المحادثة التاسعة

قال الهدهد: فلما كان اليوم التالي قضيت النهار في كد وكدح وتعب حياة، وأشغال دنيا طالبها حائم، على ماء دائم، وليته دائم، إلى أن كان أوان الموعد، فثرت إلى منف، وأنا لا أستطيع للغيظ كظمًا، ولا أملك في أمر النسر حلمًا، ولا أظن أن سأهتدي إلى ذلك الأعمى؛ فلما بلغت بناء «منا» الدائم، وقدمت أم المدن القدائم، نظرت إليها نظرة مرتاح، وقمت لديها على جناح، وقلت في نفسي: صفحًا للنسر عن هفواته، إذ كان هذا المنظر من حسناته؛ وهكذا الإنسان ينسى ويذكر، ويكفر أحيانًا ويشكر.

ثم فكرت في الأعمى ودارِه، وما يقتضيني النسر من مزاره، فسألت نفسي: من يا ترى الرجل حتى يزوره النسر، وأي العميان هو، فهم كثر؟ تراه «شمشون» في الهيكل انبعث، أم «المعرِّي» قام من الجدث، أم «يعقوب» ابيضت عيناه من الحزن على فتاه، أم «بشار بن برد» قام من اللحد، أم «أبو العباس» الأعمى، أم «دريد بن الصما»، أم الخليفة «القادر» في أيام محنته، أم «حسان بن ثابت» في آخر مدته، أم «الشطبي»، أم «طوبيا» النبي، أم «هومير» الشاعر اليوناني، أم «ملتون» الشاعر الإنكليزي، أم «مرصفي» هذا الزمان صاحب «الوسيلة» والكلم الثمان، وأول من علَّم الهدهد البيان،١ أم «داود الأكمه»، أم «ابن سيده»، أم «الطُّليطُلي»، أم أكمه المسيح، أم أعمى عبس، أم الأعمى الذي قتل البصير في هذا الزمن الأخير؟٢
ولم يبقَ أعمى في الزمن الغابر، إلا مر ذكره بالخاطر، ثم قلت: لعلها تعمية شاعر، والرجل من عُمْي البصائر، فتشابه البقر عليَّ عندئذٍ وقلت: لعله أحد الغُز٣ الذين أمِنوا لمحمد علي وانتظموا في تلك الصفوف، فلاقوا في القلعة الحتوف، أم كروجر في بلدان الغرب، لا في ميدان الحرب، يظن أن الأقوام مُنقذوه من الكرب، أو أحد سفراء الدول في بكين، منذ اتفقوا على الثقة بالصين، أم من هؤلاء المُهوَّسين في البلاد الذين يطلبون حق السلطان «مراد» وآونة يبايعون من شاءوا من العباد، ويريدون من «عبد الحميد» — وهو الذي لا يجري في ملكه إلا ما أراد — أن يصبح كهذا الذي قال عن نفسه وأجاد:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قلَّ مُمتنعًا عليه
وتُؤخذ باسمه الدنيا جميعًا
وما من ذاك شيء في يديه٤

قال الهدهد: ولو أردت أن أحصي عُمي البصائر — على ذكر الأعمى بسادر — لما استطعت أن أحصي نصف الناس، على اختلاف الأصناف والأجناس، فبينما أنا مفكر حائر، ماضٍ في الجوِّ طائر، إذ طاف بي من الجوارح طائف، فلم أدرِ إلا وأنا بين جناحَي خاطف وهو ينظر إليَّ مبتسمًا ويقول: لقد أتعبنا الهدهد بالانتظار. قلت: وبذلك الأعمى في تلك الدار.

قال: أما الأعمى فرمسيس ربُّ هذا الملك، وباني هذه الدولة، عمي إذ بلغ به الكبر، فكانت هذه أبلغ العبر، وأما «بسادر» فمن الأسماء الدائرة، وإنما رميت باستعارته له إلى أن الدهر قد حكم فيه فصار كبعض الناس.

قلت: يا أسفا على ذلك الوعد، ويا حسرتا على تلك الأمنية! لقد أخطأني ما أمَّلت من القدوم عليه، وفاتني ما رجوت من النظر إليه!

قال: ستجده أبصر في العمى وأسمع في الصمم، وتُلفيه متلبسًا بلباس الفتوَّة في الهرم، فتعلم أني استأذنت لك عليه وهو على عظمة من قوة الوجدان، تعدل ما بلغ إليه من عظمة الملك والسلطان.

وصاحبٍ لي أعمى
فداؤه المبصرونا
يريك في كل قول
وكل فعل عيونا!

