الفصل العشرون

صلاة الجمعة في مسجد باريس

 باريس ٣ سبتمبر سنة ١٩٢٩

ما شهدتُ باريس إلا خطر بالبال ما يجب على المؤمن من الرجوع إلى ربه لحظة أو لحظتين في هذه المدينة العجيبة التي طغت على كل ما تصوره الأقدمون من نعيم الجنان، وكان يرضيني في تهدئة الروح الظامئ إلى سلسبيل السلام والسكون أن أذهب إلى جامع باريس فأطوف به ساعة من الزمان بين النقوش العربية الدقيقة التي تزدان بها الجدران والسقوف، وبين خرير المياه في تلك الأحواض البديعة التي تذكر بأفنية المساجد الأندلسية عليها السلام، ثم آوي إلى قهوة الجامع فأتناول كأسًا من الشاي محفوفًا بالألحان العربية يهديها إلى السمع أولئك المغنون الذين يسمعونك في باريس بعض ما تسمع على ضفاف النيل.

ولكن أين هذا كله من ذلك الخاطر الغريب الذي يعتادني منذ ثلاثة أعوام، فقد فكرت غير مرة في أن أشهد صلاة الجمعة لأرى ماذا يقول الإمام في نصح من يعيشون في باريس، وما هي قائمة المنكرات التي يحاربها الخطيب في مسجد باريس، وكنت أقدّر أنني سأجد أجمل فرصة أفهم بها تأثير الزمان والمكان في تلوين النصائح الدينية وتكوين عقليات الواعظين.

وهنا لا أكتم القارئ أني انصرفت عن صلاة الجمعة في مساجد القاهرة منذ أعوام. ويرجع السبب في ذلك إلى حادثة صغيرة زهدتني في أصحاب الخطب المنبرية، ذلك أنني كنت أحرر جريدة الأفكار في سنة ١٩٢١ فزارني بعض خطباء المساجد وفي يده مقالة يلح في نشرها ولكني وجدتها مملوءة بالطعن في الحكومة، لماذا؟ لأنها لا تمنح خطباء المساجد من المرتبات ما يعينهم على المظهر اللائق بهم. وفي اليوم التالي ذهبت أصلي الجمعة في أحد المساجد فوجدت صاحبنا بعينه يلعن الدنيا ويذم أهلها ويزعم أنها جيفة وأن طلابها كلاب!

وليس من التحامل في شيء أن أذكر أن جمهور المثقفين في مصر لا يجد ما يشجعه على الحرص على فريضة الجمعة، وقد يكون في هذه الإشارة ما يحمل فضيلة الأستاذ الشيخ المراغي على وضع منهاج جديد تحيا به الخطب المنبرية ويدخل فيها من الجدة والروح والحياة ما يجعلها وِردًا سائغًا تهرع إليه النفوس المتعطشة إلى الحكمة والموعظة الحسنة، فقد دب الشباب في كل شيء إلا خطباء المساجد عند المسلمين.

ذهبت إذن إلى مسجد باريس وفي نيتي أن أقف موقف المشاهد الذي يقيد ما يرى من الظواهر والفروق، ولكني لم أكد أتخطى عتبة المسجد حتى شعرت بأن «روح النقد» انصرف عني، وشعرت بأن «روح الإيمان» أخذ يحتل مشاعري وحواسي، وابتدأت فصليت ركعتين لله، وكنت حُرمت هذا منذ أزمان، ثم جلست أتأمل فيما يحتوي المسجد فإذا المنبر مهدى من «فؤاد الأول ملك مصر» وهو منبر جميل يحمل إلى باريس نفحة مصرية تذكر بأقدم أرض شغُلت بالآداب والفنون، ونظرت إلى المصلين فإذا هم قوم قد أخلصوا لربهم وبدت عليهم سيما الخشوع، ومن ذا الذي يهرب من فتنة باريس إلى المسجد بدون أن يجد في قلبه روح التقوى وحرارة اليقين؟ ولأمر ما عددت المصلين فإذا هم خمسون أو يزيدون. وانتظرت سورة الكهف، ولكني وجدتها لا تقرأ قبل الصلاة، فتذكرت أن قراءتها على هذا النحو بدعة، وعجبت كيف يخلو ذلك المسجد من هذه البدعة وهو في باريس أم البدع والضلالات!

