القسم الأول

رسالة من أبي الأجران إلى فنيانوس

يا أخي العزيز، إن جِئْتُ لأَصِفَ لك حالتي بعد فراقك، وما أنا عليه من الشوق إلى رؤياك، يلزمني على الأقل عشرون رسالة من مثل هذه الرسالة لأَشْفِي غليلي؛ خصوصًا لأني فارقتك قبل أن أتمتع برؤياك وأتلذَّذ بمُسامَرتك، فأكتفي الآن بقولي: «دُسَّ قلبك بيد لَكَ.»

وعَدْتُك قبل فراقك أنني سأفرغ جهدي حتى أُكَاتِبَكَ، وأُخْبِرك عن كل ما أراه في هذه الدنيا وما يحدث لي فيها، وها قد مضى على مفارقة روحي جسدي أكثَرُ من سنتين، وفي هذه المدة كُنْتُ أتَرقَّبُ الفرص وأسعى السَّعْي المتواصل، وأعمل جميع الوسائط، وأرشو زيدًا، وأترجى عَمْرًا من الملائكة الذين يذهبون نَحْوَكم لجَلْب الأرواح التي تفارِقُ أجسادها، حتى سهَّل الله لي أن حظَوْتُ بابن حلال اسمه الملاك «حنُّوش»، وبعد تعبٍ كُلِّيٍّ اقتنع بأن يأخذ مكتوبي هذا، بالرغم عن شدة المراقبة التي تَقِفُ بوجه كلِّ مَن يريد أن يجعل صلةً بين هذه الدنيا وبين دنياكم، ولا أظن أن أحدًا قبلي أَرْسَل من هذه الدنيا أخبارًا وأنباءً عما يجري كما سأخبرك الآن. كم كنا نتشوَّق إلى عَوْدِ واحدٍ من الدنيا الآخرة حاملًا لنا شيئًا من أخبارها، أو يبعث لنا على الأقل بخبرٍ يُفِيدنا عما فيها، وما يحدث للبشر هناك، حتى يكون الإنسان منَّا على بصيرةٍ مِن أَمْرِه.

وأما الآن فأخوك أبو الأجران قام بهذا الواجب، الذي هو أَهَمُّ عَمَل فيه نفعٌ للبشر، وأرسل هذه الرسالة التي بيَّن فيها كل شيء يُهِمُّ بني الإنسان، فأرجوك أن تَطْبَعها وتنشرها في كل المسكونة، حتى يعلم الجميع حالة هذه الدنيا؛ ليكونوا على بينةٍ من أمرهم ويسيروا على نور.

أَصْغِ يا حبيبَ القلب فنيانوس لما سأَقُصُّه عليك.

في الساعة التي كانت بها روحي تتملَّص من جسدي، وأنت وأم موسى بجانبي تندبان، وتنُوحان، وتعدِّدان، شعُرْتُ حينئذٍ بيَدَيْن قابضتين عَلَيَّ، وبعد أن انفَصَلَت الروح عن الجسد تمامًا رأيت بجانبي مَلاكَين واقفين وهما باللباس الأبيض، أحدهما ذو وجهٍ باشٍّ، والآخر ذو وجهٍ قطوب، ثم حملاني وصَعِدا بيَ الفضاء وسارا كالنسيم، وبعد أن قَطَعَا مسافةً طويلة «طحَّل» أحدهما وقال لرفيقه: «عامهلك يوه احترق مسيننا ونحن مروجين، شو صاير علينا آخدين المسألة مقاطعة، انشا الله عُمْرُو لا يطلع، مانك شامم ريحتو عرق.»

فنظَرْتُ إليه نظرة «ورابية»، وقلْتُ له: ماذا يعنيك من الناس حتى تَمَسَّ إحساساتهم، إن كُنْت «شَرِّيب عرق أو شرِّيب هوا»، فهذا أمرٌ لا يعنيك، أنت عبد مأمور، وليس من شأنك أن تُدِين العالم. فقال له الملاك الذي قُلْتُ لك عنه إنه بشوش: فماذا يُهِمُّنا نحن، سواءٌ صَعِدَتْ منه رائحة العرق أو رائحة الخمر؟! فجاوبه صاحبنا وقال: هل تريد أن تَنْحَرِف معه وتساعده؟ «بدِّي أحرق ديبك عاديبو عاديب الساعة اللي صرنا فيها ملايكة». ورَفَعَ يده وضربه بملء كفه، فقام الثاني وأراد أن يُجَاوِبَه بالمثل، فصَرَخْت أنا: يا ويلاه، يا حالاه! وصِرْت خائفًا أن أسقط من ذلك المكان السحيق، «قرود الله ما بتعود تهدِّيني». فقُلْتُ لهما: اعملا معروفًا لأجل خاطري، حِلَّا هذا المُشْكِل، فمتى وَصَلْنَا اعملا الذي تريدانه، لعنة الله على شرب الخمر، حتى في السماء مكروه. فرَضَخَ الأول لكلامي وسكتنا، ولكنه قال لرفيقه: عندما نصل «يفرجها الله بيني وبينك». عند هذا الحد وقف الخصام وتابَعا السير.

ولما نَظَرْت الملاك الأول لطيفًا بهذا المقدار صاحَبْتُه، وكنت من ذلك الوقت أُحَادِثُه ويحادثني بأمورٍ شتى.

فسألته عما إذا كان مَحَلُّ قصدنا لم يَزَل بعيدًا، فأجاب: إننا سنصل قريبًا إلى محطةٍ نستريح فيها يومًا واحدًا، فقلت له: ماذا تكون هذه المحطة؟ قال: أرض مثل أرضكم إلا أن اسمها «أرض الهناء».

واستأنفْتُ الحديث معه في شئونٍ كثيرة، فلم يُطْلِعْني على شيءٍ منها، وإنما أخبرني عن حالة رفيقه الذي قال عنه إنه كان بزمانه لصًّا، ولما سمع رفيقه كلمة لص، أَوْسَعَه شتيمةً وسبابًا، وما زالت القضية تتجسم بينهما حتى جرَّتهما إلى الملاكمة، وكُنْت أنا بينهما واقعًا في حَيْص بَيْص فصرخت: «بعرضكم يا هو هلق بتوقعوني دخْل الله ودخْلكم، يا فلان يا علَّان.» والمصيبة أني كنت أَجْهَل اسمَيْهما، فبدأت أصرخ وأستغيث: يا شدراخ ويا مدراخ «بيعوناياها بحقها، المسألة موش حارزه». وبعد أن بُحَّ صوتي من فَرْط الصراخ عادا إلى السَّكِينة، ثم سألت صاحبي عن اسمه، قال: اسمي «حنُّوش»، واسم رفيقي «منُّوش». فقلت له: عاشت الأسماء يا حنوش.

وما مضى علينا قليل من الوقت حتى نَظَرْتُ عن بُعْدٍ أرضًا، فقلت: ما هذا يا حنُّوش؟ قال: هذه هي أرض الهناء، وبعد قليلٍ نصل إليها. فصرنا كلما قَرُبْنا منها تنكشف لنا بوضوح، وبعد برهةٍ قصيرة وَجَدْت نفسي واقفًا مع حنوش ومنوش على الأرض، فلما دَخَلْنا وَجَدْتُ مدينة عامرة، فقال حنوش: هذه هي المحطة التي سنمكث فيها يومًا واحدًا، فيمكنك أن تروح وتجيء فيها كيفما شِئْتَ، فلا خوف عليك من أحد، فالدنيا أمانٌ وسلام، وغدًا في مثل هذه الساعة نستأنف المسير إلى الدنيا الآخرة.

