الفصل الخامس والعشرون

حديقة النباتات في باريس

 باريس في ١٣ يوليه سنة ١٩٣٠

حديقة النباتات في باريس ليست للنبات وحده كما يُفهم من اسمها الفرنسي، إنما هي حديقة النبات والحيوان. ولعل قصر اسمها على النبات راجع إلى أنها في الأصل أقيمت لذلك، ووُضع قسم الحيوان فيها بعد حين.

وهي من حيث الشكل جميلة الهندام، وهذا التعبير أدق ما توصف به تلك الحديقة المهندمة الرشيقة التي تبدو لزائرها وكأنها عروس في ليلة الزفاف.

في تلك الحديقة أشجار مرت عليها أجيال، وشهدت من تقلبات الحوادث وصروف الزمان ما لم يشهده من أمثالها إلا القليل، ومن الوجهة الفنية تُعد من أغنى الحدائق في العالم، ففيها نباتات من جميع البقاع، حتى ليخجل مثلي حين يجد فيها نباتات مصرية لم يسمع عنها ولم يرها في بلاده، وفيها نباتات كانت في مصر منذ قرون ولا توجد بها الآن. ولا أكتم القارئ أني رأيت بها نباتًا لا يرحمه الفلاحون المصريون، وهو ما نسميه «الزُّمير»، وهو ينبت في مصر في حقول القمح ويهاجمه الفلاح، وهو عند الفرنسيين يقدم طعامًا للخيل. وتعد حديقة النباتات هذه أكبر مرجع للمشتغلين بالزراعة وتنظيم الحدائق والحقول. والرجل المتطلع يقضي فيها أيامًا وأسابيع لا يمل ولا يسأم ولا ينتهي درسه لما فيها من أنواع النباتات والأشجار والأزهار. وأمام كل حوض بيانات وافية تنفع الحريص على تعقب ما في هذه الحديقة مما يجب درسه وفهم ما له من الخواص.

أما قسم الحيوان فهو ضئيل بالنسبة إلى قسم النباتات، ويمكن الحكم بأنه صغير جدًّا بالنسبة لحديقة الحيوان في مصر، ولا ينتظر غير ذلك؛ لأن الجو في فرنسا لا يسمح بمثل ما يسمح به الجو في مصر من الرفق بالحيوانات الأفريقية والآسيوية، ولأجل هذا تعتبر حديقة مصر من كبريات حدائق الحيوان في العالم.

لكن لقسم الحيوان في حديقة النباتات في باريس حظ ليس لأخيه الأكبر في حديقة مصر. ذلك بأن أهل باريس يخصون حديقتهم بساعات جميلة جدًّا من أيام الآحاد. والساعات الجميلة تبتدئ من الساعة الثانية بعد الظهر إلى السادسة، حيث يدخل الجمهور مجانًا ليشاهد الحيوانات التي ألفت تقبل الهدايا من الزائرين، وصارت تنتظرهم انتظار الصديق للصديق. وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن ساعة في حديقة النباتات في يوم الأحد تعدل جيلًا يقضيه الرجل منعمًا في مدينة من مدن الشرق، فالناس هنا يعرفون كيف يصيرون حياتهم جميلة محبوبة، لا أثر فيها للسأم والملل. فإذا رأيت ثم رأيت الفتى وأخته، أو الزوج وزوجته، يغدون إلى الحديقة في وجوه فرحة مستبشرة، ومع كل فريق زاد خاص جاء به لمداعبة الحيوانات، وقد تعودت الحيوانات هذا البر، فهي تقف على أظافرها وتمد أعناقها في رفق ودعابة لتأخذ ما يقدمه إليها الرجال والنساء والأطفال.