قال الهدهد: فقبلت حكم النسر، ورضيت بهذا القِسم النزر، وقلت: قد آن أن ينجز مولاي وعده، فإني أخاف ألا أرى رمسيس بعده، إذ ما بعد العمى والصمم، وتبالُغ الهرم، إلا محتوم العدم!

فاستضحك الأستاذ ثم قال: الآن تقدم عليه، فإذا أقامك في الخطاب فبالغ له في التحية، وشبِّهه بكل قوي في الأرض والسماء، عظيم في الغبراء والزرقاء، واتبع … حته سنتنا معشر الشعراء من المصريين القدماء، وقل … الأمم الأربعين، كما قلت في قاهر اليونانيين:

أمولاي غنَّتك السيوف فأطربت
فهل ليَراعي أن يغني ويُطرب؟
فعندي كما عند الظُّبى لك نغمة
ومختلف الأنغام للأنس أجلب

فإنَّ الملك وإن أشرق وجه الأرض من ثنائه، وامتلأ فم الدنيا من مدحته، وسَيرت ذكرَه الأشعار، وبزت أعماله القائلين، وتكاثرت مناقبه على الناظمين، فما زال يهزه المداح وما انفك يطرب للإطراء ويرتاح.

قلت: ستجدني يا مولاي من المحسنين.

وعندئذٍ حملني النسر إلى القصر، فدخلنا حجرة ليس أجمل منها في الناظر، ولا أجلَّ منها في الخاطر، في وسطها سرير فاخر، وهو يزهو بالجواهر، منضودةٍ من الخشب النادر، اضطجع فيه رجل يُغْضى من مهابته، ولا تثبت النفس إزاء جلالته، حفظ الزمن الغضاضة على وجهه النقيِّ من الشعر، وعلا التاج منه رأسًا ملءَ التاج، وهو كالتمثال له عينان ولا يبصر.

وكان النسر قد تمثَّل بشرًا سويًّا، واستأذن في الوصول، فاستقدمه الملك، فحين نقل القدم في الحجرة العالية، استقبل مولاه مستجمعًا من الخشوع، غاضًّا من بصره من المهابة، ثم قال: سلام من هوروس إليه، سلام الآباء والأجداد عليه! أيها الشمس المضطجعة في سرير مجدها وضوءُها يغشى البلاد، ويبعث حياة للعباد، هذا هدهد ناطق، انفرد في الآخرين بتقديس ذاتك، والتمدح بصفاتك، والبكاء بعدك على رفاتك، فاستحق أن يحسب على التفاتك.

قال الملك: لعله هدهدك السحري يا بنتاءور!

قال: كذلك لقبوه في المدينة يا مولاي.

فالتفت رمسيس إليَّ كأنه يراني وقال: ماذا يُقال عنا أيها الهدهد في زمانكم النكِد، وأيامكم السُّود، وعهدكم النُّكر، وسِنِيكم العِجاف؟ وماذا يعلم عنا ذلك الجيل الصغير، والجمع المتفرق، والعِقد المتمزِّق، والنسل الذي سَمَونا بالبناء والحجر، ولم نسمُ به في يوم مُفتخر؟

قال الهدهد: فعجبتُ من حرص الملك على ذكره مَن بعده، وكيف أنه قدَّم هذا الأمر على غيره في ابتداء الحديث، وعلمت أن حب تخليد الذكر هو رأس المطالب العالية، لا يتأسَّس بناءٌ في المجد إلا به، ولا تقوم شهرة ثابتة راسخة إلا عليه، وحِرتُ فلم أدرِ كيف أجيب، أأصْدُق الملك فأقول له إن القوم ضيعوا عهدكم، وأغفلوا ذكركم، وجادوا للأجانب بكثير مما تركتم، واتخذوا منهم النبَّاشين، واستخدموا منهم الكشافين، واستقدموا منهم العلماء الباحثين، أم أكْذِبه فأمدحه وأطربه، وأُعلي ذكره وأغليه؟

وكان الأستاذ قد نظر إليَّ نظرة مُغضب، كأنه ينهاني عن التردد، فأنشدت:

رمسيس يا كلَّ الملو
كِ ويا جميعَ العالمِ
يفدِي سليلَ الشمس كـ
ـلُّ مسلسلٍ من آدم!

