الفصل الثاني

ما رأينا من خلال المنزل المنهار

بعد تناول الطعام انسللنا عائدين إلى حجرة غسل الآنية، ولا بد أني غفوت هناك مرة أخرى، لأني عندما نظرت بعدها بوقت قصير حولي، وجدت نفسي وحيدًا. استمرت الهزة الهادرة على نحو ثابت يبعث على الضجر. همست مناديًا على الكاهن عدة مرات، وفي النهاية تحسست طريقي نحو باب المطبخ. لا يزال ضوء النهار يعلن عن نفسه، ولمحت الكاهن في الجانب الآخر من الغرفة يرقد مستندًا على الفتحة المثلثة التي تطل على المريخيين. كانت كتفاه مُحدودبتين حتى إنني لم أر رأسه.

وصل إلى مسامعي عدد من الأصوات تكاد تشبه ما يُسمع من أصوات في حظيرة القاطرات، وارتج المكان بفعل ذلك الهدير المتواصل. ومن خلال الفتحة في الجدار، استطعت أن أرى قمة شجرة بها مسحة من لون ذهبي، إلى جانب زرقة سماء الليل الساكنة. ظللت نحو دقيقة أرقب الكاهن، ثم تقدمت جاثمًا على الأرض أتحرك بحذر بالغ وسط الأواني الخزفية المكسورة التي تغطي الأرضية.

لمست قدم الكاهن، فانتفض من مكانه في حركة عنيفة للغاية حتى إن كتلة من الجبس انزلقت من الخارج وسقطت محدثة صوتًا عاليًا. قبضت على ذراعه خشية أن يصرخ، وربضنا بلا حراك وقتًا طويلًا. بعدها استدرت لأرى كم تبقى من الساتر الذي كنا نحتمي خلفه. أحدثَ تساقط الجبس صدعًا رأسيًّا وسط الأنقاض، وعندما رفعت نفسي بحذر مقابل إحدى العوارض استطعت أن أرى من تلك الفتحة المكان الذي كان بالأمس طريقًا هادئًا. والواقع أن التغيير الذي رأيناه كان هائلًا.

لا بد أن الأسطوانة الخامسة سقطت مباشرة في منتصف المنزل الذي دخلناه أول مرة. اختفى المبنى، وانهار بالكامل، وانسحق وتبدد من أثر الاصطدام. تستقر الأسطوانة الآن على مسافة كبيرة تحت قواعد المنزل؛ في عمق كوة أكبر اتساعًا من الحفرة التي كنت قد رأيتها في «ووكينج». تناثرت التربة في كل مكان حول الكوة إثر ذلك الاصطدام المهول، وكوَّنت كومات متراكمة أخفت المنازل المجاورة عن الأنظار. بدت الأرض حينها وكأنها وحل طُرق عليه طرقات عنيفة. انهار المنزل الذي كنا فيه إلى الخلف؛ وتهدم الجانب الأمامي — حتى في الطابق الأرضي — تمامًا، وبطريق المصادفة نجت حجرتا المطبخ وغسل الآنية من الانهيار، وبقيتا الآن مدفونتين تحت الأنقاض تحيط بهما أطنان من التربة من كل جانب عدا الجانب المواجه للأسطوانة. وبذلك كنت أنا والكاهن عالقين الآن على شفير الحفرة الدائرية الواسعة التي كوَّنها المريخيون. كان صوت الطرق المدوي واضحًا خلفنا مباشرة، وبين الحين والآخر كان بخار أخضر لامع يتصاعد وكأنه ستار أمام الفتحة التي كنا نختلس النظر منها.

كانت الأسطوانة مفتوحة بالفعل في مركز الحفرة، وعلى الحافة البعيدة من الحفرة وسط الشجيرات المسحوقة والمغطاة بأكوام من الحصى، برزت واحدة من آلات القتال الضخمة — بعد أن هجرها قاطنوها — منتصبة وطويلة قبالة سماء الليل. في البداية لم ألحظ الحفرة والأسطوانة — وإن كان الأنسب وصفهما أولًا — بسبب الآلة فائقة البريق التي كانت منكبَّة على أعمال الحفر، وبسبب الكائنات الغريبة التي كانت تزحف في تؤدة ومشقة على التربة المتكومة بالقرب منها.

