المحادثة الثانية عشرة

قال الهدهد: خرجت في أصيل الغد إلى الفسطاط، في الحلة التي قضاها الشيخ لي واختارها، وأنا لا أعرف العجوز ولا دارها، ولا أدري كيف أملك مزارها، أو أجد من يحدثني أخبارها؛ وأُنكر على الأستاذ هذه التعمية، وأعذله على اختياره النعت على التسمية، فجعلت أمشي قلقًا في هذا البلد، غريبًا في ثيابي، تزدحم شفاه العامة على يدي بالتقبيل، ويتنحى الخواص حيث أسير، وأنا أغبط في نفسي رؤساء الديانات بهذه المكانة في النفوس، وأحسدهم على هذه المنزلة في القلوب، وأنظر سلطان الرغبة كيف يعلو على سلطان الرهبة، وأرى المُلك الكبير لمالك السريرة لا السرير؛ وقد راقني وأدهشني أني لم أرَ عربيًّا ظهر لقومه — أو للمسلمين من أهل البلد — في مظهر رئيس روحي، أو مسيطر ديني، وفي الفسطاط كثير من صحابة النبي الذين يُتعلم الدينُ في بدايته منهم، وتؤخذ أصوله على حقيقتها عنهم، بل وجدتهم كسائر العرب في مصر: جنود الخلافة، وأنصار الإمامة، وأعوان الحكومة الإسلامية، يعزُّون الإسلام آونةً بالجهاد، وآونةً بحسن السيرة في العباد؛ لا يلتمسون الكرامة في تكبير العمامة، ولا يوسم أحدهم بولاية، وهم مصابيح الهداية، وعلى عهدهم ظهرت الآية؛ دائِبُون في خدمة الدين لا يألونها صبرًا، يغتربون من أجله، ويقاطعون الدنيا في وصله، ويعلقون بيض الأيادي وكرائم الصنائع في أعناق الأمم ممن يأتي بعدهم؛ قدم في الشام وأخرى في العراق، ولواء في سماء النيل خفاق، ويد لها بالأمر في الروم انطلاق، وحكومة تنتظم سائر الآفاق؛ وهكذا العلماء لا يُغني عنهم علمهم، ولا تثبت لهم هذه الصفة العالية في نظر الجماعة، حتى يجمعوا بين المدارك والهمم، وتنقاد بأزمَّتهم الحياة العملية في الأمم، يُرشدون الناس بالعلم مرة وبالعمل مرارًا، ويعرِّفونهم كيف تُطلب الدنيا بالعقل، وتُركب الحياة إلى المحيا السهل، وتتزود النفوس من المجد والفضل.

للعلم أهل ليس يألونه
أخذًا ورَدًّا في شئون العباد
لهم مُراد لا ينالونه
حتى ينالوا غايتَي الاجتهاد
العلم في أنواعه كلها
والعمل الموصول فيما أفاد
في خلفاء الله من قبلُ ما
ينبيك أن العلم للخلق هادْ
كانت تفيض الأرض من علمهم
في الحكم أو في الوعظ أو في الجهاد

فما باله أصبح يحمله من لا يبذله، وصار يدَّعيه من ليس يعيه، وما للمسلمين مختلفين فيه، فريق يرى النافع الرافع منه ما كان مقصورًا على الشريعة، منحصرًا في فقهها، مردودًا إلى المذاهب الأربعة فيها، والتقيُّ النقي من هذه الفئة من عادى لغات الغربيين، وهي التي يُنْهى بها فينا معاشر الشرقيين ويؤمر، واحتقر علومهم وفنونهم، وهي التي نفاضل بها فنُفضَل، ونقاوِم بها فنُخذَل، وتقتلنا كل يوم بلا قتال؛ وفريق يهجرون علوم الدين وآداب اللغة العربية إلى لغات لم تجرِ بها ألفاظ آبائهم، وآدابٍ لم تقم عليها حياة أجدادهم، ولم تؤلَف بعدُ في بلادهم؛ وإن أمةً لا تجتمع على لغة، ولا ترجع إلى جامعة من الآداب القومية، ولا رابطة من الأخلاق المِلِّية، ليست على شيء من الحياة، وإن جُمعت فيها معاني الفضائل:

أرى جوامع الشعوب أربعا
أمرهمُ بدونها لن يُجمعا
الدينَ في آدابه مُتَّبَعا
والجنسَ لا حتمًا ولا مُضَيَّعا
والعلمَ يهديك إلى ما نفعا
ولغةً يفهمها من سمعا
تكون في الغالب والعلمَ معا