والتفتُّ إلى النسر فرأيته يتهلل، فعلمت أن قولي أرضاه، وأن الألفاظ جرت على هواه؛ فأردفتُ بأن قلت: علمتِ الأرضُ يا مولاي أنك خير من مَلكها، وأجْرى مَن سلكها، وأفضل من تركها؛ وعلِم الأحياء أنك كنت كالفُلك لا تسكن، وكالمنيَّة لا تُدفع، وكالصخرة لا تُستخف، وكالسماء لا تطاوَل، وكالدهر لا تنام، وكالنجم لا تعيا، وكالسيف لا تروَى، وكالدنيا لا تُكرَه، وكالحياة لا تُمَل، وكالصبح لا تخفى، وكالشمس لا تُستزاد، وكالسهم لا تُرَد، وكالبحر لا تُزحم، وكالذهب لا تُراب، وكالليث لا تَهاب، وكالطيب لا تُكتم، وكالنار لا تُدنس، وكالعارض لا تُعارَض، وكالريح لا تُستبدَل، وكالحق لا تُغلَب، وكالسعادة لا تُعادَل، وكالسلامة لا تُفاضَل، وكالبدْر لا تُواسم، وكالليل لا يُدرَى ما تأتي.

قال الهدهد: وخالست الملك وجلساءه النظر، فوجدتهم مُنصتين لما أزخرف من الثناء، ورأيت النسر يزداد تهللًا، فشجعني ذلك على متابعة الخطاب، فقلت: وعلِموا يا مولاي عن صِباك أنك ملكت الدنيا في رؤيا قبل أن تولد وأن تحيا، ثم ما جاوزتَ العاشرة حتى الملكُ بيدك، والأيام من جُندك، والخير والشر من عندك؛ فكنت في ذاك الصِّبا الغضِّ والعمر النضير، وهذا الأمرِ النافذ والملك الكبير، مثالَ الملوك المحتذى في كرم الخلال وحسن الأخلاق، يأخذ الكهول منك العلم، ويتعلم الشيوخ منك الحلم، وتَغلب النفس على شيمتها الظلم، وتركب الحربَ إلى السلم.

هنا أطرق الملك هُنيهة، ثم رفع رأسه وأشار بوجهه نحو أصحابه وقال: أتذكرون إذ أُزجي الجيوش وأنا طفل، وإذ مثَّلوني التاج فوق رأسي وأصبعي في فمي ألوكها كما يفعل الصبيان؟ أتذكرون إذ لبست التاج في الهيكل الطيبي وأنا صبي، كالشبل الليبي، من رآني قال: لن يكبر هذا ولن يعْمَى ولن يَهلِك أبدًا؟ أتذكرون إذ نحن صغار، نصارع بالنهار وحوش القفار، وإذ تجمعنا بالليل والعلماءَ المسامر، نأخذ من علمهم وآدابهم، ونتلقى عليهم الدروس النافعة؟ أتذكرون إذ أسير في الأرض في سبعمائة ألف مقاتل، وآونة أركب البحر في عدد أمواجه من سفن القتال؛ فملكت المعمور من أفريقيا، وأخضعت المسكون من آسيا، ونشرت أعلامي على الأمم والشعوب، وملأت من آثاري الشعاب والدروب، فلا جَبَل إلا لي فيه أثر، ولا بقعة إلا لي عليها حَجَر؟

قال بنتاءور: نذكر ذلك كله، ونعلم أنه لم يَنَلْ ملكٌ ما نلتَ من صنوف السعادة، ولا أُوتي بشر ما أُوتيت من بسطة الملك وامتداد السيادة!

قال: لكنْ وددت لو خلقت ابن راعٍ، أو أحدَ الزراع، في بعض الضياع، وأني لم أعرف الملك ولم أنلْ من معاليه ما نلت؛ ذلك من أجل حادثة وقعت في حرب أمة الخيتاس، إذا ذكرتها وأنا في غاية السرور، انقلب سروري انقباضًا وتَرْحة، وإذا خطرت على البال وأنا في ذروة المجد وأوْج العظمة، صغُرت نفسي في عيني واحتُقرتْ في خاطري، واستحييت من الشمس أن ألقاها بوجهي، وهي الملِك المسوِّي القِسَمَ بين الأحياء، المنعِم لهم بالحياة على السواء؛ وحديث تلك الحادثة أنني أحرجت العدوَّ يومذاك، بعد أن أتم الآلهة لي النصرة عليه، فانساق بين يديَّ شيوخًا ونساء وأطفالًا، وأنا أطاردهم وحدي، فأبيدهم بمركبتي تارة، وبسهامي أخرى، حتى صادفوا في طريقهم غابة، فاستعصموا بها فولجتها عليهم، وجعلت أصطادهم في أعالي الأشجار كما تُصطاد الطير في الأوكار، غير راثٍ لحالهم، ولا راحمٍ ضعفاءهم، وكان فوق شجرة هناك رجل شيخ أعمى قد تسلَّقها، وجذبه حب الحياة فعانقها، فرميته بسهم فأصابه، فصرخ قائلًا: «أعمى أصاب أعمى يا رمسيس!» ثم سقط يتخبط في دمه، فامتنعت من فوري عن متابعة الفتك، ومواصلة البطش، وكانت نجاة البقية الباقية من أولئك الفارِّين الضعفاء، على لسان ذلك الشيخ الأعمى، الذي ما وعظني منذ كنتُ غيرُه، ولا عرَّفني قدْرَ نفسي سواه؛ والآن أحسُّ كأن السهم رُدَّ إلى مُرسِله، وأن ذلك الأعمى أصاب هذا الأعمى، فيا أيها المعمرون بعدي، لا تغرنَّكم الأيام، واتقوا سهام الانتقام!