مؤكد أن الآلة هي أول ما لفت انتباهي. كانت واحدة من تلك الآلات المعقدة التي يُطلق عليها منذ ذلك الحين آلات قابضة، والتي كانت دراستها باعثًا كبيرًا على ما كان من اختراعات على كوكب الأرض. ومثلما تبادرت إلى ذهني في البداية، فقد كانت تشبه عنكبوتًا معدنيًّا لديه خمس أقدام رشيقة ذات مفاصل، وعدد هائل من الروافع المفصلية والقضبان ومجسات ممتدة وقابضة حول هيكل الآلة. كانت معظم أذرعها مقبوضة، لكن باستخدام ثلاثة مجسات طويلة كانت تلتقط عددًا من القضبان والصفائح التي تبطن غطاء الأسطوانة والتي كانت على ما يبدو تدعم جدرانها. وعندما تُنتزع تلك الأشياء، كانت تُرفع وتوضع فوق سطح مستو على الأرض خلف الآلة.

كانت حركتها بالغة السرعة والتعقيد والإتقان، حتى إنني لم أعتقد أنها آلة في بادئ الأمر بالرغم من لمعانها البراق. كانت آلات القتال متناسقة بعضها مع بعض ومفعمة بالحيوية إلى أقصى درجة ممكنة، لكنها لم تكن لتقارَن بتلك الآلات. هؤلاء الذين لم تسبق لهم رؤية تلك الهياكل ولم يتوفر لديهم سوى اجتهادات الرسَّامين منقوصة الخيال، أو الوصف المعيب لشهود العيان مثلي الذين نادرًا ما يستوعبون طابع الحيوية ذاك.

أذكر على وجه الخصوص وصفًا ورد في واحد من أوائل الكتيبات التي قدمت وصفًا تتابعيًّا للحرب. كان واضحًا أن الرسام جمع معلوماته عن آلات القتال في عجالة، وهنا كانت نهاية إلمامه بها. صوَّر الرسام تلك الآلات على أنها حاملات ثلاثية القوائم متقوسة ومتيبسة تفتقر إلى المرونة والفطنة، إلى جانب رتابة مخادعة تمامًا فيما يتعلق بتأثيرها. حظي الكتيب الذي تضمن تلك الأوصاف رواجًا كبيرًا، ومدعاة ذكري له هنا هي تحذير القارئ من الانطباع الذي ربما يكون قد تكوَّن لديه. أولئك الذين وردت أوصافهم في الكتيِّب لم يكن بينهم وبين المريخيين الذين رأيتهم على أرض الواقع شبه أكثر مما يكون بين الدمى والبشر.

في البداية لم تترك الآلة القابضة انطباعًا لدي على أنها آلة، بل مخلوق أشبه بالسرطان ذو غلاف خارجي لامع، في حين بدا المريخي الذي يتحكم بمجساته الدقيقة في تحركات الآلة شبيهًا بالجزء الدماغي لدى السرطان. لكني بعدها أدركت تشابه غلافها الخارجي الجلدي اللامع ذي اللون البني المائل إلى الرمادي مع الأجسام الأخرى الممددة أرضًا على مسافة، واتضحت في ذهني الماهية الفعلية لذلك الصانع الحذِق. ما إن أدركت ذلك حتى تحول اهتمامي إلى الكائنات الأخرى؛ المريخيين الفعليين. لدي انطباع عابر مسبق عنهم، ولم يعد شعور الغثيان الذي كان يراودني تجاههم في بادئ الأمر يؤثر سلبًا على ملاحظتي لهم. أضف إلى ذلك أني كنت مختبئًا بلا حراك، فلم تكن هناك حاجة ملحة للتحرك.

كانوا أكثر المخلوقات التي يمكن تخيلها غرابةً؛ أجسام — أو بالأحرى رءوس — دائرية ضخمة يزيد قطر كل منها عن المتر قليلًا، وكل جسم به وجه في الجانب الأمامي. لم يكن ثمة منخار في ذلك الوجه؛ الحقيقة أن المريخيين بدوا وكأنهم يفتقرون إلى حاسة للشم، لكن كانت هناك عينان سوداوان بالغتا الاتساع، وأسفلها مباشرة ما يشبه منقارًا لحميًّا. في ظهر تلك الرأس أو الجسد — لا أدري كيف أطلق عليه — كان السطح الطبلي الوحيد الثابت الذي عُرف تشريحيًّا منذ ذلك الحين بأنه أُذن، مع أنه من المؤكد أن تلك الأذن كادت تكون عديمة الجدوى في ظل هوائنا الكثيف على الأرض. حول الفم كانت توجد مجموعة من ستة عشر مجسًّا رفيعًا تكاد تشبه السياط مرتبة في حزمتين كل منها تضم ثمانية مجسات. وصف عالم التشريح المتميز بروفيسور هاوس بجدارة بالغة تلك المجسات بأنها أيادٍ. عندما رأيت هؤلاء المريخيين أول مرة بدا أنهم يحاولون الوقوف فوق تلك الأيادي، لكن كان ذلك مستحيلًا بالطبع بسبب الوزن الزائد في ظل الظروف على كوكب الأرض. ومنطقي أن نفترض أنهم ربما يستخدمون تلك الأيادي في السير على كوكب المريخ بقدر من السهولة.

