء حتى ارتفاع نحو عشرة أمتار رماديًّا غير واضح المعالم، وكانت تتجدد على الدوام بفعل الأقدام المسرعة للحشد الهائل من الخيول والرجال والنساء الذين يسيرون على الأقدام وبفعل عجلات المركبات التي تتحرك في كل اتجاه.

سمع شقيقي أصواتًا تصيح: «الطريق! أفسحوا الطريق!»

كان الأمر أشبه بمن يتحرك وسط دخان إحدى الحرائق وذلك بغية الاقتراب من نقطة التقاء الزقاق بالطريق؛ صاح الحشد بصوت يشبه معمعة النار، وكان الغبار ملتهبًا حارًّا. كان منزل ريفي على الطريق يحترق ويبعث كتلًا متكورة من الدخان الأسود يُضاف إلى اضطراب المشهد.

مر رجلان بجوارهم، تلتهما امرأة رثة الهيئة تحمل صرَّة صغيرة وتذرف الدموع. دار حولهم كلب صيد تائه لسانه يتدلى من فمه والفزع والبؤس يملآنه، ثم فرَّ عندما هدده شقيقي.

على مرمى البصر في الطريق المؤدي إلى لندن وبين المنازل إلى اليمين كان سيل هائج من أناس يركضون وفي هيئتهم رثاثة، تحيط بهم المنازل الريفية على كلا الجانبين. أصبحت الرءوس السوداء والهياكل المحتشدة أكثر وضوحًا مع اندفاعها نحو مفترق الطريق حيث ركضوا مارين بهم واختلطوا مرة ثانية مع الحشد المتقهقر الذي اختفى أخيرًا وسط سحابة من الغبار.

تعالت الأصوات: «تقدَّموا! تقدَّموا! أفسحوا الطريق! أفسحوا الطريق!»

كانت يد كل واحد في الحشد تضغط على ظهر آخر. وقف شقيقي عند رأس الحصان. ومع ضغط الحشد بما لا يمكن معه المقاومة، تقدم رويدًا رويدًا على طول الزقاق.

كانت «إدجوير» مسرحًا للفوضى، و«تشوك فارم» مشهدًا من الاضطراب الصاخب، لكن حشدًا بأكمله من السكان كان يتحرك. من الصعب تخيل صورة ذلك الحشد. لم يكن ثمة صفة تميزه. تدفق الجمع مرورًا بالمفترق، وتراجعوا بظهورهم إلى المجموعة التي كانت في الزقاق. وعلى الأطراف ظهر أولئك الذين كانوا يسيرون على الأقدام تهددهم عجلات العربات، ويتعثرون في القنوات، ويتخبط بعضهم في بعض.

تكدست العربات بعضها بالقرب من بعض، لا تترك مسافة كافية من أجل تلك السيارات الأكثر سرعة والأقل صبرًا، التي كانت تنطلق للأمام بين الحين والحين متى رأت الفرصة سانحة لذلك؛ لتتسبب في تفريق الحشد نحو سياجات المنازل الريفية وبواباتها.

تكررت الصيحة: «تقدَّموا! تقدَّموا! إنهم قادمون!»

داخل إحدى العربات وقف رجل ضرير يرتدي الزي الرسمي الذي يرتديه أفراد «جيش الخلاص» يلوح بأصابعه المعقوفة ويصيح: «الخلود! الخلود!» كان صوته أجش وجهوريًّا حتى إن شقيقي استطاع سماعه بعد أن ابتلع الغبار العربة وأخفاها عن ناظريه. بعض الذين تكدسوا داخل العربات كانوا يضربون خيولهم بالسياط بحماقة، ويتشاجرون بعضهم مع بعض، والبعض ظل بلا حراك يحدق في الفراغ بعيون ملؤها التعاسة، وبعضهم أخذوا يقضمون أياديهم من شدة الظمأ، أو تمددوا أرضًا داخل العربة التي تقلهم. كانت شكائم الخيول مغطاة بالرغاوي، وعيونها محتقنة بالدماء.

كان هناك عدد لا حصر له من سيارات الأجرة وعربات تجرها الخيول وعربات التسوق، بالإضافة إلى عربة بريد وإحدى عربات تنظيف الشوارع عليها شعار «مجلس كنيسة سان بانكراس» وعربة أخشاب كبيرة مكتظة بأناس تبدو عليهم الجلافة. قعقعت على الطريق عربة لنقل الجعة، وكانت عجلتاها القريبتان ملطختين بدماء لم تجف بعد.