قال الهدهد: وما زلت في تنقُّل واستقراء، وتجوُّل واستجلاء، ومشيٍ على قلق وعناء، حتى أعييت بضالتي طلبًا وسعيًا، فصِحت: لا نشدتُ تلك العجوز ولو أنها الدنيا. وهناك مرت يدٌ على كتفي، فالتفت فرأيت النسر يعتذر عذر البريء، وسمعته يقول: نعم هي الدنيا وأنت في الطلب، وستراها وتسمع حديثها من كثب. فقضيت من مقالته العجب، وقلت: إذن أغفر لك إبطاءك، ولا أستنكر استهزاءك، ومن لي أن أجتمع بفاتنة الأنام، التي ما رؤيت إلا في الأوهام، ولا تمثلت إلا في الأحلام؟

قال: وهذه دارها. وأشار إلى خربة على الطريق من بقايا الرومان.

قلت: وما يُلجئها إلى هذا الانعزال والاستتار، ولو شاءت لسكنت الأسماع والأبصار؟

قال: ليس لها إلا ما تسترد، وشيمتها أن تسترد النعم حتى تحوِّلها إلى نقم، تعطي القصور عالية، وتأخذها أطلالًا بالية.

قلت: ونحن نتقدم إليها الآن يا مولاي؟

قال: ادخل عليها هذا الأثر، وأنا على الأثر؛ وتدلَّل عليها في الخطاب، ولا تخشَها؛ إنها في سجن ابن الخطاب.

قال الهدهد: فتقدمت وحدي حتى جئت بابًا صغيرًا، فلم أطرقه بل عالجته، فانفتح من نفسه، فإذا أنا لدى عجوزٍ أكل الدهر لحمها، وأدقَّ عظمها، وجمع كالقوس جسمها، وشيَّب كل شعرة في بدنها، حتى شعرات في أذنها، وهي تنوء بسلاسل الحديد، وترزح في أسرٍ شديد؛ فضحكت من منظرها وبادأتها بالخطاب، فقلت: أيتها الأمة المضطهَدة، والعجوز المقيَّدة، كيف حالك وعُمَر، لقد انتقم منك للزُّمَر، ونهى عليك بعد النبي وأمر؛ لئن حَبَسك فطالما حبستِ رزق الرجل الفاضل، وقيدتِ نفس الحر العاقل، وملَّكتِ الناقصَ رزق الكامل.

فاستضحكت العجوز ثم قالت: من هذا الذي شمت بجدَّة الناس، وأُمِّ الكل في الأجناس، إلا اثنين: ابن الخطاب صاحب هذا الأمر، وابن عبد العزيز، عذر بني أمية لو قام لهم عذر؟

قلت: ولا ناس إلا من ذكرتِ، ولا أناسيَّ إلا من سميت!

قالت: لا يغرنك أيها الفتى أن الذل شعاري، وأني عاجزة عن فك إساري؛ فوالذي سلطني على عباده ليبلوهم أيهم أصدق عزمًا، وأجمل صبرًا، وأقصَد إليه سرًّا وجهرًا، ما ملك عمر إلا الظواهر، ولي التسلُّط على السرائر، والسيطرة على الضمائر؛ وليس هذا الذي ترى في ملك ابن الخطاب من زهد فيَّ، وتجنٍّ عليَّ، وإساءة إليَّ إلا غاية وتنقضي، وحال من أُكرِه لا من رضِي؛ عمال في مداراة الخليفة، يوجسون منه خِيفة؛ ورجال يلبسون لكل دولة لبوسها، يأخذون نعيمها ويذرون بوسها؛ زهاد في دولة الزاهد، شياطين في زمان الفاسد.

وبينما نحن في الكلام، دخل النسر فوقف بين المهابة للعجوز والإكبار؛ ثم خاطبها فقال: أيتها الحاكمة في البشر، مَن غبَر منهم ومن حضر، والآتي منهم والمنتظَر، ما لقيت من عمر، في ظلمات هذا الأسر؟

قالت: أضْيق الأمر، وأعظم الأسر؛ لكنها حال تحول، ونازلة عما قريبٍ تزول، ثم أفتك في هذه الأمة فتكًا، وأصيِّر هذا الأمر ملكًا، تقتتل عليه القبائل، وتتلاعن من أجله البطون، وتتفانى في طلبه الشعوب؛ ولا أزال كذلك حتى أشقى مرة أخرى في زمن ابن عبد العزيز، ثم يخلو لي الجو إلى الأبد، وأحكم في المسلمين على الأمد.