يجدر بي الإشارة هنا إلى أن التكوين الداخلي — مثلما أظهر التشريح فيما بعد — كان على القدر نفسه من البساطة تقريبًا. كان الدماغ هو الجزء الأكبر من الهيكل تخرج منه أعصاب مهولة إلى العينين والأذن والمجسات الحسية. وإضافة إلى ذلك كانت هناك رئة واسعة يفتح فيها الفم، فضلًا عن القلب وأوعيته. بدا الألم الرئوي الذي حدث بسبب زيادة كثافة الغلاف الجوي والجاذبية واضحًا للغاية في الحركات المتشنجة التي كانت تصدر عن البشرة الخارجية.

كانت تلك هي الأجهزة التي تكون أجسام المريخيين. ومع أن الأمر قد يبدو غريبًا على بني البشر، فإن جميع أجهزة الهضم المعقدة — التي تسهم بقدر كبير في وزن الجسم — لم تكن موجودة لدى المريخيين. كانوا رءوسًا؛ مجرد رءوس. لم يكن لديهم أمعاء. لم يكونوا يأكلون، وبالطبع لم يكونوا يهضمون. بدلًا من ذلك كانوا يأخذون الدماء الحية من المخلوقات الأخرى ويضخونها داخل أوردتهم. رأيت ذلك بنفسي، وسوف أتحدث عنه في موضعه. لكن لأني سريع الإصابة بالغثيان، فلن أستطيع حمل نفسي على وصف ما لم أتحمل مجرد الاستمرار في مشاهدته. سأكتفي بأن أقول إن الدماء تؤخذ من كائن حي هامد — في معظم الحالات يكون إنسانًا — لتنساب مباشرة بواسطة أنبوب صغير داخل القناة المستقبِلة …

لا شك أن مجرد التفكير في هذا الأمر يثير اشمئزازنا إلى أقصى حد، لكن في الوقت نفسه أظن أنه علينا أن نتذكر كم أن عاداتنا الخاصة بتناول اللحوم قد تبدو مثيرة للاشمئزاز في نظر أرنب ذكي.

المزايا الفسيولوجية المرتبطة بعملية الحقن هذه أمر لا جدال فيه، إذا فكرنا في ما يهدره البشر من كميات هائلة من الوقت والطاقة في عمليتي تناول الطعام والهضم. تتكون أجسامنا في الأغلب من غدد وقنوات وأعضاء مهمتها تحويل الأطعمة المختلفة إلى دماء. عمليات الهضم وتأثيرها على الجهاز العصبي تضعف قوانا وتشوه عقولنا. فسعادة الإنسان أو تعاسته ترتبط بصحة كبده أو اعتلاله، وبصحة غدده المعِديّة. أما المريخيون فقد ارتقوا فوق كل تلك التقلبات العضوية المرتبطة بالحالة المزاجية والشعورية.

يتضح تفضيلهم المؤكد للبشر كمصدر للحصول على الغذاء إلى حد ما من خلال طبيعة بقايا الضحايا الذين أتوا بهم من المريخ ليتغذوا عليهم. كانت لتلك المخلوقات — من خلال الحكم عليها من البقايا الضامرة التي وقعت في أيادي البشر — قدمان، وهياكل عظمية سليكية رقيقة (تكاد تشبه الإسفنجيات السليكية)، وجهاز عضلي يبلغ طوله نحو مترين، ورءوس مستديرة منتصبة، وعينان واسعتان داخل مَحجِرين قاسيين. أحضر المريخيون اثنين أو ثلاثة من تلك المخلوقات في كل أسطوانة، وجميعهم قُتلوا قبل وصولهم الأرض. كان هذا من حسن حظهم، لأن مجرد محاولة وقوفهم منتصبين على كوكبنا كان من شأنه أن يكسر كل عظمة في أجسادهم.

