الفصل الرابع والعشرون

ويل الشجي من الخلي

٥ يناير سنة ١٩٣١

الأستاذ (د) مدير معهد … في باريس، رجل فصيح المنطق، رائع الهندام، أحسن ما يكون إذا خطب أو حاضر، وهو لا يُلقي محاضراته إلا واقفًا. وله في امتلاك قلوب من يستمعون إليه قدرة عجيبة لا يمتري فيها مكابر ولا حَقُود.

عرفته منذ أربعة أعوام، وأعجبت به، ثم صادقته، فلقيت فيه أكرم صاحب وأوفى صديق.

وطالما سألت نفسي: ما الذي وصل بيني وبين هذا الرجل؟ أهو علمه؟ ما أظن، فقد كثر العلم والعلماء. أهو كلامه؟ وكيف وكل الناس يتكلمون في باريس، وأهل هذه المدينة يجيدون الكلام بنوع خاص.

وقد انتهيت إلى أن الذي وصل بيني وبين هذا الرجل هو إخلاصه لمهنته، مهنة التدريس، فقد كان يبلغ به الجد في محاضراته إلى أن يتوقف فجأة ويسند رأسه بيده في مثل المغشي عليه، ويظل كذلك نحو ثلاث دقائق إلى أن يعادوه صوابه، ثم يَأخذ في الكلام من جديد، بعد أن يسأل ما الذي كان يقول!

وأنا قد اختبرت مهنة التدريس وعرفت حلوها ومرها، ورأيت ما يقاسي المدرسون، وتبينت كيف تكتوي قلوب المخلصين في هذه المهنة العنيفة التي لم يصبر على عنائها غير الأنبياء، فمن الحق أن أعطف على الأستاذ (د) وأن تقرب نفسي من نفسه، وأن تتوثق بيننا أواصر المودة والإخلاص.

لكن صديقي هذا لم يكن ظريفًا إلا في محاضراته، فإذا خرج من حجرة الدراسة فهو إنسان ضيق الصدر، جدب الكلام، لا يجذبك إليه، ولا يقربك منه، وإنما هو مخلوق متوحش لا يعرف ما الألفة وما الإيناس.

كنت ألقاه في مكتبه فينقبض صدري لانقباضه، وأستوحش لوحشته. وكنت أقَدِّرُ أنه مريض الأمعاء، فقد شكا ذلك مرة، لذلك كنت آسى عليه، وأواسيه، وأراجعه في بعض شئونه علّه يميل إلى أنس الحديث.

وأقدم الذكريات بيني وبينه أننا تناولنا الغداء معًا في أحد المطاعم، ثم دعاني إلى منزله، ولكنه اشترط عليَّ أن احتمل بعثرة أمتعة المنزل إذا دخلته، لأنه يعيش وحده، إذ كانت زوجته في الريف، فابتسمت وقلت: إنني دائمًا أعتذر بمثل عذرك، فإن أمتعة المنزل عندي مبعثرة باستمرار، بسبب الكتب والمطبوعات، وأنا أرجح أن منزلك مبعثر كذلك بسبب الكتب والمطبوعات، ثم دخلنا فإذا الكتب مبعثرة فوق البُسُط والأرائك والمناضد، فتذكرت منزلي، وحمدت الله على تشابه حظوظ الأدباء والمدرسين.

وأذكر أني كنت أماشيه مرة، فلما وصلنا إلى ميدان الأوبسرفتوار وقف بغتة وقال: هذه سيارتي! ويظهر أن ابني جاء لتوصيل إحدى صويحباته! فلنقف لحظة حتى يعود لنرى ماذا يصنع الخبيث!

فقلت: يا سيدي! إن الطبيعة تعمل عملها ونحن غافلون فامض بنا وخلّ ابنك يفعل ما يشاء الشباب!

فقال: ولكن الطبيعة ليست في حاجة إلى سيارتي لتعمل عملها، وقد كانت الطبيعة تفعل ما تفعل قبل أن تخلق السيارات وأنا منتظر حتى يعود ذلك الغويّ المبين!

فقلت: أرجوك، ليس من الذوق أن تجرح ابنك في ساعة حب، فلنمض بسلام.

