المحادثة الخامسة عشرة

قال الهدهد: لما كان اليوم التالي أتيت نُزل الكونتيننتال فجلست فوق ذلك البهو العظيم، أرقب طلعة النسر من بين صفوف المارة؛ وكان السياح قد خرجوا إليه من غرفهم، فجلسوا كل جماعة في ناحية، يستمتعون بالشتاء تحت سماء القاهرة، وينظرون الحديقة وهي تتحلى بذهب الأصيل، وتتجلى بالمنظر الجميل؛ وكان يخالطهم هناك نفر من شبان أبناء الكبراء في العاصمة، تدل عليهم طرابيشهم، وما سواها من الأشياء فهم والقوم فيه سواء، وما هو إلا أن اطمأن بي المجلس حتى تراءى النسر يصعد السلم مبدِيًا عزةً شمَّاء، ومشيرًا بأنفه نحو السماء، كأنه روزفلت يستعرض في البحر، أو غليوم يستعرض في البر، أو هو المتنبي في هذا البيت من الشعر:

تغرَّبَ لا مُسْتعظِمًا غيرَ نفسِهِ
ولا قابلًا إلا لخالِقِه حُكما

فلما لمحني أقبَلَ نحوي بتهلل، وأنا أضحك من هيئته، وأستعظم كيد شيطانه؛ فقدمت له كرسيًّا، فجلس جلسة استكبار واستخفاف، كأن لم يقدَم على أحد، فازددت ضحكًا من سيرته وقلت: هلَّا تواضَع الحكيم، وتأدَّب الرجل العليم!

قال: وهلَّا تلطفت في الخطاب، فما كنت أستوجب هذا العتاب. انظر إلى القوم، هل جلست إلا كما يجلسون، أو فعلت غير ما يفعلون؟

قلت: صدقت يا مولاي، ولكن القوم في موقف احتقار لما حولهم، ومن احتقر استهتر؛ فهم لا يعلمون من أمر هذه الأمة إلا أنها أشبه شيء بهؤلاء الحمَّارة.

قال: إذن فما عمل هؤلاء الشبان، وهم فيما أظن من المصريين؟

قلت: هؤلاء أبناء كبراء القطر يا مولاي، صار لهم عادة في هذه الأيام أن يتنافسوا في معرفة السياح، ويتهافتوا على صحبتهم، ويستبقوا مرضاتهم!

قال: فما بالهم لا يُشرفون أقداركم عند أصحابهم؟

قلت: وكيف وهم إنَّما يتعرفون إليهم بالتبرؤ منا، ثم لا يُرونهم من أشيائنا إلا ما يغرهم بهذه الأمة ويُخرجهم من وقارها؛ فإذا كان النهار أنشئوا لهم النزهة حوالي الأهرام يومًا، وعلى النيل يومًا، من مثل ما اعتادوا في بلادهم، وألِفوا في ديارهم، من مركب ومأكل، ولهو وقصف؛ وإذا كان الليل دلُّوهم على عورة العاصمة، وخرجوا بهم إلى كل مكان، يصان عن ذِكره اللسان، ولو كانوا على شيء من الأدب أو قليل من العقل لوجدوا في هذا البلد القديم العظيم، من محاسن الآداب، وغررِ المناقب، وكرائم الأشياء، ونفائس المآثر، وكثيرًا من الحياة الشرقية تجلى بها في أحسن صورها وأجمل معانيها، مما تسر السياح رؤيته، وتهمهم معرفته، وتنفى به التهمة عن أدب المصريين، ويحمل هؤلاء الأجانب على العدول عن البغض والحقارة، إلى الحب والكرامة.

انظر يا مولاي إلى هذه القبعة بين تلك الطرابيش؛ هذا شاب من نوابغ الفرنساويين في الأدب، قدم مصر في هذا العام سائحًا، وهو يراسل الصحف السيارة في بلاده، وينشئ لقومه الروايات التي لا تفرغ الملاعب من تمثيلها، عرفني به أحد هؤلاء الشبان عفوًا في هذا النُّزل، فجلست معه برهة، ثم تركته ولقيت صاحبي بعد ذلك فقلت له: ألا تجمع هذا الشاب الفرنساوي بأبيك الباشا في معاهد عِزه ويسارِه، ومجالس جلاله ووقاره؛ فإنه أحوج إلى الوقوف على شيء من مظاهر الحياة الشرقية، منه إلى إنكليزيتك وفرنساويتك وأتوموبيلك؛ فاستضحك ثم لم يزد في الجواب على أن قال: وماذا في أبي مما يروق أو يَسُر؟! أتريد أن تُضحك الإفرنج منا؟! مع أن الباشا المشار إليه ممن امتد بهم الزمن في خدمة هذا الملك، ومعاشرة كبار الموظفين من الأجانب، ومخالطة السفراء سفيرًا بعد سفير؛ وبيته في مصر رفيع العماد، يصلح ليقصده الملوك في جملة القصاد.

