في مونمارتر
أنت تعرف عادتي ورغبتي يا جان: حساء البصل «سوب ألونيون» ونبيذًا أبيض!
– وقلمًا وورقًا؟
– القلم والورق معي.
فأحضر الساقي خرقة جعل يمسح بها خوانًا أمامي من الخشب، نقش عليه بمطواة بعضُ العابثين صورةَ امرأة عارية تتمطَّى كعاريات «موديجلياني» ثم نظر إليَّ وابتسم: أما زلت تكتب الشعر على طريقة ماكس جاكوب؟!
قالها في صوت غامض غريب. فصحت به للفور: قلت لك يا جان ذاك عهد مضى. عهد مونبارناس وقهوة «الدوم». أما الآن في مونمارتر، فأنا إنسان آخر أصنع شيئًا آخر.
– تكتب «شهرزاد». هل فرغت منها؟
– أوشكت. ولا ينقصني غير موسيقى من طراز «استرافنسكي». لقد عرفت هنا موسيقيًّا مجريًّا من نوعه. وأنضر قلبًا منه. قد ينفعني، لكن المعضلة ليست هنا …
وأمسكت عن الكلام؛ إذ مثل لفكري فجأة ختام «شهرزاد» الذي حرت في تصوره منذ أيام. ورأى جان شُرود ذهني فانصرف عني تأدبًا، وتناول قبعتي «الفنية» السوداء ومعطفي الطويل الأسود يقطران بماء المطر، فعلقهما على مشجب بجوار النار وعاد يقول: أتعرف جورج أوريك؟ كان يجلس إلى هذا الخوان. أما الآن فهو موسيقي معروف. أنت كذلك مَن يدري مصيرك غدًا؟
فضحكت على الرغم مني: أشكرك يا جان. مصيري مظلم. لو عرفت الحقيقة. حتى مونمارتر بكل أسرارها وسحرها لم تستطع شيئًا معي. إنها جعلتني أفكر وأبحث كما ترى. لكن ما النتيجة؟ إن جورج أوريك قد وصل لأنه بنى على ماضٍ قريب. أما أنا فليس لي ماضٍ قريب. أمامي أن أنفذ إذن إلى ذلك الماضي السحيق الذي كادت تدرس معالمه تحت رمال الزمن …
فهز جان رأسه، ثم رفع يده إلى لفافة تبغ يحملها فوق أذنه اليسرى فأشعلها وطفق يدخن. ثم تناول مكنسة وأخذ يكنس القهوة استقبالًا للصباح الذي يبزغ عما قليل. ولم يكن بالمكان وقتئذٍ غيري وغير رجلَين من اللصوص، أو الطغام أو الفنانين العظام! كانا واقفَين أمام «بار» الزنك يشربان قهوة سوداء ويأكلان خبزًا صغيرًا، وفي أحد الأركان امرأة من مومسات الحي، أو بنات الهوى المتجولات المختلفات إلى ذلك المكان ممن كنت أسميهن «قطط المحل» … جالسة في هيئة من الكلال وسوء الحال تستثير الإشفاق، وهي بين آنٍ وآنٍ تتأمل وجهها الباهت تحت الطلاء في مرآة بالحائط كُتب عليها بحروف من الجير: «قهوة سيرانو».
أقبل جان بالحساء والنبيذ، فلم أتحرك ولم أكفَّ عن التأمل. فنظر إليَّ الخادم قليلًا ثم قال: أرى الوحي لا ينزل عليك إلا آخر الليل!
– صدقت يا جان. هو لا ينزل إلا بنزول عربات الرش تدوي بها الشوارع الهادئة، وأصوات قطرات الخضر المبكرة توقظ مخلوقات الله الوادعة!
فضحك الرجل. وطويت ورقي وألقيت بقلمي. ودسست ملعقتي في الحساء ورفعتها، وقد علقت بها خيوط الجبن الممزوج بالبصل، والتهمت، ثم التفت إلى الخادم: أتدري أين كنت الليلة يا جان؟
فأجاب جان من فوره في صوت العارف الواثق: في حانة «الأرنب الخفيف».
– كلا، بل كنت هنا …
وأشرت إلى مقصف «الفأر الميت» على مقربة من القهوة. ذلك المرقص المشهور الكثير النفقة، فبدا الخبث في عينَي جان وشفتَيه وقال في صوت المرتاب: وأين لك بالنقود؟
– سبحان الله يا جان! أين لي بالنقود؟ من تحسبني أيها المخلوق؟!