وبعد برهة فتح باب صغير أقبل منه الخطيب، ثم صعد المنبر، وأضيئت جوانب المسجد، ثم كانت تقدمة صغيرة قام بها أحد المؤذنين وافتتح الإمام في أثرها الخطبة، وقد نظرت فإذا هو يحمل طائفة من الأوراق تشبه أن تكون ملزمة مفردة من كتاب، فتذكرت الخطب المنبرية التي تطبع في مصر ويستظهرها الخطباء ليعيدوها بنصها في كل عام على اختلاف الجمع والشهور، وتوقعت أن تكون هذه أيضًا مقتطفة من بعض الدواوين المصرية، ولكن هذا الخطيب طالعنا بخطبة فصيحة، بريئة من اللحن ومن الضعف كأنه السيد الببلاوي في مسجد الحسين. لقد ترك هذا الخطيب كل شيء من حياة باريس، كأن النصح فيها لا يغني ولا ينفع، وأخذ يحدثنا عن شهر ربيع الأول وما وقع فيه من الحوادث الجسام في عهد الرسول، فسألت نفسي: أتكون هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها الخطيب عن ربيع الأول مع أننا في الجمعة الأخيرة منه، أم هذه خطبة ثانية أو ثالثة من هذا الشهر الميمون؟!

ورأيت لأول مرة في حياتي خطيبًا ينشد الشعر في خطبة الجمعة كلما بدت مناسبة، فقد أنشد هذا البيت:

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذُخرا يكون كصالح الأعمال

وإذا صح أن هذا البيت من شعر الأخطل — وكان نصرانيًّا لا يفارق الشراب — فإنه لدليل على أن للشعراء لحظات تصفو فيها نفوسهم فتفيض بالحكمة العالية يبقى أثرها بين مختلف الفرق والملل وعلى اطراد الأجيال.

وأنشد في مكان آخر الأبيات التي يقول في بدايتها الحريري:

يا خاطب الدنيا الدنية إنها
شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها
أبكت غدا تبًّا لها من دار

وفي مكان ثالث أنشد أبياتًا في مناقب أبي بكر رضي الله عنه غابت عن الذاكرة. وكنت لا أعرف لأي سبب يترك خطباء المساجد الاستشهاد بالشعر، ولكن بعض رجال الدين له رأي في الشعر قد يكون السبب في العدول عن الاستشهاد به، إذ لا يراه من الأمور ذوات البال!

ولاحظت أن خطيب جامع باريس يملأ خطبته بالنفحات الوجدانية، فهو يقول مثلًا «وأين ربيع الروح من ربيع العين» هكذا وقعت الجملة لضرورة السجع، وكنت أحب أن تكون «وأين ربيع العين من ربيع الروح» على أن السجع يقع خفيفًا جدًّا في خطبة ذلك الرجل، فقد كان يتكلم بطريقة خالية من التكلف ومن اللبس، وكان له في تصوير الظروف التي اقتضت الهجرة ذوق جميل.

وبعد انتهاء الخطبة نزل الأمام فصلى بنا صلاة خفيفة جدًّا رجونا أن يكون في بساطتها ما يؤكد لها القبول، فإن الرياء والتصنع لا يغنيان فتيلًا عند علام الغيوب. ثم قرأ المصلون جميعًا دعاء شائقًا لاحظت أنهم كلهم يحفظونه ولا أحفظ منه حرفًا واحدًا، وإن كنت هينمت منه بضع كلمات لأستر جهلي بفقراته الحسان، وأنا والله معذور؛ فإني لم أسمع مثله حين كنت أواظب على الصلاة قبل أن أعرف (بونجور مدموازيل) و( بونسوار مدام)!

فلما انتهى المصلون من قراءة ذلك الدعاء مشيت إلى ذلك الخطيب الفصيح فسلمت عليه تسليم المعجب بإخلاص

– أحب أن أتشرف بمعرفة اسمكم الكريم

– أنا الفقير إلى الله زكي مبارك

– أهلا وسهلًا! يا سيد قدور تعال سلم على السيد مبارك

فالتفت فإذا السيد قدور بن غبريط يصافحني، فتأملت في وجهه طويلًا، وكنت سمعت أنه سعى في إنشاء هذا المسجد ليخدم فرنسا! ولكني تيقنت الآن أنه خدم دينه وبلاده حين استطاع أن يبني مكانًا للصلاة في باريس وفي جوار حديقة النباتات، وصدق الأمام الغزالي حين قال:

«طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا الله».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