فتركتهما يا أخي فنيانوس وتوغَّلْت في المدينة أسرِّح فيها نظري، فلم أَرَ إلا جمالًا مجسَّمًا، شوارع واسعة نظيفة مبلطة، والأشجار على جوانبها، وفي منعطف كل شارع قائمة حديقة صغيرة، وفيها المقاعد للاستراحة، والناس قعودٌ بكل احتشامٍ ووقار، وفي وسط كل حديقة بِرْكةُ ماءٍ لطيفة، ووَجَدْتُ البيوت كلها على طرزٍ واحد وعلوٍّ واحد، لا يزيد البيت عن طابقين، وفي جانب كل بيتٍ حديقة، ورأيت الناس بين رائحٍ وغادٍ، وجوههم كالفضة النقية، يطفح منها البِشْر والسرور، وترتسم عليها سمات الانشراح والطمأنينة، معتدلي القامة، مرتدين بثوبٍ من العافية قشيب، إذا ابتسم أحدهم ظَهَرَتْ أسنانه كاللؤلؤ المنضد، عيونٌ كالبِلَّوْر، والنساء يا فنيانوس «الله يطعم كل محب»، منظرهن يسبح الخالق، جمالٌ متناهٍ خالٍ مِنْ كُلِّ تَصَنُّع، لا خطوط، ولا حمرة، ولا بودرا، ثيابٌ بسيطة بغاية اللطافة والجمال، لا مِشَدَّ يضغط على صَدْر المرأة، ولا أذيال طويلة تكنس الأرض بها، فإذا قُلْتُ لك: «بيتاكلوا من غير ملح صدقني»، وسلامة الطوية وطيبة القلب ظاهرة على وجوه الناس عمومًا، ومن شدة تزاحُم الناس في الأسواق أكَّدْتُ أن هذا اليوم يومُ عيدٍ كبيرٍ عندهم، ومع هذا فلم أَجِدْ من يَمَس أحدًا، ولا من يُعَكِّر صفاء رفيقه، والذي أعجبني أكثر من كل ما رأيته منظر الأطفال والغلمان، فإنهم حقًّا ملائكة، وقد نغَّص عليَّ هذا المنظر عندما افتكرت بإهمال الوالدين عندكم أولادَهم، وتَرْكهم ينامون بالأوساخ ويقومون بالأوساخ، ويأكلون مائة مرة في اليوم، ولا رادعَ يردعهم، فتَسْقَم أجسامُهُم، وتصفرُّ ألوانهم «وتُعَمَّص أعينهم».

أما عن عربات الكهرباء فحدِّث ولا تَخَفْ، تسير بدرجةٍ وُسْطَى من السرعة، من غير ضجيجٍ ولا غوغاء، نظيفة جميلة مُرَتَّبة، وبالإجمال إن القوم بفرحٍ دائم، وسرورٍ متواصل، ولم يَقَعْ نظري مع كل ما رأيته من الخلائق على رجلٍ أعور، أو أقرع، أو أكتع، أو مُشَوَّه الوجه، أو «وسخ»، أو أعرج، أو أصفر اللون، أو سقيم، فالجمال ظاهرٌ في كل شيء، والهنا شاملٌ الجميعَ في هذه الدنيا التي سُمِّيَت بحقٍّ «أرض الهناء».

وفيما أنا سائر انتهيت إلى حديقةٍ جميلة من حدائق هذه المدينة، فدخلت إليها فرأيتها متجملةً بالأزهار والرياحين المتنوعة الأشكال، وشلالات المياه تَصُبُّ في أحواضٍ واسعة نظيفة، سابحة فيها الطيور المتنوعة كالسفن الماخرات، تَتِيه عجبًا بجمالها، وفيها كثير من الملاهي وأدوات الرياضة، وفيما أنا أسرح الطرف بهذا الجمال الفائق الوصف، حانت مني التفاتة إلى رجلٍ مُسِنٍّ جالس على مقعدٍ من مقاعد الحديقة، ذي نظرٍ حادٍّ، وقد وَخَطَ الشيب رأسه، مُهَاب الطلعة، فتفرست به لأتمتع بجمال الإنسان الكامل، فنظر إليَّ الشيخ وكأن في نظره قوة مغناطيسية جذبتني إليه، وتقدمْتُ منه ففاتحني بالحديث وقال: ألست أنت من الآتِينَ من أرض آدم؟ قُلْتُ له: نعم، وقد وَصَلْت اليوم مع ملاكين، وسنستريح مِنْ تَعَبِ السفر يومًا واحدًا، وحَبَّذا لو كانت الفرصة أكثر من ذلك، لِأَشْتَرِك في هذا الهناء الذي أنتم تتمتعون به، ويا ليتني كنت من سكَّان هذه الأرض؛ لأن الذي يَعْرِف أَرْضَنَا ويرى هذه الأرض يحْزَن ويأسف؛ لأنه لم يكن من سكانها.

فأخذني بيدي وأجلسني بجانبه، وقال: يا ولدي إن هذه الدنيا كدنياكم في كل شيء، وكلتاهما بشكلٍ واحد، ولا فرق بين هذه وتلك، إلا أن السكان هنا أرقى من السكان هناك وأقدم منهم بالعمران؛ ولذلك تجد أننا مُرْتَقِين في كل شيء، فلا بد من أن تصل أرضكم يومًا إلى ما وصلنا إليه نحن من التقدم، فنحن لم نَسْبِقْكم بهذا العمران إلا جيلًا واحدًا تقريبًا، فإنه منذ مائة سنة لم تكن حالتنا كما هي الآن من التقدم والعمران والبساطة، فالذي يخاطبك الآن قد ذاق حلوها ومرَّها؛ لأنه نظر بعينه أيام الانقلاب وهو لم يزل في سن الصبوة.

فقلت: من أين لك أيها الشيخ الجليل معرفة حالة أرضنا، حتى قابَلْتَها بحالة هذه الأرض من حيث الارتقاء والعمران؟

فأجاب: مِن الذين يمُرُّون علينا من الأرواح التي كانت في أرضكم، فقد حادثْتُ كثيرًا منهم على اختلاف أجناسهم، وألسنتهم، وبلادهم، فعَلِمْتُ منهم عن حالة أكثر الممالك السياسية والأدبية، فوجدت أن بعضها أوشكت أن تصل إلى ما وصلنا إليه نحن، وبعضها لم تزل كأنها باقية من عهد الخليقة متأخرة لكثرة ما يجري فيها من العسف والظلم، فمن مدة ١٠ سنوات تقريبًا وصل إلى هنا أكثر من نصف مليون روح، وقد عَلِمْتُ منها أنها فارقت أجسادها بسبب القتل والفظائع، وقد نالت من الظلم والجور ما تقشعر منه الأبدان، وفي هذه السنة أيضًا وَصَلَ قسمٌ كبير كلهم يشكون مما شكاه الأولون، وقد طَبَّقَ صراخهم وتَظَلُّمُهم الخافقَيْن، وكلهم يَئِنُّون من جور الحاكم الذي لولاه لكانوا سعداء في كل شيء، فبكاء العذارى والنساء والأطفال منهم قد كان أشد تأثيرًا على عواطفي، حتى كنت أبكي لبكائهم، وأشاركهم ببلواهم. ولم يَنْتَهِ الشيخ من كلامه حتى جَالَ الدمع في عيني؛ لأن الذين يعنيهم هم أولاد بلادي، هم إخواني في الوطنية، هم من البلاد التي قال إنها لم تزل كأنها باقية على حالها من عهد الخليقة بتأخرها وشقائها، وحق ما قال، فنظر إليَّ الشيخ وقال: ما بال أحوالك قد تغيَّرَتْ، والدمع بَلَّلَ وجنتَيك، هل أنت من تلك المملكة المتأخرة؟ فسكتُّ عن الجواب، وأخذْتُ أمسح دموعي لعله يكتفي بهذا الجواب، ويوفر عليَّ حديثًا عن بلادي يؤلمني، تلك البلاد التي طَبَّقَ ذِكْر مَظالمها واختلالها الخافقَيْن حتى وَصَلَ إلى أرض الهناء. صِرْنَا والله نستحي أن ننتمي إليها ولو كنا في غير أرضنا، فأمسكني الشيخ من يدي وأخذ يقول: لا تحزن يا ولدي، فأنا عَلِمْتُ أنك من تلك البلاد، فلا بد من يومٍ ترزُقُكُمْ فيه العناية حُكَّامًا مخلصين، عفيفي النفس، عادلين، ذوي شفقةٍ على الرعية، ينهضون بكم من هذه السقطة؛ لأن قيام البلاد متوقفٌ على أفراد من الحكام، فمتى تَحَوَّلَت القوة إلى يد أهل العدل والإنصاف ضَغَطَتْ على الفساد وأخمدَتْ أنفاسه.

فكل ما تنظره يا ولدي في هذه الأرض من التقدم والحضارة، وما تراه من السعادة والراحة والهناء، عائدٌ فضله إلى أفرادٍ قلائل، اتحدوا مع الملك الأكبر وأخلصوا الخدمة، واتخذوا العدل لهم دليلًا، والمساواة هاديًا، فأنقذوها من وَهْدة التأخر والجهل والانحطاط.