فضحك جان وقال: أحسبك رجل فن. وبين الفن والمال عداوة قديمة!
فأطرقت في إذعان وتسليم وقلت في تنهد: هذا صحيح. ومتى تزول هذه العداوة القديمة يا جان؟ ومتى تُعقد الهدنة على الأقل؟ إن المال حلو يا جان. إن النقود جميلة. إن مظاهر الغنى والبذخ والإنفاق والسعة هناك في «الفأر الميت» لشيءٌ يجدد الحياة ويطيل العمر! نعم. كنت هناك الليلة. اطمئن يا جان؛ أصدقاء موسرون هم الذين تفضلوا بدعوتي فلبَّيت مرغمًا، وتكلَّفوا من أجلي خمسمائة من الفرنكات ثمن زجاجتَين من الشمبانيا الفاخرة. ولا يغيب عن فطنتك يا جان أن هذا مكان يؤمُّه أهل الطبقة العليا. فلا ترى حولك إلا أردية السهرة وأقمصة منشاة وأربطة للعنق بيضاء، ولكني أخذت على غرة، فلم أستعد للسهرة ودخلت على أولئك القوم وأنا على ما ترى من هيئة نظيفة! دون أن أحلق ذقني على الأقل … ودون أن أنظم حتى شعري المبعثر الأشعث في سبيل «أبولون»!
فنظر إليَّ الخادم من رأسي إلى أخمص قدميَّ متفحصًا، ثم ابتسم لمنظري وقال: وأي بأس؟ أنت من فصيلة الشعراء!
– ماذا تقول؟
– مباح لكم كل شيء!
– آه لهذه الحرية التي يحسدوننا عليها! ما قيمتها بغير نقود!
لن أنسى مظاهر النعمة التي رأيتها هناك. لن أنسى أني جلست كما تراني الآن بين القوم الأغنياء، وأجلسنا معنا غانيتَين «بول دي لوكس» لم ترَ عيني أجمل منهما صنعًا! صنعتهما أيدي حلاقين مهرة فجرة! أجل يا جان. صدقني! أي تماثيل حيَّة! أين فيدياس وبراكسيتيل يشاهدان اليوم أعاجيب صالونات الزينة ومعاهد الحسن! لم تعد المرأة وحيًا وإلهامًا للخلق الفني، ولكنها أصبحت هي نفسها قطعة فنية وخلقًا فنيًّا. وأصبح الوحي والإلهام لصنعها الصور والتماثيل. وهكذا ثملت قليلًا فيما يبدو لي من الخمر اللذيذة، أو من الحسن الكثير، فلم أنتبه إلا وأنا بين ذراعَي حسناء أرقص معها على أنغام الجاز رقصة «البلوز» — كما قيل لي — بين رهط من الراقصين الحاذقين … وأنا لا أعرف الرقص ما هو … وما أحببت يومًا أن أعرفه. وحانت مني التفاتة إلى مرآة الحائط، فإذا على رأسي طرطور أحمر مذهَّب الحواشي. وإذا أنا ملتفٌّ في حبال من ورق «السربانتان» فسرت في جسدي رعدة واستدرت حولي، فإذا الجميع مثلي، صغيرهم وكبيرهم، قد لبسوا الطراطير والقلانس والتيجان من الورق المقوَّى مختلف الألوان، واختلطوا في رقص متلاطم عربيد، كرقص عباد «ديونيزوس». أجل يا جان. كانت ليلة بديعة. إنك لا تتصور كيف يمكن للإنسان أن يستمتع بالعيش هنا في مونمارتر، وعلى مقربة منك! إن هذا «الفأر الميت» لمفعم بالحياة!
صمت جان لحظة، ثم رفع رأسه وهزَّه ثم قال: كلا. كلا يا مسيو «الحكيم»، كلا. حياتنا نحن في الركن الحقير. قهوة «سيرانو» وأمثالها وحانات «القط الأسود» و«الأرنب الخفيف» و«أرستيد برويان» و«الجنة» و«الجحيم»… إلخ … تلك مونمارتر الحقيقية، أما «الفأر الميت» وأشباهه فمصايد لاقتناص المال من جيوب الثراة.