تعالت الصيحات: «أفسحوا الطريق! أفسحوا الطريق!»

سُمع صدى صوت من الطريق: «الخلود! الخلود!»

كانت هناك نساء حسناوات الهندام يكسو الإنهاك والأسى وجوههن وهن يسرن على الأقدام برفقة أطفال يذرفون الدمع ويتعثرون في خطاهم، وملابسهم الأنيقة مغبرَّة ووجوههم المتعبة ملطخة بالدموع. ومع الكثير من هؤلاء ظهر رجال كانوا يمدون يد العون في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى كانوا متجهمين شرسين. وسط الحشد أيضًا تدافع بعض المشرَّدين يرتدون أسمالًا سوداء باهتة عيونهم فاغرة وأصواتهم مرتفعة وألسنتهم تنضح ببذيء الكلام. كان هناك عدد من العمال شداد البنيان يتدافعون إلى جانب رجال يبدو عليهم البؤس والرثاثة يتسربلون بملابس الموظفين أو عمال المتاجر ويتصارعون بين الحين والحين؛ فضلًا عن جندي مصاب انتبه إليه شقيقي، ورجال يرتدون ملابس حمَّالي السكة الحديدية، وكائن بائس في ثوب نوم فوقه معطف.

لكن على الرغم من تنوع أطياف الحشد، فإنهم كانوا يشتركون في أشياء بعينها. كانت ملامح الخوف والألم تكسو وجوههم. كان هناك جلبة على الطريق وشجار من أجل الحصول على مكان داخل إحدى العربات جعلا الحشد بأسره يسرع الخطى؛ حتى إن رجلًا ركبتاه كانتا متقوستين أسفله من شدة الرعب والوهن تنبَّه فجأة ودب فيه النشاط هنيهة. كانت حرارة الجو وغباره يفعلان فعلهما في هذا الحشد. كانت جلودهم جافة، وشفاههم متشققة داكنة اللون. كانوا جميعًا ظمأى منهكين متقرحي الأقدام. ووسط الصرخات المتنوعة كانت تُسمع النزاعات وعبارات التوبيخ وأنَّات الإنهاك والتعب، وكانت معظم تلك الأصوات جشَّاء واهنة. من العبارات التي كثر تكرارها: «أفسحوا الطريق! أفسحوا الطريق! المريخيون قادمون!»

توقف عدد قليل، وابتعدوا عن ذلك السيل الجارف. انفتح الزقاق في ميل على الطريق الرئيسي بفتحة ضيقة. كان طوفان من البشر يتوجه نحو فتحته، وضعاف الأجسام يشقون طريقهم بمرافقهم خارج الحشد لينالوا قسطًا ضئيلًا من الراحة قبل أن ينضموا إلى الحشد مجددًا. على مسافة قليلة من بداية الزقاق تمدد رجل — ومعه صديقان محنيان فوقه — بقدم مكشوفة مضمدة بأسمال ملطخة بالدماء. كان الرجل محظوظًا لكون صديقيه معه.

عرج رجل مسن ضئيل الجسم ذو شارب أشيب يرتدي معطفًا طويلًا أسود متسخًا، وجلس بجوار العربة وخلع حذاءه — فظهر جوربه الملطخ بالدماء — وأزال منه حصاة، ثم واصل مشيته العرجاء ثانية، بعد ذلك ألقت فتاة صغيرة وحيدة في الثامنة أو التاسعة من عمرها نفسها أسفل سياج الشجيرات بجوار شقيقي وأخذت تبكي: «لا أستطيع الاستمرار! لا أستطيع الاستمرار!»

أفاق شقيقي من خَدَر الذهول، ورفعها، وتحدث إليها برفق، ثم حملها إلى الآنسة إلفنستون. وما إن لمسها حتى هدأت تمامًا، لكأنها كانت مذعورة.

صاحت سيدة من بين الحشد وأثر الدموع يظهر في صوتها: «إلين! إلين!» هبت الفتاة فجأة مبتعدة عن شقيقي وهي تصيح: «أمي!»

قال رجل على صهوة جواد يمر بمحاذاة الزقاق: «إنهم قادمون.»

وصاح سائق عربة يعلو برأسه عن الآخرين: «ها هم هنالك!» ورأى شقيقي عربة مغلقة تنعطف داخل الزقاق.