وأنا أتطرق لذلك الوصف، سأضيف في هذا الموضع تفاصيل أخرى محددة تمكِّن القارئ — مع أنها لم تكن واضحة لنا تمامًا في وقتها — غير الملم بها من أن يكوِّن صورة واضحة عن تلك المخلوقات القبيحة.

كانت طبيعتهم الفسيولوجية تختلف عنا على نحو غريب في ثلاثة جوانب أخرى. لم تكن أجهزتهم العضوية تعرف النوم، مثلما هو الحال مع قلوب البشر. ولأنه لم يكن لديهم جهاز عضلي يحتاج إلى التعافي بعد الإجهاد، فإن الخمود الذي يصيب البشر على فترات متقطعة لم يكن معروفًا لهم. من الواضح أنهم لم يشعروا بالتعب. ومع أنهم لم يكونوا يتحركون على الأرض دون بذل جهد، فإنهم استمروا في العمل حتى النهاية. كانوا يعملون أربعًا وعشرين ساعة على مدار اليوم، ربما كما هو الحال مع النمل على سطح الأرض.

الأمر الثاني — وهو ما يبدو مدعاة للعجب في عالم يقوم على النشاط الجنسي — أن المريخيين لم يكونوا متباينين في الجنس، ومن ثم لم تكن لديهم أي مشاعر جامحة كالتي تنشأ جراء ذلك التباين بين بني البشر. حدث بالفعل أن وُلد مريخي صغير — ذاك أمر مؤكد الآن — فوق سطح الأرض أثناء الحرب، ووُجد موصولًا بأبيه؛ متبرعمًا إلى حد ما مثلما تتبرعم بصْلات الزنبق أو مثلما تتبرعم الحيوانات الصغيرة في المياه العذبة.

في الإنسان، وفي جميع الحيوانات الأرضية العليا، اندثرت طريقة التكاثر هذه، وحتمًا كانت تلك هي الطريقة البدائية على هذه الأرض. وبين الحيوانات الدنيا — حتى تلك الشبيهة بالحيوانات الفقارية مثل شعبة الزِّقيات — تحدث العمليتان جنبًا إلى جنب، لكن الطريقة الجنسية حلت أخيرًا محل منافِستها تمامًا. أما على كوكب المريخ فمن الواضح أن العكس هو ما حدث.

جدير بالذكر أن كاتبًا يشتهر بكتاباته التأملية شبه العلمية — كان يكتب قبل وقت طويل من غزو المريخيين — تنبأ للإنسان بهيكل نهائي لا يختلف عن حال المريخيين الفعلي. أذكر أن نبوءته ظهرت في شهر نوفمبر أو ديسمبر من عام ١٨٩٣ في مجلة توقف صدورها منذ زمن طويل واسمها «بال مال بادجيت»، وأذكر أيضًا رسمًا كاريكاتوريًّا عن ذلك في مجلة «بانش» التي كانت تصدر قبل غزو المريخيين. أشار هذا الكاتب — في لهجة هزلية سخيفة — أن بلوغ حد الإتقان للأدوات الآلية سيقضي على أطراف الإنسان في النهاية، وأن بلوغ حد الإتقان للأجهزة الكيميائية سيلغي عملية الهضم، وأن أعضاء كالشعر والأنف والأسنان والأذن والذقن لن تكون أساسية في الكائن الحي، وأن نزعة الانتخاب الطبيعي ستسير في اتجاه ضمور هذه الأعضاء بصفة ثابتة على مر العصور المقبلة. الدماغ وحده هو الذي سيبقى ضرورة لا غنى عنها. جزء آخر فقط من أجزاء الجسم سيحظى بسبب قوي للبقاء وهي اليد؛ ذلك أنها هي التي توجِّه الدماغ وهي أيضًا أداته. وبينما يضمر بقية الجسد، يتزايد حجم الأيدي.

كم من جدٍّ في ثوب مزاح! لا جدال في أن المريخيين هنا قد انتهوا بالفعل من القضاء على الجانب الحيواني في الجسم بالعقل. ولا مشكلة لديّ في أن أصدق أن المريخيين ربما ينحدرون من كائنات لا تختلف عنا عن طريق تطور تدريجي للمخ والأيدي (حيث أدت الأيدي إلى ظهور مجموعتي المجسات الرقيقة في النهاية) على حساب بقية أجزاء الجسم. ومن دون الجسد، سيصبح المخ مجرد عقل أناني بلا أي درجة من درجات الشعور التي يتمتع بها الكائن الحي.