تفكَّرت قليلًا في كلامه فوجدته الصواب، فصحت: برافو يا جان. مرحى وألف مرة مرحى! هذا كلام عميق ما تقوله الآن. هذا حق. أتعلم لماذا تركت أنا مونبارناس وجئت أعيش في مونمارتر؟ أحسست بما تقول أنت الآن: إن روح التجارة وقنص المال تكاد تعمُّ مونبارناس الذي ينافس حينًا هذا حتى ليكاد يقتله. شعرت أن مونبارناس ليس إلا حي السائحين من جميع الأجناس، وحيث يظهر السائحون يظهر البذخ والكذب والادعاء، نعوت ثلاثة يهرب منها الفن هربًا. وأحسست من ساعتي أن مونمارتر في أنحائها السافلة الفقيرة ما تزال مرتع الفن الخصيب والفكر الحر. نعم. لكم تنتعش نفسي إذ أجوس خلال هذه الجهة: شارع «روششوار» … شارع «بلانش» … ميدان «ترتر». تلك المناطق المتواضعة التي خلَّدها موريس أوتريللو في صوره ولوحاته …
فقال خادم القهوة سريعًا في إعجاب يلمع في عينَيه: أوتريللو؟ لقد أتى هذا أيضًا وجلس في هذا الركن وسمعت حديثه …
– في هذه القهوة. وأي غرابة؟ … إنه لا يستطيع، رغم شهرته الآن، أن يسلوَ حياة التشرُّد في مونمارتر. ولا يريد أن يهجر هذا الحي الذي نشأ فيه. ما أجمل هذا الإخلاص! إنه ولا ريب المحب الأمين الذي لم تبرد عاطفته نحو مونمارتر! لديَّ بعض صور منقولة عن لوحاته، لكن لست أنظر فيها الآن كثيرًا، إني أدَّخرها للغد، يوم لا أجد عزاءً غير الصور. أما الآن فإن مونمارتر تحتويني بذاتها وحقيقتها، وتهمس في نفسي بكل شعرها وبكل موسيقاها الداخلية التي لن يخفت لها صدًى ما دمت أعيش.
وسكت قليلًا إذ بدا عليَّ شيء من التأثر، فسألني جان: أتَنوي أن تعيش هنا طويلًا؟
– يا ليت …
قلتها من كل قلبي وأنا أرى شبح المصير الذي ينتظرني.
– اسكت يا جان! لا تذكرني بالغد. إني الآن أعيش، حسبي هذا. أعيش في مونمارتر، فردوس الفن … الذي سأفقده يومًا. سوف أذكره مع الحسرات، وأذكر حياتي الشاردة بين قهوة سيرانو وحانة «الأرنب الخفيف»، وسوف تتمثل لي كل لحظة تلك الحانة المظلمة بنورها الضئيل وروادها الجالسين إلى براميل انقلبت موائد، ينظرون إلى رسوم على الحيطان وتماثيل كلها ذوق في التصور، ولذع في الفكاهة، وغرابة في الأداء، وينصتون إلى أغاني القرون القديمة وقد بُعثت في ثوب جديد من مغنين وشعراء حديثين موهوبين، ويشربون «البورتو» ممزوجًا بالكرز، ويضحكون من نكات الساقين الظرفاء مثلك يا جان، تلك النكات الرشيقة المبطنة بحسن الذوق وعلو الكعب في التخيل والشعر. حانة ساقوها وخدامها شعراء ومغنون. أليس منهم نبغ «كاركو» و«دورجليس»؟! كما نَبَغَت «إيفيت جيلبير» من قبل؟
– أتذهب إلى تلك الحانة كل ليلة؟
أكثر الليالي عندما كنت أقطن بجوارها، أما الآن فإني أقطن في ناحية أخرى من الحي، شأني في كل شهر. ما أحلى التنقُّل والحرية يا جان! مسكني اليوم في شارع «روششوار». حجرة تحت سقف منزل يحتويني أنا وشرذمة من المصورين «الكوبست». وأفتح نافذتي فأرى قبة كنيسة «ساكريه كور» البيضاء في متناول يدي، كأنها بيضة صورتها ريشة «جيورجيو دي شيريكو». شيء واحد يزعجني في حجرتي الجديدة: المطر الذي يتسلَّل من خلال السقف، فأتقيه بإناء أضعه في الفراش على رأسي طول الليل! نعم يا جان، تلك حياتنا كما تقول، لكني أحبها مع ذلك ولا أريد سواها. وأرى الجمال فيها أينما حللت، حتى مقبرة مونمارتر كنت أراها من نافذة حجرتي السابقة، قائمة فيها أشجار الكستناء يغطيها الجليد أيام «النويل»، فكأنها ملائكة بيضاء. ما أبدعه منظرًا يا جان! لو شاهدته عيناك …
فرفع الخادم رأسه ثم قال: حقًّا منظر جميل! ما للشعراء دائمًا من بضاعة غير الجمال! ألديك سيجارة على الأقل يا مسيو «حكيم»؟
ولا كبريت يا مسيو جان، مع الأسف. أنسيت أني لا أدخن؟
– حقيقة، حقيقة أنت لا تدخن قط، مع الأسف الشديد!