وأغرب ما مرّ بي متصلًا به أن ألقى عليَّ أحد الطلبة هذا السؤال: أنت كثير الاتصال بالمسيو (د) فهل صحيح أنه يضرب زوجته؟ فدهشت وقلت: حتى الطلبة في باريس يتقوَّلون على أساتذتهم ويخلقون لهم أقاصيص! إنه لمدهش أن أسمع أن أستاذًا فرنسيًّا يتهم بضرب زوجته، وكنت أعرف أن الفرنسيين عبيد نسائهم، وإنه إذا ساءت أخلاق أحد الزوجين فلا مفر من أن تكون الزوجة هي الجانية!

وكان زملاء المسيو (د) قلما يرضون عنه، ويرون فيه رجلًا مزهوًّا قليل الرعاية لحقوق الزملاء، وكنت أعتذر عنه.

وقد لاحظت أن المسيو (د) لا يذكر المرأة في محاضراته إلا بشر، ولا يرى إلا أنها مخلوق سخيف، فكنت أفترض أن صلته بزوجته لا تخلو من اضطراب.

•••

لقيت هذا الصديق منذ أشهر فدعوته إلى تناول الغداء في مطعم الجامع، فأخذ يعتذر، فقلت ألا تزال زوجتك غائبة؟ فقال: لا ولكنها سبب ارتباكي. فقلت: كيف؟ فأجاب: حالتها الوجدانية.

فأخذت أسائل نفسي: ما معنى كلمة (وجدانية) في هذا الحديث؟ أتكون كلمة (سَنْتيمَنْتال) مرادفة لكلمة (مَلاد)؟ أيحتمل أن تكون هذه من دقائق اللغة الفرنسية التي لا يزال يفوتني منها شيء بعد دراسة عشرين عامًا؟

ثم جاءت أيام قدمني فيها إلى زوجته، فإذا هي امرأة في حكم المريضة، وليس لها ما تشكو منه غير ضعف الأعصاب، وتواترت بيننا الدعوات والزيارات، وتبادلنا علائم المودة بغير حساب، وكنت كلما ذهبت لزيارتهم بعد العصر احتجزوني بالقوة لتناول العشاء.

وكان المسيو (د) يتبسط معي في الحديث، فيسامرني في كل شيء، وكان يُدهشني أن أرى معايب الفرنسيين مشابهة لمعايب المصريين في كثير من الوجوه، فقد كان يذكر أن الحكومة الفرنسية لا تهتم باستشارة أهل الخبرة، وأن علماء فرنسا لا تنتفع بهم حكومتهم إلا إذا ماتوا، أو طعنوا في السن وأصبحوا في حكم الفانين.

وكانت زوجته تشاركنا في السمر، فرأيت الفرق بين عقلهما بعيدًا، ورأيتها مع ضعفها تسيطر عليه، وهو يداجيها ويماريها ويتلمَّس لرضاها ألوانًا من متكلف الأسباب.

•••

ثم جاءت أسابيع شغلت فيها عن هذين الصديقين، وانتظرت أن يسألا عني، ولكن هيهات! فإني لم أتلق منهما رسالة ولا دعوة تليفونية، فقلت: لا بأس، هكذا يكون الفرنسيون، وكذلك يكون وفاء الأصدقاء!

وجاء عيد رأس السنة، فقلت في نفسي: أليس من البر أن أذهب فأترك بطاقة الزيارة في منزل المسيو (د) بالرغم من إعراضه وتغاضيه؟ وترددت قليلًا، ثم أقدمت، وبعد لحظات كنت هناك.

طرقت الباب ففتحته المدام (د) وهي ملوثة اليدين مشوشة الأثواب، فتراجعت وقلت: عفوًا يا سيدتي، إني أعفيك من استقبالي، فإن البوادر تدل على أنك في شغل، وإليك بطاقتي إلى زوجك العزيز.

فقالت: انتظر، انتظر. وأسرعت فغسلت يديها، وأصلحت من هندامها، وعادت فصافحتني وجذبتني إلى غرفة الاستقبال.

– ما الذي حجبك عنا طول هذه المدة؟

– إن مولاتي تعرف أنني مشغول، وقد زادت أعمالي تعقدًا في الأسابيع الأخيرة.

– ولكن أما كنت تستطيع أن تكتب إلينا كلمة، أو تحادثنا في التليفون؟

– كان هذا واجبًا عليكم يا مدام. فأنتم اثنان وأنا وحيد، وأنتم في وطنكم وأنا غريب.

وبعد هذه المحاورة القصيرة سكتت تلك السيدة لحظة ثم قالت: أصحيح أنك انقطعت عنا بسبب أعمالك؟ ألم يشر إليك المسيو (د) بألا تجيء؟

فقلت: كيف يشير إليَّ بألا أجيء، وكنت ولا أزال من أكرم الأصدقاء؟

فقالت: هل ذهبت إليه في معهد … بعد أن زرتنا آخر مرة؟ قلت: لا.