النقطة الأخيرة اللافتة للنظر فيما يتعلق باختلاف أجهزة تلك الكائنات عنا كانت تكمن في تفصيلة ربما يعتبرها أحد محض تفاهة. فالميكروبات — التي تجلب الكثير من الأمراض والألم على كوكب الأرض — إما أنها لم تظهر قط على سطح المريخ، أو أن العلوم الصحية لدى المريخيين قضت عليها منذ عهود مضت. لم ترِد مئات الأمراض — كل أنواع الحمى والأمراض المعدية بين البشر، والسل، والأمراض السرطانية، والأورام وما شابه من الأمراض — قط في قاموس حياتهم. وبالحديث عن أوجه التباين بين الحياة على المريخ والحياة على الأرض، ربما يتعين علي الإشارة هنا إلى العشب الأحمر.

من الواضح أن مملكة النباتات في المريخ تتخذ من الأحمر القاني لونًا لها، بدلًا من سيادة اللون الأخضر. وعلى أي حال، فإن البذور التي جلبها المريخيون (سواء عن عمد أو مصادفة) نمَت في جميع الحالات وتحولت إلى نباتات ذات لون أحمر قان. لكن وحده النبات الذي اشتُهر بين الناس باسم العشب الأحمر هو ما وجد لنفسه موضع قدم بين النباتات الأرضية. كان العشب الأحمر سريع الزوال، وقلة من الناس رأته ينمو. لكن لفترة ما، نما ذلك العشب الأحمر المتعرش بوفرة وغزارة تثيران الذهول. انتشر العشب على جوانب الحفرة بعد مرور ثلاثة أو أربعة أيام على حصارنا، وكوَّنت فروعه الشبيهة بنبات الصبار هُدبًا قرمزيًّا على أطراف نافذتنا المثلثة. وبعد ذلك وجدُته وقد انتشر في كل أرجاء البلدة، وحيثما وُجد مجرى مياه على وجه الخصوص.

كان لدى المريخيين ما بدا أنه عضو سمعي — طبلة مستديرة وحيدة في مؤخرة الجسد الذي يتخذ شكل الرأس — وعيون ذات مدى بصري لا يختلف كثيرًا عن مدانا البصري، فيما عدا أن الأزرق والبنفسجي كانا يبدوان لهما كاللون الأسود. شاع بين الناس أن المريخيين يتواصلون عن طريق الأصوات والإيماء بالمجسات، وهو ما جرى التأكيد عليه على سبيل المثال في الكتيِّب الجيد الذي قد جُمع في عجالة (من الواضح أن من كتبه لم يكن شاهد عيان على أفعال المريخيين) والذي أشرت إليه من قبل، وهو — حتى الآن — المصدر الرئيسي للمعلومات المتعلقة بهم. لم ير أحد من البشر الأحياء قدر ما رأيت من تحركات المريخيين. لا أدعي لنفسي شرفًا لمجرد حادث وقع لي، لكنها الحقيقة. وأؤكد أني شاهدتهم عن كثب مرارًا وتكرارًا، وأني رأيت أربعة وخمسة و(ذات مرة) ستة منهم يتحركون بخطى متثاقلة وهم يؤدون أكثر العمليات تعقيدًا بعضهم مع بعض دون أن يصدر عنهم صوت أو إيماءة. كان نعابهم المميز يسبق دومًا حصولهم على الغذاء؛ لم يكن ثمة تغير في طبقات هذا الصوت، وأظن أنه لم يكن إشارة على الإطلاق، بل مجرد زفر للهواء تمهيدًا لعملية المصّ. لديَّ معرفة أولية بعلم النفس، وفي هذا الشأن لدي قناعة — قاطعة كقناعتي بأي شيء آخر — أن المريخيين كانوا يتبادلون الأفكار دون أي وسيط مادي. تكونت لدي تلك القناعة بالرغم من الأفكار الراسخة المبلورة مسبقًا. قبل غزو المريخيين — مثلما قد يتذكر قارئ عابر هنا أو هناك — كنت قد كتبت نقدًا حادًّا بعض الشيء لنظرية توارد الخواطر.