كانت أسباب الانحطاط والتأخر والشقاء كثيرةً في هذه الأرض كما هي عندكم الآن، مثل طمع أرباب الأموال الذين جمعوا أموال العالم في صناديقهم، وبات أكثر العمال هم وعيالهم بحالةٍ من الشقاء لا يُمْكِن وَصْفُها، ومثل انتشار المسكر الذي عمَّ الكبير والصغير، والغني والفقير، حتى هَدَمَ أركان الأجسام، وأفسد العيال، وشوَّه وَجْه الإنسانية، فقلَّ الزواج الشرعي، وكثر الفساد، وضَعُفَ النسل، وكَثُرَت الأمراض المخيفة، ومثل إهمال التعليم الذي هو شَرٌّ مِنْ كل ما سَبَقَ.

ولكن قد أَرْسَلَتْ إلينا العناية أفرادًا قبضوا على القوة ونفذوها بما يعود على هذه الأرض بالخير، فألقوا الأمان أولًا، ثم أوْقَفُوا تيار مطامِع أرباب الأموال عند حدٍّ معلوم، وعضَّدوا العمال الذين قاموا بثوراتٍ كثيرة، وقتلوا بعض أصحاب المال، فخاف هؤلاء على حياتهم فتساهلوا، وأعطوا العمال أكثر مَطالِبهم العادلة، كاقتصارهم على ٨ ساعات عمل في الأربع والعشرين ساعة مع زيادة في المعاش، وقد اتَّفَق على ذلك كل أرباب المعامل في أرْبِعة أقطار هذه الدنيا، حتى لا يَلْحَقَ الضرر مملكةً دون أخرى بالتزاحم، وأجبرت الحكومة العمال على تحسين معيشتهم، فعمَّرت لهم البيوت الصالحة للسكنى، ونظَّمتْ عِيشَتَهم على قَدْر ما تسمح لها الظروف، ثم وضعت ضرائب فادحة على الخمر؛ كي لا يتمكَّن الفقير الجاهل من معاطاتها، وأَنْذَرَتْ أصحاب معامل التقطير بإقفال محلاتهم بعد عشر سنين من تاريخ الإنذار، وأَلْزَمَتْهُم أن يُقَلِّلوا كمية التقطير سنةً بعد سنة، حتى إذا أتت السنة العاشرة يكونون قد سَلِمُوا من الضرر الذي كان واقعًا عليهم لو كانت أُبْطِلَتْ مَعَامِلُهُم بغتة، ولَمَّا نَقَصَ شُرْب المُسْكر ظَهَرَتِ النتيجة الحسنة في صحة السكان، وتَوَفَّر لديهم المال الذي كان يَذْهَب ليجلب لهم الموت العاجل، وصاروا ينفقونه فيما يَعُود عليهم بالنفع.

ثم ساعَدَتْ على إنشاء المدارس، وجَعَلَت التعليم إجباريًّا على طريقةٍ جديدة، فمنعت تدريس الكتب التي لا يفهمها التلميذ ولا يقْبَلُها عقله، ووضعَتْ قاعدة يدرس عليها التلميذ نظريًّا وعمليًّا معًا، وأجبرت الجميع على تَعَلُّم مبادئ الطب قبل كل شيء، فكانوا يأتون ببعض الحيوانات التي تُشَرَّح أمام الطلبة عمومًا؛ لتَتَبَيَّن لهم مواضع الأعضاء الداخلية والأعضاء الرئيسية في الجسم، وكيفية سير الطعام وتحوله إلى دم، وكيفية الدورة الدموية في الجسم، فيَشِبَّ التلميذ عارفًا بكل ما يقتضي لحِفْظ حياته، وصيانة جسمه من الآفات والأمراض، عالمًا بأسرار تركيب ذلك الهيكل الإنساني، الذي يجب عليه مُداراته وعدم إفنائه بالإفراط، ويصبح عارفًا ما سيتأتى مثلًا عن شرب الخمر من المصائب، والأمراض، وانحطاط القوة الأدبية والجسدية، ويدرك الأضرار التي يُنْتِجها الإفراط في التدخين، كالسعال، وضَعْف الهضم، ورخاوة الأعصاب، والتسمم البطيء، ويهرب من البطالة والكسل؛ لعلمه ما تورث جِسْمَه من الضَّعف والخمول، وما تجلبه من الفساد الذي يُقَصِّر العُمرَ … ويعلم أن النوم في المحلات الرطبة يورث الأمراضَ العصبية، ويُضعِف الدم، ويكمد اللون، فيتجنَّبها، ويمتنع عن السهر الطويل المتواصل؛ لأنه يدرك أن النوم يعوِّض كل ما يفقده الجسم من القوة، ويتجنَّب المكوث في المجتمعات مدةً طويلة؛ لأنه يُدْرِك ما يَنْتِج عن ذلك من فساد الهواء وجَلْب عدوى الأمراض، ويعلم بعدئذٍ أضرار العزوبة فيستدرك حالَهُ بالزواج الشرعي، ويعيش عيشةً هنيئةً صالحة، فيَسْلَم من الأمراض القتَّالة، ولا يَغْفُل عن الأضرار التي تتأتى من كثرة ألوان الطعام، وما يزيد منها عن حاجة الجسد من الفضلات التي تُتْعِب الجسم وتُسْقِمه، ويداوم غَسْل جسمه وتبديل ثيابه؛ لئلا يمتلئ سطحه من الجراثيم المُضِرَّة، فتَذْهَب بقوَّته وجماله وبهائه.

وجَعَلَت أيضًا عِلْم الحقوق من جملة الدروس العمومية، حتى تَعُمَّ معرفتُه بين الناس، وليعلم الفرد ما له وما عليه من الحقوق نحو حكومته ونحو الناس ونحو نفسه، وتُجْبِر عمومُ المدارس الطلبةَ على تَعَلُّم الصنائع والفنون كافة، حتى إذا خَرَجَ التلميذ من المدرسة يكون عضوًا عاملًا في الهيئة الاجتماعية لا عالةً عليها.

ومن شروط المدارس عندنا أيضًا ألَّا يَدْرُس التلميذ أكثر من ٤ ساعات في اليوم، وما تبقَّى من الوقت يَصْرِفه في الرياضة المعتدلة، والنزهة، والموسيقى.

أما البنات فتقتصر دروسُهُنَّ على العلوم البسيطة، ويُعتنى بهن على نوعٍ خاص، بتلقينِهِنَّ تربيةَ الأطفال وما يتعلق بصحتهم ونمُوِّهم وترقية عقولهم، وغير ذلك مما يَخْتَصُّ باستحضار الأطعمة على طريقةٍ صحية، ثم الخياطة على أنواعها، وقد قَامَ مَنْ طَلَبَ من الحكومة تعليم المرأة كل العلوم التي يتعلَّمها الرجال كالحقوق، والمحاماة، ومَسْك الدفاتر، والمتاجَرة، وغيرها من الأعمال التي لا تليق إلا بالرجل، فبعد البحث والتروِّي رُفِضَ هذا الطلب؛ لأن المرأة لها وظيفةٌ طبيعية لا يُمْكِنها أن تتحمَّل غيرها، كالحبل والولادة والرضاعة وتربية البنين وسياسة العائلة، وقد تكفيها هذه الأتعاب وَحْدها، فلا يجب أن نُضِيف عليها أعمالًا خُلِقَتْ للرجل وحْدَه ولو كانت المرأة تتمكَّن مِنْ عَمَلِها.

ولهذا ارْتَقَتْ حالتُنا من كل الوجوه، والفضل في ذلك عائدٌ إلى الحكومة الملكية الدستورية، فقلَّت الجرائم، وتحسَّنت الصحة العمومية، وخفَّت وطأة الأمراض، ونقصت الوَفَيَات كثيرًا؛ لأن المُثْرِي وغير المُثْري يعيشان عيشة صحية بسيطة بدون عناءٍ ولا تعب، وقد أصبح أكثر الناس يعرفون أسباب الأمراض فيتجنَّبونها؛ ولذلك قلَّ عدد الأطباء الرسميين؛ لأن الجميع أصبحوا شِبْهَ أطباء، وقَلَّ استعمال العقاقير الطبية؛ لأن طُرُق الوقاية أصبحت معروفة من العموم، فالذي يُصاب بمرض يلتجئ إلى الطبيعة، فيتنشق الهواء النقي، ويشرب الماء القراح الطاهر، ويُكْثِر مِنْ أَكْل الفواكه والنباتات المقوية المنعشة، ويمتع نَظَرَه بجمال الطبيعة، ويُرِيح عقْلَه وجَسَدَه من المتاعب.