قال الهدهد: فما كدت أستتم حتى نهض النسر مغضبًا، ثم قال: هذا يا بني هو الاحتلال، فاخرج بنا من هذا المكان؛ فللضر أهون منظرًا عندي من هؤلاء الشبان.

فبرحنا النُّزل على هذه الصورة، وجعلنا نتمشى حتى مررنا بتجارة واسعة على الأزبكية لمصري من ذوي اليسار، عظيم القدر بين التجار، فدللت النسر عليها، وحدثته حديث صاحبها، فتهلل واهتز، ورغب في الدخول فدخلنا؛ وكان رب هذا البيت التجاري العظيم جالسًا في ناحية، لا يُلقي بالًا لمن دخل، ولا يهمه من خرج؛ اتكالًا على من معه من ذويه وغلمانه؛ فحولت نظر النسر إليه، فغضب غضبة فرعونية وقال: متى جلس التاجر لأهل الرغبة في بضاعته جلوس الملك والحاشيةُ قيام؟

قلت: لعل له على هؤلاء الشبان اتكالًا يا مولاي.

قال: بل هو يدعوهم بهذا الربوض إلى الكسل، ويُعديهم منه الخمول، ألا ترى المحل على سعة أطرافه، وكثرة مشتملاته، خلوًا من الحركة العظيمة، عطلًا من الحياة الكبيرة؟

قلت: لا أزال أمهد عذرًا للرجل يا مولاي؛ فقد كان محله صغيرًا فكبَّره، وكان ماله قليلًا فكثَّره، وكان ذكره خاملًا فأظهره، ثم أقصر دون التناهي؛ وهكذا تعوَّد المصريون من دهرهم: يكتفي أحدهم بسببٍ من الغنى عن سائر الأسباب، وتهيئ السعادة له دارًا فيقف دون الباب؛ وليس ما ترى في صاحبنا من الانقباض والانكماش والتثاقل عن إظهار تجارته، وإدارة هذا المحل العظيم حق إدارته، إلا دلائل الإقصار، وعلامات الاستغناء؛ وتلك خلة يشاركه فيها سائر الموفقين السعداء من المصريين في الزمن الحاضر.

قال: بئست الخلة، ولا بد لي أن أتقدم إلى الرجل ببعض النصح والإرشاد في هذا ومثله من شئون عمله.

قلت: وأين تعلمت التجارة يا مولاي حتى تُعلمها رجالها؟

قال: التاجر يا بني تلميذ في محله، كل الواردين أساتذته، تُعلِّمه المرأة البلهاء إذا تقدمت إليه في شراء إبرة، ويؤدبه الطفل الصغير إذا تعلَّق به في طلب لعبة؛ فكيف لا يرشده الرجال وهم في شغل مع التجار بالليل والنهار، يرون من أحوالهم وسيرتهم في محالِّهم ما لا يرى التاجر من أخيه، ولو كان جاره الذي يليه.

قلت: إن كان لا بد يا مولاي، فهذا الشاب المتوقد ذكاء، المتدفق حياة، الممتلئ من حب التجارة، أولى بغالي نصحك، وأحق بثمين إرشادك؛ لأنه من جهةٍ في أول الشباب، وإنما يُستثمر غرس التعليم في هذا العمر النضير، ومن جهة أخرى هو مخلوق لزمنٍ خُلِق هذا الشيخ لما قبله.

قال: صدقت؛ فتوجه بي إليه، وأعد ما أقوله لك بلسان الشياطين عليه.

قال الهدهد: فقصدنا قصد الفتى، وكان جالسًا فنهض نشطًا ينتظر الإشارة، فقال له النسر بلساني وهو هش به بَش: اعلم يا بني أن التاجر الحق يدخل الحانوت ليباشر عمله، فلا يزال فيه على قدم حتى يخرج منه ليرتدي لباس الليل؛ لأنه في هذا الموقف بين يدي الرازق، وهو يحب المتأدبين، وينفخ من روحه في الناشطين، فإن كان المشتغل بالتجارة صاحبها، وجده المعامل حاضرًا، ووجده العامل ساهرًا، ووجد نفسه صابرًا على العمل قادرًا؛ وإن كان من الأُجَراء فيها بلغ عند رئيسه منزلة في الحب والثقة، وتحبَّب إلى الناس بأدبه، وتقرَّب إليهم بنشاطه، فإذا وُفِّق يومًا ما لإنشاء محل وتأسيس تجارة مال الناس إليه، وأقبلوا عليه، وكانت سيرته المعلومة عندهم، وأخلاقه المعروفة لديهم، خير ما يعلن به أمره، مهما كثرت أساليب الإعلان في هذا الزمان.