•••

للأطفال حظ عظيم جدًّا من المُتع البريئة أيام الآحاد في حديقة النبات، فهناك تقدم الجمال والحمير والبغال لركوب الأطفال؛ والجمل مركب لطيف يُناخ فيصعد إليه الأطفال في مَرح شديد، ثم يقوم بهم فيتضاحكون، ثم يمضي بهم في أرجاء الحديقة نحو خمس دقائق، وفي عنقه الجلاجل تمتع الراكبين والمتفرجين بصلصلتها الشائقة بين الأزهار والأشجار. وقد يناخ الجمل فيركب الأطفال ويمتنع من النهوض، فلا يزال الجمال يلاطفه تارة ويخاشنه أخرى، والجمل يتأبى ويتبلد، فإذا كلمه بالعربية نهض في غير بطء ولا استرخاء، وإذ ذاك يتضاحك الناس جميعًا، إذ يذكرون أن لغة طرفة بن العبد أحب إليه من لغة أناتول فرانس!

والعجيب الشائق أن يُرى جحش صغير جدًّا يقود عربة يركبها الأطفال، وتلك أكبر مُتعة للصبية الصغار الذين لا تقع أعينهم على هذا الحيوان الألوف الصبور إلا في يوم الأحد في حديقة النباتات، والحمار حيوان مظلوم، كما يقول بوفون، يتهمه الناس بالبلادة والقبح، مع أنه في رأيه غاية في اللباقة والجمال. وبهذه المناسبة أذكر أن أشهر الحمير في العالم حمير مصر وهي غير الحمير المعروفة التي لا تُدْرك ما ترى ولا تفهم ما تقول من أدعياء العلم والبيان، إنما هي الحمير التي تمشي على أربع لا على اثنتين، وتأكل الفول والشعير، وكان من حظها أن اقتنت منها عريب المغنية المشهورة معشوقة ابن المدبر حمارًا مصريًّا ظريفًا كانت تطأ به راكبة أندية الوزراء والشعراء. ويظهر أنه لهذا السبب كان شوقي يركب حمارًا في الأيام الخالية، كما حدثنا في مقدمة الشوقيات، وكان الشيخ عبد المطلب يُرى في الأصائل والعشيات على ظهر حمار في حي المغربلين … إنه حقًّا لحيوان مظلوم كما يقول بوفون!

•••

في غير أيام الآحاد تكون حديقة النباتات هادئة فلا ترى فيها الألوف المؤلفة من الفتيان والفتيات والأطفال. ولكنها تظل مع ذلك مأهولة يؤمها الحريصون على العلم، والمغرمون بالصيد بين الخمائل والأزهار! فهنا رجل يدرس نبتة أو زهرة، وهناك فتاة على موعد من حبيب، وهنالك فتى ضاقت به الأرض فهو يبحث لروحه عن رفيقة مؤنسة تذهب بما في دنياه من أسباب الكمد والغيظ. وفي هذه الناحية شاب مكدود بيده كتاب يدرسه بعناية وجهد، وفي ذلك الجانب شاعر مغترب يدمدم ويقول:

يا جيرة السين يحيا في مرابعكم
فتى إلى النيل يشكو غُربة الدارِ
جَنَتْ عليه لياليه وأسلمهُ
إلى الحوادث صحب غير أبرارِ

ثم تمر الساعات في تلك الحديقة والطبيعة تفعل ما تشاء في تكوين عواطف الإنسان والحيوان والنبات، والجماد أيضًا، فقد يكون لهذا الوجود أسرار خفية من التآلف والاتساق لم يصل إليها الباحثون.

كل ما في حديقة النباتات في باريس ساحر فتان، وفي كل ركن من أركانها، وحول كل حوض من أحواضها، وفوق هضبتها العالية، نعمت قلوب، وشقيت قلوب. والحب جنة وسعير، ونعيم وعذاب.

•••

لكن ما هذا القادم الجديد؟ هذا مسجد باريس بُني منذ أعوام قلائل أمام حديقة النباتات!

فإن أتيح لك أيها القارئ أن تظفر بصيد في تلك الحديقة التي طال عهدها بالفخاخ والأشراك، فترقب وحاذر، فقط يقرع سمعك في تلك اللحظة صوت غريب يصيح بالعربية الفصيحة فوق مأذنة عالية:

الله أكبر! الله أكبر!

اذكر هذا وتهيبْ عواقبه، وتأدب مع غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