قال: بحق عمر عليك إلا ما وصفت لي الأربعة الخلفاء.

قالت: أما أبو بكر فأخذني كما تؤخذ الإماء، وخرج مني خروج الأنبياء؛ ضرب على يدي أن أفسد هذا الأمر حين الفرصة سانحة، والصفقة رابحة، والأمة جامحة، إلى الفتنة جانحة. وأما هذا الذي أُعذب في أسره، وأبلو المرَّ من معاملته، فأشدهم إعراضًا عني، وأكثرهم فرارًا مني، لم يرضَني أَمَة تُشرى، ولا قَبِل بي طريقًا إلى الأخرى، ولا يزال حتى يخرج مني خروج الأنبياء. وأما ابن عفان فأتقرب إليه بقرابته، وأمهد للفتنة تمهيدًا في خلافته؛ ولا أزال به أتنازعه أنا ودينه حتى أزول عنه إلى علي؛ أزهدِ الناس فيَّ، وأكثرهم إساءة إليَّ، يفضحني في كلمِه، ويقبِّحني في حكمه، ولا يرضى بي لنفسه قسمًا، ولا للغير غُنمًا، ينافس فيَّ معاوية، ونفسه عني راغبة سالية، ولا يزال يجعل همه في جمع أمر الأمة، وحِفظ إمرة المسلمين في بيت النبوة، وأنا أروغ بالنفوس منه، وأحيد بالقلوب عنه، حتى يخرج مني وليس في يده مني هباء، كما خرج من قبلُ الأنبياء.

قال النسر: فكيف أنتِ بمعاوية؟

قالت: فطِنٌ داهية، مختلف في السر والعلانية، لا يزال يهجرني إلى الدين ويهجر الدين إليَّ، وهو في خاصة نفسه أحرصُ الناس عليَّ، يتسع من نعيمي لنفسه، ولذريته من بعده، ويتخذ الآخرة طريقًا إليَّ وكنت طريق السلف إليها، حتى أجتمع له ولآله وأعوانه، ثم أزول عنه وقد استرقَّني لبني أمية يصيبون بي خيرًا كثيرًا، ويتوارثونني ملكًا في الأرض كبيرًا.

قال: وأنتِ ظِل الملك؛ حيث كان كنت، وأين سكن سكنتِ.

قالت: أنا الملك والملك أنا، وما نهض به في الأرض من آذاني بشامل عدله، وساءني بحسن سيرته، إلا زلت عنه على عهده، أو قاطعت ذريته من بعده، وهذا هو السر في كون الملوك الصالحين العادلين في التاريخ لم تستقم لأكثرهم الحال في أواخر حكمهم، ولم يقم من عقبهم من أحسن السلوك، أو سار سيرة تليق بالملوك.

قال الهدهد: ثم التفت النسر إليَّ وقال: دونك أيها الهدهد هذه الصحيفة الناطقة، وهذا التاريخ المتكلم، فسل ما شئت، واستفسر عما شئت، من فائدة تستجلبها، أو حكمة تأخذها.

فاستقبلت العجوز وأنا أعجب من حفاوة الأستاذ بها، وأستغرب منه هذه المبالغة في خطابها، ثم قلت: صفحًا أيتها الدنيا عن هفوتي، وانسَي لي جفوتي، وخبريني أي الناس أحب إليك وأيهم أبغض عليك؟

قالت: أحبُّ الناس إليَّ أبغضهم إلى الله، وأبغض الناس إليَّ أحبهم إلى الله!

قلت: ومن أبغضهم إلى الله ومن أحبهم إليه؟

قالت: أبغضهم إلى الله العالم المفتون، وذو الصنع الممنون، ومؤتمن يخون. وأحبهم إليه العامل عن علم، المتواضع في رفعة، العافي على مقدرة، الذاكر الموت المستعد له؛ فهذا الذي يرجى لعظيم الأعمال في الدنيا، ولصالحها في الآخرة.

قلت: عِظيني أيتها العجوز.

قالت: خُلقت أُضِل ولا أَدُل، وأُفسد ولا أرشِد؛ وما مثلي إلا كالنار تهدي الناظرَ من بُعد إليها، وتحرق المتهافت عليها.

