الفصل الثالث عشر

ثورة على الوجود

 باريس في ٨ سبتمبر سنة ١٩٢٨

إلى السيد حسن القاياتي

صديقي العزيز

إنك لتعلم أنني في حياتي الفلسفية والأدبية منصرف بعض الانصراف عن جو الشعر والخيال. ولكنني أحمل بفطرتي قلب الشاعر، وأحيا حياة شعرية في كل ما يمس العواطف والمشاعر والأحاسيس، وتغلب الفطرة أحيانًا فتُلقي على أبحاثي العلمية نفحة من نفحات الوجدان. وأنا مع هذا لا أنظم الشعر إلا إذا جاشت النفس، وفاض القلب، بحيث لا أستطيع الفرار من شيطان القوافي والأوزان. فأن رأيت لي بيتًا، أو مقطوعة، أو قصيدة، فلا تحسبني كنت مختارًا في صياغة ذلك الكلام الموزون، وإنما هي أزمة وجدانية أو عقلية أنطقتني به في حدود من القهر يعرفها من يعيش في العالم بقلب الشاعر وعقل الفيلسوف … وهذه قصيدة في الثورة على الوجود، رأيت أن أهديها إليك، تحية من باريس، ولك أن تعارضها بقصيدة، أو رسالة، تمحو أذاها من نفوس القراء. والسلام.

•••

يا جِيرة السين يحيا في مرابعكم
فتى إلى النيل يشكو غُربة الدار
جنت عليه لياليه وأسلمهُ
إلى الحوادث صحْبٌ غير أبرار
أحاله الدهر في لَأْواء غربتهِ
روحًا مُعنًّى وجسمًا نِضْو أسفار
يسعى إلى المجد ترميه مخاطره
بنافع من شظاياها وضَرَّار
عزاؤه أن عُقبى كل عادية
يشقى بها الحرُّ إكليلٌ من الغار

•••

يا خافقَ البرق ترتاعُ القلوب لهُ
كوقدة الغيظ في أحشاء جبَّار
تعال أُهديك من روحي بعاصفة
تُرْدى الأنام ومن قلبي بإعصار
الناسُ ما الناسُ لا تدرى سرائرهم
وما يُجنّون من كيدٍ ومن نارِ
لو يُفصح الغيب يومًا عن مصائرهم
لأقصرَ اللؤمَ قومٌ أيّ إقصار
حار النبيون في تطهير فطرتهم
فما عسى نفع أمثالي وأشعاري

•••

رباه آمنت لكني على خطرٍ
يغتالني الشك في جهري وإسراري
سوَّيتَ في الناس أخلاطًا مبعثرة
تَشوكُ عشاق صُنع المبدع الباري
أرى وجوهًا بصدق الود واعدة
ولا أرى ظل قلب غير ختَّار
كم من عشير أُواسيه وأنصرُه
يرعى حمايَ بقلب جاحدٍ ضار
غفرانك الله هذي نفثة غلبت
ألقي بها الشعر لم تسبق بإصرار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