تدافع الناس للخلف واحدًا بعد آخر بغية تفادي الحصان. دفع شقيقي الحصان والعربة إلى الخلف داخل سياج الشجيرات، وتقدم الرجل ثم توقف عند منعطف الطريق. كانت عربة بها عمود يتسع لاثنين من الخيول، لكن واحدًا فحسب كان مشدودًا إلى العربة. شاهد شقيقي وسط الغبار صورة غير واضحة لرجلين يرفعان شيئًا فوق مِحفَّة بيضاء ويضعانه برفق على العشب تحت سياج الشجيرات.

هرع أحد الرجلين نحو شقيقي.

قال الرجل: «من أين لي بالماء؟ إنه يحتضر، وقد بلغ به الظمأ مبلغه. إنه اللورد جاريك.»

قال شقيقي: «لورد جاريك؟ قاضي القضاة؟»

قال الرجل: «الماء؟»

قال شقيقي: «ربما يكون هناك صنبور في أحد المنازل. ليس لدينا ماء، ولا أستطيع ترك رفيقتيّ وحدهما.» اندفع الرجل عكس اتجاه الحشد نحو بوابة المنزل الكائن عند مفترق الطريق.

قال الناس وهم يدفعونه: «هيا! إنهم قادمون! هيا!»

ثم تحول اهتمام شقيقي إلى رجل ذي لحية ووجه أشبه بوجه النسر يجر حقيبة يد صغيرة انشقت في اللحظة نفسها التي وقعت فيها عينا شقيقي عليها، وخرجت منها كتلة من النقود الذهبية تبعثرت على هيئة عملات متفرقة مع ارتطامها بالأرض. تدحرجت النقود هنا وهناك وسط أقدام الرجال والخيول التي تشق طريقها بصعوبة. توقف الرجل، ونظر في حماقة إلى النقود، فاصطدمت عارضة إحدى العربات بكتفه ما أدى إلى اختلال توازنه. أطلق الرجل صيحة، وتراجع إلى الخلف، وكادت إحدى عجلات العربة تصيبه.

صاح الرجال حوله: «الطريق! أفسحوا الطريق!»

حالما مرت العربة، ألقى الرجل نفسه بيدين مفتوحتين على كومة النقود، وبدأ يأخذ منها ويضع في جيبه. ارتفع حصان بالقرب منه، وفي لحظة وجد نفسه أسفل حوافر الحصان.

صرخ شقيقي: «توقفوا!» وحاول — وهو يدفع سيدة من طريقه — الإمساك بشكيمة الحصان.

قبل أن يتمكن من الوصول إليها، سمع صرخة أسفل العجلات، ورأى وسط الغبار إطار العجلة يمر فوق ظهر الرجل التعس. ضرب السائق بالسوط نحو شقيقي الذي ركض خلف العربة. أربكت الصيحات المتعددة أذنيه. كان الرجل يتلوى وسط الغبار بين نقوده المبعثرة غير قادر على النهوض بعد أن كسرت العجلة ظهره وتمددت أطرافه السفلية عاجزة بلا حراك. وقف شقيقي وصرخ في السائق التالي، وتقدم رجل يمتطي حصانًا أسود لمساعدته.

قال: «أبعده عن الطريق.» فأمسك شقيقي ياقة الرجل بيده وسحبه جانبًا، لكنه ما زال متشبثًا بنقوده، وحدج شقيقي بنظرة حادة وهو يضرب على يده بقبضته المليئة بالذهب. تعالت الأصوات الغاضبة من الخلف: «تقدموا! تقدموا!»

«أفسحوا الطريق! أفسحوا الطريق!»

سُمع صوت تحطم، إذ اصطدمت عارضة إحدى العربات بالعربة التي أوقفها الرجل على صهوة الحصان. رفع شقيقي بصره، وأدار صاحب الذهب رأسه، وقضم المعصم الذي كان يمسك بياقته. وقع صدام عنيف، وتقدم الحصان الأسود يترنح جانبًا، واندفع حصان العربة بجواره. نجت قدم شقيقي من أحد الحوافر بشق الأنفس، فحرر قبضته من الرجل الممدد أرضًا، واندفع للخلف. رأى الغضب يستحيل فزعًا على وجه البائس الممدد أرضًا، واختفى الرجل في دقيقة، بينما تحرك شقيقي للخلف، ودُفع نحو فتحة الزقاق، واضطر للدخول في صراع قاس مع أفراد ذلك الحشد كي ينجو منه.