وفضلًا عن ذلك فقد ارْتَقَت عقولنا وسَمَتْ مَدارِكُنا إلى حَدِّ أنْ أصبح الإنسان منَّا يعلم ما في أفكار غيره تقريبًا، فكَثُرَت الاختراعات والاكتشافات المفيدة لنوع الإنسان، ومع كل ذلك فالبساطة سائدة في كل أعمالنا، وسلامة النية شاملة عموم الناس من كافة الطبقات.

ومع كل هذا فقد سَنَّت الحكومة قانونًا للزواج بغاية الصرامة، فإذا دَخَلَ الشاب في سِنِّ الثلاثين وهو بصحةٍ تامة ولم يتزوج، يُجازَى كأنه جَانٍ؛ لأن الشاب إذا طالت مُدَّة عزوبَتِه أصبح ضارًّا بالهيئة الاجتماعية من حيث الآداب العمومية، ومن حيث النظام الطبيعي، فوجوده على هذه الحالة خَطَرٌ على العفاف؛ ولذلك استُعْمِلَ الضغط على حُرِّيَّته الشخصية المُعْتَبَرة في كل شيءٍ عندنا.

فالحكومة يا بني عندنا كالأم الحنونة، لا تَغْفُل عن كل ما يعود علينا بالنفع، فهي تجمع الأموال منَّا بالقسط، وتصرفها بكل دقة، وتُبَيِّن للشعب في آخر كُلِّ حَوْل مداخيلَها ومصاريفَها، فلا يَقَعُ حَيْفٌ على أحد. وقد خَفَّفَت الضرائب على بعض النباتات والأثمار النافعة؛ لكي يَكْثُر زَرْعُها وترخص أثمانها؛ حتى يَسْهُل على الفقير الانتفاع بها والتلذذ بأكلها، فأصبحنا بعد هذا في هناءٍ وراحةٍ دائمَيْن، وطالت أعمارُنا، حتى صار أكثَرُنا يُعَمِّرون فوق المائة عام. كل هذا عائد — كما سَبَقَ القول — إلى إخلاص القابضين على زمام الأحكام، وشَفَقتِهم وحُسْن عنايتهم بالهيئة المحكومة، فالويل للأمة التي حُكَّامها بعيدون عن شَرَف النفس وعِفَّتها، والشفقة والإنصاف والعلم والمعرفة.

فلما سَمِعْتُ هذه الأقوال، ونَظَرْت بعيني هذه الدنيا الجميلة، صارت نفسي حزينة حتى الموت؛ لأنني افتكرت بحالة أرضنا، وعلى الخصوص بلادنا وظُلْم حُكَّامها، الذين هم أعداء الرعية الألِدَّاء، لا، بل هم أشبه بالذئاب الكاسرة، يفترسون الخِرَاف الأليفة، ويمتصُّون دماءها، حتى أصبح الشقاء مُخَيِّمًا على ربوعنا، فالبلاد التي كانت منذ خمس سنوات رازحة تحت سلطة الجهالة والظلم — كالسودان المصري في وسط أفريقيا — أصبحت الآن بفضل الحكَّام أَرْقَى من بلادنا في كل شيء، فمتى كان الحاكم عادلًا محبًّا للرعية، لا يقف في طريقه تَعَصُّب الأديان، ولا اختلاف المذاهب، ولا تبايُن المعتقدات، ولا جهْل الشعب، فالحاكم العادل يُوقِف كلًّا عند حده، فيُجْري القانونَ على الجميع.

وفيما أنا أتفكَّر بهذه الأمور، وأقابل حالَتَنا بحالة هذه الأرض، تنبَّهتُ إلى أن الوقت قد أَزِفَ، فنهضتُ وأَخَذْتُ يَدَ الشيخ وقَبَّلْتُها، ثم شكرْتُه كثيرًا على مؤانسته، وودَّعته، وذهَبْتُ إلى المكان المعَيَّن؛ لأن وَقْت السفر قد قَرُبَ، وبعد أن مشيت مسافةً طويلة تنبَّهت لأمرٍ هامٍّ، هو أنني لم أسأل الشيخ عن ديانات هذه الأرض، ولا هو أتى على ذِكْر شيءٍ منها، فتمنَّيت لو كان بالإمكان العودة إليه لأسأله عن هذا الأمر. ولكن ما الحيلة، فقد آنَ الرحيل إلى عالم البقاء، وهناك البكاء وصرير الأسنان. وَصَلْتُ إلى المكان المعين، ولم أجد حنوش ولا منوش، فقلت: لعلهما استبطآني وذَهَبَا يفتشان عليَّ، أو تركاني وسافرا، فصِرْت أتمنى أن تَصِحَّ الأخيرة؛ لكي أعيش في هذه الأرض ثانيًا، وأتمتع بجمالها، وأستريح بِعَدْلها وعزها وكمالها.

وفيما أنا أفتكر إذ أَقْبَلَ عليَّ حنوش وعلى وجهه علائم الغضب والكدر، وفيه تخَدُّشٌ طفيف، وحالَتُهُ «بالويل»، فقُلْتُ له: ما بالُك يا حَنُّوش على هذه الحالة، قد أشغَلْتَ بالي؟ قال: لا أَشْغَلَ اللهُ لك بالًا، فإن المسألة بيني وبين رفيقي منُّوش، فهذا النحس بَقِيَ غاضبًا عليَّ منذ الساعة التي تخاصمنا فيها ونحن في الطريق، ولما وَصَلْنا عاد إلى التحرش بي، فانتهت المسألة بالملاكمة، وقد تَرَكْتُه الآن وهو منهوك القوى من كثرة ما في قلبه من الحقد والكَيْد، لا يقوى على متابَعة السير، فالتزمنا أن نبقى إلى الغد، ففَرِحتُ لهذه الصدفة، وشكَرْتُ منوش الذي كان السبب لهذا التأخر.

ولكنني عَجِبْتُ، كيف أنه يوجد في عالم البقاء أناسٌ كمنوش ذوي طباعٍ رديئة، بعد أن يتركوا المادة! وهل يُسْمَح لهم أن يتصرَّفوا بهذه الطباع الشَّرِسة مع الناس؟ فسألت حنوش عن ذلك، فأجاب: إن طباع السوء لا تتغير، فالذي كان سيئًا في العالَم يبقى سيئًا هنا، والنفوس الساقطة ساقطة في كل مكان، والنفوس الشريفة شريفة في عالَم المادة وفي عالم الأرواح، فنفْس بونابرت، ونفْس لاون الثالث عشر، ونفْس بستور مكتشف أسباب الأمراض في العالم، وغيرهم من أقرانهم، تلك النفوس المدركة السامية هل تَظُنُّ يعتريها تغيُّرٌ في عالَم البقاء؟ إنها ممتازة على ما سواها من النفوس، كبيرة وعظيمة كما كانت على الأرض مع المادة، فصغير النفس وقليل المعرفة، والخامل والذي لا تشعر نفسه بلذة الوجود، ولا تتفلسف في موجودات العالم، ولا تتلذَّذ بمناظر نباته وجباله وبِحَاره وحيواناته، ولا تُسَبِّح الخالق المبدع؛ تبقى كذلك في دنيا البقاء. فالنفوس الكبيرة الشاعرة التي كانت تتَّحِد مع السماويات هي وحدها التي تتلذَّذ بعالم الخلود، ومن حالة رفيقي حنوش التعيسة تتحقق ذلك، فإنه كان على الأرض لصًّا شَرِسًا، لا يعرف من الدنيا إلا إملاء بطنه، ولا يهتم لغيره، ولا يتوجَّع لمصائب الناس، ولا يُشْفِق على مظلوم، ولا يرحم مستجيرًا، ولا يعزي حزينًا، أَمَا سمعْتَ القول الحقيقي: «كما في السماء كذلك على الأرض.» فقلت له: إن ما قُلْتَه حقٌّ يا صاحبي حنوش. ثم استأذنْتُه بالعودة إلى المدينة مرةً ثانية؛ لأن ميعاد السفر قد تأجَّل للغد، وذهبْتُ إلى المحل الذي الْتَقَيْت فيه بالشيخ لأسأله عن ديانات هذه الأرض، وكيفية سير الناس من هذا القبيل.