– خمسة أشياء لم أفعلها قط في حياتي: شرب الدخان، ولبس القفاز، وحمل الساعة، وركوب الدراجة، والعوم!
فضحك الخادم ضحكة كبيرة، وكنت قد مسحت إناء الحساء مسحًا، ومحوت وجود النبيذ محوًا، فحمل جان الكوب والإناء وابتعد، وأردت أن أعود إلى ورقي فإذا الساعة تدقُّ منتصف السادسة، وإذا النهار يطلع، وشاهدت من خلال زجاج الباب بعض العمال والعاملات في الطريق زرافات ووحدانًا تمشي مسرعة إلى الترام والمترو، وفي أيدي الجميع صحف الصباح. فطلبت إلى جان قبعتي ومعطفي، فأحضرهما وهو يقول: لماذا تنصرف مبكرًا الليلة؟
– مبكرًا؟
– إنك لم تكتب حرفًا.
– لقد أدركنا الصباح يا جان. و«شهرزاد» تسكت عن الكلام والإلهام إذا أدركها الصباح.
فابتسم جان وتأمل لحظة، ثم قال: إنها كمونمارتر.
فحملقت في وجهه بعينيَّ دهشًا، ولكنه استطرد يقول: مونمارتر كذلك تسكت عن الكلام والإلهام إذا أدركها الصباح!
فألقيت بقبعتي على الخوان متحمسًا وصحت به: جان! واحد من أمرَين: إما أنك ذكي الفؤاد، وإما أنك شاعر بالسليقة. سمِّ نفسك ما شئت، إنما أنت الآن تقول قولًا صادقًا جميلًا بدون أن تشعر: إن مونمارتر هي شهرزاد. وإني — لو عرفت الحقيقة — ما قطنت هذا الحي عبثًا. ولسوف تقرأ «شهرزادي» وتتعرف فيها ملامح مونمارتر. إن «شهرزاد» في نظري لم تكن يومًا قصة الخيال والبذخ والخرافة، كما فهمها الشاعر «كاتول منديس» في قصيدته … والموسيقي «ريمسكي كورساكوف» في قطعته السانفونية، لكنها عندي قصة الفكرة والحقيقة العليا، قصة الروح التي خرجت من المادة. كذلك مونمارتر التي اشتهرت بلهوها وانغماسها في بؤرة المادة … أي روح تخرج منها كل يوم فيَّاضة بالخلق والإبداع! مونمارتر هي تلك المرأة اللعوب ذات الروح العميقة، هي غانية تنام النهار وتسهر الليل، تكشف لعشاقها محاسن الحياة وأسرار الحياة. هي أيضًا كشهرزاد تعمِّر الليل بأقاصيصها وحكاياتها عن الحب والفن حتى الصباح، فتسكت عن الكلام المباح وغير المباح! ولكن شهرزاد قالت ما عندها في ألف ليلة وليلة، ثم سكتت سكتة الأبد؛ لأن زوجها وعشيقها شهريار كان قد أصغى إليها وانبهر مما سمع، فزالت عن عينَيه غشاوة الماضي، وأبصر ما في الحياة وما بعد الحياة من معانٍ وأسرار. وأدرك أنه قبل أن يعرف شهرزاد ما كان إلا طفلًا يلهو ويعبث كل ليلة بزوجة يقتلها في الصباح، فإذا هو مع شهرزاد يرى في الحياة أشياء أخرى غير مجرد اللهو والعبث. إن شهرزاد مربية شهريار ومثقفته في «ألف ليلة وليلة» قد صنعت منه رجلًا، ثم صيَّرته بعد ذلك شيئًا آخر غير الرجل: ما بعد الرجل … مونمارتر كذلك تدخلها طفلًا يلهو فتصير رجلًا يشعر ويحس، ثم تتركها مخلوقًا يتأمل ويفكر … أي تأمل وأي تفكير؟ شهرزاد قامت بمهمتها في ألف ليلة وليلة، أما مونمارتر فتقوم بمهمتها في كل ليلة منذ مئات الأعوام … لا مع رجل واحد، لكن مع رجال كثيرين. لا مع كل إنسان، لكن مع الإنسان الذي يصغي إليها ويجلس بين يدَيها ويعرف لغتها ويفهم عنها، وينفذ إلى روحها السحيقة من خلال ظاهرها اللاهي الماجن المبتذل الخفيف. نعم يا جان، بل إني أريد أن أقول أكثر من هذا؛ أريد أن أقول إن مونمارتر ليست قط تلك المرأة الفاجرة التي توحي باللذة السافلة، كلا، إنها في أعماق نفسها امرأة لا توحي بغير الطهارة الكاملة. أقسم لك يا جان أني في حياتي ما أحسست الطهارة العليا الكاملة إلا في هذا الحي الخليع! أتصدق هذا؟ أتعرف السبب؟ السبب بسيط الحرية. تلك الحرية المطلقة في إتيان أيَّة رذيلة بدون خشية قيد أو تحريم. هذه الإباحة للرذيلة زهَّدتني في الرذيلة نفسها. إن الإنسان بطبعه يطلب الممنوع عنه المحرم عليه، ويزهد في المباح. إن الملك شهريار الذي استمتع طول حياته السابقة بالنساء وباللذة الجسدية كاد يقتله الملل، فصار يقتل كل امرأة بعد ليلة واحدة، حتى جاءته شهرزاد فكشفت له عن اللذة الروحية، فإذا هو ينقلب إنسانًا يعشق كل ما هو روح، ويمقت كل ما هو مادة، وإذا هو يصيح كلما عرضت له المادة: «شبعت من الأجساد … شبعت من الأجساد!» هذه الصيحة انطلقت من فمي يومًا … كما انطلقت من فم كل فنان في مونمارتر. أرأيت كيف أن مونمارتر هي في حقيقتها مملكة الروح لا مملكة المادة! أكثر من هذا أيضًا يا جان: مونمارتر هي النافذة المفتوحة على بيداء الفكر المهلكة، هي المحطة التي يبدأ منها كل فنان أو مفكر رحلته المخيفة في طريق البحث عن الحقيقة العظمى. علمته مونمارتر التفكير فاتجه إليه هازئًا بالعاطفة، غير حافل بأعباء السفر، حتى يظفر بالمجهول. ألا تذكر: بيكاسو، جان كوكتو، إيريك ساتي، زادكين … إلخ. أسماء في التصوير والشعر والموسيقى والنحت ذهبت مغامرة في تلك البيداء … لا يعلم أحد أتعود أم لا تعود. كذلك شهرزاد أوحت لزوجها بجمال الفكر، فخلع عنه العاطفة، وانطلق يهيم في تلك الصحراء خلف سراب العقل والفكر … لا يعلم أحدٌ أيعود هو أيضًا أم لا يعود، كل هذا وشهرزاد باقية كمونمارتر ترمق محبها القادم والراحل بتلك النظرة العميقة، وتلك الابتسامة التي لا يدرك لها كنه.
وصمتُّ قليلًا، ورفعت عيني إلى جان فإذا هو واقف بغير حراك يصغي وكأنه في حلم. ودخل القهوة رهط من العمال والعاملات، يطلب كلٌّ قدحًا من القهوة وخبزًا صغيرًا، فانتبه الخادم وانصرف إليهم مسرعًا، ولبست أنا قبعتي ووضعت معطفي فوق منكبي وضعًا … وتوجهت إلى حجرتي … أسدل سجفها حتى لا يزعجني الضوء … وأملأ زجاجة الماء الساخن، أضعها تحت قدميَّ خوف البرد، وأنام حتى مطلع الليل، شأن الفنانين عشاق مونمارتر المدللين … الخاضعين لهذا الشعار: «حياة الليل وموت النهار».