ثم حوَّل الملك وجهه إليَّ وقال: وأنت يا صاحب النسر، وشيطان الشعر في عصر غير هذا العصر، اعلم أن المجد والعِظم في الدول والأمم ينتهيان إلى بُناة الفسطاط، وأنهم خيرُ من ورث النيل بعدي؛ ظلمتُ وعَدَلوا، وتطرفتُ واعتدلوا، وأسرتُ وأطلقوا، واستعبدتُ وأعتقوا، وخلَّدتُ بعدي الحَجَر، وخلفوا بعدهم السِّيَر؛ ذهبت الديانات ودينهم هو الدائم، وبادت اللغات ولسانهم في مصر قائم، وأُرِيبت كل أمة في وادي النيل، وذكرهم فيه سالمٌ جميل، وشقيَ الغريبُ فيه بغيرهم، وغُمر من أول يوم بخيرهم، واستوى السوقة والملِكُ على عهدهم، وما تساويا مِن قبلهم ولا من بعدهم؛ وتكافأ في مصر الخليفة والعامل، حتى لا أدري أيهما الرجل العادل والإنسان الكامل. وإن الذي استنزل روحي من عالم الراحة الكبرى بعد ثلاثين قرنًا أو تزيد، وسلط عليَّ من روحه ما يوجد العديم ويبعث الرميم، وحاز لك الدولَ منذ التأسيس، والملوكَ من مِنا إلى أمازيس، في منفيس، على عهد رمسيس؛ لقادرٌ على أن يريك الفسطاط وأهلها، ويُشهدك تلك الدولة وعدلها، وأمة العرب وفضلها، حتى إذا قِستها بمن قبلها قضيت عليها أَوْ لها.

قال الهدهد: فخشيت أن تنقضي الرؤيا ولما أظفر من ملك الملوك بموعظة، فقلت: أيها الملك، إن بيننا لرحِمًا مبلولة لم تيبس، وإنك لمجدُ هذه الأمة أولًا وأخيرًا، فهل نصيحة عالية نسمعها منك، وموعظة غالية نحفظها عنك؟

قال: عليكم بالإقدام؛ فإنه مفتاح الغنى، والطريق المختصر إلى العلياء، والسلاح الأمضى في معترك الأحياء، به سُدتُ، وعليه اعتمدت فيما أسَّست وشِدت، وإنه ليُخرج أصحابه من غمار العامة إلى عليا مراتب الملوك، ومن هُون الخمول إلى العز والسؤدد والذكر الجميل، ولو لم أكن ابن «سيتي» وعنه ورثتُ ملك الدنيا، لملكتها بالإقدام.

قلت: زِدنا منعِمًا يا مولاي.

قال: قاوِموا الظالم ولا يغرَّنكم ما ترون من قوَّته وبأسه؛ فمثله كالأسد: لا يزال يفترس حتى تفترسه نهمته.

قلت: الثالثة يا مولاي ولا أزيد.

قال: احفظوا أنفسكم وضيِّعوا ما شئتم.

قال الهدهد: وعندئذٍ تثاءب النسر، فتثاءب الملك وأصحابه على أثره، فالتفت إلى الأستاذ فرأيته يغالب الكرى، وسمعته يقول كلمته المعتادة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فإذا كان أصيل الغد فالقني على «المعاهد».

وعند ذلك تبدل الزمان والمكان، فخرجت من مسك الشيطان ودخلت في صورة إنسان، وقد ضمَّني مبيتي بحلوان.

١  يشير المؤلف إلى أستاذه «المرصفي».
٢  يشير إلى حادثة وقعت في أيامه.
٣  يعني بالغز: المماليك.
٤  يُنسب هذا الشعر إلى «المعتمد» أول من سُلبت سلطته من خلفاء العباسيين. ويشير المؤلف إلى حركة المطالبين بالدستور في الدولة العثمانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