لم يرتد المريخيون ملابس. كانت مفاهيمهم عن الزينة والاحتشام تختلف بالضرورة عن مفاهيمنا، ولم يكونوا أقل تأثرًا بالتغيرات في درجات الحرارة عنا فحسب، بل بدا أن تغيرات الضغط أيضًا لا تؤثر في صحتهم تأثيرًا يُذكر. وعلى الرغم من عدم ارتدائهم للملابس، فإن الإضافات الاصطناعية الأخرى المتصلة بأجسادهم هي مكمن تفوقهم الهائل على بني البشر. نحن البشر — بما لدينا من دراجات وألواح تزلج، وآلات تحليق، ومدافع وعصيّ وغيرها — لا نزال نخطو أولى خطواتنا في طريق التطور الذي بلغه المريخيون. الواقع أنهم أصبحوا مجرد عقول ترتدي أجسادًا وفق حاجتها، مثلما يرتدي الإنسان ثيابه ويصطحب دراجة إذا كان في عجلة من أمره أو مظلة إذا كان اليوم مطيرًا. وبالحديث عن أجهزتهم، فإن أكثر ما قد يثير الدهشة حقيقة أن السمة التي تكاد تميز جميع الأجهزة الآلية لم تكن موجودة لديهم؛ فالمريخيون لم يستخدموا العجلة. فمن كل الأشياء التي جلبوها معهم إلى كوكب الأرض، لم يكن هناك أي أثر أو دلالة على استخدامهم العجلات. ربما يتوقع المرء وجودها على الأقل في التنقل. وفي هذا الصدد من الغريب أن نشير إلى أنه حتى على سطح هذه الأرض لم يحدث قط أن اكتشفت «الطبيعة» العجلةَ فجأة، أو فضَّلت وسائل أخرى عليها. لم يقتصر الأمر على كون المريخيين إما لا يعرفون العجلة (وهو ما لا يمكن تصديقه) وإما أحجموا عن استخدامها، بل تعدى الأمر ذلك، فنادرًا ما كانت أجهزتهم تستخدم محور الارتكاز الثابت أو محور الارتكاز الثابت نسبيًّا عند الحركة الدائرية المنحصرة في سطح واحد. فكل مفاصل الآلات تقريبًا كانت تمثل نظامًا معقدًا من أجزاء منزلقة تتحرك فوق مساند مقاومة للاحتكاك صغيرة وإن كانت مقوَّسة على نحو بديع. ومن الجدير بالذكر هنا أيضًا أن قوى الرفع في آلاتهم كانت تُستثار في أغلب الحالات بواسطة شيء أشبه بجهاز عضلي زائف من الأقراص داخل غلاف لدِن؛ تلك الأقراص تُستقطب وتُقرَّب بعضها من بعض أثناء دورانها بفعل تيار كهربائي. كان هذا مصدر تشابه حركتهم اللافت للنظر مع حركة الحيوانات؛ الأمر الذي كان البشر ينظرون إليه بمزيج من الدهشة والانزعاج. توافرت تلك العضلات الزائفة بكثرة في الآلة القابضة الشبيهة بالسرطان التي شاهدتها تفرغ محتويات الأسطوانة عندما نظرت من الفتحة أول مرة. بدت الآلة مفعمة بالحيوية أكثر بكثير من المريخيين الفعليين الذين كانوا يرقدون على مسافة تحت شمس المغيب يلهثون ويحركون مجساتهم العاجزة، ويتحركون واهنين بعد رحلتهم الطويلة عبر الفضاء.

بينما كنت أشاهد تحركاتهم المتثاقلة في ضوء الشمس، وأرقب كل تفصيلة غريبة من هيئتهم، نبَّهني الكاهن إلى وجوده بأن جذبني من ذراعي بقوة. استدرت فرأيت وجهًا عبوسًا، وشفاهًا صامتة وإن كانت معبرة. كان يود النظر من الشق الذي يتيح الرؤية لواحد منا فحسب، وهكذا اضطررت للتخلي عن مشاهدتهم بعض الوقت ليحظى بتلك الميزة.

عندما نظرت مجددًا، كانت الآلة القابضة النشطة قد انتهت من تجميع العديد من القطع التي استخرجتها من الأسطوانة داخل هيكل شبيه بها تمامًا. وفي بقعة منخفضة على اليسار، ظهرت آلة حفر صغيرة نشطة تنبعث منها هبَّات من البخار الأخضر، وهي تعمل حول الحفرة، تحفر وتطوق المكان بطريقة منظمة ودقيقة. تلك الآلة كانت مصدر الضوضاء الشبيهة بالطرقات المتتالية، والاهتزازات الإيقاعية التي دأبت على رجرجة ملجئنا المنهار. كانت تزمر وتصفر وهي تعمل. وبقدر ما أتيح لي من رؤية، لم يكن هناك مريخي يوجِّه ذلك الشيء على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