وما هي إلا لمحة حتى أغبرّ وجه المسكينة وقالت:

– هل تعرف أن المسيو (د) يفكر في الطلاق؟

– أبدًا يا سيدتي، لا أعرف، وهذا نبأ مزعج، كتب الله لكما الوفاق!

وهنا اندفعت السيدة تبكي بأحر من بكاء الأطفال، وانقبض صدري لهول المنظر، وأخذت ألهيها عن بكائها بسؤالها عن الأسباب.

– الأسباب؟ أتريد أن تعرف الأسباب؟

– إن الأسباب كلها ترجع إلى نقطة واحدة هي أن صديقك (د) له صبوات وقد شارف الخمسين! هناك نساء ملعونات أفسدن ما بيني وبينه وحملنه على التفكير في الفراق. كانت تترد علينا أرملة على شيء من الوسامة، وكانت تدلله وتناغيه في حضوري. فليت شعري ماذا كانت تصنع في مغيبي! وأنا امرأة يتهمني من يعرفني بأني لا أعرف العصر الحاضر، ولا أفهم تقاليد الجيل الجديد.

فانتهزت هذه الفرصة وتدخلت في الحديث علني أشغل المسكينة عن دمعها المسكوب وقلت:

ولكن يا سيدتي ما هو العصر الحاضر؟ وما هو الجيل الجديد؟ الناس هم الناس، وفضل المرأة هو هو لم يتغير. ولا يُطلب من الزوجة إلا أن تكون أمينة وفية، وأنت فيما أعتقد مثال الأمانة والوفاء.

فقالت: لا. ليس هذا هو المهم! المرأة العصرية في فرنسا هي التي تعرف كيف تسوس زوجها، والزوج لا يُسَاس في هذا الجيل إلا إن ترك له الحبل على الغارب، وخلَّته امرأته حرَّا يذهب أنَّى شاء، ويصاحب من شاء. وهذا شيء يثير جنوني، ولا أكاد أحتمل التفكير فيه. وكان من العدل أن يمنحني صديقك (د) ما يمنح نفسه من حقوق الغيرة، فإنه لم يسمح لي أن أرقص مع رجل واحد أكثر من مرة، فمن حقي أن لا أسمح له بمراقصة امرأة واحدة أكثر من مرة! وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد كان يشجعني على الإقامة في الريف ويقول: إن صحتك في حاجة إلى الهواء الطلق! وكنت أعرف أنه هو الذي يفكر في الهواء الطلق في باريس، والهواء لا يكون طلقًا في باريس إلا لمن يعيش بعيدًا عن زوجته، ليتنفس كيف شاء، وينطلق حيث يريد! ألم يحدثك عن شيء من ذلك؟ قل، أرجوك، لا تكتم شيئًا، فقد ارتفعت بينكما الكلفة، وإني لواثقة أنك تعرف ما لا أعرف من سره الدفين!

فأقسمت لها — في صدق — أنني لم أر منه شيئًا غير التألم لمرض زوجته.

فقالت: وهل تعرف لماذا كنت مريضة؟ قلت: لا، قالت: إن صديقك (د) لم يألف الجلوس في القهوات، ولم يتعود التفرج في البساتين، ومع ذلك كانت أوقات فراغة تُقضى خارج منزله، فأين كان يقضيها الخائن؟ أليس كان يقضيها في صبواته ونزواته مع أمثال تلك الأرملة الملعونة التي أفسدته على أهله وفتحت لنا باب الشقاء؟

•••

أشرت في صدر هذا المقال إلى أن المسيو (د) له ابن، وأن ذلك الابن كان ينتفع بسيارة أبيه في نزوات شبابه، وكنت عرفت بعد ذلك أنه مقيم في بلجيكا وأنه موظف في شركة هافاس. وقد رأيت أن أثير في نفس الزوجة عاطفة الأمومة فقلت:

أليس لكما أولاد؟ فإني أعرِف أن الأولاد يصلون بين قلوب الزوجين برباط وثيق.