وقبل أن أصل إلى الحديقة وَجَدْتُه خارجًا من بابها، وهو يَثِبُ وثبًا كأنه شابٌّ في الثلاثين من عُمِره، معتدل القامة، خفيف الحركة، فلما قَرُبْتُ منه سَحَرني ببشاشته ولُطْفِه، ثم ظَهَرَتْ على وجهه علائم الاستغراب ببقائي أكْثَرَ من يومٍ في عالم الهناء، وقبل أن يسألني عن سَبَبِ بقائي حكيتُ له حكايتي مع المَلاكَيْن، ثم أعادني إلى الحديقة فجَلَسْتُ بجانبه، وقلت له: يا سيدي قد سَهَا عني أن أسألك عن أمرٍ هو من الأهمية عندي بمكان، وقد شكَرْتُ الله على وقوع الخلاف بين المَلاكَيْن حتى أُتِيحَ لي أن أعود ثانيًا وأسألك عن هذا الأمر. فقال: لك ما تريد. فقلت: ما هو دِين هذه الأرض؟ وكيف فِعْلُه في الناس؟ فهل هو كما في أرضنا؟

فقال: قد قُلْتُ لك يا ولدي قبل الآن إن حالتَنَا كحالَتِكُم من كل الوجوه، إنْ كان في الدِّين، أو في السياسة، أو في غير ذلك، ولكنَّ ارتقاءَ عقولنا وارتفاعَهَا عن الأمور الصغيرة غير الجوهرية جعلانا أن يُبْقِي كلٌّ منا اعتقاده في قلبه، فاختلاف الناس بالمعتقَد كثير في هذه الأرض كما هو عندكم، ولكن لا يتَعَرَّض أحدٌ لمذهب الآخر، فالكل يعتقدون بخلود النفس، ويؤمنون بخالقٍ قديرٍ حليمٍ عادل رحومٍ شفوق، لا ينتقم من الخلائق عن الهفوات الصغيرة.

وقد أخَذَتْ شعوبُ هذه الأرض دَوْرَها من الشقاق والانقسام بما يختص بالأديان، عندما كان الجهل مخَيِّمًا على ربوعنا، أما اليومَ فقد حلَّت المعرفة مَحَلَّ الجهل، وارتفع الشقاق والخصام، فرجال الدين اليومَ كثيرون، وربما أنهم يزيدون عن الذين عندكم، ولكنهم لا يعيشون كعيشتهم عندكم من الوظيفة الدينية، فقد تطوَّعوا بالخدمة الروحية حبًّا بالغاية المقدسة فقط، وعلى رجاء سعادة نفوسهم في الآخرة، فهم يخدمون مبادئهم بدون مقابل؛ لأن الذي يُؤخذ مجانًا يُعطى مجانًا، فتراهم فوق قيامهم بخدمة النفوس — التي من الطبع لا تستَغْرِق إلا القليل من وقتهم — يشتغلون مثل بقية الناس بالصنائع، والفنون، والمتاجَرة، والتأليف، وتثقيف العقول، والوعظ والإرشاد، وبث روح الشفقة، تابعين الوصية القائلة: بعَرَقِ جبينك تأكل خبزك.

هذه يا بني حالتنا الدينية، وقد يمضي عليَّ وقتٌ طويل لا أَتَبَاحَثُ فيه مع أحد، ولا أجادل أحدًا في هذه المسائل، ولكني كنت إذا رأيت أحدًا يهزأ بالرُّوحِيَّات، ويُنْكِر وجود الخالق، أتأثَّر وأُعْمِل الجهد في إقناعه؛ لأن حياة الجحود — أي الحياة المادية وحدها — هي حياة خشنة قاسية، لا تعرف الشفقة والحب ولا تشعر براحة داخلية.

فقلت له: صَدَقْتَ أيها الشيخ المهاب، فإني حينما كنت حيًّا في أرضنا كنت أنظر بعض النساء المتقدِّمات في السن يذْهَبْن إلى المعابد وبأيديهن الشموع، وقلبهن مُفْعَم بالأمانة، فأحسدهن على حياتهن الروحية، وأقول: هنيئًا للمؤمن الذي يرجو السعادة، فإن قَلْبَه كله محبة.

ولما بَلَغْنَا إلى هذا الحد من الكلام كانت الشمس قد مالَتْ إلى الغروب، فقال لي الشيخ: بما أنك ستبقى في هذه الأرض إلى الغد، فاذهب معي هذه الليلة إلى بيتي، فتأكل العشاء معي وتنام. فلم أمانِعْ وسِرْتُ معه في طريقٍ كلها مخازن ودكاكين ملآنة بالبضائع المتنوعة، مُرَتَّبة مهندمة نظيفة، والقائمون بإدارتها أنقياء باسمون، على مُحَيَّاهم لوائحُ الأمانة والاجتهاد في العمل، والنصاحة في الخدمة، وكان قد ابتدأ بعضهم بقفل أبواب المخازن، فسألت الشيخ عن سبب قفل المخازن في مثل تلك الساعة، فقال: إن كل الأعمال والأشغال عندنا هي في النهار، أما الليل فهو للراحة؛ ولذلك كل الناس تَقِفُ عن العمل عند الغروب، ولا يبقى إلا بعض المحال العمومية؛ ليذهب الناس إليها للنزهة والرياضة والاستفادة، وتمضية قسمٍ من الليل ليستعيضوا بعض ما فقدوه من القوة في عمل النهار.

وبعد بُرْهَة وصلنا إلى بيتٍ بسيط للغاية، جميل الهندسة، فقال: هذا هو بيتي. فلما قربنا من الباب الخارجي سمعت أصوات الفتيان والفتيات من الداخل يقولون: ها قد أتى الجد. وأقبلوا عليه، فتعلَّق بعضهم بأثوابه، والبعض الآخر أخذوا يَثِبُون عليه ويُقَبِّلون يدَيه، وهو يُنْهِض الصغيرَ منهم ويُقَبِّله، فوصلنا إلى داخل الدار بهذا الموكب الذي يفوق موكب الملوك والسلاطين مَجْدًا وبهاءً؛ لأن أصوات الأولاد كانت أطْرَبَ من الألحان، وأشد وقعًا في النفس؛ وحينئذٍ فَكَّرْتُ بالحالة التي قضيتُها في أرضنا «كالمسمار الأقطش» وحيدًا، لا امرأةً تشاطرني الأتعاب، ولا أولاد أتلذَّذ بهم، الآن أدركْتُ لذة البنين، الآن عَلِمْتُ أن لا سعادة إلا سعادة العائلة، ولكن ماذا يفيد الآن وقد «عدى السبت في مخ اليهودي»، ولا ينفع الندم على ما فات.

ولما صِرْنَا ضمن الدار ونحن على الحالة المتقدِّم ذِكْرُها، أقبل البعض من أهل البيت، وقَبَّلُوا يد الشيخ، ثم عرَّفهم بي، وقال: إن هذه الروح هي روح أحد سكان أرض المرحوم آدم، وقد أَسْعَدَهُ الحظ بأن يبقى هنا أكثرَ من يوم، وغَدًا يستأنف المسير إلى العلى. فرحَّبُوا بي كثيرًا ثم جَلَسْنَا، وبعد قليلٍ دَخَلَ علينا رجل، وبعد أن ألقى السلام قبَّل يد الشيخ وجلس، فقال لي الشيخ: هذا أحد أولادي، وستراهم الآن جميعًا، فإنهم يأتون من أشغالهم، وسترى أيضًا أولاد أولادي، وهم الآن شبَّان كبار، وهؤلاء الأطفال الذين تجدهم أمامك هم أولاد أولاد أولادي، فقلت له: «الله يجبرك بهم ويمتعك برؤية أحفاد أحفادك.»