رأى الآنسة إلفنستون تغطي عينيها، وطفلًا صغيرًا — بكل ما لدى الأطفال من افتقاد للتعاطف مع الآخرين — يحدق بعينين فاغرتين في شيء مغبَّر يتمدد بلا حراك مسحوقًا أسفل العربات المتحركة. صاح: «لنعد إلى الخلف مرة أخرى!» وبدأ يدير الحصان. قال: «لن نستطيع اجتياز هذا الجحيم.» وتحركوا للخلف مائة متر في الطريق الذي جاءوا منه حتى اختفى الحشد المتنازع. أثناء مرورهم بمنعطف الزقاق شاهد شقيقي وجه الرجل المحتضر في القناة أسفل سياج الشجيرات، وكان وجهه بالغ الشحوب يلمع من كثرة العرق. التزمت السيدتان الصمت، وجثمتا في مقعديهما ترتجفان.

توقف شقيقي مجددًا بعد اجتياز المنعطف. كانت الآنسة إلفنستون شاحبة الوجه، وجلست زوجة أخيها تنتحب وقد تملكها البؤس حتى إنها لم تستطع الحديث عن «جورج». استبد الفزع والارتباك بشقيقي. فما إن تراجعوا حتى أدرك أنه لا مفر من أن يسلكوا الاتجاه الذي كانوا يسلكونه أولًا. استدار إلى الآنسة إلفنستون وقد بدا ثابت العزم فجأة.

قال: «لا بد أن نسلك ذلك الطريق.» واستدار بالحصان مجددًا.

للمرة الثانية ذلك اليوم أثبتت تلك الفتاة تميزها. فلكي يشقوا طريقهم وسط ذلك الحشد من الناس، اندفع شقيقي وسط الزحام وحال دون تقدم حصان كان يجر إحدى العربات، بينما قادت هي حصان العربة التي كانوا يستقلونها. تشابكت عجلات عربة أخرى تتبعهم مع عربتهم للحظة، وانتزعت شظية طويلة من عربة شقيقي ومرافقتيه. وفي لحظة أخرى وجدوا أنفسهم منجرفين وسط الحشد. اندفع شقيقي — بعد أن خلَّف سوط سائق العربة علامات حمراء على وجهه ويديه — إلى داخل العربة وأمسك بالزمام من الفتاة.

قال وهو يعطيها المسدس: «صوِّبي المسدس نحو الرجل الذي يتبعنا إذا ما بالغ في الضغط علينا. كلّا! صوِّبيه نحو حصانه.»

ثم بدأ يبحث عن فرصة للتحرك نحو اليمين على الطريق. لكن ما إن انجرف وسط الحشد حتى بدا وكأنه يفقد إرادته ويصبح جزءًا من ذلك الحشد الغفير المغمور غبارًا. تقدَّموا مع الحشد عبر «تشيبينج بارنيت». كانوا على بعد نحو ميل من مركز المدينة قبل أن ينتقلوا بصعوبة إلى الجانب المقابل من الطريق. كان الصخب والارتباك يفوقان الوصف؛ أما في داخل المدينة، فكان الطريق يتفرع على نحو متكرر، وهذا ما خفَّف وطأة الوضع إلى حد ما.

اتجهوا شرقًا عبر «هادلي» وهناك على جانبي الطريق وفي مكان آخر على مسافة أبعد التقوا بحشد هائل من الناس يروون ظمأهم عند النهر، والبعض يكافح من أجل الوصول إلى المياه. وعلى مسافة أخرى وسط شيء من الهدوء بالقرب من «إيست بارنيت» شاهدوا قطارين يسيران ببطء واحدًا وراء الآخر دون إشارة أو نظام — حيث الناس يحتشدون داخل القطارات حتى إن بعضهم كان يتخذ مكانه بين الفحم خلف المحركات — متجهين شمالًا عبر «جريت نورثرن ريلواي». افترض شقيقي أنهما حتمًا قد امتلآ بالركاب من خارج لندن، لأن فزع الناس في ذلك الوقت كان قد جعل من المحطة المركزية مكانًا لا يطاق.

توقفوا بالقرب من ذلك المكان لما تبقى من الظهيرة، لأن العنف الذي شهده ذلك اليوم قد استنزف قوى ثلاثتهم. بدءوا يعانون بوادر الجوع؛ كان المساء باردًا، وجافى النوم أجفانهم. وفي المساء جاء عدد كبير من الناس يهرعون على الطريق بالقرب من المكان الذي كانوا يتوقفون فيه، يفرون من خطر مجهول أمامهم، ويتقدمون في الاتجاه الذي جاء منه شقيقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