فقالت: لنا ابن واحد، ولكنه فارقنا منذ زمان

فقلت: كيف، ولأي سبب؟

فقالت: لم يستطع ولدنا أن يكون تلميذًا نجيبًا، وأنت تعرف أن صديقك (د) من طبقة البورجواز، فمن الصعب عليه أن يرى ابنه ينفر من اللاتيني واليوناني، ويُحْرَم من مستقبل الأستاذية، وأسرته كلها أساتذة مثقفون. وكم تألمت من قسوة الأب على ابنه، فإن ولدنا لم يكن لديه أي استعداد للأستاذية، وكانت طبيعته منصرفة إلى الزراعة وحياة الريف وفي جميع المرات التي كنا نذهب فيها إلى الأقاليم كان ولدنا يأنس بالمواشي والدواب، وآلات الحرث والسقي، ويطيب له المقام بين الفلاحين. وكنت أحب أن أشجع فيه هذا الميل، ولكن والده كان يتأفف ويتألم من انصرافه إلى الفلاحة، ويهم بزجره وإيذائه، حتى ضاق صدره وأصبحت حياته بيننا أشبه شيء بحياة المسجون. ومنذ أعوام ذهب لتأدية الخدمة العسكرية فلما عاد وجدناه قد ألف المطالعة والتهام ما في الكتب من الشئون العلمية والأدبية، ورأى أن يعمل في بعض المكاتب الكبيرة، حيث تنفع هذه الموهبة، فإن هناك ناسًا يذهبون إلى المكاتب بدون أن يعرفوا ماذا يقرءون، فيكون وجود مثل هذا الشاب مصدر ثروة للمكاتب التي تحتاج إلى من يُعَرِّف رُوادها ما هي أهم الكتب ومن هم أشهر المؤلفين.

ولكن ذلك لم يغن عند صديقك (د) فأخذ يؤذي ولده ويضيق عليه ويحرمه من ارتياد الملاهي، بحيث كان المسكين لا يعرف كيف يقضي سهرته. فكان يذهب إلى عمته يحادثها لحظات ثم يعود قبل الساعة العاشرة، وأنت تعرف أثر هذا الضيق في حياة الشبان. وكذلك خلّانا وهرب ليعمل في مدينة غير هذه المدينة، وبلاد غير هذه البلاد!

•••

ثم عادت السيدة إلى بكائها وعويلها فقلت لها: صبرًا! فقالت: هذه نصائح يحسنها الخليون! وكل خلي فصيح يحسن القول ويجيد وصف العزاء؛ لقد صممتُ على أن نعيش معًا أو نموت معًا، فله أن يساكنني في البيت أو يجاورني في القبر أما أن أصير أرملة ويظفر هو بعروس تُذْهب همومه فذلك من المستحيل. ألست تقرأ الجرائد؟ ألست ترى المآسي الدموية بين الأزواج؟ إذن انتظر فستفصل الجرائد فجيعتنا بعد قليل.

قلت: أليس لكم أصدقاء يتوسطون في فض الخصومة؟

فأجابت: لا أمل في ذلك، فقد أصر صاحبنا على الفرقة، ويكفي أن ترى كيف تخير أيام العيد لينشر خبر القطيعة بين جميع المعارف والأصدقاء. على أنني قد فكرت فيما فكرتَ فيه، وربما ذهبت إذا اقتضى الحال إلى بعض الأسرات التي نعرفها والتي تخاطبه بالكاف — المخاطبة بالكاف اصطلاح عربي قديم يقابل (التيتواما) عند الفرنسيين.

فقلت: من عسى أن يكون هؤلاء الأصدقاء؟ فقالت: إنهم زملاؤه. فقلت: احذري يا مدام أن تعتمدي عليهم، فإن الزملاء قلما يحب أحدهم لأخيه أن يكون له بيت معمور!

ثم خليتها وانصرفت وأنا أردد الحديث الشريف: أبغض الحلال إلى الله الطلاق. ثم مر بالخاطر بعد هنيهة ما روي عنه : الغيرة مفتاح الطلاق.

وبعد قليل ترددت في الفكر عبارة قالها بعض الأصدقاء الفرنسيين: (لا سبيل إلى السلام بين الزوجين إلا إذا تمتع كلاهما بحريته. فإن كان لا بد أن يسيطر أحدهما على صاحبه فمن الخطر أن تكون السيطرة للمرأة).

وهذا هو الذي كان في منزل الأستاذ (د) فإنه لم يستطع أن يظفر بحريته، ولم يستطع أن يبسط سلطانه على زوجته؛ فانتهى به الأمر إلى الهرب ثم إلى الطلاق.

فيا حضرات القراء: احمدوا الله على سذاجة المرأة الشرقية، ولا تحسدوا أمثالكم في الغرب فإنهم أشقياء تعسون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