قلت: أي الأمم بك أعلم، وأي الحكماء في وصفك أحكم؟

قالت: الأمة التي جاء في كتابها المنزل بلسانها في جملة وصفي: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، والتي يقول فيَّ شاعرها:

وما الناس إلا هالك وابن هالك
وذو نسب في الهالكين عريقِ
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشَّفت
له عن عدوٍّ في ثياب صديق

قلت: عرفيني بعض صفاتك، وصفي لي شيئًا من آفاتك.

قالت: أنا المانحة المانعة، الواصلة القاطعة، أُقبِل لا شاملة ولا كاملة، وأُدبِر لا مُنذِرة ولا معذِرة؛ صفوي عند كدري، وكدري عند صفوي؛ أونس الملك فيشقى، وأُمَنِّي السوقة فترضى، وآتِي الآمن المطمئن من حيث لا يتقي، وأصيب اللاهي الناعم فيما يؤنسه في خاصة نفسه، لا ما يُظهر للناس من أنسه؛ ألسنة الناس في سَبِّي، وقلوبهم مملوءة من حبي، يغالط بعضهم فيَّ بعضًا، وما أضمر أحدهم لي كراهة ولا بغضًا، من زُلت عنه استعاد، ومن اتسع مني استزاد، ولا حي إلا له فيَّ مراد؛ العاقل من أخذني أخذًا، أو نبذني نبذًا، ولم يقف في طلبي بين التقنع والجهاد؛ فمن أخذني فبالمراد الغزير، والجهاد الكثير؛ ومن نبذني فبالاعتقاد المستقر، والسلوان المستمر؛ لا يرغب مع الآخرة في ثمين، ولا يؤثر عليها المال والبنين؛ ومتى كان ذلك فله لا للمتنبي أن يقول:

كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي
ويا نفس زيدي في كراهتها قدما

قال الهدهد: وكنت أصوِّب النظر في العجوز وأُصعِده، فأراها تلبس حالًا عن حال، وتصير من غايات القبح إلى نهاية الجمال، ثم نهضت من السلاسل والأغلال، وتمثلت لي وللنسر غادةً كالمثال؛ فلما رآها الأستاذ دق يدًا على يد وقال: قُضي الأمر، وقُتل عمر، واستقبل العرب الدنيا واقتتلوا على الملك، وجاءتهم الفتنة من كل مكان. قالت: كذلك هم مُذ الآن، ولا أزال حتى أجمعهم على سبِّ بيت منه خرجوا، وفي ظله دبُّوا ودرجوا، وبه ظهر عزُّهم، وعليه بُني ملكهم، ثم لا أزال حتى يحكم فيهم من يُزْرِي بالقرآن، ثم لا أزال حتى يغلبهم الهمل من العجم على أمرهم، ويسلبوهم ما بأيديهم؛ ثم لا أزال حتى يتفرقوا في البلاد، ثم لا أزال حتى يُمسوا كأن لم يكونوا شيئًا مذكورًا، ويبقى قرآنهم ولسانهم خالدَين على الأمد، منشورَين إلى الأبد.

قال الهدهد: ثم انطلقت الدنيا من أسرها، وتركتنا نقضي العجب من أمرها، فالتفت النسر إليَّ وقال: لا خير في هذا الأمر بعد عمر، ولا مقام لنا في ملك هذا الذي يموت عن عبيد وإماء، وضِياع وثراء، وأثاث وكساء، بعدما ظلم أبا الزهراء، وآثر على الخليفة الخلفاء، وأراق ما شاء من دماء، ثم ألقى المعذرة والدنيا مدبرة، وطلب المغفرة حال الغرغرة.

قلت: ومن تعني يا مولاي؟

قال: ابن العاص.

قلت: ذاك الذي أبلى بالأمس في الجهاد، وجلس للحكم بين الناس مجلس الزهاد؟

قال: كانت نفسه إلى الدنيا مغلولة إلى حين، ثم فُكَّت بموت أمير المؤمنين.

وتثاءب النسر عند ذلك فخشيت أن تكون هذه النومة الكبرى، وأن لا أراه مرة أخرى، فسألته عن الملتقى؟ فقال: بمصر، بين الجزيرة والجسر. فسررت بالموعد، وبشرت نفسي بآصال مستعادة، أقضيها مع النسر في استقراء واستفادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