وفيما نحن بالحديث إذ دخل رجلٌ وعلى منكبَيْه مجرفة وبيده فراعة، ثم دخل رجلٌ آخر لابس لباسًا كلباس الكهنة، ثم تبعه ثالث وعلى وجهه غبار من الفحم، فأقبلوا جميعًا على يد الشيخ وقَبَّلُوها، وبعد ذلك دخلوا الدار وهم بالحالة التي ذَكَرْتُها، وبعد برهة دَقَّت الساعة السادسة، فقال لي الشيخ: قم إلى العشاء. فقُمْتُ ودخلنا إلى فسحةٍ جميلة مزَيَّنة الجدران بالرسوم المُفْرِحة التي تَسُرُّ النفس وتَشْرَحُ الخاطر، وفي وسطها مائدة طويلة تسع أكثر من عشرين شخصًا، مغطَّاة بغطاءٍ أبيض ناصع كالثلج، وعليها باقات من الزهور البديعة الألوان، والصحون موضوعة على دائرتها، وبجانبها الملاعق والسكاكين والشوكات، وهي تلمع كالبلور، نظيفة كالثلج، فجلس الشيخ إلى رأس المائدة وأجْلَسَني بجانبه، ثم أتى الرجال والنساء والأولاد الكبار وأخذ كلٌّ مَرْكَزَه، وبعد ذلك أُحْضِر الطعام، وأخذ كلٌّ منهم حاجته، وابتدَأَتْ تلك الأفواه الجميلة تُفْتَح وتُطْبَق، ودارت حركة الأكل بهدوءٍ وشهية، ثم بعد برهة أُتِيَ بشكلٍ آخر، وأُدِيرَ على العموم، فالتَفَتَ إليَّ الشيخ وقال: كيف رأيت طعامنا؟ أَمَا هو لذيذ؟ قلت له: إنه لذيذ جدًّا، وعلى فَرْض أنه لم يكن لذيذًا، فبهذا الاجتماع وبهذا المنظر الذي يُسَبِّح الخالق يصير لذيذًا. قال: كُلْ ولا تَسْتَحِ؛ لأنه لا يوجد غير هذين الصنفين من الطعام، فإن العادة القديمة التي كنا نُكْثِر فيها ألوان الطعام قد بَطَلَتْ؛ نظرًا للأضرار التي تتأتى عنها، فصرنا نقتصر على شكلٍ واحد أو شكْلَيْن في اليوم، والمأكولات عندنا حيوانية ونباتية، ولكننا نُكْثِر من الثانية لأنها ألذ وأفيد.

فقلت بنفسي: لو علموا حقيقة ما نحن عليه من الشراهة في أكْلِنا وشُرْبِنا، لَكانوا يعجبون لبقائنا أحياء، فكم نشرب من العرق قبل الأكل ومن النبيذ معه، كم نطبخ من الألوان التي لا تُهْضَم إلا بعد شِقِّ النفس، يكفينا الكبة والمحشي، هذا فضلًا عن الحلويات والسيكارات وراء الأكل، ثم القهوة والشاي، بقطع النظر عن الأركيلة وتوابعها.

حقًّا إننا في ضلال، إننا في ظلمةٍ من الجهل، نقصف أعمارنا بأيدينا من كثرة ما «نُدهور» في ذلك الزلعوم من المأكولات في وقت الطعام وفي غير وقته، سائرين على المثل المعهود: «تضر ولا تفوت.»

وفيما أنا أفَكِّر بهذا كنت أسمع النكات اللطيفة تصدر من البعض، والضحك يخرج من الأفواه قهقهةً مطربة، تدل على انبساطٍ وانشراحٍ وعافية.

فالتَفَتَ إليَّ الشيخ وقال: ما لك شديد الفكرة؟ قلت: أفكر بحالتنا في دنيانا، وحالتكم من حيث المشروبات الروحية، واقتصاركم على الماء. فأعاد علي الحديث الأول وقال: إننا كنا مثلكم من هذا القبيل، ولكن ارتقاء عقولنا ومعرفَتنا التامة بما يضر وينفع، جعلَانا ننبذ كل هذه الأمور القتَّالة ظِهْريًّا، ونتمسَّك بكل مفيد، ناظرين إليه نظرة حكمية حيث لا تقوى علينا مَلَكة من المَلَكات، فلا بد يا ولدي من أن يأتي يوم يصير فيه سكان أرضكم مثلنا، فإن الارتقاء زاحفٌ كالجيوش الجرَّارة، وسيدوس بأرجله كلَّ معانِد، وأخيرًا يسود التأخر ويُلاشيه من أرضكم، وإذا وجد من يُصادِمُه الآن فهذا سيُسْحَق ويضمحل من أمامه.

وقبل أن ننهض عن المائدة أحضَروا كمية وافرة من الفاكهة المتنوعة الأشكال والألوان، من تفاحٍ وخوخ وعنب وتين ومشمش، وغير ذلك من الفاكهة التي يأكلها الإنسان بعينَيْه قبل فمه، ثم ابتدءوا يلتهمونها التهامًا، فقال الشيخ: كُلْ يا ولدي وإلا «راحت عليك»، فنحن نتَشارَهُ فقط في أكل الفاكهة، فإنها هي التي تنعش القلب، وهي التي تبلُّ الريق وتشرح الصدر وتُنَقِّي الدم.

وبعد أن انتهينا نَهَضَ الشيخ ونهض الجميع، ثم رفعوا أياديهم ورنموا هذه الترنيمة:

نشكرك اللهم يا واجد الوجود، ومُبْدِع الكائنات؛ لأنك أشبعتنا من خيراتك، ونسألك أن تُشْبِع كلَّ جائع، وتعطي كل محتاج؛ كي لا يَدْفَعَ الجوعُ أحدًا إلى الكفر بعزتك الإلهية، واجعلنا أن يُحِبَّ بعضُنا بعضًا محبةً أكيدة، وامنح أجسادنا قوة، وعقولنا رفعة؛ لنقترب منك ونُسَبِّحك تسبحةً لا يدخلها رياء، ولا يمازجها غش.

بعد ذلك ذهب الكل وغسلوا أفواههم، ورجعوا إلى القاعة التي كنا فيها، حيث اجتمع كل أفراد العائلة؛ رجال ونساء، وأولاد وبنات.

قال لي الشيخ: يجب أن أُعَرِّفك بأولادي وجميع أهل البيت. فقلت له: لي الشرف الأكبر يا سيدي. فأشار إلى أحد الجلوس وقال: هذا ولدي البكر، ومهنته الزراعة، وهو الذي نَظَرْتَه داخلًا قبل العَشاء والفأس بيده، وهو الآن جالسٌ كالملك؛ لأنه بَدَّلَ ثياب الزارع بثياب الراحة، وهذا ولده الذي بجانبه يشتغل معه في الحقل، انظر إلى وجهه الذي أَكْسَبَتْه الشمس لونًا جميلًا، ومنحته قوةً ونشاطًا. وهذا الآخر ولدي، وهو كاهن، ولكنه يشتغل بالتأليف وتثقيف العقول، ويعيش من تعبه، وقد تطوَّع بخدمة النفوس مجانًا، فهو يزور المرضى، ويُسَلِّي الحزانى، ويسعى في حل المشاكل، وهو متزوج وله أربعة بنين ها هم بجانبه، ثم أشار إلى ثالث وقال: هذا مصوِّرٌ بارع، وهذه الرسوم التي تراها الآن على جدران هذه القاعة هي من عمله، وأولادي كلهم أصحاب صنائع، وعندي حفيد طبيب متغيِّب الآن في بلدةٍ قريبة من هذه المدينة، أما البنات والنساء اللواتي تراهن أمامك فهن قرائن وبنات أولادي.

فهذه هي العائلة يا ولدي، الرجال تقضي مُعْظَمَ النهار بالعمل باعتدال، ولا فَرْقَ عندنا بين الزارع والصانع والتاجر والحاكم، وبين الطبيب والحائك، الكل شرفاء، ولا يوجد حقير ذليل إلا الكسلان الخامل القليل العمل، فهذا — والحمد لله — أصبح وجوده قليلًا بيننا، ونساؤنا يقتصرن بأشغالهن على ما يتعلق بالبيت، ولا يتداخَلْنَ بأعمال الرجال، ولا يتَعَدَّيْن الحدود التي وضَعَتْهَا لهن الطبيعة.

وبعد قليل نَهَضَ أحد أولاده واستأذن وخرج، ثم تبعه آخَر وخرج، ولم يَمْضِ إلا القليل حتى خرج أكثر أعضاء العائلة من رجالٍ ونساء، ولم يَبْقَ في البيت إلا أنا والشيخ وبعض الأفراد.