قال الفتى: أعتذر إليك يا سيدي، وأشكرك على هذه النصيحة. والآن ماذا تأمر؟

قال النسر: أريد دواة، ولا أكتمك أنني كثير الكتابة، فلا أصبر على دواة واحدة.

فجاءه الفتى بها غالية، من صنعة عالية، فقلبها ثم ردها إليه وتبسَّم فقال: لو استوصفتني يا بني كيف أريدها، وبأي ثمن، لكفيت نفسك تعب الرجوع بها من حيث جئت، وإنه لأجلب لراحة المشتري أن يُكثر عليه التاجر في الأسئلة حال الطلب من أن يملأ الحانوت بين يديه بضاعة، ويضيع عليه جانبًا عظيمًا من زمنه في بحث وتنقيب، وتأمُّل وتقليب؛ على أنني عرَّفتك بخفيِّ الإشارة ماذا أريد، إذ قلت لك إني كثير الكتابة لا أصبر على دواة واحدة؛ ومن كان كذلك لا يقتني هذه الأداة من ذهب ولا فضة، بل ربما استكثرها لنفسه من الخشب والنحاس.

قال الفتى: أشكرك يا سيدي على هذه النصيحة بعد النصيحة. ثم إنه عرض على الأستاذ دواة كبيرة الحجم قليلة الثمن، فرغب عنها؛ فجاءه بأخرى أقل حجمًا وثمنًا، فقلبها ثم دفعها؛ فأتاه بثالثة فردَّها كذلك، ثم ما زال حتى بدا عليه الملل وظهر عليه الغضب، وأحس الأستاذ ذلك منه، فقال يخاطبه: لعلك من الملائكة يا بني؛ فقد صبرت لنصيحتين، وأراك على استعداد لقبول الثالثة بالرغم مما بدا عليك من دلائل الضجر؛ وقلَّ من صبر من الناس لنصيحة واحدة.

فاعلم يا بني أن بيوت التجارة لا تعمر ولا يُرفع لها عماد حتى تكون أوسع من صدر الحليم، وأرحب من فناء الكريم، تخف بالثقلاء، ويُدارى فيها السفهاء، ويعالَج البخلاء، ويُصبر للأغبياء، ويُتهافت على الغلظاء، ويُحمل فيها الكبرياء؛ والتاجر يا بني قد يساوَم ساعة في الخرزة ثم لا يبيع، وقد لا يساوَم لحظة في درة يبيعها؛ وفي هذه الحالة يكون قد خسر في الأولى أضعاف ما ربح في الثانية؛ إذ جملة ما يقال عنه: ليس في حانوته خرزة تُشترى! ثم يناقش هو نفسه فيقول في خاصتها: عجزت عن بيع خرزة.

ألذ الجدال يا بني وأطيب المناقشة وأشهى المغالطة، ما كان بين البائع والشاري؛ لأنهما في الحقيقة خِداع تجاه خِداع، يُصدَم الحرص بينهما بالحرص، ويحارَب الطمع بالطمع، ويقاتَل الغش بالغش، ولا ينفع التاجر في هذا الموقف ولا يُظهره على قِرنه إلا الصبر؛ فلعلك بعد هذه النصيحة من التجار الصابرين!

قال: سأصبر يا مولاي حتى تراني أُرضي المريض والأفين، والشحيح الضنين.

قال: بورك فيك يا بني؛ والآن عندي نصائح أُخَر ربما نفعتك في عملك هذا، فهل لك فيها؟

قال الفتى: هاتِ يا مولاي، فإني مستمع إن شاء الله متَّبِع.

قال: التجارة يا بني آية عصركم هذا الكبرى، أعلى الممالك ما قام عليها، وأوسع الدول ما اتسع منها، وما من ملك ولا أمير ولا حاكم ولا وزير عرف الغنى في هذا الزمن إلا عرفه من طريق التجارة؛ فهي صيد يطلبه الجميع، غير أن الشباك مختلفات.

