تمهيد

بقلم  محمد سعيد العريان

هذا كتاب لا يعرفه قُرَّاء هذا الجيل فيما يعرفون من آثار شوقي الشَّاعر النَّاثر القاصِّ، وهو كتاب شعرٍ ونثر وقصَّة؛ لا أعني الشِّعر المنظوم؛ فإنَّ حظ هذا الكتاب من ذلك الفن قليل، ولكنَّه إلى ذلك فنٌّ من الشعر يَرُوع بلفظه ومعناه، وبما تحس فيه من نبضات قلب شاعره.

هو كتاب شعرٍ إذن، وإن لم يكن منظومًا على ذلك النَّسق الذي ألِفَه الأدباء والمتأدِّبون؛ لأنَّ مُؤلِّفه قد آثر أن ينثر فيه خواطره غير مُقيدة بميزانٍ ولا قافية، وهو إلى ما فيه من صفتَي الشِّعر والنَّثر أسلوبٌ من القَصص يسلكه في ذلك الباب الذي عرفه قرَّاء العربيَّة للمرحوم أحمد شوقي في آخر ما أنشأ من فنونه الأدبيَّة، حين عَرَض «مجنون ليلى» و«كليوباترة» و«علي بك الكبير» و«عنترة» وغيرهم من أبطال الماضي القريب، أو الماضي البعيد، فردَّهم إلى الحياة، أو ردَّ إليهم الأحياء.

ولكن القَصص في «محاورات بنتاءور» هذا الذي نَصِفه، ليس جاريًا على ذلك النمط الذي أَلِفَه القراء فيما طالعوا من قَصص شوقي؛ لأنَّه لم يُنشئه ليكون قصة ذات بدء وخاتمة وعرض متسلسل، ينتهي بالمقدمات إلى نتائجها، حتى تنحلَّ العقدة أو تزداد تعقيدًا؛ كما يفعل كل قاصٍّ فيما يُنشئ من ذلك الباب، وإنما أنشأه ليقصَّ قصته هو نفسه مع «بنتاءور» شاعر رمسيس الأكبر؛ ذلك الشاعر الذي خَلَد في الأدب المصري القديم، أو خَلَد به الأدب المصري القديم حتى رواه لنا الحجرُ في هذا العصر الحديث بعد آلافٍ من السنين.

لقد عاش شوقي، شاعر مصر الحديثة، مع بنتاءور، شاعر مصر القديمة، حقبةً من عمره في الخيال، وكان بينهما من الود ما يكون بين الأصدقاء؛ يلتقيان على ميعاد، أو على غير ميعاد، ويفترقان على ميعاد، أو على غير ميعاد كذلك؛ فيكون بينهما في كل لقاءٍ وفي كل فراقٍ ما يكون بين الصديقين حين يلتقيان وحين يفترقان، من أسباب البث والشكوى، أو من أسباب الشوق والحنين، ولكن بين زمان شوقي وزمان بنتاءور قرونًا متطاولة، وبين مكانَيهما بادية جرداء متباعدة الأطراف، قد انتثرت عليها أشلاء وجماجم وآثار أمم بائدة وعروش مثلولة وتيجان محطَّمة؛ فأين يلتقيان إلا أن يعبُر أحدهما إلى صاحبه القرونَ ومن حواليه تلك الأشلاء والجماجم والآثار؟ ثم هل يكون حديثهما حين يلتقيان بعد ذلك الجهد — وإنَّهما لشاعران — إلا عن الأشلاء والجماجم، وعن تلك الأمم التي كانت ثم بادت؟

وكذلك كان، وجرت محاورات بنتاءور وشوقي عن الأحداث التي تعاقبت على ضفتَي النِّيل منذ عهد رمسيس إلى عصر عباس.

محاورات فيها من بنتاءور حكمته وصوفيَّته، وما يحتقب من علم الماضي، وفيها من شوقي شعورُ مصريٍّ يقظ القلب والعقل والضمير، قد حَصَّل من علم الحاضر وذاق لذَّات الحضارة، وتقلَّبت على عينيه صورٌ من الحياة وصور من الأحياء، وألوانٌ من الحوادث لم يتقلب مثلُها على عينَي شاعر رمسيس القديم.

وكان بنتاءور — فيما تُصوِّره هذه المحاورات — نسرًا مُعمَّرًا، قد شهد الماضي كله منذ كان حتى يوم لقائه بصاحبه، ولكنه لم يزل يعيش في هذا الجيل بقلب بنتاءور شاعر رمسيس الذي كان يعيش على ضفة هذا الوادي منذ آلافٍ من السنين؛ أما شوقي فكان هُدهُدًا حديد البصر قد أحاط بكل شيء مما حواليه علمًا، وأحسَّ به إحساس الحي بالحياة، وصوَّره في نفسه تصوير العين لما ترى، والقلب لما يشعر، والعقل لما يدرك؛ لأنه ابن الجيل الذي لم يزل يحيا، فهو يحس ويشعر ويدرك ويشم ريح الغد قبل أن يكون الغد.

صورتان من الماضي البعيد، البعيد إلى ما لا تُدرَك نهايته في القدم، ومن الحاضر الحي المتوثب إلى ما لا تُدرك غايتُه من المستقبل، التقتا على صفحة مرآة، فاختلط شعاع منهما بشعاع؛ فكان من امتزاج الصورتين على صفحة تلك المرآة، ومن اختلاط الشعاع بالشعاع، صورةٌ ثالثة تتملَّاها العين بإعجاب، وشعاعٌ من حكمة يُشرق على القلب بالهدوء والاطمئنان.

تلك قصة شوقي وبنتاءور، أو قصَّة هُدهد سليمان ونَسر لقمان كما تُصوِّرها تلك المحاورات؛ فيها من شوقي شعر الشاعر ونثر الناثر وفنُّ القاص؛ فهو فيها الشَّاعر النَّاثر القاصُّ الذي يعرفه قراء العربية فيما طالعوا من روائعه المنظومة والمنثورة والمقصوصة.

على أنَّ لهذه المحاورات دلالة أخرى على فنِّ شوقي الشَّاعر النَّاثر القاصِّ، فهو قد أنشأها — في سنة ١٩٠١م — وهو لم يزل بعدُ شابًّا في الثَّلاثين أو قريبًا من ذلك، قبل أن يتمَّ تمامه في الشِّعر والنَّثر والقصَّة، فهي من هذه النَّاحية أمارة واضحة على مدى التطوُّر الذي نال فنَّ شوقي فيما تلا ذلك من سنين تزيد على الثلاثين، وهي إلى ذلك أمارةٌ على شيء آخر، يتصل برأي شوقي في أحداث السياسة المصرية لعصره، منذ كان له رأي يتحدث به في تلك الأحداث.

أما بعد؛ فهذا تعريفٌ موجَزٌ لكتابٍ من كتب شوقي، إلَّا يكن أعلاها في فنه، فإنه أصدقها في التعبير عن نفسه.

وإني إلى ذلك لأرجو أن أكون بما حققتُ من لفظ الكتاب، وما صوَّبتُ من نصِّه، وما ضبطتُ من كلمه، قد أدَّيت للعربية حقًّا، وأوفيت لشوقي بدَيْن.

وما توفيقي إلا بالله.

يناير سنة ١٩٥٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