فسألت الشيخ عن سَبَبِ ذهاب أكثر الحضور، فقال: إن منهم مَنْ يذهب إلى الجمعيات العلمية حيث يَتَلَقَّنُون العلوم والمعرفة والفنون، ومنهم مَن يذهب إلى استماع العِظَات الدينية، ومنهم مَن يذهب لزيارة خطيباتهم، ومنهم مَن يذهب لرصد الفَلَك والاستفادة من ذلك العلم الشريف المطرب، ومنهم مَن يذهب للنزهة ليخفِّفوا عنهم أتعاب النهار، ويُكسِبوا أجسادهم قوةً وانتعاشًا بتنشُّقهم الهواءَ النقي، ومنهم مَن يذهب للرياضة الجسدية التي تُقَوِّي العضلات وتشد المفاصل، وقبل مضي ساعتين من الوقت تجد الجميع هنا، الكل ينامون باكرًا؛ لكي يتمكَّنوا من النهوض باكرًا، ويذهب كلٌّ منهم إلى أشغاله. فقلت له: حقًّا إنكم سعداء بكل شيء، وإن أرضكم هي أرض الهناء بلا مراجعة، تُرَى هل يُرتجى لأرضنا التي يُسَمِّيها بعضهم أرْضَ الشقاء أن تصير يومًا كأرضكم، ويصير سُكانها يعرفون واجباتهم نحو نفوسهم، ونحو قريبهم، ثم نحو خالِقهم، كما أنتم الآن تعرفونها بالفعل لا بالقول؟!

قال: هذا لا بد منه يا ولدي، فسيأتي يومٌ تُصْبِح فيه تلك الأرض سعيدةً تبعًا لسُنَّة الارتقاء، وقد ابتدأ أن يظهر ذلك فيها كما عَلِمْتُ من القادمين منها، وإذا كان يوجد — حتى الآن — قسمٌ منها لم يَزَلْ منحطًّا كبلاد آسيا وأفريقيا مثلًا، فستُرْزَق مَنْ يقوِّم اعوجاجها، ويضبط شئونها، فلا تستَبْعِدْ شيئًا يا ولدي، فالانقلاب يأتي بغتة. قلْتُ: من فمك «لدينة ربنا» أيها الشيخ الوقور.

ثم تناول الشيخ مجلة من على الطاولة الموضوعة في وسط القاعة وأَخَذ يُطالِع، وما كان أشد استغرابي عندما رأيته يطالِع مع كِبَر سنه بدون نظارات، ولما فرغ من المطالعة قلت له: إن قسمًا كبيرًا من سكان أرضنا — وخصوصًا أهل النشأة الجديدة — لا يمر عليهم وقتٌ طويل إلا ويضعون على أعينهم النظارات، إما لقِصَرٍ في النظر؛ أو لتسطُّحٍ في القرنية، وكثيرون الذين لا يستطيعون أن يقرءوا كلمةً بدون نظارة.

فقال: هذا يا ولدي من كثرة المطالَعة، وقد حصل ذلك في أرضنا من قبل، فقد كانوا يُدَرِّسون التلميذ ليلًا ونهارًا حتى يخرج من المدرسة شغِفًا بمطالَعة القصص الغرامية، والحكايات الخيالية التي لا تفيد شيئًا إلا ضياع الوقت، وضَعْف النظر، فضلًا عن أنها تُهَيِّج في الشبان عاطفةً بغير أوانها، وقد كَثُرَت الجرائد التي صدرت في أول النهضة؛ لأن كل مَن له أدنى إلمام بالكتابة أنشأ جريدة، أو أصدر مجلة، أو ألَّف قصة في حُبِّ سَعْد لسُعْدَا، أو غرام حنَّا بحِنَّة، ولَمَّا تَفاقَم الخَطْب، وصار أكثر الشبان ينظرون إلى هذا الكون البهي ذي الجمال العجيب بعيونٍ من زجاج، أوْقَفَت الحكومة أكثر الجرائد التي لا تفيد، ونشَّطت الجرائد الصادقة المهمة، وعزَّزت المجلات والمؤلَّفات العلمية، وأبْقَتْ على بعض الجرائد الفكاهية تسليةً لخواطر السكان، فخَفَّ بذلك الضرر، وصار الشعب لا يطالِع إلا الحقائق المجرَّدة التي يستفيد منها حقيقةً، ونبذ كل الكتب والجرائد التي ليس في مادتها غذاءٌ للعقل فماتت، والآن تجد أن المطالَعة أصبحت أقلَّ من قبل، ولكنها تفيد أكثر؛ لأن كل كلمة تُكْتَب الآن — إن كان من قبيل العلم أم الأدب أم الفكاهة أم السياسة — هي خلاصة الحقائق، ولم يَبْقَ في ميدان الإنشاء إلا مَنْ نَبَغَ فيه، وشهد له الجميع بالمقدرة العلمية والأدبية؛ ولهذا تَعزَّز هذا المركز كثيرًا. هذا هو التغير الإصلاحي الذي جعل الإنسان منَّا أن يستفيد من المطالَعة القليلة، ويريح عينَيه ويُبْعِد عنهما العِلَل وقِصَر النظر.

وأمامك الآن جريدة واحدة يومية ومجلة، فنطالع في الأولى أَصْدَق الأخبار عن أبعد أقطار هذه الكرة، ونطالع في الثانية أهم الاكتشافات العلمية، وبعض فصول في الأدب والفَلَك والصناعة والهندسة والطب وعلم الطبيعيات والفلسفة.

وفي أثناء حديثي مع الشيخ كنْتُ أرى النساء يطالِعْن بعض المقالات الفكاهية ويَضْحَكْن، فعجبت من اتفاق الكَنَّة مع الحماة وجلوسهن معًا في سرورٍ وانبساط؛ لأنني كنت أرى في بلادنا عداوة الكنة مع الحماة كعداوة القط والفأر، فاقترَبْتُ من الشيخ وأسرَرْتُ إليه كي لا تسمع السيدات قائلًا: هل لك أن تفيدني عن الأسباب التي جعلت الكنة أن تَتَّفِقَ مع حماتها، فإني أرى الآن في هؤلاء السيدات غير ما كنت أراه في أرضنا. فضحك الشيخ وقال: كان زمان ومضى، فإن ما تراه الآن من الاتفاق بين الكنة وحماتها هو أَوَّلًا من حِكْمة الرجل، ومقدرته على إدارة شئون عائلته، وثانيًا من انتشار الأدب ومعرفة كل منهن واجباتها، فمتى كان الرجل رجلًا في بيته بكل زبدة الكلمة، سار كل شيءٍ على نظامٍ تام، فالعداوة التي كانت تقع بين الكَنَّة وحماتها لم تكن إلا على أمورٍ تافهة، وكلها ناتجة عن اختلافٍ في الأذواق والطباع، وعن الجهل الذي كان متسلطًا على المرأة، أما الآن فقد زال كل هذا، وحَلَّ محلَّه الوفْق، وسلطة الرجل في البيت هي من أهم دعائم راحته وسعادته، اللهم السلطة المقرونة بالحب والاعتدال.

ثم سألني الشيخ عما إذا كنت أريد أن أنام، فأجبته بنعم؛ لأنني تَعِبٌ من مشاقِّ السفر، فأدخلني إلى غرفةٍ ضمن الدار لم يكن فيها إلا سريرٌ بسيط لطيف، مغطًّى بالأغطية البيضاء النظيفة، وكرسي واحد، وطاولة عليها إبريق من الماء، وحنفيتان خارجتان من جدار الحائط، يصبَّان الماء عند اللزوم في حوضٍ للاستحمام، وبجانبهما مرآة وفرشاة ومشط، وفي الغرفة أربع نوافذ، وفي أعلاها نوافذ صغيرة تُفْتَح عند اللزوم لتجديد الهواء في الليل، وقال الشيخ: مثل هذه كل غرف النوم عندنا، خالية من كل أثاث، ومع اتساعها لا ينام فيها أكثر من اثنين أو ثلاثة على الكثير، وطول النهار تُفْتَح النوافذ ليتجدَّد فيها الهواء وتدخلها الشمس فتطهر، فهذه حالة كل السكان هنا من فقراء وأغنياء، وكلهم يراعون — قبل كل شيءٍ — القواعدَ الصحية على قدرِ ما تسمح حالة كلٍّ منهم، فالفقير الجاهل عندنا بعد أن كان في سالف الزمن ينام على الحضيض هو وأولاده، وينفق أكثر مدخوله على المسكر والتدخين، وعلى أمورٍ تضره، أصبح الآن — بعد أن أدرك ما هي الحياة الحقيقة — في نعيمٍ تام، يؤثِّث بيتَه، ويُعِدُّ فيه وسائل الراحة من دريهماتٍ قليلة، يجمعها من اقتصاده، ولا أظن أن في الكون أحدًا يُدْرِك ما هي الحياة، ويعجز عن تنظيف مسكنه وترتيبه على طريقةٍ بسيطة، فإذا لم يكن من الحرير يكون من الصوف، وإذا لم يكن من هذا فيكون من القطن والكتان، فالاعتماد على النظافة والترتيب والذوق، لا على قيمة المفروشات والملبوسات.