أغنياء هذا العالم يتاجرون بمالهم في السر، وأنتم معاشر العمال تتاجرون بعملكم في الجهر؛ أنت تعمل لمستأجرك هذا، وهو يعمل لأناس هم أوسع منه تجارة، وهؤلاء يعملون لبيوت التجارة من الطراز الأول في العالم، وتلك تعمل لأصحاب الملايين من بيوت الملك والإمارة وأسر المجد والشرف وجماعة الساسة والقواد وسائر عظماء الرجال، سواء اشتهر عنهم أنهم من أصحاب الأموال، أو خفيَ أمرهم على الناس. إذا علمت ذلك يا بني عرفت نفسك قدرها؛ إذ يرسخ في اعتقادك أن الملك والتاجر ربما كانا شريكين في تجارة ولا يعلم أحدهما بالآخر، هذا يؤسس الشركة بماله وسلطانه في الخفاء، وهذا يقيمها بعمله وأمانته في الجهر.

ومتى احترم الإنسان عمله تولَّد عن هذا الاحترام حب العمل، وهو سر النجاح؛ فأحبِب يا بني التجارة تجد عناءها مع الحب راحة، وتُلفِ صعبَها معه سهلًا؛ واجعل الأمانة فيها رأس مالك، ولو كان لك شم الجبال من رءوس الأموال؛ لأن دولاب التجارة يدور بالمال مرة، ويدور بالأمانة والذمة ألف مرة، وكن يا بني في هذا المحل كأنه لك في اعتقاد، وكأنك تمر به مرًّا في اعتقاد آخر، وبعبارة أصرح: كن كثير العمل، كبير الأمل، لا تقف في الغنى عند نهاية، ولا تتمهل في المجد عند غاية.

واعلم أن كل ما يفيض عن قدر الإنسان وشخصه من سعة الثروة ورفعة الذكر إنما يفيض على وطنه وقومه؛ وإن طالبتني بمثال حاضر فهذا «كارنجي» الأمريكي، جمع بالأمس سفن التجارة في لجج الغرب وبحار الشرق تحت راية أمريكا التجارية؛ مع أن المجد والثراء من أن يستزاد هذا الرجل براء.

وإذا ذكر التوفيق يا بني أو خطرت السعادة على بالك، أو حدثوك عن قيام الجد ويمن الأمر وإقبال الدنيا، فقل: ذلك فضل السماء تؤتيه من تشاء، وكن كرُبَّان الباخرة: ملأها فحمًا، واستوثق من استقامة إبرتها، وسلامة آلاتها، وكمال أدواتها، ثم خرج بها إلى عالم الماء غير آخذ موثقًا على الرياح والأنواء، ولا في يده صك بالوصول من القضاء.

قال الهدهد: وبينما الأستاذ ينثر من حلى نصائحه ودرر وصاياه على سمع الغلام، وهو يصغي لما يقول ويفهمه فهم ذكي في طباعه حب الاستفادة، انسلخ رب التجارة من كرسيه ثم تقدَّم نحونا وسأل الغلام: من هذا الذي شغلك ساعة زمان، وماذا يريد؟

قال: يريد دواة ولا يكاد يجد طلبته.

فاستحوذ على التاجر الغضب وقال يعنِّف الفتى: أمن أجل دواة تؤخر شغلك ساعة، وتنقطع لهذين دون الجماعة؟

فعبس الأستاذ وتولَّى، وهمس في أذني بأن قال: هذا يا بني هو الاحتلال!

ثم خرجنا فاندفعنا نمشي حتى مررنا بمجلد كُتب على الأزبكية أيضًا، فاستوقف النسر حقارة حانوته ومنظره الزري، فسألني: لمن الحانوت؟

قلت: لرجل منا يا مولاي.

قال: ما يصنع فيها؟

قلت: تجليد الكتب وتغليف «الرسائل» لكي تُحفظ زمنًا طويلًا، وتكون للمكاتب زينة.

قال: هل لك في الدخول؟

قلت: انظر ماذا تأمر يا مولاي؟

قال: انظر إلى الشمس كيف مالت، وإلى دولة النهار كيف زالت؟ ثم تمطَّى كعادته وتثاءب، وقال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فإذا كان الغد فالقني في أصيله عند باب هذا الحانوت.

•••

قال الهدهد: ثم لم أرَ لذلك الشبح أثرًا، فمضيت في سبيلي وأنا أذكر التاجر والغلام، وروحانية ذلك الكلام، وأشتهي على العناية أن تستخر لعوام هذه الأمة من خواصها مرشدين، وتبعث لجهلائها المصابيح من العلماء الهادين، وأسأل الله أن يُخرج عباده من الظلمات إلى النور.

(تم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