ثم تركني الشيخ بعد أن أشار عليَّ بغسل وجهي وأسناني قبل النوم، حتى لا تنام معي الجراثيم المرَضية، التي تتجمَّع في بحر النهار على وجهي ويدَيَّ من المعامَلة ومصافَحة الناس، وقال: إن أفضل الغسيل ما كان قبل النوم. وقفل باب الغرفة وذهب.

فبعد أن نَزَعْتُ ثيابي الخارجية، وغسَلْتُ وجهي كما قال الشيخ، استلقيت على السرير، وبعد قليلٍ من الوقت نِمْتُ نومًا هنيئًا لم أذُقْه في كل حياتي الماضية، لا برغوث يقلقني، ولا بَقَّ يمتص دمي، ولا بَعُوضَ يحرمني راحتي ويأتي بالأدواء، «ولا قع ولا مع»؛ لأن الأولاد — على ما ظهر لي في هذه الأرض — لا يعرفون البكاء على الإطلاق، ولا قنديل من الغاز يملأ الغرفةَ رائحةً كريهةً مميتة، ولا روائح «عطنة»، ولا شيء من كل هذه، ولا جيران يتخاصمون.

وفي الصباح انتبهت من نومي، فوجدت حركةً في داخل الدار، فنَهَضْتُ وتحمَّمْتُ، فكان الماء باردًا في حنفية وسُخْنًا في أخرى، ثم لبست ثيابي وخرجت، وفيَّ من النشاط والقوة شيءٌ كثير، فوجَدْتُ أكثر أهل البيت وقوفًا على مائدةٍ، عليها من المأكولات البسيطة كالجبن والزيتون والحليب والعسل، يتناول كلٌّ منهم ما يشتهي، فدعَوْني لمشاركتهم، فأكلت قليلًا وقُلْتُ بفكري: هؤلاء الناس يعرفون كيف يعيشون حقيقة، نحن نقوم من الصباح إلى التدخين والقهوة والأركيلة، ونسُمُّ أجسادنا ونُضْعِف مِعَدَنا بهذه المواد السامة، فإلى متى يبقى الإنسان في أرضنا غائصًا في الجهالة، يستعمل كل وسائط الانتحار البطيء. آه، ما أمرَّ تلك المعيشة مع تلك العوائد المُضِرَّة التي تتملَّك فينا.

ثم خرجت فوجدت الشيخ في الحديقة يشتغل فيسقي الأشجار، ويحرث الأرض، فأقبلت عليه وحييته، وفيما أنا أتحدَّث معه سمعت صوت حنوش ينادي: أبا الأجران، قد آن أوان الرحيل.

فحالًا هممت على يد الشيخ فقبَّلتُها وقلت له: «خاطرك دعيلنا بالتوفيق»، فقد آن وقت الرحيل. فقال: مع السلامة، ربنا يبلغك السعادة.

فخرجت من الدار وقابلت حنوش، فسألني عن صحتي وانشراحي، ثم سِرْنا إلى المكان المعهود، وقابلنا منوش، وبعد ذلك صعدنا في الأعالي بسرعة النسيم، ولم تَمْضِ برهة إلا وعالم الهناء قد احتجب عنا، ولم نَعُد نرى شيئًا منه.

وبعد أن سرنا مسافةً طويلة سألني حنوش عما إذا كُنْتُ سُرِرْتُ في أرض الهناء، فقلت له: إنني أشكر رفيقك منوش الذي كان السبب في مكوثي يومًا ثانيًا فيها، وكنت أَوَدُّ أن يبقى مُتَوَعِّك المزاج إلى أيامٍ كثيرة، حتى أتمتع بهناء هذه الأرض الجميلة، فنظر إليَّ منوش نظرةً كلها مَعَانٍ، فسكتُّ خوفًا من إعادة الخصام.

ثم قلت لحنوش: يا ليت أرضنا تصير يومًا مثل هذه الأرض التي لا ظُلْم فيها، ولا جوع، ولا طمع، ولا سُكْر، ولا فساد، ولا مزاحَمة، ولا قساوة، تُرى هل يتم لتلك الأرض — وخصوصًا بقعتنا — ما تم لهذه؟! آه «يا حسرتي»! قد تركْتُها وأنا غير مجبور الخاطر، تركتها وأنا بعيدٌ عن مسقط رأسي، بعيدٌ عن بلادٍ نَخَرَ عظْمَها سوسُ الاستبداد، ومَزَّقَ لحمَها الظلمُ والعسف، وبَدَّدَ شملَ سكانها الانشقاق، كنت أود أن يطول عمري لأرجع إليها وأنظر ذلك الانقلاب الموعود به، ولكن خابت آمالي لأن الموت قد عجل عليَّ وأنا في سن الكهولة؛ السن الذي يهدأ فيه الفكر، وتسكن أمواج الشهوات في الجسد، ويعتدل في كل مطاليبه؛ السن الذي يجب أن أخدم فيه وطني وأولاد جنسي، ولكن الذنب ذنبي في تقريب أجلي، أنا أستأهل «ضرب البراطيش»؛ لأنني خالفت الوصايا، خالفت شروط الحياة الحقيقية. إني استعملت كل وسائط الانتحار البطيء، كنت أكرع العرق من «الصرماية»، كنت لا أنام من الليل إلا ربعه، وما تبقى كنت أُمْضِيه «بأكل الهواء والتعتير»، كنت أنام في أوضة مظلمة رطبة لا تنظرها الشمس بعين مع أربعة أو خمسة أنفس، كان يمضي عليَّ سنة وسنتان وجسمي لا يترطَّب بالماء، وكنت لا أنزع ثيابي إلا كل شهر أو شهر ونصفٍ مرةً، كنت آكل كيفما اتفق لي، لا أراعي في الطعام شرطًا من شروط النظافة والتغذية. وكانت كسوتي خفيفة أُمْضِي فيها فصول السنة كُلَّها، فكان البرد يخرق عظامي، وفضلًا عن هذا كلِّه كنْتُ أحمل على ظهري حِمْلًا يَرْزَح تحته البعير، وأمشي وأنا على تلك الحالة طول النهار، والعرق يسقط من جسمي بغزارة.

آه يا أخي حنوش! إن كثيرين أمثالي من أولاد جنسي تركوا بلادهم وتغرَّبوا، فانهدمت أركان أجسامهم من ثقل الحمل، فهم بهذا يُعجِّلون انقراضَ أعمارهم، كل ذلك لأجل كسب المال، وهذا المال الذي يكسبونه من وراء هذه الحرفة المنهِكة لا يكفيهم بعد ذلك أجرةَ تطبيبٍ وثمنَ دواء.

ولكن الذنب ليس عليهم، بل على الظروف التي وُجِدوا فيها، فهي التي تقودهم وهم صاغرون، ولا أنسى أن للجهل يدًا في ذلك.

فنظر إليَّ حنوش نظرةَ الشَّفُوق الرَّحُوم، وكفكَفَ دمعتي، وطيَّب خاطري بكلامٍ رقيق لطيفٍ مُعَزٍّ.

ثم سألته عما إذا كنا اقتربنا من دنيا الآخرة، فقال: إننا قَرُبْنا من مكان القصاص الأول، وستنظر بعينك كل شيء، وأنا ورفيقي سنبقى معك إلى النهاية، وربما بقِينا إلى ما بعد قصاصك الذي سيكون الآن خفيفًا بسيطًا؛ نظرًا لما أنت عليه من طِيبة القلب، وخلوص النية، وسلامة الطَّوِية، ومحبَّتِك لوطنك وأهله.

فلا تجزع، فإن الله شَفُوقٌ رَحُومٌ غفور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